Avec les Arabes : dans l'histoire et la mythologie
مع العرب: في التاريخ والأسطورة
Genres
الإهداء
مقدمة
فينيقيون قبل فينيقيا
مأرب وبلقيس
العرب الحميريون والغزو الروماني
كولومبس الشرق
أصحاب الأخدود
عام الفيل
سيف بن ذي يزن على سد مأرب
الأمير سيف عند كسرى
Page inconnue
من أجنبي إلى أجنبي
سيف بن ذي يزن وعبد المطلب بن هاشم
جوع كلبك يتبعك
الأزمة الضميرية
مدينة في الصخر
المدينة التي بناها الجن «محضر» مؤرخين: الغساسنة والمناذرة
ناقة الفقراء
الجنة السراب
الريح العقيم
نداء العرض
Page inconnue
الثأر
إذا صدق الإيمان!
دفاع عن جساس «اللص الشريف» منذ أربعة عشر قرنا
الفداء من الوأد
عنترة: إنسانية العروبة
المرأة إذا شاءت
ذو قار
الإنسان المنقسم على نفسه
سراب وواحة
الإهداء
Page inconnue
مقدمة
فينيقيون قبل فينيقيا
مأرب وبلقيس
العرب الحميريون والغزو الروماني
كولومبس الشرق
أصحاب الأخدود
عام الفيل
سيف بن ذي يزن على سد مأرب
الأمير سيف عند كسرى
من أجنبي إلى أجنبي
Page inconnue
سيف بن ذي يزن وعبد المطلب بن هاشم
جوع كلبك يتبعك
الأزمة الضميرية
مدينة في الصخر
المدينة التي بناها الجن «محضر» مؤرخين: الغساسنة والمناذرة
ناقة الفقراء
الجنة السراب
الريح العقيم
نداء العرض
الثأر
Page inconnue
إذا صدق الإيمان!
دفاع عن جساس «اللص الشريف» منذ أربعة عشر قرنا
الفداء من الوأد
عنترة: إنسانية العروبة
المرأة إذا شاءت
ذو قار
الإنسان المنقسم على نفسه
سراب وواحة
مع العرب
مع العرب
Page inconnue
في التاريخ والأسطورة
تأليف
رئيف خوري
الإهداء
إلى الشعب الذي أحببته، وفي أحيان كرهته، كما يكره الإنسان نفسه، كرها مشتقا من أعمق الحب!
ر. خ.
مقدمة
كثيرة هي قصص التاريخ، وكثيرة هي الأساطير العربية التي يستطيع كاتب أن يفيد منها اليوم مادة حية لعمل أدبي.
وما أريد أن أزعم أن هذه القصص التي أضعها بين يديك، أيها القارئ، إنما هي من العمل الأدبي ذي الشأن الخطير، ولكني قصدت أن أذكر بها أنفسنا تذكيرا، فلعل منا من يحسن أن يفيد منها خيرا مما أفدت.
ويكفيني، أيها القارئ، أن تقعد إلى هذا الكتاب الصغير في فترات، فلا تستغرق القطعة منه إلا اليسير من وقتك، وتخرج منها وقد ظفرت - كما أرجو - ببعض المكافأة من لذة فنية، أو عبرة، أو فائدة فكرية.
Page inconnue
وأظننا بعد هذا متفقين على أن تاريخ العرب وأساطيره من أمتع ما يسرح فيه الذهن، وأننا بحاجة إلى تعرف هذا التاريخ وهذه الأساطير - ولو على وجه قصصي سريع - لنقابل ذلك كله بما هو حقه من الحب والإعجاب.
رئيف خوري
فينيقيون قبل فينيقيا
نعود أدراجنا في شعاب التاريخ العربي القديم، وننتهي إلى حيث ننتهي في كل تاريخ قديم، عند منقطع تضيع فيه الطرق وينعقد الضباب، ولكن لا بد للحكاية من بداية.
ها نحن في الجزء الجنوبي من شبه جزيرة العرب، وقفنا نودع القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ونستقبل الثالث عشر.
في ذلك الزمان كان الذي تلده أمه على طريق الهند يستطيع أن يكون مستقلا.
1
وهذه هي الدولة المعينية، أولى الدول العربية التي نقرأ لها ذكرا صريحا في التاريخ، نشأت يغذيها شريان من أعظم شرايين التجارة في تلك الدنيا الملتفة بكثائف من القدم.
وإذا قيل العرب، قيل الصحراء، عادة، وأولى عندي أن يقال البحر!
كانت البضائع التجارية تصدر من الهند فتمر خلال شبه الجزيرة العربية إلى أسواقها في الشرق الأدنى والعالم، وكانت اليمن وحضرموت إحدى المحطات التجارية العظمى؛ لأن البحر الأحمر - وهو العصبي المزاج والأمواج - كان عصيا على الملاحة في سفن العصر، فكان التجار يتابعون طريقهم من اليمن شمالا عبر الحجاز.
Page inconnue
ولكن سنترك المعينيين يوردون الطيب إلى الدنيا، وتقف عند هذا البحار المعيني الذي طالما زار البنجاب في الهند، ومخر رقعة المياه التي يتنازعها العرب والهنود، في الاسم، فيقال لها تارة البحر الهندي، وطورا البحر العربي.
تقف عند هذا البحار الذي ينشق لنا عنه، في الخيال، ضباب المحيط وضباب الزمن، هو سلف السندباد، وهو سلف أحمد بن مجيد، البحار العظيم الذي لقي فاسكو داغاما الرحالة البرتغالي قبل ذرور القرن السادس عشر الميلادي، وكان فاسكو قد عبر رأس الرجاء الصالح، وسار محاذيا الشاطئ الأفريقي الشرقي، فصادفه أحمد بن مجيد وأعانه على تفهم الملاحة وتعرف الطريق في ثنايا العباب.
وحبذا لو كنا نفهم لغة هذا البحار المعيني، إذن لسألناه بعض تلك الغرائب التي تمتلئ بها عادة حقائب البحارة الذهنية، فحدثنا عن بنات الماء وتزاوجهن والآدميين، وزواجه بإحداهن، وحدثنا غير ذلك مما نقرؤه في قصص البحر في الآداب العربية، وإنها لقصص من الطرافة والمتعة بحيث يجب جمعها يوما في دفتي كتاب.
ولكنا ما دمنا لا نفهم لغته فلنتركه، ولنقف هذه المرة - ويا للغرابة! - أمام أحد النقوش.
هو أثر سماه العلماء ب «نقش نقب الحجر» نسبة إلى موضع عثر فيه رجل موفق اسمه «جيمس ولستيد» في شبه جزيرة العرب على سطور محفورة في صفيح الصخر، فرسمها وأذاعها على أوروبا، فاهتدى الأثريون إلى قراءتها، وإذا هي كتابة معينية!
أما محتواها فلن يهمنا ما دمنا لا نأمل أن يكون أحد تجار معين كتب لي أو لك، أيها القارئ، صكا بميراث! ولكن شكل الكتابة جدير بأن يحبس انتباهنا، فخطها هو الخط المسند أو الحميري كما يدعوه مؤرخو العرب، وهو يمثل شقة بعيدة انقضت بين الكتابة المصرية الصورية، أي الهيروغليفية، والكتابة الفينيقية بالحروف.
ومن المعجب أن الإنسان بدأ رساما لا خطاطا، ومن هنا ظل العرب مصرين، طوال العصور كلها، على اعتبار الخط فنا من الفنون الجميلة، واشتقوا منه الأنواع وتأنقوا فيها وأبدعوا.
وأقبل إنسان خط خطا بل رسم رسما هو الإنسان المصري، فكان إذا شاء أن يكتب حمامة رسمها بشكلها، ثم جدت الكتابة المقطعية، وهي كتابة أقرب إلى الصورية، إلا أن الصورة فيها لا تكون كلمة، بل مقطعا من كلمة.
أما آخر دور من أدوار التطور في الكتابة فهو استعمال الحروف.
والخط المسند أدنى إلى الكتابة بالحروف منه إلى الكتابة الصورية، والكتابة المقطعية، وأبجديته تسعة وعشرون حرفا.
Page inconnue
ولكن هذه ورطة محرجة! فالتاريخ مصر على أن الفينيقيين هم الذين اخترعوا الأبجدية، ومنهم اقترضها اليونان فانتشرت في مشارق الأرض ومغاربها.
وكم في التاريخ من قصص مفككة ضاع الكثير من حلقاتها، وإحداها قصة الأبجدية، وإذا كان الإنسان لا يعرف الكثير عن مبدأ التاريخ وألف بائه، فالتاريخ كذلك لا يعرف إلا اليسير عن ألف باء الإنسان.
غير أن بعض المؤرخين غامروا مغامرة، فوفقوا فيها إلى ملء الفراغ في هذه القصة الطريفة.
قالوا: إن المعينيين قبسوا الخط المسند عن الهيروغليفية، بعدما وصلت إلى دور كاد يتعدى الكتابة المقطعية إلى الكتابة بالحروف، وأيد هذا الرأي نقوش وجدت في شبه جزيرة سيناء تحمل شبها بالخط المسند، وكانت للمعينيين صلات وثيقة بشبه جزيرة سيناء؛ لأنها كانت على الطريق التجاري بينهم وبين مصر.
والفينيقيون، ما شأنهم في هذا كله؟ هل أخذوا هم أبجديتهم من شبه جزيرة سيناء أيضا، أم أنهم حملوها معهم من البحرين في شبه الجزيرة العربية؟
لقد أخذت سدول كثيفة تتزحزح عن بعض ظلام التاريخ، فالفينيقيون كانوا على شواطئ الخليج الفارسي قبل أن ينتقلوا إلى شواطئ لبنان، أو أنهم كانوا في شواطئ لبنان قبل أن ينتقلوا إلى شواطئ الخليج الفارسي، ومن الطبيعي أن يكونوا انحدروا جنوبا في شبه الجزيرة العربية، فاتصلوا بالمعينيين وعملوا في سفنهم، واقتبسوا منهم كتابة حملوها إلى شواطئ لبنان وحسنوها
2
فكانت الأبجدية!
فإذا صحت الحكاية، وهي معقولة على الأقل، وجب على أصحاب الخصومة الفينيقية العربية أن يبدلوا نظرا، أو يلتمسوا سببا يمتن الخصومة بعد أن زعزعتها الألف باء.
ولكن برغم كل شيء، سيبقى المعينيون فينيقيين قبل الفينيقيين، ازدهروا عصورا على شواطئ المحيط الهندي، واقتضتهم مصالح التجارة أن يبتدعوا خطا يخف على اليد ولا يغبن حقوق الجيب.
Page inconnue
غير أن الأنكى - الأنكى لي هذه المرة - أن تكون الألف باء شيئا لم يخترع، أولا، لتدوين شعر امرئ القيس أو شكسبير، بل لكتابة «الفواتير».
مأرب وبلقيس
«سبحان الله، كأنك الملكة بلقيس نفسها!»
أينا لم يسمع بهذه الكلمات تقولها امرأة من نسائنا لجارة لها إما سخرية وإما تعظيما؟
فمن هي بلقيس هذه؟
مهلا ...
يجب أن نبدأ من غير هذا المكان ويجب أن نقنع. لقد كتبت لنا القناعة حتى بالقليل من معلومات التاريخ.
أخذت الدولة المعينية تخلي مسرح الزمان فتقوم مقامها الدولة السبئية.
كانت دولة طويلة العمر نشأت أولا إلى جانب المعينية، وأهلها أنسباء المعينيين، ثم ورثتهم حوالي السنة 650 قبل الميلاد.
ومن يستطيع أن يستنطق قصر صرواح - هذا الأثر المثقل الصامت من آثارهم - في بلدة الخريبة في اليمن اليوم؟ على أن الحظ لم يقطع بنا كل القطع، فهذه مأرب عاصمة السبئيين التي يقول فيها الشاعر:
Page inconnue
ومأرب قد نطقت بالرخام
وفي سقفها الذهب الأحمر
أما الرخام، وأما الذهب الأحمر، فلم يبق لنا منهما إلا الشعر، غير أن صفحة المدينة المجيدة لم تنطمس كلها انطماسا. ويظهر أن السبئيين لم ينصرفوا إلى الاهتمام بالتجارة وحدها فأعزوا الزراعة، ولا زراعة بلا علم.
إن لكل شيء عظيم جنوده المجهولين، وللهندسة أيضا جنودها الذين ليس لدينا ما يفرض وجودهم إلا آثارهم.
فهل لنا أن نعرف المهندسين الذين وقفوا يوما، في اليمن، على هضبتي بلقا وبنوا، فرأوا المضيق العميق بين الهضبتين يمتد نحوا من مائة وخمسين ذراعا في العرض، ورأوا مياه الشتاء تتوافد عليه فتندفع خلاله قوية سخية زاخرة، حتى تضيع وتضمحل في السهول أمامه؟
وهكذا بدر لهم خاطر غير نظم الشعر، فأنشئوا سدا عظيما حول أرضا عظيمة جنات.
لقد كان هذا السد حقيقة أسطورية، أو أسطورة حقيقية، اتصلت بها أساطير من النوع الآخر الذي يعبث بالعقل ويعبث به العقل.
وأوقع الرواة فتنة حول بنائه، ففريق زعم أن بانيه لقمان بن عاد، وفريق زعم أن الباني بلقيس. وطبيعي أن لا يكون لمثل هذا السد بان واحد، على أن النقوش تجعل منشئه ملكا سبئيا اسمه «يثئي أمارا باين» بدأ المشروع من قبله أبوه.
ولكن فلندع السد الآن يروي الزرع ويملأ الضرع ريثما نعود إليه في فصل آخر.
ولنلتفت إلى بلقيس.
Page inconnue
كانت هذه المرأة - فيما يقال - من الملوك الذين تولوا العرش السبئي، وقد تولت العرش بعد ابن عمها الذي سمته الحكاية هدهاد بن شرحبيل. وكان هدهاد سيئ السيرة، فاحشا، يتخير النساء ويتزوجهن، حتى إذا أشبع منهن شهوة ليلة قتلهن، فلما دار الدور إلى بلقيس حبكت له مكيدة بأن أكمنت له رجلين في قصره قتلاه، فأصبحت هي صاحبة العرش.
أما هذا العرش فهو إحدى أعاجيب الدنيا، ولا نحسب أن الشاعر وقعت عليه عيناه، إلا أنه مع ذلك وصفه لنا وصفا دقيقا:
عرشها رافع ثمانون باعا
كللته بجوهر وفريد
وبدر قد قيدته وياقوت
وبالتبر أيما تقييد
غير أن الشاعر نسي أن يذكر لنا السلم التي كانت تصعد عليها بلقيس إلى هذا العرش الباسق.
قال الرواة: سمعت بلقيس بسليمان ملك الإسرائيليين وبحكمته الكبيرة، فأحبت أن تلقاه.
وكان سليمان - على ذمة قصاص المعجزات - قد سمع من هدهده عن بلقيس وعرشها، فإن هذا الهدهد الذكي، الذي كان يتجسس مخابئ الماء تحت الأرض، غاب غيبة وعاد فوصف لسليمان ملكة سبأ وقصرها وعرشها.
وساقت بلقيس نفائس الهدايا إلى سليمان، وأعدت له الأحاجي تختبر بها صحة ما ذاع عنه من الحكمة.
Page inconnue
وقال الرواة: إنها أهدت إليه في جملة الأشياء وصفاء ووصائف، فألبست الغلمان لباس الجواري، وألبست الجواري لباس الغلمان، وطلبت منه أن يميز فريقا من فريق، فأمرهم جميعا بأن يغسلوا وجوههم وأيديهم، فكانت الجارية تحفن الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تنقله إلى اليد الأخرى، ثم تنشره على وجهها، وإذا أرادت غسل ساعدها صبت الماء صبا وجعلته على باطن الساعد، أما الغلام فكان يغرف من الإناء بكلتا يديه، ثم يضرب به وجهه، وإذا أراد غسل ساعده حدر الماء تحديرا وجعله على ظهر الساعد.
ولما أقبلت بلقيس على سليمان شاء هو اختبارها أيضا، فأمر ببناء صرح من زجاج نقي البياض، وأجرى تحته الماء وألقى فيه السمك، ثم أقام عرشه في صدر المكان وجلس عليه، فحين همت بلقيس بدخول الصرح خالت نفسها قادمة على ماء، فترددت لتكمش جلبابها الطويل، فتذكرت شيئا وزاد ترددها، ولكنها لم تجد بدا من التشمير وألقت قدمها تخوض اللجة فناداها الملك، إنه صرح ممرد من قوارير، وطافت على شفتيه ابتسامة عابثة، ذلك أنه شهد من ساقيها ما كان يحب أن يشهد فيمنعه جلبابها الطويل.
ولا شك في أن بلقيس أحست ببعض الحنق وأرادت أن تعجز سليمان بسؤال، فسألته عن ماء لم ينفجر من الأرض ولم ينحدر من السماء، فتحير الملك الحكيم، ثم أمر بإجراء جياد حتى تفصد جلدها عرقا فملأ منه قارورة وقال لها: دونك ماء لا من الأرض هو ولا من السماء.
فأقرت له بالحكمة!
وهنا كادت تنقطع القصة بين الملكة السبئية والملك الإسرائيلي لولا أن بريطانيا حاربت الأحباش سنة 1768م فهزمت النجاشي تيودورو، وأخذت في جملة الغنائم نسختين من كتاب قديم هو تاريخ الحبشة، ثم ردت إحدى النسختين إلى النجاشي يوحنا الرابع، واحتفظت بالأخرى في المتحف البريطاني.
وإن في هذا الكتاب، خصوصا، وفي غيره من الكتب القديمة، لغرائب عن بلقيس وسليمان.
فقد جاء أن الملك الحكيم أحبها لما رآها، وكان باب قلبه سهل الانفتاح على النساء، فتزوجها، فحملت الجد الذي ينتسب إليه نجاشيو الأحباش.
حكت بلقيس، أو حكي عن لسانها، أن سليمان أظهر لها الرغبة فيها، ولكنها دافعته ومانعته لأنها رأت كثرة نسائه فعز عليها أن تكون محض واحدة منهن.
فعمد سليمان إلى الحيلة، دعا بعشاء ثقيل، فأكل وأكلت بلقيس، وانصرف القصر ومن فيه إلى النوم، وإذا بالعطش يوقظ الملكة السبئية في سكون الليل، فنهضت تتلمس الماء والقصر خال والخدم في عميق رقادهم، فلم تعثر على ما تبل به حلقها اليابس.
نبهت بعض الجواري، على أنهن جميعا قلن لها ليس في القصر ماء إلا في حجرة الملك.
Page inconnue
فلم يلبث العطش أن كسر نفسها وثلم كبرياءها، ولكن أي العطشين؟ وأقبلت على باب سليمان تقرعه، وكانت الليلة المباركة التي ولد بعدها بتسعة أشهر جد النجاشيين.
ولسنا ندري هل يوافق الملك سليمان على وقائع هذه القصة بالتفصيل.
فالحق أن بلقيس كانت جذابة، حلوة، سمراء، فلا بأس بأن تجعل نفسها أو يجعلها أصحاب الحكاية مطلوبة لا طالبة.
ولكن ربما احتج الملك سليمان بأنه خدع بها شيئا ما، فقد كانت باعتراف الرواة أنفسهم شعراء، بليت بكثرة الشعر في ساقيها؛ لذلك كانت أبدا تحرص على جلباب طويل؛ ولذلك ترددت في التشمير لما همت بدخول الصرح على سليمان، وظنت أرض المكان مياها جارية، وزاد في سوء حظها أن فاجأتها ريح وقحة في أحد الأيام وهي جالسة إلى الملك في باحة قصره في أوروشليم، فأزاحت الجلباب، ولما لم يكن على الساقين جوارب، فقد ظهر فيهما كثافة الشعر.
ودت الملكة الأنثى لو تبتلعها الأرض! ولاحظ سليمان خجلها وارتباكها.
فسأل نساءه عن دواء يزيل الشعر، ولما رجعت بلقيس إلى بلادها، كانت ساقاها ملساوين ناعمتين.
وكان جلبابها قصيرا.
وشاع في اليمن أن الملك سليمان قص من أطراف جلبابها الطويل محط أكف أربع، واستبقى القماش تبركا وتيمنا.
العرب الحميريون والغزو الروماني
كانت أواخر القرن الثاني قبل الميلاد، وإذا بالأفق في شبه الجزيرة العربية يستقبل نجما جديدا لامع الضوء، ذلك هو نجم الحميريين، أقرباء السبئيين وورثتهم في كل شيء، كما ورث هؤلاء المعينيين من قبلهم.
Page inconnue
كان السد المأربي العظيم لا يزال يحبس ماء السحب ويحيي الأرض.
وكانت قوافل التجارة لا تزال تشق طريقها إلى الشمال.
وفجأة ينتقل بنا الجو، وإذا نحن في روما، أمام طليعة القياصرة: أوغوسطوس!
وقد بدأت تتعاظم في الدنيا سلطة تأبى أن تترك من يولدون على طريق الهند وشأنهم.
إن روما لتصدر أمرا، وممثلوها في مصر ينبعثون بحركة على غير مألوف العادة. إنهم يودعون جيشا رومانيا منتظم الصفوف ماضي السلاح يبلغ عشرة آلاف من المقاتلين الذين اهتزت الدنيا بأسرها تحت وطء أقدامهم.
وإيليوس غالوس، أحد القادة الرومان المرموقين، هو الذي عقد له لواء هذا الجيش، فزحف به قويا مطمئنا إلى النصر، في السنة 24 بعد الميلاد.
إلى أين؟ إلى شبه الجزيرة العربية!
كان همهم، وهم روما، القضاء على الدولة الحميرية التي تشرف على واسطة الاتصال بين الهند والشرق الأدنى، ثم ... لا ننس اليمن وخيراتها.
وكان العرب الأنباط في البطراء، وهم أهل مصالح تجارية أيضا، يضيقون صدرا بالدولة الحميرية، فمالئوا عليها الرومان، وأنفذوا وزيرهم دليلا يرشد الحملة إلى أهدافها، ما أخبث التجارة! إنها لجديرة بأن تفسد الماء بين الشقيق والشقيق.
واندفع جيش إيليوس غالوس، يرافقه الجغرافي الشهير «استرابون»، والوزير النبطي الذي سماه استرابون «سنلاتواس».
Page inconnue
وأفاد العرب من طبيعة بلادهم في الحرب أحسن فائدة، حالفتهم الصحاري وحالفوها، واستعانوا بخير أسلوب من أساليب القتال حين تكون القوى غير متكافئة بين المتحاربين، نعني أسلوب العصابات.
وطال توغل الجيش الروماني أشهرا، واستطاع أن يحتل نجران، وأن يتجاوزها إلى الجنوب، مسددا طعنة إلى قلب «ظفار» عاصمة الحميريين آنذاك، على أن صفوفه كانت تقل يوما بعد يوم بما تنهش العصابات منها وبما يفتك بها سيف العطش والتعب، فما أوشكت عيون الرومان أن تنظر إلى أسوار المدينة التي يريدونها فريستهم حتى كان قد صدعهم الانهيار الشامل في جميع معنوياتهم، وعرف إيليوس غالوس أنه أنفق نشاطه، مع أن المعركة الحقيقية توشك أن تقع، فما استطاع إلا أن يتخذ خطة التقهقر تلافيا للفناء المحدق، وكان حكيما.
وأدرك أنه إذا سلك، في إيابه، الطريق التي سلكها في قدومه، فلسوف يقرض المنشار العربي بقية جيشه قرضا، فاختصر الطريق، واتجه إلى موضع من شاطئ البحر الأحمر، حيث استقل الزوارق وآثر أن يكافح الأمواج إلى مصر.
وكان ختام حملته درسا ألقته الجزيرة العربية، فلم ينسه الفاتحون من بعد!
وتفرغ الحميريون لمألوف حياتهم، وما أخلقنا أن نزور هذا الأثر الشامخ من آثارهم، فلربما كان أولى نواطح السحاب في الدنيا.
ولنكن، أيها القارئ، بدويين يمنيين، في القرن الأول بعد الميلاد.
ها هو قصر غمدان في صنعاء!
لقد تم بناؤه حديثا. انظر إلى طبقاته: إنها عشرون عدا، لا يقل علو الطبقة منها عن عشر أقدام، وتأمل واجهاته الأربع تطالعك منها الحجارة المشربة بزاهي الألوان، واسترح بعينيك على هذا الرخام الصقيل، فإنه ناعم لين على النظر، وإذا انبعثت الريح وسمعت زئيرا فلا ترتعد، فعلى كل حجر من أحجار الزوايا، في بناء القصر، أسد صب من نحاس، تمر به الريح، فيجاوبها زئيرا.
وحبذا لو صعدنا إلى السطح، لنرى من خلاله داخل الحجرة المعدة للملك الحميري، فهي أعلى حجر القصر، ولك أن تصدق، أو لا تصدق، أن سطحها صفيح من حجر واحد، وهو صخر شفاف كالبلور.
هيا بنا نصعد، ولكن تبا ... تبا للشيطان! لقد نسينا أننا بدويان! وهؤلاء الحضر يزدروننا ويخافوننا في آن، وما قصرهم هذا غير حصن من حصونهم التي يعتصمون بها دوننا .
Page inconnue
تبا للشيطان! إننا لن نستطيع الصعود إلى السطح، ونحن بدويان!
كولومبس الشرق
أفاقت بقعة من بقاع القارة الأفريقية، ذات يوم من أيام القرن الأول قبل المسيح، فرأت طائفة من الغرباء قد حطوا فيها رحالهم.
كان الغرباء هؤلاء عربا حميريين غادروا أحد الشواطئ في جنوب شبه الجزيرة العربية، وركبوا زوارقهم وجذفوا بسواعدهم الفتيلة إلى مكان من الشاطئ المقابل في الغرب.
واستقروا في الحبشة.
فكانوا نواة الأمة الحبشية، وأول حجر في بناء دولتها، وأبكر غرس من أغراس مدنيتها، واستمرت لهم علاقات بالدولة الحميرية، وشاركوها الأعمال وقاسموها الأرباح.
ثم أخذوا يتذمرون.
فالحميريون أنسباؤهم يستأثرون لأنفسهم بالحصة الكبرى من الأعمال والأرباح التجارية، وهكذا اتجه نظر الأحباش شطر جيرانهم في الشمال: البطالسة في مصر، وشد ما كان البطالسة يتضايقون من الدولة الحميرية، وإشرافها على الشريان العظيم الذي يربط العالم بالهند، فمدوا إلى الأحباش يدا حارة، وأقبل الكثيرون من المصريين يعملون في الأسطول الحبشي التجاري.
وهنا تومئ كف التاريخ إيماءة سريعة إلى حادثة بسيطة لم ينتبه لها الناس يوم وقعت، ثم ما لبثوا أن نسوها بعد وقوعها، ولكنها حادثة قدر لها أن تكون فاتحة انحطاط الدولة الحميرية.
قيل إن رجلا من سكان مصر، ضائع الأصل بين الإغريقية والرومانية، دخل يوما في خدمة البطالسة، واستهواه البحر، فلحق بإحدى سفن الأحباش وتلقى ثقافة بحرية رائعة.
Page inconnue
ثم تفتق عقله عن جرأة وعبقرية استحق لهما لقب كولومبس الشرق. ذلك أنه ركب يوما سفينة، وقذف بها وبنفسه في غمار العباب، وانطوت أشهر حسب فيها الناس أن العباب افترسه، وكف من ينتظره عن انتظاره.
ولكن شراع سفينته لاح يوما في الأفق مقابل ثغر الإسكندرية وكأنه هبط هبوطا من زرقة الجلد.
لقد مخر هذا الملاح الجريء البحر الأحمر، وتحدى رياحه، وكعم أمواجه وبلغ الهند، وانقلب سالما غانما.
على أن عمل هذا الملاح الذي سماه التاريخ هيبالوس لم يكن مغامرة على العمياء، فإنه أتقن دراسة العواصف في البحر الأحمر، فوجدها تهب على مواقيت، وتبين في ثنايا العباب مسالك خفية تأمن فيها السفن على نفسها .
وكان أن غزا الرومان مصر، وانتزعوها من البطالسة، فبنوا على ما أثبته هيبالوس من قواعد الملاحة في بحر شكس قوي المراس كالبحر الأحمر.
ورأى الحميريون أن طريق الاتصال بالهند - هذا الشريان العظيم الذي كان يمر بأرضهم فيغذيها - قد أخذ في النضوب والتكمش، ولاحت أمائر الشحوب على نجمهم المتألق.
وتوالت عليهم غارات أنسبائهم الأحباش، وظل الاستعمار الروماني يزيد في إضرام الحريق بين الشعبين الشقيقين.
فاستطاع الأحباش، في أواسط القرن الرابع بعد الميلاد، أن يحتلوا اليمن نحوا من ربع قرن، وهو أول احتلال حبشي دام أمدا طويلا، غير أن نداء كان أبدا يهيب بالحميريين إلى الكفاح.
ذلك هو الروح الطبيعي في الأمم، روح الوثوب والانعتاق من النير، فطرد الحميريون الأحباش، وتمكنت الدولة الحميرية الأخيرة - أو دولة التبابعة - من أن تبقي النجم الحميري بازغا في الأفق، يشع بنور شاحب، ولكنه نور على كل حال.
غير أن الأحباش الأكسوميين لم يفروا من اليمن إلا وهم يحلمون بالكرة بعد الفرة.
Page inconnue
أصحاب الأخدود
ضرب طيطش الحصار على أورشليم، وفتحها عنوة في السنة 70 بعد الميلاد.
وصب نار نقمته على المدينة وأهلها، فنجا منهم جماعة هاموا على وجوههم إلى أن بلغوا اليمن، وفيها الحميريون.
وهكذا انتقلت اليهودية إلى اليمن، وثبتت لها قدم فيها.
واشتدت النزاعات المذهبية في سوريا بين المسيحيين من نساطرة ويعاقبة، فكان المضطهدون يفرون بأنفسهم إلى شبه الجزيرة العربية، وبات الذين يرون فساد العالم ويتوقعون نهايته الوشيكة يتخذون من بعض القفار العربية مواضع عزلة ينصبون فيها الخيام صوامع لهم، وينقطعون إلى العبادة.
ولما رأى امرؤ القيس الشاعر لمعان البرق في ظلمة الفضاء المنذر بالمطر، فوق هضبات نجد، تذكر سراج أحد أولئك الرهبان، وهو قعيد خيمته بالصحراء في عتمة الليل ووحشته.
وأقبل يوم أخذت فيه إحدى القوافل التجارية العربية راهبا يعقوبيا اسمه فيميون.
وأقبل يوم آخر من السنة 356 بعد الميلاد، فوصلت إلى اليمن بعثة دينية نسطورية قدمت من القسطنطينية عاصمة البيزنطيين.
وراح الراهب فيلوس، رئيس البعثة، ينشئ عددا من الكنائس بالمال الذي زوده به الإمبراطور البيزنطي.
وبدأت صفحة من الخلافات الدينية في دولة الحميريين التبابعة، ولم تلبث هذه الخلافات أن اختلطت بالأغراض السياسية وتسخرت للمصالح.
Page inconnue