1
وإن الداعي يدأب في أعماله حتى يبلغ منزلة «السوس» وحاله سواء. وهكذا تجري أمور العالم في «أكواره» و«أدواره».
وبان في وجه أبي العلاء اطمئنان كثير عندما انتهى به الداعي إلى هنا، ثم جمز الداعي جمزة كبرى فقال: إن معجزة النبي الصادق الناطق ليست غير أشياء تنتظم بها سياسة الجمهور، وتشمل الكافة مصلحتها بترتيب من الحكمة يحوي معاني فلسفية تنبئ عن حقيقة آنية السماء والأرض وما يشتمل عليه العالم بأسره من الجواهر والأعراض، فتارة برموز يعقلها العالمون وتارة بإفصاح يعرفه كل أحد، فينتظم بذلك للنبي شريعة يتبعها الناس.
اسمع أيها الأخ الأكبر المستجيب.
فأصغى أبو العلاء كل الإصغاء حتى حبس أنفاسه، فقال داعي الدعاة: إن القيامة والقرآن والثواب والعقاب معناها سوى ما يفهمه العامة، وغير ما يتبادر الذهن إليه، وليس هو إلا حدوث «أدوار» عند انقضاء أدوار من أدوار الكواكب وعوالم اجتماعاتها من كون وفساد جاء على ترتيب الطبائع.
ولما رأى الداعي أن تلميذه يقبل قبولا لا شك فيه ما دعاه إليه، طار به إلى القمة؛ أي إلى الدعوة التاسعة، فقال له: قد صرت أهلا لكشف السر والإفصاح عن الرموز، فاعلم أن ما ذكر من الحوادث والأصول رموز إلى المبادئ وتقلب الجواهر، وإنما الوحي هو صفاء النفس، يا ابن عبد الله، فيجد النبي في فهمه ما يلقى إليه ويتنزل عليه، فيبرزه إلى الناس، ويعبر عنه بكلام الله الذي ينظم به النبي شريعته بحسب ما يراه من المصلحة في سياسة الكافة، ولا يجب حينئذ العمل بشريعته تلك إلا بحسب الحاجة من رعاية مصالح الدهماء. أما «العارف» مثلك الآن، يا أحمد، فإنه لا يلزمه العمل بها، وتكفيه معرفته؛ فإنها اليقين الذي يجب المصير إليه، وما عدا المعرفة من سائر المشروعات فإنما هي أثقال وآصار حملها الكفار أهل الجهالة لمعرفة الأعراض والأسباب.
واعلم أيضا، أيها المستنير، أن الأنبياء النطقاء أصحاب الشرائع إنما هم لسياسة العامة. واعلم أخيرا: أن الفلاسفة هم أنبياء حكمة الخاصة، وأن الإمام إنما وجوده في العالم الروحاني إذا صرنا بالرياضة في المعارف إليه، وظهوره الآن إنما هو ظهور أمره ونهيه على لسان أوليائه.
وتنهد الثلاثة تنهيدة قارعة، وقال الداعي لأبي العلاء: «هات يدك الآن، وكن لنا ناصرا؛ فإنما نحن نقوى بأمثالك وأشباهك. إن في معرة النعمان كثيرا من إخواننا حتى المغفور له والدك، ولكن السابق منهم لم يبلغ الدرجة الخامسة من درجات سلم الحكمة، فتهيأ لنصرتنا بما أوتيت من ذكاء وفهم وجرأة ، واعلم أن حولك أناسا يفهمونك إذا حدثتهم، فاهدهم وقدهم وكن لهم في الملمات.
وأخيرا أقول لك إننا فضلناك على جميع الإخوان؛ فلم نأخذ منك ميثاقا. إنني أتلو عليك خاتمة الميثاق الذي نأخذه على من ندعوهم لتعلم حقيقة أننا أجللناك وعظمناك، فاسمع بعض ما نقوله للمدعو:
وليس لك أن تتأول في هذه الأيمان تأويلا، ولا تعتقد ما يحلها، وإنك إن فعلت شيئا من ذلك فأنت بريء من الله ورسله وملائكته، وجميع ما أنزل الله في كتبه، وأنت خارج من حزب الله وحزب أوليائه، وبريء من حول الله وقوته، وعليك لعنة الله، ولله عليك أن تحج إلى بيته الحرام ثلاثين حجة ماشيا حافيا، نذرا واجبا، وكل ما تملك في الوقت الذي تخالف يمينك فيه فهو صدقة على الفقراء والمساكين، وكل مملوك لك من ذكر وأنثى فهو حر لوجه الله، وكل امرأة لك أو تتزوجها إلى وقت وفاتك فهي طالق ثلاثا، طلاق الحرج، لا مثوبة لك ولا رجعة، وكل ما كان لك من أهل ومال وغيرهما فهو حرام عليك. والله تعالى الشاهد على نيتك وعقد ضميرك فيما حلفت، وكفى بالله شهيدا بيننا وبينك.»
Page inconnue