26

وكأن صاعقة قد انقضت على الجمع عند ذلك، وعلت ضجتهم صاخبة، واضطربوا واختلطوا وتزاحموا على الأبواب يلتمسون الخروج كأنهم يهربون من كارثة. وتعالت أصوات من بينهم قائلة: إنه خائن بلا شك، إنه يتآمر على مولاه.

وذهبت حاتاسو إلى الكاهن «أمنميس» الطيب لتقبل يده في خشوع وتشكره على صدق نبوءته، ولتصلي عنده للإله آمون بقلب مفعم بالإيمان. فوجدت عنده رسول فرعون في خلوة، فلم تطل وقوفها وعادت إلى البيت لتحمل البشرى إلى ابنها السعيد.

وذاعت في طيبة بعد حين قصة القائد الليبي الجريء الذي أراد أن يتزوج تويا سليلة بيت أمنحتب العظيم، كي يصير أهلا للملك، بعد أن يزيح الدخيل فرعون رمسيس الثالث عن العرش. وكاد يبلغ مشتهاه لولا أن أفسد الكاهن المخلص أمنميس مؤامرته قبل أن تستحكم حلقاتها.

ولكن حاتاسو كانت كلما سمعت تلك القصة هزت رأسها في صمت وتبسمت بسمة خفيفة، وكانت فيما بعد لا تنسى أن تذكر ولدها وزوجه تويا بالذهاب إلى معبد آمون لكي يؤديا واجب الصلاة عند محرابه، شكرا له على المعجزة البارعة.

مينا الأثريبي

«الكبرياء المحطمة تستطيع أن تنتقم ممن حطمها.»

كان الضوء يؤلم عيني السجين كلما فتح باب سجنه المظلم، لطول ما أقام في تلك الحجرة الصغيرة الرطبة، كانت الحجرة أشبه شيء بجحر أو جب لا فتحة له إلا ذلك الباب الضخم العتيق الخشبي الذي كلما فتحه السجان صر صريرا عاليا. فإذا فتح تدفق منه نور يهوي إليه من كوة في أعلى البرج الذي فوقه، وكان ذلك النور يطعن عيني مينا بن حنا، فيضع يده عليهما، فلا يرفعها إلا شيئا بعد شيء.

كانت السنوات الخمس التي قضاها مينا في سجنه بحصن بابليون قد غيرته ومسخت هيئته. كان قبل أن يدخل ذلك السجن شابا تمتلئ الأعين من حسن منظره وروعة هيئته. فإذا ما جاء من قصره الريفي في أثريب إلى مدينة مصر الكبرى رج الأسواق بما يبيع فيها وما يشتري منها. فإذا ما ركب بغلته الشهباء الفارهة خارجا من الأسواق قام له أصحاب المتاجر وأحنوا له الرءوس وتطلعوا في أثره إلى قامته الدقيقة الفارغة وهو رافع الرأس في ثيابه الكتانية الموشاة بالذهب. وكان لعينيه بريق خاطف كأنه وميض البرق في حاشية السحاب.

ولكن ذلك الجمال قد خبا وذبل كما يذبل العود الأخضر تحت لفح رياح الخماسين، وأصبح مينا يلوح كهلا أصفر اللون أشعث الشعر طويل اللحية غائر العينين، وانحنت قامته المعتدلة وثقلت رجلاه، وضعف صوته المليء، حتى صار إذا نطق بكلمة تلفت حوله في فزع كأنه يسمع صوتا غريبا منكرا.

ولم يعرف مينا الأثريبي سببا لقذفه في ذلك السجن الفظيع؛ لأنه لم يكن معاديا للسادة الروم حكام البلاد، ولم يكن ممن يحبون الفضول في أمر السياسة، لم يكن ممن تؤخذ عليهم المآخذ في مشاحنات الحزبين الأخضر والأزرق، ولا في مناقشات المذهبين الدينيين اللذين فرقا أهل البلاد وأوقعا بينهم العداوة. وقد عجب الناس أشد العجب عندما سمعوا بنكبته المفاجئة، ولكن لم يجرؤ أحد أن ينطق باسمه خوفا من بطش الحاكم الصارم قيرس المقوقس الذي كان لا يعرف الهوادة في معاملة من تتجه إليهم شكوك جواسيسه.

Page inconnue