وكانت مكة كلها في حداد لا يكاد يخلو بيت من بيوتها من النواح على فقيد أو أسير، كل أسرة مشغولة بما أصابها، والمدينة كلها تتقد من الغيظ وتتحرق للانتقام. فألح على زينب القلق ولم تجد إلى جنبها من يدخل عليها شيئا من الأنس، وقضت أياما طويلة في عزلة مظلمة، ولكنها كانت تجد العزاء والصبر كلما فرغت من الصلاة وتمثلت زوجها عائدا إليها، وكلما تمثلت أباها في المدينة آمنا منتصرا. وبدأت تتجلى لها الحقيقة، أن الله قد استجاب لها فأنقذ لها زوجها وحفظ أباها، وأن الدين الذي آمنت به قد انتصر نصرا عزيزا.
وكانت مفاجأة سعيدة أن يدخل عليها ذات صباح زوجها ومعه أخوه عمرو يعيدان إليها العقد الذي بعثت به للفداء، وأخذا يصفان لها كيف تحرك أبوها رقة عندما رآه، فسأل أصحابه أن يطلقوا لها أسيرها ويعيدوا إليها عقدها. وأخذت زينب العقد بين كفيها وجعلت تقلبه صامتة وهي مطرقة، وأخذت تتأمل حباته اللامعة وتمر بأناملها عليها، ثم رفعته إلى أنفها فتشممته في شغف وهي تحاول أن تقاوم الشعور الذي أفعم صدرها. ولم تستطع أن تقاوم طويلا، فوضعت وجهها بين يديها والعقد ما يزال فيهما وأجهشت بالبكاء.
الغمرات ثم ينجلينا
«الفتوة والنبل يجتمعان كي تنشأ أمة مجيدة.»
كان لونه الأسمر الذي لوحته الشمس ينم عن أنه من أبناء الصحراء، ولكن ملابسه كانت توهم من يراه أنه أحد أبناء الشاطئ الذي يسير فوقه، شاطئ فينيقية الذي أنجب جبابرة المحيط منذ آلاف السنين. كان سرواله الطويل ينتهي من أعلاه إلى منطقة جلدية عريضة تدور حول وسطه ويتدلى منها سيفه المقوس، وكانت هامته الضخمة وقامته العالية وصدره العريض تنادي بأنه محارب تخشى سطوته، وكانت نظراته الخاطفة تلمع مثل شعاع البرق إذا تلفت حوله كالصقر الحذر، وهو يسير الهوينى على الشاطئ ينقل طرفه في الأفق كأنه يريد أن يستشف ما وراءه من الآفاق المجهولة. وسار فرسه الأبيض من ورائه بغير زمام كأنه كلب أليف أو تابع أمين، يتابع خطواته عن قرب حتى يكون على مقربة منه، رافعا أذنيه متنبها إلى كل حركة من حوله. وهب الهواء من جانب البحر رفيقا لا تكاد نسماته تجعد سطح الماء الأزرق الصافي الذي تنفذ العين في رفارفه إلى القيعان الرملية المتلألئة تحت ضوء الشمس في ساعة الأصيل. كان المنظر يغمر الفتى بالهدوء ويبعث في نفسه شجنا رفيقا يساير ما في فؤاده من الآمال المبهمة؛ إذ كان على وشك أن يركب هذا البحر في سرية من الشجعان ليحملوا لأول مرة لواء العرب إلى أرض الروم البعيدة.
كان عبد الله بن قيس الحارثي يتطلع إلى البراح الأزرق الذي أمامه ويفكر في الرحلة المقبلة التي عزم على القيام بها بعد قليل مع أصحابه الشبان الذين تعودوا أن يقوموا بالمغامرات الجريئة تحت قيادته، وإن كانوا لم يركبوا البحر من قبل في مثل تلك الرحلة. وأخذ يصور لنفسه ما هو مقبل عليه في مغامرته؛ إذ يضرب في آفاق تلك اللجة الواسعة مع رفاقه يطلبون المجد ويرتادون المجهول أو يلتمسون الشهادة. وكلما تمثلت له ضخامة المغامرة بأصحابه زاد شغفه بالمبادرة بها حتى لا يتخلف عن الآخرين الذين سبقوا إلى ميادين المجد والمغامرة والشهادة، وفتحوا سهول العراق وهضاب فارس وأودية الشام وأرياف مصر.
سار عبد الله ساعة غروب الشمس يتحسس ثنيات الشواطئ شاعرا بأنه سيكون أول عربي يقدم على المخاطرة بغزوة في البحار، التي لم يجرؤ عليها أحد من شجعان العرب من قبله. وكان أصحابه ما يزالون في خيامهم على سفوح الكثبان الممتدة وراء الشاطئ يجهزون لأنفسهم الزاد والعدة لأيام الرحلة الطويلة التي قد تمتد بهم إلى شهور في أرض غريبة. وكانت السفينة الرشيقة التي اعتزموا المغامرة بها رابضة في إحدى ثنيات الشاطئ، ترتفع بصواريها الخمسة فوق الصخور العالية المحيطة بالخليج.
لقد عرف عبد الله البحر منذ كان طفلا يمرح فوق رماله الصفر الناعمة ويسبح بين أمواجه التي كانت تداعبه أحيانا كأنها أرجوحة وتتقاذفه أحيانا بدفعاتها العاتية، وعرف أسفار البحر في السنابك الصغيرة التي تسير بين صخور الساحل وتشق مجراها بين شعابها المرجانية ذات الألوان الزاهية.
وكان في صباه يجد في البحر مباهج شتى تملأ قلبه سعادة، كما كان يجد فيه مخاوف تملأ قلبه روعة، ولكنه كان في كل حال يحب البحر لما فيه من مباهج ومخاوف. كانت أسفاره في أيام الصبا تطلعه على آفاق متجددة ومناظر متباينة لا يشبه أحدها الآخر إلا في أنها جميعا مناظر خلابة رائعة، كان يأنس بالبحر كلما تبسمت شمس الصباح أو تجلى البدر في الليل أو كلما تلألأت النجوم في الليالي المظلمة، وكان يعرف في أسفاره نشوة الحياة القوية التي لا تعرف الجمود والسكون. فإذا ما صفا قسيم البحر ملأ صدره من عطره القوي، وإذا ما هبت غضبته وجد في هدير أمواجه أنغاما مثيرة تملؤه بالرغبة في الكفاح. وقد علمه خوض البحر أن الصفاء لا يدوم وأن المآزق لا بد تنجلي بعد حين، قد يتحول صفاؤه إلى إعصار في لحظة، وقد تخبو أعاصيره الشديدة بعد حين وتنتهي إلى صفاء بديع.
سار عبد الله على الشاطئ يحدث نفسه صامتا بتلك الأحاديث حتى مالت الشمس إلى الأفق، وكانت بلونها الأحمر تشبه جذوة النار التي توشك أن تنغمس في الماء، وتنبه على صوت أذان المغرب ينبعث من ورائه خافقا بين تلال الشاطئ مترددا في الهواء الساكن: «حي على الصلاة!» فالتفت إلى فرسه وكان ما يزال يخطو من ورائه، حتى إذا ما صار إزاءه وثب عليه وهمزه في رفق، فوثب به كالوعل البري نحو خيام المعسكر ليدرك رفقاءه ويؤمهم في الصلاة.
Page inconnue