35

ولكن حجرا عندما بيت مع أصحابه غزو البحرين كان على غير ما اعتاد من قبل في غزواته، فإنه بعد أن أعد عدته وأتم تدبير خطته، جعل يتردد ويطاول ويؤجل. وتهامس أصحابه فيما بينهم، فقال بعضهم لبعض إنه قد تغير ودب إلى قلبه الخوف من الحروب. وأفضى بعض أصحاب حجر إليه بما يتهامس به الناس عنه، فغضب وثار وهدد، وهاله أن يتهم بالخوف من الحرب وهو حجر بن عمرو، ودفعه الغضب إلى أن يعزم على السير إلى الغزوة من ساعته. وكان الليل قد تصرم وبدت في الشرق أضواء الفجر، ودبت الحياة في الفضاء الساكن الفسيح عندما بدأ السير.

كانت أنفاس الربيع تهب على منازل كندة من مروج نجد تحمل معها عطور الخزامى والشيح والعرار، وخرج حجر من خيمته ونادى في أصحابه إنهم سائرون من ساعتهم إلى الشرق نحو البحرين. ولكنه كان مع ذلك موزع القلب ثائر الشجن ينازعه قلبه إلى البقاء. وخرج الفرسان سراعا من خيامهم حتى ملئوا رحاب الأودية، ولكنه عاد إلى خيمته ليودع امرأته قبل أن يسير.

لم يعرف حجر الحب إلا منذ تزوج تلك الزوجة الحسناء، ومنذ عرف الحب عرف الحنين والرقة. ومن أجل ذلك الحب كان يطاول أصحابه ويؤجل يوم الغزوة الأخيرة يوما بعد يوم.

وكانت هند الجميلة واقفة عند باب الخباء مثل الأقحوانة الرطبة التي تفتحت في الصباح، وخيل إليه أن الهواء قد امتلأ منها عطرا ونورا.

وألقت بنفسها بين ذراعيه وهي باكية، وأخذت تمزج اللوم بالدعاء وتستعجل عودة اللقاء قبل أن يكون الفراق. وكان صوتها يقع في أعماق قلبه غناء مشجيا، ونظرات عينيها تنفذ إلى نفسه سحرا يكاد يقعده عن الغزوة مرة أخرى. ونزع يديها من حول عنقه في رفق، ووثب على فرسه مستجمعا عزيمته، بعد أن ضمها ضمة أودعها حبه الغامر الشديد، وقال وهو يثب إلى ظهر جواده: أخلف عندك قلبي، فاحفظيه يا هند حتى أعود.

ثم اندفع يعدو نحو أصحابه في عنف، كأنه يريد أن يبعد عن نفسه التردد الذي كاد يلوي عنان فرسه نحو الخباء الحبيب.

ولما سار الجيش وراء حجر كانت الشمس ترسل أول أشعتها من وراء الأفق طالعة على الفضاء الرحب الذي يسيل بأعناق المطي. فالتفت حجر وراءه إلى أقصى الأفق، ليتزود بنظرة من معاهد الحب قبل أن يغيب عنها، واهتز واضطرب وعاودته شجونه، وثار به وجده، وود لو كانت هند تسير معه فيأمن عليها العوادي، وتكون في كنفه يدفع عنها بنفسه ويقيها بحياته.

ما زال حجر يحدث نفسه عن هند وفراقها حتى كادت تجثم على نفسه الوساوس، لولا أنه أزاحها واثقا من أنه لن يقضي في غزوته إلا أياما ثم يعود إليها فيجدها تنتظره وتفتح له ذراعيها تهنئه بالانتصار.

وسار في طليعة الجيش، وأقبل على أصحابه يسمع منهم ويحدثهم، وينظر في الأمور يوردها ويصدرها بما تعود الجميع من حزمه وصرامته. وصارت صورة هند إذا عاودته بعد ذلك زادت عزيمته مضاء وقوة. وما زال حتى انتهى به السير الطويل إلى البحرين، وبات ليلته قبل الزحف الأخير يدبر الأمر مع أصحابه ليهبطوا على عدوهم من كل جوانبه، فلا تطلع الشمس حتى يكون شط البحر جميعا موطئا لخيلهم، وحتى تكون خزائن اللؤلؤ كلها غنائم طيبة ... يختار منها ما شاء من الفرائد هدية لهند الحبيبة.

وفيما كان الأمراء يعبئون الجيش ويقسمون كتائبه ويشدون ألويتهم في أطراف الرماح، طلع عليهم راكب من الظلام وقد شق قميصه وهو يصيح: أدركوا منازلكم فقد أحاط بها العدو!

Page inconnue