87

فقال عمر بك: أتعرفني؟

فأجاب المملوك: وهل يخفى عمر بك؟

فصمت الأمير ونظر إلى الحاج علي نظرة ارتياب، ثم أسرع إلى جواده فوثب عليه عائدا إلى بيته وهو يخشى في كل خطوة أن يواجهه كمين من الأعداء أو أن تنطلق عليه رصاصة غدارة عند زاوية الطريق؛ لأنه أحس أن هناك مؤامرة مدبرة. وهل يتعذر على عثمان بك أن يدبر مكيدة محكمة؟ من السهل عليه أن يبعث المملوك لشراء الجارية الحسناء ويعطيه ثمنها ثم يوعز إلى تاجر الجواري أن يعرضها في الوقت عينه على الأمير عمر بك. هي خطة متقنة تضمن وقوف عمر بك وجها لوجه أمام فتى متهور أعجبته امرأة ويخشى أن يخطفها منه الأمير.

ولما بلغ عمر بك داره استلقى على أريكة في الحديقة وهو يحس أنه ارتكب غلطة كبيرة عندما ذهب وحده إلى وكالة «اليسيرجي». وحاول أن يزيل من نفسه شعور الإهانة التي أحسها عندما اضطر إلى التراجع عن مبارزة المملوك الوقح الذي تحداه تحديا صريحا. ولكنه برغم محاولاته الكثيرة استمر ساعة طويلة في جلسته منقبض النفس، وهو يسائل نفسه: ماذا كان يستطيع أن يفعل؟ أكان يجمل به أن يقف بنفسه أمام فتى حانق يائس لا تهمه الحياة في شيء؟

تذكر الخاطرة التي خطرت له وهو واقف تجاه الفتى المتهور. بعد عام سيكون ذلك الفتى قد ذاق لذة الحياة مع جلنار، ولعله يكون قد أنجب طفلا أو طفلة، وعند ذلك سيكون أحرص على الحياة. سيواجهه بعد عام واحد يسترد منه تلك الوقفة التي وقفها أمامه، حتى يعرف الجميع أن أحدا في مصر لم يستطع إلى النهاية أن يقف في وجه عمر بك. ومع أن المقابلة التي حدثت بين الفتى المملوك وبين عمر بك كانت سرا لا يعرفه سواهما، فإن أخبارها ذاعت في أركان القاهرة، فتحدثت بها كل المجالس في أقصى المدينة وأدناها، وتندر الأمراء فيما بينهم وهم يتهامسون قائلين: لقد وجد عمر بك من يخيفه أخيرا.

وشجعهم هذا الفوز على تدبير مؤامرات جديدة.

وجاهد عمر بك طوال العام التالي ليكظم غيظه ويوهم زملاءه القدامى أنه لا يعلم شيئا من محاولاتهم، واكتفى بأن يفسد عليهم كل المؤامرات التي دبروها بغير أن يوجه إلى أحد منهم كلمة. وكان إذا لقيهم في أيام المواسم وإذا اجتمع بهم عند الباشا في مجالس الديوان لا يبخل عليهم بالتحيات الرقيقة التي تفيض مودة وعطفا.

ولما مضى العام اختار أن يضرب الضربة الحاسمة، وكان ذلك بمناسبة مؤامرة جديدة دبرها زملاؤه القدامى، فاختار أن ينازلهم فيها منازلة صريحة.

أولم المملوك حسين وليمة كبرى بمناسبة ميلاد ولده البكر علي، بعد أن ترقى فصار حسين كاشف. وذهب حسين إلى عمر بك في بيته يعتذر إليه ويرجوه الصفح عنه متظاهرا بأنه ندم على جرأته السابقة ووقوفه في وجهه متحديا، وسأله أن يتفضل عليه بتشريفه في داره الجديدة التي بناها على مقربة من قصر الأمير نفسه. وأرسل إليه عمر بك عدة أحمال من الهدايا ووعده بأن يكون أول السابقين إلى الوليمة الكبرى إكراما للسيدة جلنار نفسها أيضا.

وفي اليوم الموعود - يوم الأربعين لميلاد الطفل السعيد - استعد عمر بك للذهاب إلى الوليمة، وهو يعلم كل تفاصيل المؤامرة التي دبرت لاغتياله في ذلك اليوم.

Page inconnue