«الإيمان دائما يهب السلام للقلوب، وإن كان بمعبود مزيف.»
كان القارب يشق ماء النيل الصافي الضارب إلى الخضرة وينزلق مسرعا مخلفا وراءه خطا أبيض من الرشاش فوق رءوس الأمواج المضطربة، وكانت أغاني النوتية تناغم ضربات المجاديف وتتماوج على الهواء الهادئ الذي يخفق في أذيال العلم الأصفر المرفوع فوق المظلة البيضاء في مؤخر القارب.
وجلس «ستنامر» تحت المظلة صامتا، وقد وضع ذقنه على يده متكئا به على ركبته اليمنى ينظر نظرة جوفاء إلى الماء وإلى المجاديف التي تشق سطحه. ولكنه لم يكن في الحقيقة ينظر إلى الماء، ولا إلى المجاديف. ولم تكن أغاني النوتية المتكررة تسترعي انتباهه؛ لأنه كان غارقا في تأمله تسرح أفكاره نحو الدار التي ما زال يقطع نحوها الأميال واحدا بعد واحد منذ ركب القارب من قصر فرعون رمسيس الثالث في شرق الدلتا.
هناك في الجنوب كانت أمه «حاتاسو» سليلة بيت «رمهات» العريق، وهو بيت أنجب سلسلة مجيدة من الأبطال الذين رفعوا أعلام مصر في أركان العالم، وكان آخرهم جده القائد المظفر «رمهاتي» الذي شتت شمل الشردن في غرب الدلتا في أيام «رمسيس» الكبير «الثاني». كان ستنامر يحس حنينا عميقا إلى هذه الأم الكريمة، التي لم يكن لها في العالم سواه، وهي مع ذلك تقيم وحدها في القصر المنعزل في ضواحي طيبة راضية بفراق وحيدها، وتدعو آمون صباحا ومساء أن يمهد له سبيل المجد كما مهده لأجداده من قبل، حتى يحفظ علم بيت «رامهاتي» خفاقا على تعاقب الأجيال.
ولكن أفكار ستنامر كانت أيضا تحوم حول صورة «تويا» في الأصباح والأمسيات، في اليقظة والحلم، تويا الجميلة سليلة بيت فرعون أمنحتب العظيم.
نشأت تويا معه منذ الصبا عندما كانا يمرحان معا في الحديقة اليانعة المحيطة بقصري أسرتيهما العريقتين المتجاورتين، وطالما تجولا معا في حقول البرسيم أو القمح ليترصدا للسمان أو ليصطادا الفراش العجيب الألوان.
وقد بقيا على مودتهما العميقة حتى اضطر ستنامر إلى مغادرة طيبة ليشارك في حروب مليكه رمسيس الثالث تاركا أمه وعزيزته تويا، وقضى بعيدا عن وطنه ثلاث سنوات طويلة لم يجد في خلالها من الوقت ما يتيح له الفرصة لزيارة وطنه والإقامة فيه حينا بين ظهراني أهله ورفقاء صباه.
لقد مرت هذه السنوات الثلاث وما كان أطولها عليه وأقصرها! كانت تطول عليه كلما خلا بنفسه في الليالي وتذكر أحبابه الذين فارقهم، وكانت تقصر وتمضي سراعا عليه وهو يضرب في الآفاق لا يكاد يستقر في مكان. فكان إذا أرخى الليل سدوله وأوى إلى خيمته يطلق العنان لخياله فيحمله إلى أحبابه في عالم الوهم. وكانت صورة تويا الثاوية في صدره تسعده بنجواها وتعلله بحلو الأماني. فكم أزالت هذه الصورة وحشته وهو في الصحراء الغربية البعيدة عند «جبل قرون السماء».
وكم آنسته هذه الصورة، وهو في خيمته عند جبال «حوران» بالشام أو في أودية فلسطين.
كان ستنامر إذا اطمأن في خلواته يخرج من جعبته تمثال إيزيس المقدسة ويتأمل جمالها البارع بقلب خاشع خافق، ويصلي لها طالبا أن تحمل السلام والسعادة إلى قلوب أحبابه حيث يقيمون. وكانت صورة تويا تلوح له دائما في ملامح تمثال إيزيس فتملأ روحه بهجة وأملا.
Page inconnue