وأراد طبيب عيون من «ديجون
Dijon »، كان يجري عمليات في مستشفى «أوتيل ديو
Hôtel-Dieu » وكان صديقا لأسرتي، أن يقوم بعملية استئصالها التي لا بد منها في بيتنا؛ ذلك أن الوقت كان وقت حرب والمستشفيات طافحة بالجرحى. لقد تعلمت في تلك الأيام أن آخذ نصيبي من كل المحن التي اختصت بها الحياة الرجل الذي كنت أحب، الجسدية منها أو المحن الأخرى. كان يتألم بقدر ما كان يصرخ، هو الشجاع القادر على السيطرة على نفسه. إن من المرعب أن يرى المرء إنسانا يتألم، لكن رؤيته يقاوم في الليل بدون عون ضوء النهار المخفف ينتهبه الألم كليا كانت أمرا فظيعا. ولقد خفت؛ فالتهاب السحايا لم يكن بعيدا. لكنه شفي.
وفي الخامس من أبريل كتبت لأمي ، التي كانت غائبة، بفخر: «لقد أصبحت الرسالة في الصفحة الثامنة والثمانين.»
كانت الحياة قد أصبحت أصعب فأصعب، وكان الشتاء قاسيا، وكنا - أختي وأنا - نفنى شأن آخرين كثيرين بحثا عن البطاطس وخاصة عن الحطب والفحم. وكنت أفرح وأدندن كلمات الأغنية: «من يغني أغنية الفحم ...» وكانت أيدينا المشققة تزعجنا كثيرا.
28
لم نكن أغنياء، لكن طه وجد وسيلة يتمكن بها من إهدائي هدية بمناسبة عيد ميلادي؛ فقد اشترى من شارع بونابرت نسخة من لوحة «عذراء لندن
La vierge de Londre » «لبوتيشللي
Botticelli ». هذه اللوحة بقيت دوما في غرفتي. وكانت أجمل لحظاتنا هي الفترات التي نقضيها ونحن نستمع إلى الحفلات الموسيقية التي كانت تقدم كل أحد في السوربون. لم تكن باهظة الكلفة، إلا أننا كنا نضطر أحيانا للاستغناء عنها، وكنا نعزي أنفسنا بقراءة كتاب جميل.
كان طه حسين يقبل كل شيء بأريحية. وقد فوجئنا ذات يوم بزوبعة وإعصار عنيف ممطر، وكتب إلى أمي: «كانت سوزان بالغة العذوبة عندما رأت مقاعد مقهى «مالنييني
Page inconnue