ومن كلماتهم المأثورة: «من يبك على رأس ميت فكأنه يحارب الله.»
وإني لأرى أبا العلاء يلمح بقوله: «فلا تبكوا علي ولا تبكوا»، إلى النبي الكريم لأنه بكى واستبكى، ومن قرأ رسالتي المعري إلى داعي الدعاة يرى ترجيحا لظننا هذا.
إن أبا العلاء يحث على الزهد ويحرص على كتمان «السر» وعلى كل ما أراه بارزا في المذهب الفاطمي اليوم. وأراه يتكلم كمن له سلطان، فلا يستند إلى تقليد ولا إلى إسناد لأنه لا يتجاوز تخوم منطقة العقل. والعقل في المذهب هو «الإمام» المعصوم. والعقل الفاطمي هو العلة الأولى وضابط الكون. ولئن كان لا بد للعقل من شيخ فأبو العلاء هو شيخ مشايخ العقل، وأول من جهر معلنا إمامته المطلقة وأمر باتباع وحيه وهداه.
من عادة المؤمنين أن يكونوا عمل فبركة؛ أي نمطا واحدا. وأبو العلاء مؤمن ولكنه ليس من نمط إخوانه تماما؛ ففي كتبه زاد للإخوان والذرية، ووصيته لهم تنحصر باتقاء الله وعمل الخير، وتطهير النفس من المعاصي، والابتعاد عن اللذات التي ينبذها طلاب الكمال.
ليست الفضيلة عند أرسطو طبيعة؛ فالطبيعة قوى واستعدادات، والفضيلة تكتسب بمعاونة الطبيعة؛ أي أن تطبع النفس على حالات معينة. الفضيلة عنده تتعلم كما يتعلم كل فن، بإتيان أفعال مطابقة لكمال ذلك الفن. ومن توهم أن المثابرة غير لازمة للحصول على الكمال فمثله كمثل المريض الذي يريد الشفاء ولا يستعمل وسائله. وهذا ما قصده أبو العلاء من سيرته ونسكه.
لا استغراب أن يظهر الجزع والخوف إذا تصور نفسه ذاهبة بذهاب جسده. وحقه أن يهتف «وا شجبا» وأن يحزنه قول ذلك الزائر له: وعلام حسدوك وقد تركت لهم الدنيا والآخرة؟
كان أبو العلاء خائفا على نفسه، حريصا على تنقيتها، ويحزنه وجودها في الجسم الذي هو ألد أعدائها. كان يظن دائما أنه مقصر فيذم نفسه ويقول إنه أبو النزول لا أبو العلاء. وفاطميو اليوم يقولون: من يظن بنفسه الخير فهو معدوم الخير. ويحكون عن «الشيخ الفاضل» أحد كبار عقال وادي التيم، وهو من ذوي العمامة المكورة، أنه ظل خائفا على نفسه، ولم يثق بخلاصها ونجاتها من أحابيل الجسد، إلا قبل موته ببضع دقائق فقال يخاطبها: «روحي يا مباركة، الآن أمنت عليك.»
ويقول الفاطميون بضرورة التوبة قبل العجز، ويسمون توبة الشيخ توبة فزع، وكذلك قال أبو العلاء: «فليتني أبهت لشأني قبل شيب المسائح.»
طرق أبو العلاء هذا الموضوع كثيرا وحث على طاعة الله وترك المعاصي والانصراف عن الدنيا قبل أن تنصرف هي عنا. أما «الرحمة» عندهم فلا تعطى إلا مستحقيها، وليست دينونة كما يتوهم بعضنا ولكنها شهادة تؤدى ومعاذ الله أن تكون زورا. والقصد منها حث الأحياء على طلب الكمال والتجمل بمكارم الأخلاق. والسكوت عنها رفض لها. وقد لا يرحم الأخ أخاه إن شك بفضله.
إنهم لا يؤمنون بالاستسقاء وغير ذلك من طلبات البشر، وعندهم كلمة مأثورة: «لا تنقص من ملكه تعالى معصية عاص، ولا تزيد في ملكه طاعة مطيع، وإنما هي أعمالكم ترد إليكم.» وأبو العلاء، كما مر بنا، يهزأ ممن يتصورون أن المطر لم ينزل لأنهم عصوا الله فيستسقونه بتضرعاتهم وصلواتهم.
Page inconnue