63

97

وكان طه، الذي أعجب بها كثيرا، قد كتب عنها مقالا أسعدها جدا، فشكرته عليه بحرارة فائقة.

كنا في ذلك الوقت قد سكنا في هليوبوليس

98 «مصر الجديدة»، ويبدو لي اليوم أن قرارنا الذي اتخذناه إثر عودتي بوقت قليل كان أمرا لا يصدق. لكن شقتنا لم تكن ترى الشمس كثيرا، وكان الدكتور «ريبادو-دوماس» قد طلب إلي بشكل واضح أن أعرض «مؤنس» للشمس ما أمكنني ذلك؛ فاستأجرنا طابقا أرضيا واسعا مع حديقة كنت أستطيع أن أترك الأطفال فيها ردحا من النهار، وسرعان ما أخذ مؤنس في تسلق درج المدخل والنزول منه بحبور. وفي صباح أحد الأيام سقط على الأرض بينما كان واقفا أمام إحدى الشجيرات، فتلفظ، وقد أخذته النشوة، كلمة «زهرة» - وكان حتى ذلك الحين لا يعرف أن يلفظ سوى كلمتي بابا وماما - وكنا سعداء أن كانت أول كلماته التي لفظها «زهرة».

كان طه يعمل كثيرا. ففي البيت كان يعد طيلة الصباح دروسه وأعمالا أخرى. أما في الصحيفة، فقد كان يعمل من الثالثة حتى الثامنة أو التاسعة أو أكثر ... ولكن لماذا تراني أقول ذلك؟ أولم يعمل دائما؟

كان من المقرر ألا نبقى طويلا في شارع سعيد؛ فقد كان المالك يرغب استعادة الشقة لنفسه، وكان القانون يجيز ذلك. وعثرنا على دار في شارع رمسيس سماها طه «الزهرة» وأحبها جدا. كانت دارا جميلة تقوم وسط حديقة، وكانت عبارة عن طابق واحد وشرفة مرتفعة، حيث يقوم على اليسار صالون كبير، وبهو في الوسط، وعلى اليمين مكتب صغير. وكانت الغرفة مطلة على الواجهة المقابلة. كان طه في هذا البيت شابا جذلا يتابع بنشاط كأستاذ وكصحفي طريقا عاصفا، إلا أن قناعته وإيمانه كانا يجعلان منه طريقا عظيما. عندما كنا في القاهرة، بعد أن سكنا لمدد قصيرة في شارع المنيا وشارع الساكركير «القلب المقدس» في مصر الجديدة، كان قد شن حروبا أخرى وانتصر في معارك أخرى، لم يكن كئيبا دوما، لكن لحظات فرحه الحقيقية كانت نادرة تماما؛ فالغضون على الجبهة، على الصدغ الأيسر، والتي كانت تقلقني منذ عام 1925، كانت تعود للظهور غالبا. لكنها لم تبق، وظلت هذه الجبهة ملساء حتى الساعة الأخيرة.

في اللحظة التي كنا نغادر فيها «الزهرة» بعد أن أقمنا فيها ستة أعوام، جثا المرصفي فجأة على الشرفة وقبل البلاط، وأجاب على نظراتي المستفسرة قائلا: «إنني أشكر هذا البيت.» كان على حق. فقد كان هذا البيت في نظر الطفلين حلما. كان الياسمين الهندي الكبير موضع سعادتهما؛ فكانا يقضيان فوق رءوسنا ساعات بين أغصانه. ذلك كان سن الفرح الغامر، سن الفرح البريء بصورة مطلقة، سن حنان يبذل بلا حساب. وكان طه الذي يعبدهما يستلهم من فرحهما قوة عظيمة في وقت الضيق. كان يشارك في كل ما يبتكرانه، حتى ليغدو أحيانا طفلا مثلهما. وكان يبتكر بدون توقف قصصا تدهشهما. وإني لأحبهما يقصان مغامرات الفتاة الصغيرة بوان بوان، أو قصة «القطار - المركب - الطائرة» (لم يكن ذلك جنونا إلى هذا الحد) أو «نصف ألبير» وفصول «الزمن الذي كنت فيه ساحرا» واكتشافات «بيربيش»، وهكذا كانا يناديان الهداهد اللطيفة التي كانت تتراقص على المرج. أمن الممكن أن أقول إنهما كانا رائعين، نشيطين، شرارات خاطفة حقا، أحيانا، وعواصف هوجاء أحيانا أخرى؟ أعرف أن طه كان يعرفهما مثلما أعرفهما، ومع ذلك فقد كان قلبي ينقبض كلما تحسست لطفهما ونظراتهما العابدة التي كانا ينظران بها إليه دون أن يراهما. يا صغيرتي العزيزة أمينة! لم يكن لك من العمر ثلاث سنوات عندما هرعت لمد يدك الصغيرة تقودين بها أباك الذي كان يجتاز بهو البيت! لم نكن بحاجة على الإطلاق لأن نقول للطفلين إن أباهما كان ضريرا، كما أنهما لم يطرحا أي سؤال حول هذا الموضوع. على أن الأمر الذي ما كان ممكنا لهما أن يجهلاه لم يحد على الإطلاق من حرية علاقاتهما المتبادلة التي كانت عفوية مفعمة بالثقة.

وسرعان ما أطلقت ابنتي على نفسها اسما واتخذت لنفسها شخصية غامضة! فقد سمت نفسها كراليس، وعندما كان يصل أخوها فقد كانت تطلق عليه السيد كرالا. ثم ظهرت ساباتيه وظهر بالاجوست. وظل مؤنس حتى النهاية، بالنسبة لطه، بالاجوست، ذكرى قائمة في أخص زاوية من قلبه.

كانت أعياد الميلاد في تلك الفترة رائعة، وكان الجميع يسبغون عليها هذه الروعة من الشيخ مصطفى إلى ذلك الإنسان المتواضع الذي لم يكن يقل أريحية؛ وأعني به الزناتي. كانا، بروحيهما النضرتين، يتقبلان كل شيء بفورة الفرح العارم. وكان ثمة سيارة حمراء، كان الطفلان يستطيعان وراء مقودها القيام بدورة في الحديقة، وكنا قد اشتريناها في باريس. وكان طه قد أراد المجيء معي إلى محل «الربيع» لنختارها معا. وبعد سنوات عديدة في القاهرة، رافقني إلى متجر «شيكوريل» لشراء حصان يتأرجح لأمينة، بنت مؤنس؛ كان قد مضى عليه آنذاك سنوات لم يدخل خلالها إلى أي متجر، وكانت تلك هي المرة الأخيرة.

كانت المظلة الوردية والبيضاء الصغيرة تثير لدى أمينة فرحا عارما؛ فقد كان لها «علاقة»: هكذا كان يطلق على النطاق الذي كان يسمح بإمساك المظلة أو الشمسية. وأظن أن هذا الإتقان في الصنع هو ما كان يسبب النشوة.

Page inconnue