فهز السجان رأسه وقال له: نعم. لقد قلت ذلك مرارا فلم تسمعني!
فأطرق مينا لحظة وهو صامت، ثم رفع رأسه وتنفس نفسا عميقا وهو يغمض عينيه، كأنه يريد أن يبعد عن نظره صورة كريهة. وسار وراء السجان وفي قلبه شجون مضطربة يدفع بعضها بعضا. •••
وكان المقوقس في حجرته الفسيحة في أعلى الحصن، يشرف على النهر وقد فاض ماؤه الأغبر على الحقول التي حوله إلى أطراف الأفق، فصارت الأرض كأنها بحيرة عظيمة لا تظهر فيها من المعالم إلا قرى منثورة، كأنها نقط سوداء تجري بينها جسور سوداء، تبدو من بعيد مثل الخطوط المستقيمة رسمها مهندس فوق صفحة بيضاء.
وكان القلق باديا على وجهه، ويتحرك بين حين وآخر حركة مضطربة متجها بنظره إلى الجزيرة الطويلة الممتدة إلى الشمال من وراء مجرى النهر، وقد ضربت عليها خيام مختلفة الألوان بين سمراء وغبراء وبيضاء وحمراء، موزعة مثل الأكواخ بين حشائش الجزيرة وأشجارها. ودخل عليه جورج قائد الحصن مسرعا فحياه ووقف حياله حتى أذن له بالجلوس، ثم سأله: هل آن له أن يجيء؟
فقال جورج جاهما: نفذت أمر مولاي، فهو الآن يستعد للمثول بين يديك.
فتنفس قيرس وقال في نغمة حزينة: ألم تغير رأيك بعد يا جورج؟
فحرك القائد رأسه مترددا وقال: لم أغير رأيي، ولا أظنه يستطيع أن يصفو لنا بعد ما ناله من أذى على أيدينا. إنه من هؤلاء المصريين ذوي الرءوس الصلبة الذين أتمنى لو استطعت أن أشنقهم جميعا.
فقال قيرس: لست أنكر ما في قولك من حق. إنه مصري عنيد مثل قومه. ولكن ماذا عساه يفعل إذا أنا خاطرت فأرسلته؟
فقال جورج: إذن يزيد أعداؤك واحدا في خارج الحصن.
فعبس قيرس وقال في حقد: لو استطعت أن أفني هؤلاء المصريين جميعا لفعلت كما تريد يا جورج، ولكني لا أستطيع ذلك ويا للأسف. سأخاطر لأنني لا أتوقع ضيقا أشد مما نحن فيه. سأخاطر فأخرجه معي هذه الليلة، ولا أظنه يجرؤ على مخالفتي ما دامت أمه وزوجه رهينتين هنا.
Page inconnue