الإهداء
مقدمة
فينيقيون قبل فينيقيا
مأرب وبلقيس
العرب الحميريون والغزو الروماني
كولومبس الشرق
أصحاب الأخدود
عام الفيل
سيف بن ذي يزن على سد مأرب
الأمير سيف عند كسرى
من أجنبي إلى أجنبي
سيف بن ذي يزن وعبد المطلب بن هاشم
جوع كلبك يتبعك
الأزمة الضميرية
مدينة في الصخر
المدينة التي بناها الجن «محضر» مؤرخين: الغساسنة والمناذرة
ناقة الفقراء
الجنة السراب
الريح العقيم
نداء العرض
الثأر
إذا صدق الإيمان!
دفاع عن جساس «اللص الشريف» منذ أربعة عشر قرنا
الفداء من الوأد
عنترة: إنسانية العروبة
المرأة إذا شاءت
ذو قار
الإنسان المنقسم على نفسه
سراب وواحة
الإهداء
مقدمة
فينيقيون قبل فينيقيا
مأرب وبلقيس
العرب الحميريون والغزو الروماني
كولومبس الشرق
أصحاب الأخدود
عام الفيل
سيف بن ذي يزن على سد مأرب
الأمير سيف عند كسرى
من أجنبي إلى أجنبي
سيف بن ذي يزن وعبد المطلب بن هاشم
جوع كلبك يتبعك
الأزمة الضميرية
مدينة في الصخر
المدينة التي بناها الجن «محضر» مؤرخين: الغساسنة والمناذرة
ناقة الفقراء
الجنة السراب
الريح العقيم
نداء العرض
الثأر
إذا صدق الإيمان!
دفاع عن جساس «اللص الشريف» منذ أربعة عشر قرنا
الفداء من الوأد
عنترة: إنسانية العروبة
المرأة إذا شاءت
ذو قار
الإنسان المنقسم على نفسه
سراب وواحة
مع العرب
مع العرب
في التاريخ والأسطورة
تأليف
رئيف خوري
الإهداء
إلى الشعب الذي أحببته، وفي أحيان كرهته، كما يكره الإنسان نفسه، كرها مشتقا من أعمق الحب!
ر. خ.
مقدمة
كثيرة هي قصص التاريخ، وكثيرة هي الأساطير العربية التي يستطيع كاتب أن يفيد منها اليوم مادة حية لعمل أدبي.
وما أريد أن أزعم أن هذه القصص التي أضعها بين يديك، أيها القارئ، إنما هي من العمل الأدبي ذي الشأن الخطير، ولكني قصدت أن أذكر بها أنفسنا تذكيرا، فلعل منا من يحسن أن يفيد منها خيرا مما أفدت.
ويكفيني، أيها القارئ، أن تقعد إلى هذا الكتاب الصغير في فترات، فلا تستغرق القطعة منه إلا اليسير من وقتك، وتخرج منها وقد ظفرت - كما أرجو - ببعض المكافأة من لذة فنية، أو عبرة، أو فائدة فكرية.
وأظننا بعد هذا متفقين على أن تاريخ العرب وأساطيره من أمتع ما يسرح فيه الذهن، وأننا بحاجة إلى تعرف هذا التاريخ وهذه الأساطير - ولو على وجه قصصي سريع - لنقابل ذلك كله بما هو حقه من الحب والإعجاب.
رئيف خوري
فينيقيون قبل فينيقيا
نعود أدراجنا في شعاب التاريخ العربي القديم، وننتهي إلى حيث ننتهي في كل تاريخ قديم، عند منقطع تضيع فيه الطرق وينعقد الضباب، ولكن لا بد للحكاية من بداية.
ها نحن في الجزء الجنوبي من شبه جزيرة العرب، وقفنا نودع القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ونستقبل الثالث عشر.
في ذلك الزمان كان الذي تلده أمه على طريق الهند يستطيع أن يكون مستقلا.
1
وهذه هي الدولة المعينية، أولى الدول العربية التي نقرأ لها ذكرا صريحا في التاريخ، نشأت يغذيها شريان من أعظم شرايين التجارة في تلك الدنيا الملتفة بكثائف من القدم.
وإذا قيل العرب، قيل الصحراء، عادة، وأولى عندي أن يقال البحر!
كانت البضائع التجارية تصدر من الهند فتمر خلال شبه الجزيرة العربية إلى أسواقها في الشرق الأدنى والعالم، وكانت اليمن وحضرموت إحدى المحطات التجارية العظمى؛ لأن البحر الأحمر - وهو العصبي المزاج والأمواج - كان عصيا على الملاحة في سفن العصر، فكان التجار يتابعون طريقهم من اليمن شمالا عبر الحجاز.
ولكن سنترك المعينيين يوردون الطيب إلى الدنيا، وتقف عند هذا البحار المعيني الذي طالما زار البنجاب في الهند، ومخر رقعة المياه التي يتنازعها العرب والهنود، في الاسم، فيقال لها تارة البحر الهندي، وطورا البحر العربي.
تقف عند هذا البحار الذي ينشق لنا عنه، في الخيال، ضباب المحيط وضباب الزمن، هو سلف السندباد، وهو سلف أحمد بن مجيد، البحار العظيم الذي لقي فاسكو داغاما الرحالة البرتغالي قبل ذرور القرن السادس عشر الميلادي، وكان فاسكو قد عبر رأس الرجاء الصالح، وسار محاذيا الشاطئ الأفريقي الشرقي، فصادفه أحمد بن مجيد وأعانه على تفهم الملاحة وتعرف الطريق في ثنايا العباب.
وحبذا لو كنا نفهم لغة هذا البحار المعيني، إذن لسألناه بعض تلك الغرائب التي تمتلئ بها عادة حقائب البحارة الذهنية، فحدثنا عن بنات الماء وتزاوجهن والآدميين، وزواجه بإحداهن، وحدثنا غير ذلك مما نقرؤه في قصص البحر في الآداب العربية، وإنها لقصص من الطرافة والمتعة بحيث يجب جمعها يوما في دفتي كتاب.
ولكنا ما دمنا لا نفهم لغته فلنتركه، ولنقف هذه المرة - ويا للغرابة! - أمام أحد النقوش.
هو أثر سماه العلماء ب «نقش نقب الحجر» نسبة إلى موضع عثر فيه رجل موفق اسمه «جيمس ولستيد» في شبه جزيرة العرب على سطور محفورة في صفيح الصخر، فرسمها وأذاعها على أوروبا، فاهتدى الأثريون إلى قراءتها، وإذا هي كتابة معينية!
أما محتواها فلن يهمنا ما دمنا لا نأمل أن يكون أحد تجار معين كتب لي أو لك، أيها القارئ، صكا بميراث! ولكن شكل الكتابة جدير بأن يحبس انتباهنا، فخطها هو الخط المسند أو الحميري كما يدعوه مؤرخو العرب، وهو يمثل شقة بعيدة انقضت بين الكتابة المصرية الصورية، أي الهيروغليفية، والكتابة الفينيقية بالحروف.
ومن المعجب أن الإنسان بدأ رساما لا خطاطا، ومن هنا ظل العرب مصرين، طوال العصور كلها، على اعتبار الخط فنا من الفنون الجميلة، واشتقوا منه الأنواع وتأنقوا فيها وأبدعوا.
وأقبل إنسان خط خطا بل رسم رسما هو الإنسان المصري، فكان إذا شاء أن يكتب حمامة رسمها بشكلها، ثم جدت الكتابة المقطعية، وهي كتابة أقرب إلى الصورية، إلا أن الصورة فيها لا تكون كلمة، بل مقطعا من كلمة.
أما آخر دور من أدوار التطور في الكتابة فهو استعمال الحروف.
والخط المسند أدنى إلى الكتابة بالحروف منه إلى الكتابة الصورية، والكتابة المقطعية، وأبجديته تسعة وعشرون حرفا.
ولكن هذه ورطة محرجة! فالتاريخ مصر على أن الفينيقيين هم الذين اخترعوا الأبجدية، ومنهم اقترضها اليونان فانتشرت في مشارق الأرض ومغاربها.
وكم في التاريخ من قصص مفككة ضاع الكثير من حلقاتها، وإحداها قصة الأبجدية، وإذا كان الإنسان لا يعرف الكثير عن مبدأ التاريخ وألف بائه، فالتاريخ كذلك لا يعرف إلا اليسير عن ألف باء الإنسان.
غير أن بعض المؤرخين غامروا مغامرة، فوفقوا فيها إلى ملء الفراغ في هذه القصة الطريفة.
قالوا: إن المعينيين قبسوا الخط المسند عن الهيروغليفية، بعدما وصلت إلى دور كاد يتعدى الكتابة المقطعية إلى الكتابة بالحروف، وأيد هذا الرأي نقوش وجدت في شبه جزيرة سيناء تحمل شبها بالخط المسند، وكانت للمعينيين صلات وثيقة بشبه جزيرة سيناء؛ لأنها كانت على الطريق التجاري بينهم وبين مصر.
والفينيقيون، ما شأنهم في هذا كله؟ هل أخذوا هم أبجديتهم من شبه جزيرة سيناء أيضا، أم أنهم حملوها معهم من البحرين في شبه الجزيرة العربية؟
لقد أخذت سدول كثيفة تتزحزح عن بعض ظلام التاريخ، فالفينيقيون كانوا على شواطئ الخليج الفارسي قبل أن ينتقلوا إلى شواطئ لبنان، أو أنهم كانوا في شواطئ لبنان قبل أن ينتقلوا إلى شواطئ الخليج الفارسي، ومن الطبيعي أن يكونوا انحدروا جنوبا في شبه الجزيرة العربية، فاتصلوا بالمعينيين وعملوا في سفنهم، واقتبسوا منهم كتابة حملوها إلى شواطئ لبنان وحسنوها
2
فكانت الأبجدية!
فإذا صحت الحكاية، وهي معقولة على الأقل، وجب على أصحاب الخصومة الفينيقية العربية أن يبدلوا نظرا، أو يلتمسوا سببا يمتن الخصومة بعد أن زعزعتها الألف باء.
ولكن برغم كل شيء، سيبقى المعينيون فينيقيين قبل الفينيقيين، ازدهروا عصورا على شواطئ المحيط الهندي، واقتضتهم مصالح التجارة أن يبتدعوا خطا يخف على اليد ولا يغبن حقوق الجيب.
غير أن الأنكى - الأنكى لي هذه المرة - أن تكون الألف باء شيئا لم يخترع، أولا، لتدوين شعر امرئ القيس أو شكسبير، بل لكتابة «الفواتير».
مأرب وبلقيس
«سبحان الله، كأنك الملكة بلقيس نفسها!»
أينا لم يسمع بهذه الكلمات تقولها امرأة من نسائنا لجارة لها إما سخرية وإما تعظيما؟
فمن هي بلقيس هذه؟
مهلا ...
يجب أن نبدأ من غير هذا المكان ويجب أن نقنع. لقد كتبت لنا القناعة حتى بالقليل من معلومات التاريخ.
أخذت الدولة المعينية تخلي مسرح الزمان فتقوم مقامها الدولة السبئية.
كانت دولة طويلة العمر نشأت أولا إلى جانب المعينية، وأهلها أنسباء المعينيين، ثم ورثتهم حوالي السنة 650 قبل الميلاد.
ومن يستطيع أن يستنطق قصر صرواح - هذا الأثر المثقل الصامت من آثارهم - في بلدة الخريبة في اليمن اليوم؟ على أن الحظ لم يقطع بنا كل القطع، فهذه مأرب عاصمة السبئيين التي يقول فيها الشاعر:
ومأرب قد نطقت بالرخام
وفي سقفها الذهب الأحمر
أما الرخام، وأما الذهب الأحمر، فلم يبق لنا منهما إلا الشعر، غير أن صفحة المدينة المجيدة لم تنطمس كلها انطماسا. ويظهر أن السبئيين لم ينصرفوا إلى الاهتمام بالتجارة وحدها فأعزوا الزراعة، ولا زراعة بلا علم.
إن لكل شيء عظيم جنوده المجهولين، وللهندسة أيضا جنودها الذين ليس لدينا ما يفرض وجودهم إلا آثارهم.
فهل لنا أن نعرف المهندسين الذين وقفوا يوما، في اليمن، على هضبتي بلقا وبنوا، فرأوا المضيق العميق بين الهضبتين يمتد نحوا من مائة وخمسين ذراعا في العرض، ورأوا مياه الشتاء تتوافد عليه فتندفع خلاله قوية سخية زاخرة، حتى تضيع وتضمحل في السهول أمامه؟
وهكذا بدر لهم خاطر غير نظم الشعر، فأنشئوا سدا عظيما حول أرضا عظيمة جنات.
لقد كان هذا السد حقيقة أسطورية، أو أسطورة حقيقية، اتصلت بها أساطير من النوع الآخر الذي يعبث بالعقل ويعبث به العقل.
وأوقع الرواة فتنة حول بنائه، ففريق زعم أن بانيه لقمان بن عاد، وفريق زعم أن الباني بلقيس. وطبيعي أن لا يكون لمثل هذا السد بان واحد، على أن النقوش تجعل منشئه ملكا سبئيا اسمه «يثئي أمارا باين» بدأ المشروع من قبله أبوه.
ولكن فلندع السد الآن يروي الزرع ويملأ الضرع ريثما نعود إليه في فصل آخر.
ولنلتفت إلى بلقيس.
كانت هذه المرأة - فيما يقال - من الملوك الذين تولوا العرش السبئي، وقد تولت العرش بعد ابن عمها الذي سمته الحكاية هدهاد بن شرحبيل. وكان هدهاد سيئ السيرة، فاحشا، يتخير النساء ويتزوجهن، حتى إذا أشبع منهن شهوة ليلة قتلهن، فلما دار الدور إلى بلقيس حبكت له مكيدة بأن أكمنت له رجلين في قصره قتلاه، فأصبحت هي صاحبة العرش.
أما هذا العرش فهو إحدى أعاجيب الدنيا، ولا نحسب أن الشاعر وقعت عليه عيناه، إلا أنه مع ذلك وصفه لنا وصفا دقيقا:
عرشها رافع ثمانون باعا
كللته بجوهر وفريد
وبدر قد قيدته وياقوت
وبالتبر أيما تقييد
غير أن الشاعر نسي أن يذكر لنا السلم التي كانت تصعد عليها بلقيس إلى هذا العرش الباسق.
قال الرواة: سمعت بلقيس بسليمان ملك الإسرائيليين وبحكمته الكبيرة، فأحبت أن تلقاه.
وكان سليمان - على ذمة قصاص المعجزات - قد سمع من هدهده عن بلقيس وعرشها، فإن هذا الهدهد الذكي، الذي كان يتجسس مخابئ الماء تحت الأرض، غاب غيبة وعاد فوصف لسليمان ملكة سبأ وقصرها وعرشها.
وساقت بلقيس نفائس الهدايا إلى سليمان، وأعدت له الأحاجي تختبر بها صحة ما ذاع عنه من الحكمة.
وقال الرواة: إنها أهدت إليه في جملة الأشياء وصفاء ووصائف، فألبست الغلمان لباس الجواري، وألبست الجواري لباس الغلمان، وطلبت منه أن يميز فريقا من فريق، فأمرهم جميعا بأن يغسلوا وجوههم وأيديهم، فكانت الجارية تحفن الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تنقله إلى اليد الأخرى، ثم تنشره على وجهها، وإذا أرادت غسل ساعدها صبت الماء صبا وجعلته على باطن الساعد، أما الغلام فكان يغرف من الإناء بكلتا يديه، ثم يضرب به وجهه، وإذا أراد غسل ساعده حدر الماء تحديرا وجعله على ظهر الساعد.
ولما أقبلت بلقيس على سليمان شاء هو اختبارها أيضا، فأمر ببناء صرح من زجاج نقي البياض، وأجرى تحته الماء وألقى فيه السمك، ثم أقام عرشه في صدر المكان وجلس عليه، فحين همت بلقيس بدخول الصرح خالت نفسها قادمة على ماء، فترددت لتكمش جلبابها الطويل، فتذكرت شيئا وزاد ترددها، ولكنها لم تجد بدا من التشمير وألقت قدمها تخوض اللجة فناداها الملك، إنه صرح ممرد من قوارير، وطافت على شفتيه ابتسامة عابثة، ذلك أنه شهد من ساقيها ما كان يحب أن يشهد فيمنعه جلبابها الطويل.
ولا شك في أن بلقيس أحست ببعض الحنق وأرادت أن تعجز سليمان بسؤال، فسألته عن ماء لم ينفجر من الأرض ولم ينحدر من السماء، فتحير الملك الحكيم، ثم أمر بإجراء جياد حتى تفصد جلدها عرقا فملأ منه قارورة وقال لها: دونك ماء لا من الأرض هو ولا من السماء.
فأقرت له بالحكمة!
وهنا كادت تنقطع القصة بين الملكة السبئية والملك الإسرائيلي لولا أن بريطانيا حاربت الأحباش سنة 1768م فهزمت النجاشي تيودورو، وأخذت في جملة الغنائم نسختين من كتاب قديم هو تاريخ الحبشة، ثم ردت إحدى النسختين إلى النجاشي يوحنا الرابع، واحتفظت بالأخرى في المتحف البريطاني.
وإن في هذا الكتاب، خصوصا، وفي غيره من الكتب القديمة، لغرائب عن بلقيس وسليمان.
فقد جاء أن الملك الحكيم أحبها لما رآها، وكان باب قلبه سهل الانفتاح على النساء، فتزوجها، فحملت الجد الذي ينتسب إليه نجاشيو الأحباش.
حكت بلقيس، أو حكي عن لسانها، أن سليمان أظهر لها الرغبة فيها، ولكنها دافعته ومانعته لأنها رأت كثرة نسائه فعز عليها أن تكون محض واحدة منهن.
فعمد سليمان إلى الحيلة، دعا بعشاء ثقيل، فأكل وأكلت بلقيس، وانصرف القصر ومن فيه إلى النوم، وإذا بالعطش يوقظ الملكة السبئية في سكون الليل، فنهضت تتلمس الماء والقصر خال والخدم في عميق رقادهم، فلم تعثر على ما تبل به حلقها اليابس.
نبهت بعض الجواري، على أنهن جميعا قلن لها ليس في القصر ماء إلا في حجرة الملك.
فلم يلبث العطش أن كسر نفسها وثلم كبرياءها، ولكن أي العطشين؟ وأقبلت على باب سليمان تقرعه، وكانت الليلة المباركة التي ولد بعدها بتسعة أشهر جد النجاشيين.
ولسنا ندري هل يوافق الملك سليمان على وقائع هذه القصة بالتفصيل.
فالحق أن بلقيس كانت جذابة، حلوة، سمراء، فلا بأس بأن تجعل نفسها أو يجعلها أصحاب الحكاية مطلوبة لا طالبة.
ولكن ربما احتج الملك سليمان بأنه خدع بها شيئا ما، فقد كانت باعتراف الرواة أنفسهم شعراء، بليت بكثرة الشعر في ساقيها؛ لذلك كانت أبدا تحرص على جلباب طويل؛ ولذلك ترددت في التشمير لما همت بدخول الصرح على سليمان، وظنت أرض المكان مياها جارية، وزاد في سوء حظها أن فاجأتها ريح وقحة في أحد الأيام وهي جالسة إلى الملك في باحة قصره في أوروشليم، فأزاحت الجلباب، ولما لم يكن على الساقين جوارب، فقد ظهر فيهما كثافة الشعر.
ودت الملكة الأنثى لو تبتلعها الأرض! ولاحظ سليمان خجلها وارتباكها.
فسأل نساءه عن دواء يزيل الشعر، ولما رجعت بلقيس إلى بلادها، كانت ساقاها ملساوين ناعمتين.
وكان جلبابها قصيرا.
وشاع في اليمن أن الملك سليمان قص من أطراف جلبابها الطويل محط أكف أربع، واستبقى القماش تبركا وتيمنا.
العرب الحميريون والغزو الروماني
كانت أواخر القرن الثاني قبل الميلاد، وإذا بالأفق في شبه الجزيرة العربية يستقبل نجما جديدا لامع الضوء، ذلك هو نجم الحميريين، أقرباء السبئيين وورثتهم في كل شيء، كما ورث هؤلاء المعينيين من قبلهم.
كان السد المأربي العظيم لا يزال يحبس ماء السحب ويحيي الأرض.
وكانت قوافل التجارة لا تزال تشق طريقها إلى الشمال.
وفجأة ينتقل بنا الجو، وإذا نحن في روما، أمام طليعة القياصرة: أوغوسطوس!
وقد بدأت تتعاظم في الدنيا سلطة تأبى أن تترك من يولدون على طريق الهند وشأنهم.
إن روما لتصدر أمرا، وممثلوها في مصر ينبعثون بحركة على غير مألوف العادة. إنهم يودعون جيشا رومانيا منتظم الصفوف ماضي السلاح يبلغ عشرة آلاف من المقاتلين الذين اهتزت الدنيا بأسرها تحت وطء أقدامهم.
وإيليوس غالوس، أحد القادة الرومان المرموقين، هو الذي عقد له لواء هذا الجيش، فزحف به قويا مطمئنا إلى النصر، في السنة 24 بعد الميلاد.
إلى أين؟ إلى شبه الجزيرة العربية!
كان همهم، وهم روما، القضاء على الدولة الحميرية التي تشرف على واسطة الاتصال بين الهند والشرق الأدنى، ثم ... لا ننس اليمن وخيراتها.
وكان العرب الأنباط في البطراء، وهم أهل مصالح تجارية أيضا، يضيقون صدرا بالدولة الحميرية، فمالئوا عليها الرومان، وأنفذوا وزيرهم دليلا يرشد الحملة إلى أهدافها، ما أخبث التجارة! إنها لجديرة بأن تفسد الماء بين الشقيق والشقيق.
واندفع جيش إيليوس غالوس، يرافقه الجغرافي الشهير «استرابون»، والوزير النبطي الذي سماه استرابون «سنلاتواس».
وأفاد العرب من طبيعة بلادهم في الحرب أحسن فائدة، حالفتهم الصحاري وحالفوها، واستعانوا بخير أسلوب من أساليب القتال حين تكون القوى غير متكافئة بين المتحاربين، نعني أسلوب العصابات.
وطال توغل الجيش الروماني أشهرا، واستطاع أن يحتل نجران، وأن يتجاوزها إلى الجنوب، مسددا طعنة إلى قلب «ظفار» عاصمة الحميريين آنذاك، على أن صفوفه كانت تقل يوما بعد يوم بما تنهش العصابات منها وبما يفتك بها سيف العطش والتعب، فما أوشكت عيون الرومان أن تنظر إلى أسوار المدينة التي يريدونها فريستهم حتى كان قد صدعهم الانهيار الشامل في جميع معنوياتهم، وعرف إيليوس غالوس أنه أنفق نشاطه، مع أن المعركة الحقيقية توشك أن تقع، فما استطاع إلا أن يتخذ خطة التقهقر تلافيا للفناء المحدق، وكان حكيما.
وأدرك أنه إذا سلك، في إيابه، الطريق التي سلكها في قدومه، فلسوف يقرض المنشار العربي بقية جيشه قرضا، فاختصر الطريق، واتجه إلى موضع من شاطئ البحر الأحمر، حيث استقل الزوارق وآثر أن يكافح الأمواج إلى مصر.
وكان ختام حملته درسا ألقته الجزيرة العربية، فلم ينسه الفاتحون من بعد!
وتفرغ الحميريون لمألوف حياتهم، وما أخلقنا أن نزور هذا الأثر الشامخ من آثارهم، فلربما كان أولى نواطح السحاب في الدنيا.
ولنكن، أيها القارئ، بدويين يمنيين، في القرن الأول بعد الميلاد.
ها هو قصر غمدان في صنعاء!
لقد تم بناؤه حديثا. انظر إلى طبقاته: إنها عشرون عدا، لا يقل علو الطبقة منها عن عشر أقدام، وتأمل واجهاته الأربع تطالعك منها الحجارة المشربة بزاهي الألوان، واسترح بعينيك على هذا الرخام الصقيل، فإنه ناعم لين على النظر، وإذا انبعثت الريح وسمعت زئيرا فلا ترتعد، فعلى كل حجر من أحجار الزوايا، في بناء القصر، أسد صب من نحاس، تمر به الريح، فيجاوبها زئيرا.
وحبذا لو صعدنا إلى السطح، لنرى من خلاله داخل الحجرة المعدة للملك الحميري، فهي أعلى حجر القصر، ولك أن تصدق، أو لا تصدق، أن سطحها صفيح من حجر واحد، وهو صخر شفاف كالبلور.
هيا بنا نصعد، ولكن تبا ... تبا للشيطان! لقد نسينا أننا بدويان! وهؤلاء الحضر يزدروننا ويخافوننا في آن، وما قصرهم هذا غير حصن من حصونهم التي يعتصمون بها دوننا .
تبا للشيطان! إننا لن نستطيع الصعود إلى السطح، ونحن بدويان!
كولومبس الشرق
أفاقت بقعة من بقاع القارة الأفريقية، ذات يوم من أيام القرن الأول قبل المسيح، فرأت طائفة من الغرباء قد حطوا فيها رحالهم.
كان الغرباء هؤلاء عربا حميريين غادروا أحد الشواطئ في جنوب شبه الجزيرة العربية، وركبوا زوارقهم وجذفوا بسواعدهم الفتيلة إلى مكان من الشاطئ المقابل في الغرب.
واستقروا في الحبشة.
فكانوا نواة الأمة الحبشية، وأول حجر في بناء دولتها، وأبكر غرس من أغراس مدنيتها، واستمرت لهم علاقات بالدولة الحميرية، وشاركوها الأعمال وقاسموها الأرباح.
ثم أخذوا يتذمرون.
فالحميريون أنسباؤهم يستأثرون لأنفسهم بالحصة الكبرى من الأعمال والأرباح التجارية، وهكذا اتجه نظر الأحباش شطر جيرانهم في الشمال: البطالسة في مصر، وشد ما كان البطالسة يتضايقون من الدولة الحميرية، وإشرافها على الشريان العظيم الذي يربط العالم بالهند، فمدوا إلى الأحباش يدا حارة، وأقبل الكثيرون من المصريين يعملون في الأسطول الحبشي التجاري.
وهنا تومئ كف التاريخ إيماءة سريعة إلى حادثة بسيطة لم ينتبه لها الناس يوم وقعت، ثم ما لبثوا أن نسوها بعد وقوعها، ولكنها حادثة قدر لها أن تكون فاتحة انحطاط الدولة الحميرية.
قيل إن رجلا من سكان مصر، ضائع الأصل بين الإغريقية والرومانية، دخل يوما في خدمة البطالسة، واستهواه البحر، فلحق بإحدى سفن الأحباش وتلقى ثقافة بحرية رائعة.
ثم تفتق عقله عن جرأة وعبقرية استحق لهما لقب كولومبس الشرق. ذلك أنه ركب يوما سفينة، وقذف بها وبنفسه في غمار العباب، وانطوت أشهر حسب فيها الناس أن العباب افترسه، وكف من ينتظره عن انتظاره.
ولكن شراع سفينته لاح يوما في الأفق مقابل ثغر الإسكندرية وكأنه هبط هبوطا من زرقة الجلد.
لقد مخر هذا الملاح الجريء البحر الأحمر، وتحدى رياحه، وكعم أمواجه وبلغ الهند، وانقلب سالما غانما.
على أن عمل هذا الملاح الذي سماه التاريخ هيبالوس لم يكن مغامرة على العمياء، فإنه أتقن دراسة العواصف في البحر الأحمر، فوجدها تهب على مواقيت، وتبين في ثنايا العباب مسالك خفية تأمن فيها السفن على نفسها .
وكان أن غزا الرومان مصر، وانتزعوها من البطالسة، فبنوا على ما أثبته هيبالوس من قواعد الملاحة في بحر شكس قوي المراس كالبحر الأحمر.
ورأى الحميريون أن طريق الاتصال بالهند - هذا الشريان العظيم الذي كان يمر بأرضهم فيغذيها - قد أخذ في النضوب والتكمش، ولاحت أمائر الشحوب على نجمهم المتألق.
وتوالت عليهم غارات أنسبائهم الأحباش، وظل الاستعمار الروماني يزيد في إضرام الحريق بين الشعبين الشقيقين.
فاستطاع الأحباش، في أواسط القرن الرابع بعد الميلاد، أن يحتلوا اليمن نحوا من ربع قرن، وهو أول احتلال حبشي دام أمدا طويلا، غير أن نداء كان أبدا يهيب بالحميريين إلى الكفاح.
ذلك هو الروح الطبيعي في الأمم، روح الوثوب والانعتاق من النير، فطرد الحميريون الأحباش، وتمكنت الدولة الحميرية الأخيرة - أو دولة التبابعة - من أن تبقي النجم الحميري بازغا في الأفق، يشع بنور شاحب، ولكنه نور على كل حال.
غير أن الأحباش الأكسوميين لم يفروا من اليمن إلا وهم يحلمون بالكرة بعد الفرة.
أصحاب الأخدود
ضرب طيطش الحصار على أورشليم، وفتحها عنوة في السنة 70 بعد الميلاد.
وصب نار نقمته على المدينة وأهلها، فنجا منهم جماعة هاموا على وجوههم إلى أن بلغوا اليمن، وفيها الحميريون.
وهكذا انتقلت اليهودية إلى اليمن، وثبتت لها قدم فيها.
واشتدت النزاعات المذهبية في سوريا بين المسيحيين من نساطرة ويعاقبة، فكان المضطهدون يفرون بأنفسهم إلى شبه الجزيرة العربية، وبات الذين يرون فساد العالم ويتوقعون نهايته الوشيكة يتخذون من بعض القفار العربية مواضع عزلة ينصبون فيها الخيام صوامع لهم، وينقطعون إلى العبادة.
ولما رأى امرؤ القيس الشاعر لمعان البرق في ظلمة الفضاء المنذر بالمطر، فوق هضبات نجد، تذكر سراج أحد أولئك الرهبان، وهو قعيد خيمته بالصحراء في عتمة الليل ووحشته.
وأقبل يوم أخذت فيه إحدى القوافل التجارية العربية راهبا يعقوبيا اسمه فيميون.
وأقبل يوم آخر من السنة 356 بعد الميلاد، فوصلت إلى اليمن بعثة دينية نسطورية قدمت من القسطنطينية عاصمة البيزنطيين.
وراح الراهب فيلوس، رئيس البعثة، ينشئ عددا من الكنائس بالمال الذي زوده به الإمبراطور البيزنطي.
وبدأت صفحة من الخلافات الدينية في دولة الحميريين التبابعة، ولم تلبث هذه الخلافات أن اختلطت بالأغراض السياسية وتسخرت للمصالح.
أما المسيحيون فمالوا إلى الدولة الحبشية الأكسومية التي تدين بالدين المسيحي.
والدولة الحبشية هي صديقة الروم البيزنطيين، ولها كما للإمبراطور البيزنطي مصلحة في تقويض الدولة الحميرية.
وأما اليهود فكان ميلهم شديدا إلى حفظ مملكة الحميريين وتهويدها إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فاعتنق الملك ذو نواس اليهودية.
أكان دافعه اقتناعا دينيا أم كان يفكر في الخطر الحبشي، ويرى اليهود جماعة لا يتمنون فتحا حبشيا لليمن ولا يؤيدونه؟
تلك مسألة لم تنفرج عن جواب لها شفتا التاريخ.
إلا أن التاريخ لم يبخل بحكم عام يصدره على ذي نواس وسيرته في الجملة.
لقد كان هذا الملك حميريا عربيا يغار على الدولة الحميرية واستقلالها، غير أنه كان قليل الكفاءة السياسية، فاقترف حماقة وفظاعة أضاعتا الدولة.
السنة 523، الشهر هو تشرين الأول، والناس في اليمن يتناقلون الأحاديث.
فمن قائل: إن بعض اليهود المقربين من الملك هم الذين أوحوا إليه بهذه الفكرة حنقا على النصارى.
ومن قائل: كلا، بل الملك تأكد من تعلق النصارى بالأحباش والبيزنطيين، فهو عازم على أن ينتقم منهم.
ومن قائل: إن لليد الغريبة شأنها، فالبيزنطيون والأحباش يتمنون أن يقدم الملك على مثل هذا الأمر، فيتسنى لهم أن يوقدوا الحماسة ليجردوا عليه حملة عظيمة.
ومن قائل: إن الملك لن يقترف هذه الحماقة والفظاعة.
فيجيبه آخر: بل جاءنا الخبر أن الملك قطع عزما لا نكوص عنه.
وحقا أقبل يوم من أيام تشرين، من السنة 523 بعد الميلاد، فشهدت نجران هولا وهمجية، وشهدت بطولة وإيمانا، كل ذلك في مزيج واحد، في ساعة من تلك الساعات الحاشدة العنيفة العجيبة التي لا يجهلها التاريخ.
قيل: أمر ذو نواس فحفر أخدودا واسعا في الأرض، ثم أمر فأضرمت نار عظيمة في الأخدود، ودفع بنصارى نجران إلى أشداق النار، واحدا واحدا، فكانوا يستقبلونها شجعانا صابرين، يتحدونها ويتحدون المخلوق الذي أمر بهذا التحريق البشري المنكر.
ولم ينج من الضحايا إلا رجل سمته الرواية ثعلبان.
فمضى ينتفض رعبا، ويغلي حقدا، حتى أتى القسطنطينية، فقابل الإمبراطور يوستين الأول وأخبره النبأ الهائل.
فأنفذ يوستين إلى ملك الحبشة رسالة خطها بيد راعشة، وفي هذه السنة نفسها - 523 بعد الميلاد - تحركت حملة حبشية تضم في صفوفها نحوا من سبعين ألف رجل، وعبرت البحر إلى اليمن بقيادة أرياط.
واندحر الحميريون، ولكنهم تابعوا القتال سنتين، فلم يستسلموا إلا في السنة 525، بعد أن تجددت الحملة بقيادة أبرهة.
أما ذو نواس فإنه حين أحس بانهيار ملكه ركض بجواده إلى البحر، ودخل في الأمواج وفي تاريخ الحمقى المتوجين.
عام الفيل
حدث يمني وطني قال:
أفلح الأحباش في اكتساح اليمن، ولكن الخلاف نشب فورا بين القائد أرياط وأبرهة.
وتحزب لكل منهما فريق، وانتظرنا وقوع فتنة تذهب بريح الأعداء وتظهرنا عليهم.
ثم لم تلبث الفتنة أن ذر قرناها، إلا أنها انفضت على وجه سريع، فقد تقدم أرياط وأبرهة للبراز، ولم أكن شاهدا، غير أن رجلا من شهود الحال أخبرني أن الجيش الحبشي اصطف فريقين متقابلين، تفصل بينهما ساحة في صنعاء، وخرج أرياط، وخرج أبرهة، وتصاولا ساعة من نهار.
وانتهز أرياط غفلة، فرمى خصمه بحربة شرمت أنفه وجانبا من عينه، وكر عليه يريد قتله، إلا أن أبرهة كان قد أكمن غلاما له وراء عدوه، فعاجل الغلام أرياط بطعنة كانت القاضية.
وانبعث هياج عظيم، وأوشك الفريقان يتناهشان، ولكن حبشيا شيخا انبرى فقال: هذا شيء مرجعه إلى النجاشي، ونحن في بلاد أعداء فاحقنوا الدماء.
وبات أبرهة وهو القائد الأعلى.
ثم أضاء لنا منفذ جديد من أمل، فإن النجاشي تسعر غيظا لما علم بما صنعه أبرهة، وسمعنا بأنه أقسم ليجزن ناصيته، وليريقن دمه، وليطأن الأرض التي يطؤها، فقلنا: إن الحرب لا شك واقعة بين الأعداء.
غير أن هذا الخبيث أبرهة كان داهية قارحا في الدهاء، فما سمع بقسم النجاشي حتى عمد إلى شعر ناصيته فجزه بيده وجعله في حق، وفصد عرقا من عروقه وملأ قارورة صغيرة، وبعث بذلك كله إلى النجاشي وكتب إليه يقول: أما ناصيتي فهاكها مجزوزة، وأما دمي فأرقه من القارورة ، وأما أرض اليمن ففي الكيس شيء منها فطأها بقدميك الكريمتين، وبعد فأنا عبد من عبيدك.
فطاب خاطر النجاشي، وصفا الأمر لأبرهة، وجعل على رأسه تاجا.
وجاء يوم حان فيه موعد الحج واستعد كثير من الناس للرحلة إلى الحجاز.
فتساءل أبرهة: وأي جاذب هذا الذي يجذب الناس إلى الحجاز، فيتكبدون مشقة السفر، وينفقون الأموال في أرض ليست بأرضهم؟
فقيل له: في الحجاز مكة، وفي مكة الكعبة، وموسم الحج قيام بفرض، ومجتمع يتلاقى فيه العرب ويقضون مصالح تجارية.
فقال أبرهة: لأبنين للناس في اليمن معبدا عظيما يحجونه في كل عام، وقبح الوثنية، ولكنه كان يحلم بالدنانير التي ترجع عليه إذا هو استطاع أن يصرف الحج عن الحجاز.
وما طال الأمر حتى وقع اختياره على مكان طلق بديع في صنعاء، وزار مدينة مأرب فانتقى من خرائبها مواد البناء النفيسة، الفخمة، وحملها إلى صنعاء.
وكتب إلى النجاشي، وإلى قيصر، يستعين بهما على إنشاء المعبد العظيم، واجتمع لديه من الرخام والفضة والمرمر الشيء الرائع.
وإذا بالكنيسة تعلو جدرانها وتشمخ، وتلبس زينتها التي تدهش العقول.
وأصبحت «القليس» محجا يتوافد إليه الناس، وتحول عن الحجاز رزق عظيم.
فغضب الحجازيون وسخط أكثرهم على «القليس» ونشطوا في مقاومة الحج إليها.
وثارت ثورة الأشرم، فأقسم ليحملن على الحجاز، فيهدم الكعبة.
ولسنا ندري صحة ما سمعناه يوما من أن «القليس» وجدت صباح أحد الأعياد مقذرة، لوثها رجل من بني فقيم نكاية بأبرهة.
فكان ذلك آخر ما استطاع أن يطيق الحبشي، فساق جيشه في العام 571 شطر الحجاز، وجعل في مقدمته الأفيال، ومنها الفيل الذائع الصيت الذي أصبح العام 571 عامه في التاريخ.
قال اليمني مستأنفا حديثه: فدبت في العرب يقظة وحمية للقتال، فخرجنا على أبرهة في طائفة يقودنا إنسان باسل سميناه «ذا نفر» تضليلا للعدو عن حقيقته، غير أن أبرهة هزمنا وأسر قائدنا، وأشهد أن الأفيال كانت شر ما راعنا من الجيش الحبشي، ولكن كلما تقدم أبرهة وجد خارجا عليه يساوره وينوشه، وآذته مصاعب الطريق ومهالكها، فلما أسر نفيل بن حبيب الخثعمي ، وهو أحد الخارجين عليه، أكرهه أن يكون له دليلا، ثم فاز من بني ثقيف في الطائف بخائن يقال له أبو رغال، تطوع لإرشاده.
وأوشك أن يبلغ مكة، ورأى جماعة من جنوده إبلا لعبد المطلب، من بني هاشم، من قريش، فأحاطوا بها واستاقوها.
وكان عبد المطلب شيخ البطحاء التي بمكة، فبعث أبرهة في طلبه، فأقبل ذا شيبة جليلة وطلعة وقور.
فامتلأت به عينا الحبشي واحتفل لقدومه، ثم قال له: إننا لم نأتكم وأنتم بغيتنا، ولكننا نريد أن نهدم هذا البيت الذي يحج إليه الناس، فخلوا بيننا وبين البيت، وأنتم آمنون على أرواحكم وأعراضكم وأموالكم.
فقال عبد المطلب: إنما جئتك طالبا رد إبلي، وقد أحاط بها جنودك واستاقوها من المرعى.
فاشمأز الحبشي وقال: كنت أعظمتك في قلبي لما رأيتك أيها الشيخ، فوجدتك غير ما حسبتك، أفيكون الخطب خطب البيت المقدس عندكم، ثم تأتيني مطالبا بشرذمة من إبل؟
فأطرق عبد المطلب وهو يقول: للبيت رب يحميه، أما الإبل فأنا صاحبها.
فأمر أبرهة برد إبله، وبات الحبشي وهو عازم على دخول مكة.
قال اليمني: وكانت قلوبنا واجفة، وانصرف أكثر المكيين إلى مخارم الجبال، ولكننا سمعنا أمرا عجيبا: كان فيل من الأفيال في مقدمة الجيش الحبشي يأبى السير إذا وجهوه شطر مكة، فإذا احتثوه خطا خطوات حائرة، متقاعسة، دلت على أنه عمي عن موضع قدمه، فإذا حولوه جهة اليمن نشط للسير وأضاءت عيناه.
ثم قال اليمني: وسمعنا بشيء أعجب من هذا كله، سمعنا بطيور صعدت في الجو وأقبلت من ناحية البحر فحومت فوق الأحباش، وأفلتت حصى صغيرا كانت تحمله بأرجلها ومناقيرها، فكان الحصى لا يصيب موضعا من لحم حبشي إلا هرأه، فمات.
وما لبث أن ذاع الخبر بأن أبرهة رأى أن ينقذ البقية الباقية من جنوده، فنكص على عقبيه إلى اليمن.
وقد سمعت من يقول: إن جيش أبرهة آذاه الخارجون عليه في طول الطريق، وأجهدته مشاق الزحف، فلما بلغ مكة كان منهوكا ضعيفا، وما عتم أن فشا فيه وباء خبيث، فجلا وتقهقر فلولا محطمة، وهنأ كل وطني يمني نفسه بهذه الضربة التي أصيب بها الأعداء.
انتهى حديث اليمني الوطني.
ونظر مؤرخ عصري في شأن الطيور التي قذفت الأحباش بالحصى من مناقيرها وأرجلها، فقال: يا للإنسان! لقد كان منذ القدم يحلم بالطائرات والقنابل والغارات الجوية!
سيف بن ذي يزن على سد مأرب
كان في حاشية أبرهة، لما زار مأرب ليحمل منها مادة البناء للقليس، فتى وضيء الطلعة تنطق سيماؤه بالذكاء المتقد، والحمية الزاخرة.
لم يكن يراه إنسان إلا استرعى نظره، فتأمل الصباحة في محياه، وأعجب برجولته العارمة، ولكن ربما حار في تفسير تلك الكآبة التي تحوم عليه.
فسيف أمير في ذروة من النعمة والجاه، ولئن كان أبرهة قد انتزع أم سيف، ريحانة بنت علقمة، من عصمة زوجها، أبي مرة ذي يزن، فالعهد بسيف أنه يجهل ذلك كله، ويجهل أن ذا يزن أبوه، وقد أفاق على نفسه وهو لدى أبرهة في منزله بغمدان، وكل يقينه أن القائد الحبشي والده، وكل يقينه أن «مسروقا» الذي نسلته أمه من أبرهة إنما هو أخوه لأبيه وأمه.
فماذا به حتى أخذت الكآبة منه وطفت على قسمات وجهه في الأعوام الأخيرة؟
لا شك في أنه استطاع أن يعرف الأمور على حقيقتها، فتبين أن القائد الحبشي اغتصب أمه من والده اغتصابا، وعلم أن أباه إنما هو ذو يزن من أشراف حمير وسادتها. ولم يطلعه غريب على هذه الأسرار كلها، ولكنه اضطر أمه اضطرارا أن تبوح له بما غاب عنه، ففي يوم عالج أخاه مسروقا ونافسه، وكان يعلم أن مسروقا يحسد في قرارة نفسه بشرته الضاربة إلى بياض واستشراق، غير أن سيفا كان يعتقد ذاته محظوظا إذ شاءت الطبيعة أن تجيء بشرته لأمه، لا لأبيه أبرهة، فلما قسا عليه أخوه في الكلام أغضى وتحمل، ثم سمع شيئا أقامه وأقعده، فإن مسروقا شتمه وشتم أباه.
فلمع في ذهنه خاطر كلمع البرق: أيمكن أن يسب مسروق أباه وهو أبرهة؟ كلا! وإذن، فالمرجح أن أباه غير القائد الحبشي.
وانطلق سيف إلى أمه، ومنذ ذلك اليوم لم يهدأ عنها حتى أفضت إليه بكل شيء، وحدثته حديثا محزنا مثيرا عن أبيه ذي يزن، فانفجرت عيناه بالعبرات، وقام في صدره حقد لاهب، وحركته همة عنيدة إلى الانتقام.
لقد حدثته أن أباه، لما اضطهده أبرهة واستبد به، فر من اليمن فأتى مدينة في العراق يقال لها الحيرة، كان قد نزح إليها قوم من عرب اليمن من بني لخم وغيرهم، فأنشأوا فيها ملكا.
ثم حدثته كيف أن ملك الحيرة انطلق بأبيه إلى ملك الفرس الذي يقال له كسرى، فناشده أن يعينه على أبرهة والأحباش، فوعده ملك الفرس الوعود، ولكنه ماطله حتى مات حزينا مقهورا. ... وها هو سيف الآن في حاشية أبرهة يزور مأرب! طالما سمع عن المدينة وأمجادها وسدها العظيم، طالما قال له الوطنيون اليمنيون الذين أصبح على صلة وثيقة بهم: أيغلبنا هؤلاء الأحباش، وما أول أمر الحبشة إلا نفر من أجدادنا هاجروا إليها؟ أنقعد عاجزين ونحن بناة قصر غمدان وسد مأرب؟
وأبى سيف إلا أن يشاهد السد العظيم، وكان السد لا يزال صامدا يخزن المياه الغامرة، وقد طرأت عليه بضعة فتوق أصلحها أبرهة.
وقف الأمير الشاب يلحظ غمر المياه الصافية، بعد أن اجتمعت وهدأت ورسبت أكدارها في القرار، وراح يتأمل الحجارة الضخمة التي اقتطعتها وبنتها السواعد الجبارة، فكبر قلبه بما أبصر من آثار الجد والعظمة في بلاده، وفي هنيهة تطلقت أسارير وجهه من قبضة الكآبة، وابتسم ابتسامة من أعجبه شيء وسلاه شيء.
فأسر إليه أحد اليمنيين ممن أحاطوا به: ولم يبتسم الأمير؟
فأجابه الأمير: ذكرني هذا السد بأسطورة الجرذ، فقد سمعت من عجوز أن أميرا من أمرائنا سمي لي مزيقيا، عمرو بن عامر ماء السماء، ركب يوما فأتى هذا المكان، فنظر إلى جرذ ينشب أسنانه في السد، فأدرك أنه سينقبه فيفيض السد وتخرب البلاد ويتشتت العباد، فقفل راجعا إلى بيته ودعا بابنه فأخبره الخبر وقال له: «لا بد من النزوح، ولكن لا بد قبل ذلك من بيع أرضنا، فإذا اجتمع لدي الوجهاء فأغضبني فإني سأزجرك، فتحمس والطمني، فتجدني قد صحت: وا ذلاه ! وحلفت أن لا أقيم في بلد يلطمني فيه ولدي جهارا نهارا، ثم تجدني قد عرضت أرضنا للبيع بثمن بخس، وأظن أن وجهاءنا سيغتنمون غضبي وسيشترون»، وحقا مثل الأب والابن الرواية، المهزلة، وباعا الأرض ورحلا، ثم لم يلبث السد أن انفجر بفعل الجرذ الذي زحزح حجرا من حجارته ربما احتاج إلى سواعد خمسين من الرجال، فنزح من الناس خلق كثير، وأصبحوا وهم المناذرة في العراق والغساسنة في الشام.
وهنا أذن الأمير سيف لنفسه بأن يضحك وقال لمحدثه: شد ما ظلمنا المناذرة والغساسنة حين جعلنا جرذا يغلبهم على السد فيبعدهم عن أوطانهم، وهم من نعلم، قد استطاعوا أن ينشئوا لأنفسهم دولتين عربيتين منظورتين، كلا! ليس الجرذ الذي دفع بهم إلى النزوح، ولئن كان هذا السد، قد نقب من قبل، فإنهم ما كانوا ليعجزوا عن ترميمه، ولقد نقب في زمننا هذا فاستطاع أبرهة أن يصلحه.
وعادت الكآبة فطفت على وجه سيف وهو يتمتم: إن سفن الرومان ذللت البحر الأحمر وحولت عنا طريق الهند ... ليس بدعا أن يقهرنا الأحباش إذا كنا قبلنا أن يكون الجرذ هو الذي جلانا عن بلادنا.
فأجابه أحد الذين يحيطون به: إنها أسطورة أيها الأمير فلا تزعج بها.
فقال سيف: ولكن الأساطير قطع من العقول، وصور من مدى الهمم، بئس ما كافأنا به أجدادنا، بنوا لنا هذا السد العظيم فقابلناهم بأسطورة الجرذ الذي خربه.
فقال الرجل، وقد أدرك مغزى كلام سيف: لا تزال لنا عقول، ولا تزال لنا همم، أيها الأمير، وإننا لنكافئ بغير أساطير الجرذان. اطلب تجد!
الأمير سيف عند كسرى
قالت أم سيف لولدها: «إنك لا تزال تطلب أمرا أظن فيه هلاكك كما هلك أبوك من قبل، فارفق بنفسك يا بني، ولقد هممت بالخروج يوم ارتد أبرهة بفلول جيشه عن مكة، ثم رأيت أن لا تفعل، ونعم ما رأيت يا بني آنئذ، فليس يغنيك هؤلاء الفتية اليمنيون المتحمسون الذين يدفعون بك إلى التمرد، وبعد، فما أنت في ملك الأحباش بمغبون، ولو كان كسرى هذا الذي تتحدث عنه ينوي إمداد اليمنيين بالجند والسلاح لما قال لأبيك: «أكره أن أغامر بجيشي في موامي الأثل والسدر».»
بمثل هذا كانت أم سيف تخاطب ابنها كلما أتاها مستشيرا، وكان سيف لا يستسهل الهدف الذي عكفت نفسه على نشدانه، بل كان يدري أن كلام العجوز ليس خوفا كله وهراء وضعف امرأة.
على أنه كان قد عقد العزم فلا تردد ولا نكوص، وها هي الظروف جميعها مؤاتية، لقد مات أبرهة، ومات خلفه وولده يكسوم، فاعتلى العرش مسروق، ومسروق ليس بالرجل الكفؤ الخطير، والأحباش في زمنه يرون الهدوء مخيما على البلاد، ويحسبون أن ملك اليمن مستتب لهم أبد الدهر.
وكان يوم دعا فيه نوال بن عتيك إلى مجلس سري، ونوال هذا مولى سيف، وصاحبه ورجله القوي، فشهد المجلس نفر من زعماء اليمن الموالين لسيف.
قال أحد هؤلاء: إن كسرى، أيها الأمير، خذل أباك، فلو لجأت أنت إلى قيصر الروم، وعرفته أننا خير له من الأحباش لأعانك عليهم، أو لأمرهم بترك البلاد، فبتنا أحرارا وكفانا ذلك مئونة الثورة.
فضحك سيف ضحكة ساذجة كالكلام الذي سمعه.
ولكن زعيما آخر قال: يجب أن لا يطول بنا الجدال، فلا استعانة لنا إلا بملك الفرس لأنه عدو الروم، وما دام ملك الروم يؤيد الأحباش لأسباب اقتضتها مصالحه، فإن ملك الفرس خليق بتأييدنا للأسباب نفسها، وأظن الأمير يستطيع أن يقنع كسرى بما له من منفعة في صداقتنا، ولئن كان والد الأمير لم ينجح من قبل، فالزمان قد تبدل اليوم، والفرس أشد قوة، وملك الحيرة مقبول الكلام عندهم، فليمض الأمير إلى ملك الحيرة وليسع سعيه المبرور.
وكأنما نطق الزعيم بالقرار الذي انفض عليه المجلس.
وكان صباح خرج في غرته الأمير سيف بن ذي يزن، يركب ناقة نشيطة، وإلى جانبه مولاه نوال، وكلاهما يغذ السير في طريق الحيرة.
وتنبه مسروق إلى خروج سيف من اليمن، فبعث في طلبه ولكنه فاته، وضحك مسروق وهو يقول: إن هذا رجل يأبى إلا أن يموت ميتة أبيه.
وأطل سيف ومولاه على خضرة الحيرة، وقابل ملكها النعمان بن المنذر ، وشكا إليه ما تلقى اليمن من عسف الاحتلال الحبشي.
فقال النعمان: قضى أبوك، يا ابن العم، حياته مكرما في ملكنا، فإذا شئت أن تمكث لدينا فعلى الرحب والسعة.
فأجابه سيف: لم آتك هاربا بنفسي ألتمس ملجأ، وإنما أتيتك مستنجدا على فاتحين يظلمون قومي وقومك، وأنا أعرف لك مكانة عند كسرى، وأعرف لكسرى منفعة في شد أزرنا على الأحباش، فالأحباش صنائع الروم، والروم أعداء الفرس، وطرد الأحباش ضربة على نفوذ الروم، فمهد لي لقاء كسرى واغنم شكري وشكر اليمن، فإنها أصلكم ومنبتكم.
فقال النعمان: حبا وكرامة يا ابن العم.
ولم يلبث الأمير سيف أن وجد نفسه في المدائن، في قصرها الملكي العظيم، ينتظر الإذن بمقابلة كسرى.
ثم أذن له، فمثل بين يدي الملك.
قال سيف: إنك لتذكر، أيها الملك، رجلا من بني حمير خان الحظ بلاده، فاجتاحها الأحباش، وأذاقوا أهلها مر العذاب، فأتى المدائن مستغيثا وقد غصبه قائد الأحباش امرأته، ولكنه قضى نحبه في غم الانتظار، ذلك، أيها الملك، والدي! ولقد سمعت أنه تلقى وعدا أكيدا بالمعونة، فلنا عليكم الدين الذي هو وعد الحر. وإن إخراج الأحباش من اليمن لصدمة قاسية يمنى بها نفوذ الروم، وهم ألد أعدائكم، وبينكم وبينهم المكايدة الشديدة، وأهل اليمن أهل معروف، ووفاء بالمعروف، وبلادهم خيرة غنية، فلن تضيع لكم في ذمتهم جهود تبذلونها من أجلهم.
فانبسط وجه كسرى لما نقل إليه الترجمان الكلام وتأمل الحزن المكبوت والعزم الصادق في محيا هذا الأمير العربي الجميل، وأحس ما يحسه من ألم ثقيل في قرار نفسه، ورأى حقا أن للدولة الفارسية مصلحة في طرد الأحباش من اليمن وإضعاف نفوذ الروم، ولكن أين المدائن من اليمن، وبينهما المسافات الشاسعة، وجلها فراغ موحش، قفر وفلاة؟ غير أنه أبى أن يواجه سيفا بما يسوءه، فطيب خاطره، وأمر له بصلة، وصرفه إلى حين آخر.
حمل سيف الصلة، فجعل ينثرها، وهو منصرف، على خدم القصر.
فرده إليه كسرى وسأله عن سبب ما يصنع، فأجابه: ما أتيتك أطلب الذهب، وأرض بلادي ذهب، ولكني جئت أطلب الغوث لقوم مظلومين.
فأعظمه كسرى، وأكبر مروءته، وبرق له بارق خلاب من تلك البلاد التي زعم الأمير العربي أن أرضها ذهب!
وراح العاهل الفارسي يقلب الأمر على وجوهه، وأخيرا جمع مرازبته للنظر.
من أجنبي إلى أجنبي
جلس كسرى إلى مرازبته، يفاوضهم في شأن الأمير سيف وقضية الحملة على اليمن، وكأن المرازبة كانوا على تفاهم سابق، فتقدم أحدهم بهذا الاقتراح الطريف، قال: في سجونك، أيها الملك، ثمانمئة، بل ألف، من المحاربين، وليس منهم إلا من اقترف ذنبا يستحق له الموت، وجميعهم إلى الفضاء الطليق مشتاق، فأخرجهم وجهز منهم حملة لقتال الأحباش، فإذا نجحوا فذاك، وإذا تلفوا فما ظلموا.
فأصغى كسرى مليا، ثم قال: ومن يقود حملة كهذه؟
فأجابه المرازبة: سمعنا أن الأسوار وهرز يتطوع لتدريب الحملة وقيادتها، ووهرز عظيم الإعجاب بالأمير العربي.
فأشار كسرى بالموافقة.
وأخرج المحابيس من سجونهم، ودربوا على فنون القتال وأخصها الرماية، وجهزوا بأنواع السلاح.
ثم تحركت الحملة الصغيرة من المدائن، وقد تعاهد وهرز وسيف على أن لا يختلفا، بل على أن يموتا أو يظفرا.
حتى إذا بلغ سير الحملة شط العرب، عند مصب الدجلة والفرات، ركب المقاتلون ثمانية من السفن وأبحروا إلى ساحل حضرموت، فتحطمت سفينتان بعصف الريح، وفقدت الحملة نحوا من مائتي رجل، ونزل الجنود الباقون إلى البر، وقيل: إن وهرز أمرهم بإحراق السفن لئلا يلتفتوا وراءهم.
وطارت الأخبار إلى اليمن بقدوم الأمير سيف، وجعل اليمنيون يمشي بعضهم إلى بعض، ويتناقلون فيما بينهم أن سيفا عاد من بلاد الفرس ومعه حملة عظيمة كفيلة بطرد الأحباش، وطفق الفتيان اليمنيون يجمعون السلاح، فيتسللون خفية ويلحقون بسيف، ونمى الخبر إلى مسروق فأعد جيشا جرارا بلغ عشرات الألوف، وزين رأسه بالتاج، وعلق لؤلؤة ساطعة تتحدر على جبينه، وركب الفيل، وزحف إلى معركة يعتبر أن نتيجتها مقررة.
وكان سيف قد قال لوهرز: أنتم الفرس رماة نشاب، ونحن أمهر مع الرمح والسيف، وأكثر هؤلاء الذين سنلقاهم من جيش مسروق إنما هم يمنيون ساقهم إلى قتالنا، فإذا باشرتهم أنا بنفسي وباشرهم من معي من العرب دعوناهم فانحازوا إلينا، فكن أنت ورجالك في المؤخرة نكن نحن في المقدمة.
فوافقه وهرز، وكان سيف والعرب في الطليعة.
فما ظهر جيش مسروق حتى لاحت دلائل الاستخفاف على الملك الحبشي، فقال: «أيقابلني المجنون بحفنة من الرجال يلتقمها جيشي لقمة واحدة؟ والله لا أقاتله وأنا على فيل، هاتوا لي فرسا أركبها»، ثم تحول عن رأيه فصاح: «بل هاتوا لي جملا، بل هاتوا حمارا، فإن الحمار خير ما ألقى به هذا المدعي المغرور؟».
على أن مسروقا ما لبث أن رأى عجبا، إذ انقضت تلك الحفنة من الرجال فخالطت طلائع جيشه غير حاسبة للموت حسابا، وجعل يسمع نداء عربيا ويرى سلاحا كان إلى جانبه ينقلب عليه.
ثم انهل مطر من النشاب حوله وحول حماره، فلقد أحكم رماة الفرس نشابهم هذا الإحكام لغرض في النفس، فارتاع مسروق وصاح بالأحباش فالتفوا حوله ليقوه الشر، ففتك بهم النشاب فتكا ذريعا، فتساقط من تساقط، وتبعثر من تبعثر، ولم تطل الوقعة حتى انحلت عرى الجيش الحبشي وتمت هزيمته.
وتابع الجيش الظافر زحفه حتى صنعاء، وكان باب المدينة واطئا، فأبى وهرز أن يمر بالباب وينكس رايته فصاح: اهدموا الباب.
فنظر سيف إلى حسن صنعة البناء، وشحبت وجوه اليمنيين، أيكون ذلك أول جزاء الاستعانة بالأجنبي الفاتح على الأجنبي الفاتح؟
وما استطاع سيف إلا أن يقر هدم الباب، ودخر وهرز ورايته مرفوعة يداعبها النسيم.
وكان أول ما فعل أن طلب الأموال والهدايا، فسيق له منها الشيء الكثير، فبعث به إلى كسرى.
فكتب إليه كسرى يقول: توج سيفا، وعاهده على الأمانة للفرس، وافرض عليه الجزية كل عام، وأن يتزوج الفرس من قومه، ولا يتزوج قومه من الفرس.
فنفذ وهرز ما أمره به ملكه وقفل راجعا، وانتقلت اليمن من سيطرة أجنبية إلى سيطرة أجنبية، واستوى سيف على عرش أجداده من بني حمير في غمدان، وجاءته الوفود مهنئة.
على أن بعض الأحباش الذين أراد إذلالهم، فجعلهم خولا وجمازين بين يديه، غدروا به فقتلوه.
وانقلب الفرس إلى حكم البلاد حكما مباشرا حتى نهض الإسلام.
سيف بن ذي يزن وعبد المطلب بن هاشم
لم يكن نصر الأمير سيف بن ذي يزن على الأحباش نصرا يمنيا وحسب، ولكنه كان نصرا عربيا، اغتبط له العرب وتحدثوا به في شبه جزيرتهم من أقصاها إلى أقصاها.
وأسرعت الوفود إلى قصر غمدان تهنئ الأمير الظافر، وفي مقدمتها وفد الحجاز.
وهل يمكن أن يخلو وفد الحجاز من شيخ الأبطح عبد المطلب بن هاشم؟
فلما مثل الوفد بين يدي سيف، كان الشيخ عبد المطلب هو الذي افتتح الكلام فقال: نحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة، في كلام طويل حلو فصيح.
غير أن سيفا لبث والحزن في وجهه، ولم يستطع هذا الكلام الذي سمعه، على ما فيه من حلاوة وفصاحة وصدق وإخلاص، أن يصرفه عما يخالج نفسه من ألم.
لقد حز في قلبه باب صنعاء الذي أمر وهرز بهدمه كي يستطيع دخول المدينة ورايته مرفوعة.
ورحب سيف بالحجازيين خير ترحيب، وملأ عينيه من عبد المطلب، ثم دعا بمن حول الجميع إلى دار الضيافة.
ومر شهر والوفود تتلاحق، حتى إذا قل القادمون، ووجد سيف منفسحا من الوقت، بعث برجل إلى دار الضيافة، فأتاه بعبد المطلب، فخلا به خلوة طويلة.
قال عبد المطلب: كأني بك، أيها الملك، لست على ما نروم، مع أن الله ساق إليك نصرا على أعدائك، وشفى غلك، وأعز بك العرب.
فاغتصب سيف ابتسامة، وقال: اصغ إلي، أيها الشيخ، إنك لعارف بالأمور، ثم تزعم أن الله أعز بي العرب، وكيف أعزهم بي؟ لقد طردنا الأحباش، ويخيل إلي أننا استبدلنا أسيادا بأسياد، وسيحكمنا الفرس كما حكمنا الأحباش، ومع ذلك فالساعة آتية لا ريب فيها، اصغ إلي، أيها الشيخ، هل تعلم لماذا ملأت منك عيني في أول يوم قابلتني فيه؟
فأجاب عبد المطلب: لم يفتني أن أفكر في الأمر، وقد ظننت أن شيبتي أعجبتك، أو حسبت أنك تعلم خبري يوم قابلت أبرهة وهو على أبواب مكة.
فقال سيف مبتسما: شيبتك تعجب، أيها العم، وخبرك يوم قابلت أبرهة وهو على أبواب مكة مشهور ، على أنني أدمت النظر لسبب آخر: أن العرب الذين تزعم أن الله أعزهم بي سيعزون، ولكن على يد جديدة، وإيمان جديد، وعقل جديد، هذا ما يوحيه إلي هاجس خفي جلي.
ونظر سيف في وجه عبد المطلب وفاجأه بسؤال غريب: هل ولد في بيتك غلام تحس من أمره عجبا؟
فارتعش الشيخ وبان التغير في وجهه.
فألح عليه سيف أن لا يكتمه شيئا.
فاندفع عبد المطلب يقول: أجل ولد في بيتي مثل هذا الغلام الذي تسأل عنه، وهو حفيدي، مات أبوه ولم يكن قد خرج إلى الدنيا، وكان عام ولادته العام الذي زحف فيه أبرهة يطلب الكعبة، وذكرت النساء أن أما لم تضع طفلها بأيسر مما وضعته أمه، وأتتنا الأنباء بالأعاجيب من كل صوب، فقيل إن إيوان كسرى أصابته ارتجاجة حتى تصدع، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وقيل إن النار التي يعبدها الفرس ويوقدونها من جيل إلى جيل أصابها الانطفاء لأول مرة منذ ألف سنة، وقيل إن بحيرة ساوة غاضت، وقيل إن موبذان فارس شهد في نومه إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة وانتشرت في البلاد، وقيل إن سطيحا الكاهن أول ذلك لكسرى بانتهاء ملك الفرس، وقيام ملك العرب.
فترقرقت عينا سيف، وصاح بعبد المطلب: إن حفيدك هذا لهو المنتظر الذي ننتظره، فتعهده بخير ما تستطيع يا عبد المطلب، إن له لشأنا عظيما، وإنه سيلقى عنتا شديدا، وما أتمنى إلا أن يمد لي في الأجل فأدرك ظهور أمره، وأجعل يدي يده، ولكن كأني بحبل الحياة سينقطع بي قبل الأوان.
فأطرق عبد المطلب لا يدري حقيقة هذه العواطف التي تساوره، أهي الزهو، أم الغبطة، أم الخشية والقلق، أم كل ذلك مجتمعا في شعور لا يترك مسربا من مسارب النفس إلا تغلغل فيه؟
ولما قفل عبد المطلب إلى مكة، سمع بعد أمد يسير أن الملك سيفا غدر به الأحباش الذين جعلهم خوله وجمازيه فقتلوه، فقال عبد المطلب: كأن منيته أنبأته بقرب مقدمها! ومسح بيده على رأس حفيده الصغير، وهو يتمتم: لقد خسرت صديقا يا بني.
جوع كلبك يتبعك
نحن في الجاهلية ما زلنا، وفي اليمن أيام الحميريين التبابعة.
ومع ذلك، سنتحدث عن مسألة حديثة، ونرى كم هي قديمة، ونتحدث عن مسألة قديمة، ونرى كم هي حديثة!
قال الراوي: كان أحد ملوك حمير - وما يعنينا من اسمه؟ - شديد الوطأة على الرعية، غصابا لما في أيديها، وكان الكهان يفتشون الغيب، فينبئونه بأن الرعية ستقتله إذا هو لم يقلع عن سيرته، واغتبط التاريخ بأن سجل خبرا عن كهان مالوا عن ملك إلى شعب.
إلا أن الملك لم يحفل بما جاءه به كهانه، وظنهم حقا يفتشون الغيب، فقال: ومن أين لهم أن يعلموا الغيب؟ وما درى أنهم إنما رأوا الغد من خلال اليوم.
ولبثت رعيته تتقلب من جوره على الجمر، وعاث فيها الفقر، وازدحم السائلون على بابه يئنون ويشكون، فسمعتهم امرأته، وأطلت يوما فشهدت وجوها فر لونها، وعيونا كاد يطفئ البؤس بصيصها، فقالت له: نحن في العيش الرغد، وهؤلاء يلقون ما يلقون من الجهد، وإني لأخشى أن يصيروا عليك سباعا، وقد كانوا وما زالوا لك أتباعا.
فضحك منها وقال لها: شأن لا علم لك به! أراك أصبحت سجاعة، أما عرفت حكمة الحكماء: جوع كلبك يتبعك، فسكتت، كما تسكت المرأة غير مقتنعة، لتترك لرجلها مجال إعجاب بروعة كلامه.
واتفق أن وقعت هذه الجملة في سمع رجل يدعى عامر بن جذيمة، أو فلانا من الناس، فوعاها، ولم يذكر لنا الراوي شيئا عن وظيفة عامر هذا، ولكنه كان مفكرا على الأرجح. وخرج عامر بين الناس ممتعضا فرأى استسلاما وخضوعا، وكان ينتظر أن يرى فورة، وثورة تقع بعد ساعة، ففوجئ وقال في سره: لقد أصاب الملك، هذا الشعب لا يعدو أن يكون كلبا، وجوع كلبك يتبعك!
وانقضى الوقت الذي ينمي الأشياء وينضجها في صمت، وعامر بن جذيمة مصر على رأي الملك الذي أصبح رأيه هو أيضا.
ثم فوجئ مرة أخرى، وكأن لا وظيفة للمفكر إلا أن يفاجأ لأنه إما متأخر جدا عن الركب أو متقدم!
انفجر الشعب بالثورة!
ولكن المفاجأة كانت ، بالطبع، أشد وقعا على الملك، ذلك أنها دحرجت رأسه عن كتفيه، بينما هي لم تزد على أن خطأت عامر بن جذيمة في حسابه.
غير أن عامرا لم يقبل، وأقام يقلب الأمر على وجوهه ليعلم كيف بدر من «الكلب» ما بدر منه، ثم وقع على تفسير جعل المفاجأة طبيعية، جد طبيعية، فقال: وأي عجب؟ ربما أخذ الكلب بمخنق سيده الظالم إن لم ينل شبعه.
وإلى اليوم - بعد ثورات التاريخ كلها - لا يزال الشعب كلبا في رأي بعض، على أن هذا الكلب لا يلبث أن يفاجئ هؤلاء، كما فاجأ الملك الحميري وعامر بن جذيمة المفكر، أما الملك الحميري فيتدحرج رأسه، فلا يبقى قادرا على أن يعطي رأيا، وأما عامر بن جذيمة المفكر العميق، فيفاجأ أولا، يفاجأ عند الإبطاء وعند الإسراع، فيكون سابقا أو مسبوقا، ثم لا يرى آخر الأمر عجبا في أن يأخذ الكلب بمخنق ظالمه.
ولكن ما علينا، ما دام الأخذ بمخنق الظالم واقعا، على أي حال!
الأزمة الضميرية
تبدأ حكايتنا، هذه، بذكر ملك من الملوك الحميريين اسمه حسان، فهل هو حسان تبع الذي غزا جديسا وبلغ نجدا فأقام مملكة كندة، أم هو حسان غيره، أم أن الحكاية رأت أن لا بد من اسم للملك الحميري الذي تتحدث عنه، فدعته باسم حسان؟
ليكن ظنك ما شئت أيها القارئ.
وتعال نسمع الحكاية نفسها:
نقم الأقيال، أي الأشراف، من بني حمير على ملكهم حسان، وما دامت أسباب نقمة الأقيال، وغير الأقيال، كثيرة على الملوك، فلا موجب لذكر سبب النقمة.
والتمس الأقيال وسيلة ينتقمون بها من عدوهم، فمشوا إلى الأمير عمرو، وهو أخو حسان وولي عهده، فقالوا له:
وما يمنعك أن تكون أنت الملك الآن؟ أفما يليق رأسك بالتاج؟ أفما تليق هيبتك بالعرش؟ فاخلع أخاك أو اقتله، ونحن وأنت يد واحدة.
ونسي عمرو أن حسانا أخوه.
وكأن كلام الأقيال أثار كبيتا كان في نفسه منذ أعوام.
وقد لا يكون غريبا أن يقتل أخ أخاه من أجل الملك، فذلك شيء عرفه التاريخ وأكثر معرفته ، وأقل في الغرابة أن يحرض نفر من الأشراف أميرا على قتل أخيه، ولكن الغريب حقا أن يظهر في مثل هذه القضية وجه لمثل هذا القيل الذي سمته الرواية ذا رعين.
قيل إن ذا رعين لم يكد يسمع بما فعل أصحابه الأقيال حتى أنكر قبح فعلتهم، وأسرع إلى عمرو ينهاه عما هم به.
أما الأقيال فضحكوا منه وقالوا له: طالما عرفناك واعظا حسن الإرشاد، ولكننا الآن في شيء آخر، نحن في السياسة!
وأما الأمير عمرو فقطب في وجهه وقال له: لا بد لي اليوم من العرش والتاج، ولو على جثة أخي، وما يدريني أنني أعيش لأرثه.
فقال ذو رعين: وضميرك؟ ضميرك أيها الأمير.
فكانت تلك لغة لم يفهمها عمرو.
فانكسرت نفس ذي رعين، ووقف منذ مئات السنين ذلك الموقف الذي لا يزال يقفه طيبو القلب، وهم حائرون في هذا الطلاق العجيب، الذي يبدو محتوما، بين ما يسمونه السياسة والضمير.
وأحب ذو رعين أن ينبه حسانا إلى المكيدة التي تدبر له، على أنه عرف أن حسانا في مثل هذه الحال سيعالج أخاه بالقتل، وما الفرق بين أن يقتل حسان عمرا، أو أن يقتل عمرو حسانا؟
وما لبث صاحبنا أن قضى بأن خير موقف يقفه هو الحياد.
ثم فطن إلى شيء: أليس من واجبه أن يرضي ضميره على الأقل؟ والمستقبل؟ من يدري ما يتكشف عنه المستقبل؟ ومن يصدق أن ذا رعين لم يكن مواطئا للأقيال في قبيح فعلتهم؟ فما العمل؟
وكانت النتيجة أن قام ذو رعين إلى صحيفة بيضاء وخط فيها سطرين، ثم طواها طيا محكما وحملها إلى الأمير عمرو وقال له: سألتك، أيها الأمير، أن تختم على هذه الصحيفة المطلوبة بخاتمك وتستبقيها وديعة لي عندك.
وانزوى ذو رعين وهو يقول: ما أحسن راحة الضمير!
وجرت الحوادث مجراها، فقتل عمرو أخاه حسانا وأصبح صاحب الأمر من بعده، لبس التاج الذي كان يتمناه، وقعد على العرش الذي كان يتشهاه، وسكر السكرتين، سكرة الملك وسكرة النصر.
إلا أن السكرتين لم تدوما طويلا، وجعل عمرو كلما اجتمع لديه الأقيال، يذكر أنهم هم الذين حرضوه وأعانوه على قتل أخيه، فكيف يأمنهم على نفسه؟ ولقد كان على يقين من بلوغ الملك بعد وفاة أخيه، فهل أكسبه قتله إلا الغدر؟
وطفق شبح أخيه يزحف عليه من زوايا القصر كلما هبط الليل.
وثار به الضمير الذي ينام ويستيقظ، وكأن ضميره بات يهمس إليه في هدأة الليل: لقد استيقظت أنا، فلن تنام أنت.
وذهب عمرو كل مذهب يفتش عن الدواء لدائه، وعمد إلى الكهان، فطيبوا نفسه وسهلوا عليه الأمر، واستعملوا فنون كهانتهم، فوجدهم جميعا مشعوذين، إلا كاهنا شجاعا قال له: هذا أيسر ما يجزى به قاتل أخيه أيها الملك.
فعزم أخيرا على أن يدعو الأقيال فيبطش بهم، وأنفذ عزمه فسفك منهم دماء خلق كثير، حتى وصل إلى ذي رعين.
فقال له ذو رعين: أتقتل بريئا أيها الملك؟ لقد نهيتك عن قتل أخيك فلم تنته، فوقفت على حياد.
فقال عمرو: لا أذكر أنك نهيتني، ولكن رأيك كان رأي سائر الأقيال.
فأجاب ذو رعين: لي، أيها الملك، وديعة ختمت عليها بخاتمك وسلمتها إلى خازنك، فمره يأتنا بها.
وتذكر عمرو الصحيفة المطوية، فدعا خازنه أن يخرجها له، فلما تسلمها ذو رعين فضها في حضرة الملك وأقرأه إياها، فإذا فيها بيتان من الشعر:
ألا من يشتري سهرا بنوم؟
سعيد من يبيت قرير عين!
إذا ما حمير غدرت وخانت
فمعذرة الإله لذي رعين!
فصمت عمرو، وخلى عن ذي رعين.
غير أن بعض الرواة أبى إلا أن يكمل الحكاية، فقال: صمت عمرو صمتة طال أمدها، ثم خاطب ذا رعين بهذه الكلمات: إنك بريء كما تقضي الظواهر، وبريء كما يقضي العرف، فلن أقتلك، ومع ذلك فإنك لست ببريء: لقد علمت بشر يقع ففهت بكلمة وسكت، وكتبت صحيفة تحتج بها فيما بعد ليسلم لك رأسك، وقد يصح ما كتبته مثلا سائرا من الأمثال، ولكنه لا يصح لك تبرئة وتنزيها.
فأجابه ذو رعين: كلا، أيها الملك، لم أفكر إلا بحجة تكون لي أمام ضميري، وأمام الناس، ووقفت على حياد.
فقال عمرو : إن الحياد في وجه الشر لضرب من ضروب المشاركة في الجريمة يقع فيه الخبثاء والسذج على السواء، وما همهم من القضية كلها إلا أن يستطيعوا، في يوم من الأيام، أن يقولوا لأنفسهم وللناس: لقد كنا على حق، لقد كنا نعرف النهاية، ولقد بقينا والحمد لله ناصعي الجبين!
وكان الملك عمرو ساعتئذ قاضيا ينطق بحكم صوابي عميق، ولكنه كان من القضاة الذين يحسنون الحكم على غيرهم، وحسب!
وانحلت هذه الأزمة، الأزمة الضميرية! وهدأ الملك عمرو بعد الذي سفكه من دم على دم، وبدأ بعض يلقبه بالملك العادل الذي انتقم لأخيه.
وقال ذو رعين لأحد أصدقائه من السياسيين المعجبين «بالملك العادل»: يا صديقي، لقد كان على هذا الملك العادل أن يبدأ في القطع برأس نفسه، فأجابه الصديق السياسي: ولكن ألا ترى أنه لو قطع رأس نفسه لما استطاع أن يقر العدل ويقطع رءوس المذنبين؟
فسكت ذو رعين؛ لأنه أعجبه هذا المنطق العجيب.
مدينة في الصخر
كان استرابون الجغرافي، الذي رافق إيليوس في حملته على الحميريين، ينظر إلى الوزير النبطي الذي رافق الحملة، هو الآخر، نظرة ارتياب واتهام.
ولعل الوزير النبطي أبى أن يكون مرشدا صادقا للرومان، ذلك أن الأنباط كانوا عربا كالعرب، وكانوا يخشون نصرا رومانيا ينقلب عليهم فيسحقهم بثقل وطأته.
ظهر الأنباط، أول ما ظهروا على مسرح التاريخ، قبائل هاجمت قوما يقال لهم الإيديوميين، وانتزعت منهم موقع البطراء حوالي القرن السادس قبل الميلاد، وأنشأ الأنباط دولة عاشت في الشمال من شبه الجزيرة العربية على غذاء الأعمال التجارية.
ولكن ليس هذا كل شيء.
إن الواقف أمام خرائب البطراء اليوم يخيل إليه أنه يسمع وقع المطرقة على إزميل العامل، وهو ينقر مدينة بكاملها في الصخر.
أية يد ثابتة بارعة تلك التي أتقنت نحت هذه الأعمدة، وتدويرها وصقلها؟
وأية نفس عجيبة تلك التي اختارت صخرة عظيمة قاحلة على هضبة ترتفع ثلاثة آلاف قدم؟
لا ريب في أنها نفس كانت تؤثر المنعة والحصانة على كل مطمح من المطامح.
ولقد أبدت البطراء منعة في أكثر من موقف: حاول انتيغونوس، الذي خلف الإسكندر المكدوني ملكا على سوريا، أن يفتتحها فارتد عنها كسير الهمة.
وبلغ من قوتها أن استنجد يوليوس قيصر بأحد ملوكها ليمده بالخيالة أثناء حروبه في مصر. ... اتسعت دولة البطراء أعظم اتساعها أيام ملكها حارثة الثالث، وهو الذي افتتح دمشق وخلع عنها سيادة السلوقيين، وكان ابنه حارثة الرابع ملكا ما كان أوغسطس قيصر إمبراطورا، لما استقبل مذود البقر الطفل الناصري العظيم.
ولما كان الرسول بولس يتدلى بحبل وقفة إلى خارج سور دمشق، كان الحاكم الذي أمر بمطاردته، نبطيا ممثلا لحارثة الرابع.
وحين حاصر الإمبراطور طيطش مدينة أورشليم حصاره الشهير، كان في قواته خمسة آلاف من المقاتلة، وألف جواد أنجده بها أحد ملوك الأنباط.
صادقت البطراء روما صداقة متينة بعد صداقة البطالسة في مصر، ولكن روما تضايقت باستقلال صديقتها.
وأخذ تيار التجارة يسلك طريقا آخر لا يمر بالبطراء، بل بمدينة أخرى أخذ نجمها بالصعود، هي مدينة تدمر.
وفي نوبة من نوبات الغضب الاستعماري الأثيم، عزم الإمبراطور تراجان على محق عاصمة الأنباط، فالمدينة الصخرية كانت تتشبث بأكثر مما يستطيع أن يسيغ من الروح الاستقلالية.
زحف عليها وحاصرها في السنة 106 بعد الميلاد، وكان القتال داميا رهيبا، ولكن موقع المدينة على حصانته كان شحيح الماء، فنوخها العطش، وكالت لها الفيالق الرومانية ضربات قاتلة، فتمكن من دخولها الإمبراطور تراجان وخربها تشفيا وانتقاما، على أن إزميل العامل الذي نقر الصخرة، يوما في الماضي البعيد، تحداه، وصمدت آثاره الرائعة للدهر.
ولكن ليس هذا كل شيء.
فقد يقال إن الأنباط هم من الرعاة (الهيكسوس) الذين احتلوا مصر قديما بخيولهم الخاطفة التي دهش لها المصريون وتضعضعوا، وكان منهم الفرعون، المسمى الريان، وهو الذي استوزر يوسف بن يعقوب الإسرائيلي.
وأقام الهيكسوس في مصر نحوا من خمسين سنة حتى أخرجهم منها الفرعون أحمس، فعادوا عبر سيناء إلى شبه الجزيرة العربية، واحتلوا البطراء حيث أقاموا مملكتهم وأبدعوا مدينتهم الخالدة.
وإذا صحت بعض النظريات فالأنباط كانوا في حديثهم اليومي يتكلمون العربية رغم أنهم استعملوا الآرامية في الكتابة.
وأية عربية ؟ هذه اللغة الدارجة التي أتكلمها أنا وأنت اليوم، أو شيء قريب منها، ومما يؤيد هذه النظرية أن الأنباط شعب بقيت له صفاته خلال التاريخ العربي بعد ظهور النبي محمد وفي أيام الأمويين والعباسيين، وكانت إحدى صفاته اقتصار أفراده على العربية العامية، وضعفهم في إتقان الفصحى، بحيث بات الشعراء يعيرونهم ويكثرون مداعبتهم.
ولا ندري هل تذكر عشائر الحويطات، في شرق الأردن اليوم، أنها ترتفع بالنسب إلى الأنباط، وعصرهم المرموق؟
المدينة التي بناها الجن
ظل بدو الصحراء السورية عصورا طويلة يعرجون على خرائب تدمر وأنقاضها، فيجدون أعمدة ضخمة صف واحدها إلى الآخر في شبه غابة متسقة الأشجار، ويجدون هياكل منحوتة في الصخر الأصم، ويلمسون قوة جبارة ومهارة فائقة صرفت في البناء والنحت والصقل، فقدروا أن ذلك كله شيء من عمل الجن بإشراف نبي من الأنبياء، وبتسخير من الله!
فقالوا: إن النبي سليمان هو الذي أخضع الجن بمشيئة العزة الإلهية لبناء تدمر.
ووقف النابغة الذبياني بين يدي النعمان، ملك الحيرة، فأنشده:
ولا أرى ملكا في الناس يشبهه،
ولا أحاشي من الأقوام من أحد
إلا سليمان، إذ قال الإله:
قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن، أني قد أذنت لهم
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
حقا إن الأبطال المجهولين الذين ساهموا في صنع التاريخ لأكثر من الأبطال المعروفين، فمن الذي أنشأ تدمر حيث هي في إحدى واحات الصحراء؟
الجن؟! لا بأس بهذه التسمية للأبطال المجهولين.
فما الذي جذبهم إلى هذا المكان المستغرب؟ الماء؟
وجعلنا من الماء كل شيء حي ، والتجارة؟ فلقد كانت تدمر، كجميع المدن العربية التي ازدهرت آنذاك، واقعة على إحدى الطرق التجارية بين الشرق الأبعد والشرق الأدنى، كانت تنام وتصحو على جلبة القوافل ترد عليها، وتصدر منها، كما تتلاحق الأيام والليالي.
شد ما طمحت إليها الأنظار، أنظار الفاتحين، ويرجح أنها هي التي ذكرها الملك الآشوري «تغلاث فلسر» باسم تدمر آمرو، في أحد نقوشه الباقية من السنة 1100 قبل المسيح، فهل حلم «تغلاث فلسر» بضمها إليه، كما حلم القائد الروماني مرقس أنطونيوس بعده بألف وسبعة وخمسين عاما، إذ هجم عليها بين السنة 42 و41ق.م؟
قال مرقس أنطونيوس: سأخضع المدينة الصحراوية المعتزة بنفسها.
وقالت تدمر: كلا.
فارتد القائد الروماني خائبا.
ولكن لم يكن من الممكن أن تحتفظ المدينة بتمام استقلالها، وهي بين شقي الرحى، بين أضخم إمبراطوريتين في الدنيا، نعني بهما: الفارسية والرومانية، فخيم عليها ظل النفوذ الروماني منذ أوائل العهد الميلادي، وزارها الإمبراطور هادريان في السنة 130، فألحقها إلحاقا بالإمبراطورية وسماها تدمر هادريان، ومر عليها أمد وهي جزء مندرج في جسم الإمبراطورية.
على أن ذلك كله - ويا للغرابة! - لم يكن إلا مقدمة لنهضتها العظيمة.
استمرت الحرب لا تخمد نارها بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، فكان أن برز في الفرس الإمبراطور سابور الأول، فأوقع بالإمبراطور الروماني فاليريانوس هزيمة شنعاء، وقبض عليه أسيرا، فلم يستطع الثأثر لفاليريانوس غير بطل عربي تدمري هو أذينة بن السميذع، طارد سابور الأول في السنة 265 حتى أسوار المدائن عاصمة الفرس.
فأشرق نجم أذينة، وأشرق نجم تدمر، واعترف الإمبراطور الروماني غلينوس، الذي خلف فاليريانوس، بعظيم ما أسدى أذينة من معروف، فلقبه بالإمبراطور، وأقره قائدا أعلى للفيالق الرومانية في الشرق، وهكذا باتت سلطة أذينة مبسوطة على سوريا وشمال الجزيرة العربية، وربما اتسعت إلى مصر وآسيا الصغرى وأرمينيا أيضا، وباتت تدمر مدينة من أعظم مدن الدنيا في وقتها، تباري روما والإسكندرية ومدائن فارس.
ولكن يدا مغتالة لم تلبث أن امتدت إلى البطل أذينة، ولا يزال مصرعه سرا من الأسرار، فقد جاء حمص في السنة 267، فوجد مقتولا بالسيف، ويقال إن ابنه قتله، ويقال ابن أخيه، ويقال إن زوجته زنوبيا هي التي دبرت مقتله ليخلو لها وجه الملك. وإنها كلها لضروب من الحدس، والطبيعي أن تكون روما هي التي عملت على إزالته من الوجود، خوفا من تعاظم بأسه وسلطانه، والموقف الذي اتخذته الملكة زنوبيا، بعد موته، لا يدل على ممالأة أو اشتراك منها في الجريمة. وكان أولاد أذينة جميعهم قصرا، فليس من المنتظر أن يقتل ولد قاصر أباه.
وعلى كل حال، مات أذينة وملكت زنوبيا باسم ولدها وهب اللات (اللات صنم)، وكانت هذه الأنثى التي صعدت العرش امرأة حسناء، مثقفة، على أن قلبها قلب لبوءة. رأت لديها جيشا تدمريا لا يقل عن خمسين ألفا من المقاتلين المجهزين بخير أسلحة العصر، وآنست ضعفا من روما، وتحركت فيها شهوة الثأر لزوجها، وتذكرت أن رجلها كان يتطلع إلى مستقبل خاص بتدمر، منفصل عن سيادة الإمبراطورية الرومانية، ولم تكن هي أقل طموحا ولا أصغر بطولة.
فقادت جيوشها وزحفت بها على مصر في السنة 270، فاحتلت الإسكندرية، وهي، وإن كانت عربية، فقد كان فيها عرق أفريقي ينتهي بها إلى كليوباترة والبطالسة وكأنها لما دخلت وادي النيل تذكرت جدتها التي دجنت بجمالها يوليوس قيصر وأنطونيوس، ثم قضى عليها أوكتافيوس الذي أصبح أول إمبراطور على روما، وزحفت، في السنة نفسها أيضا، شطر آسيا الصغرى، وجعلت من أنطاكية عاصمتها الثانية، ودفعت بالفيالق الرومانية إلى وراء، حتى أنقرة، وكانت جد موفقة بقائديها الكبيرين زبده وزباي.
لقد بلغ كوكب تدمر العربية أوجه في الصعود والإشراق.
ثم تولى عرش روما الإمبراطور أوريليانوس، فسار مع الملكة العربية سيرة مهادنة في أول الأمر، ولكنه كان يلبس في إحدى يديه قفازا ناعما من مخمل، ويجمع اليد الأخرى ليكيل الضربة.
وما كادت تقبل السنة 272 حتى تحرك أوريليانوس بجيوشه الجرارة، فهزم القائد زبده في معركة على مقربة من أنطاكية، ثم هزمه في وقعة حمص، وتقدم إلى أسوار تدمر نفسها.
شد ما كان الحصار هائلا! وشد ما صمدت المدينة العنيدة وثبتت ملكتها اللبوءة! فأرسل أوريليانوس إلى زنوبيا يقول: استسلمي، وأنا ضامن لك الحياة.
فأبت! إن الاستسلام هو الموت، الموت المعنوي، أقبح الموتين.
على أن الأفق بات يزداد ظلاما يوما بعد يوم، إن الذخيرة تقل، والمؤن تخف، وأذرع الشجعان تكل.
عزمت الملكة عزما، خرجت تحت ستار حالك، ومعها نفر من جنودها، كانت تقصد الفرس لتستنجدهم على الرومان، أعدائهم وأعدائها.
إلا أن نبأها اتصل بأوريليانوس، فأنفذ فصيلة أدركتها وطوقتها وهي تعبر الفرات.
واستسلمت تدمر، استسلمت في ربيع تلك السنة، السنة 272.
كانت الواحة التدمرية تكتسي بالخضرة الطالعة، ولكنها خضرة أشبه بشحوب الخريف، وقيدت لبوءة الصحراء بسلاسل، سلاسل من ذهب، يا للسخرية! ما الفرق؟
وسيقت إلى روما، وعرضت في المهرجان الذي أقيم للإمبراطور الظافر.
وتسامع التدمريون بما لحق بملكتهم من إهانة، ورأوا تغير حالهم من حرية إلى خضوع وطأطأة، فثاروا، فأعاد أوريليانوس الكرة عليهم، ودمر مدينتهم، ونزع منها زينة هيكلها البديع المشيد للشمس، ونقل الزينة إلى روما حيث شيد هيكلا للشمس الشرقية ذكرى انتصاره.
وترك الشمس الشرقية، الحقيقية، ترتفع كل يوم، فوق خرائب تدمر، وترسل حبال أشعتها إلى هيكلها الموحش ...
«محضر» مؤرخين: الغساسنة والمناذرة
أبصر مزيقيا عمرو بن عامر، ماء السماء، ذلك الجرذ المشئوم يقرض سد مأرب، فباع ما يملكه في أرض اليمن - على ما حكت الحكاية - ونزح بقومه إلى حوران والبلقاء، حوالي أواخر القرن الثالث الميلادي.
ووجد قوما من العرب قد سبقوه وسبقوا قومه في النزوح إلى تلك الديار، فنشبت مناوشات بين الفريقين، انتهت بتغلب عمرو بن عامر وقومه، فلما كان عهد جفنة، وهو من أبناء عمرو بن عامر، برز الملك الجديد، ملك الغساسنة، مستقرا على قواعده، وعد جفنة مؤسسه.
وعاش الغساسنة دهرا على موارد الطريق التجاري بين مأرب ودمشق، وتلاحقت الأيام، وتململ العرب في شبه جزيرتهم يشتد، كان تقدم الملاحة يصرف عنهم التجارة من البر إلى البحر، وكانت أرضهم، التي تغلب عليها الطبيعة الصحراوية، تضيق عليهم سبل الرزق، وكانوا يتسامعون أنهم إذا قطعوا حواشي شبه جزيرتهم، اتصلوا بأرض خصبة خيرة في جهة العراق والشام.
ولذلك ازداد تشوقهم إلى الخروج من أرضهم وأخذوا يسطون على التخوم، يقعون ويرتفعون كأنهم الطيور الطائرة.
ورأى البيزنطيون أن هؤلاء البدو المتوثبين مصدر من مصادر القلق الدائم، فاستمالوا إليهم الغساسنة، وجعلوهم قوة تضمن الأمن على تخوم مملكتهم.
وشعر أكاسرة الفرس بالقلق نفسه في جهة العراق، فاصطنعوا دولة المناذرة في الحيرة، وهي الدولة التي أقامها عمرو بن عدي بن نصر اللخمي، ولخم قبيلة يمنية هجرت اليمن إلى الشمال كأختها غسان.
ولما كان البيزنطيون والفرس أعداء لا تهدأ بينهم الحروب، فقد وافق مصلحة كل من الدولتين أن تقيم على حدودها دويلة صغيرة تتلقى أول الصدمة كلما انقض جانب على جانب في هجوم.
وانتقل العداء بين البيزنطيين والفرس، بالعدوى، فأصبح عداء بين الغساسنة والمناذرة.
ولو شئنا لوقفنا هنا عند موسم غني من قصص تاريخية وأسطورية تتصل بالمناذرة والغساسنة، بحربهم ومنشآتهم العمرانية وأياديهم على الشعراء.
لكننا سنفعل شيئا آخر، سندخل مجلسا منعقدا من المؤرخين، فنصغي إلى نقاشهم في شأن الدولتين اللخمية والغسانية، ولعل المؤرخين يتفقون على شيء، هذه المرة!
قال مؤرخ الغساسنة: «لقد قطع بنو غسان شوطا بعيدا في الحضارة، متأثرين بالبيزنطيين، فشادوا القصور والكنائس والمسارح، وشقوا أقنية الماء، على أن يد الدمار عبثت بأعمالهم فلم يبق منها اليوم إلا آثار ضئيلة منثورة في حوران، ولا تكاد قصائد مداحيهم، كحسان بن ثابت والنابغة الذبياني، تفتح لنا مطلات نتلمح منها حضارتهم، حتى تنغلق في وجهنا تلك المطلات الضيقة، وتعصب عيوننا بالظلام».
فقال مؤرخ المناذرة: «ولقد قطع بنو لخم شوطا بعيدا في الحضارة أيضا متأثرين بالفرس، وهم الذين أدخلوا الكتابة إلى شبه جزيرة العرب، كما أجمع الرواة، وليس من قارئ عربي يجهل اسمي الخورنق والسدير، القصرين اللذين بناهما المناذرة».
فرد مؤرخ الغساسنة: «ومع ذلك فيجب الاعتراف بأن المناذرة لم يبلغوا شأو الغساسنة في منطلق الحضارة».
وهنا انبرى مؤرخ بدا أنه كان يمسك نفسه إمساكا، فقال: «على أن هذا كله لا ينفي أن الغساسنة والمناذرة كانوا في خدمة دولتين أجنبيتين، وكان بعضهم يمزق بعضا من أجل هاتين الدولتين. كان المنذر الثالث اللخمي الملقب بابن ماء السماء، والحارث الثاني، الملك الغساني الأعرج، يصطدمان بتحريك وتحريض من البيزنطيين والفرس، فيوفق أحدهما، المنذر، إلى أسر ولد الحارث، فيذبحه ضحية للإلهة العزى في السنة 544، فيتأهب الحارث الثاني، طوال عشر سنوات، لاصطدام آخر يقع عند قنسرين، ويخرج ابنته الحسناء حليمة لتدهن بالطيب وتكفن بالبياض مائة من الفرسان الغساسنة أقسموا وتعاهدوا على الظفر أو الموت، حتى إذا اضطرمت المعركة، ودارت الدائرة على المنذر، تطلع الحارث إلى عدوه فذبحه، ثم اتجه إلى الإمبراطور البيزنطي يوستينيانوس، فكافأه بلقب من الألقاب الضخمة ...»
وسكت المؤرخ سكتة، ثم استأنف حديثه: «إن قيمة الغساسنة والمناذرة في التاريخ العربي ليست في دولتيهما بذاتهما، بل بالمعنى العميق الذي اقترنت به هاتان الدولتان، لقد دل الغساسنة والمناذرة على أن العرب شعب كفؤ لاقتباس الحضارة وبنائها، وتنظيم الجيوش وكسب المعارك. لقد دل الغساسنة والمناذرة على الحيوية العربية التي كان يستغلها الفرس والبيزنطيون، ولكنها كانت على كل حال حيوية قوية». «ولا شك في أن الشعوب جميعها، حتى في أدوار النحس والشقاء من تاريخها، لا تعدم، بوجه من الوجوه، مظهرا من مظاهر الحيوية، وهذا قياس ليس بأقل انطباقا على العرب منه على غيرهم، ويكفي أن المناذرة والغساسنة أنفسهم عاشوا صنائع الفرس والبيزنطيين، ولكنهم ما لبثوا أن أحسوا بالدافع الاستقلالي ينبض في ضمائرهم، ويحفزهم إلى فرض وجودهم، فرأى الفرس والبيزنطيون أن يعالجوهم بالهدم». «وهكذا قبض الإمبراطور البيزنطي، طيباريوس الثاني، على المنذر بن الحارث، فحمله إلى جزيرة صقلية، وحاول خلفه النعمان الغساني أن يواصل كفاح البيزنطيين فوقع أسيرا وحمل إلى القسطنطينية، وبذلك أصابت المملكة الغسانية ضربة ضعضعتها، وزاد في ضعضتها أن اجتاح الفرس، أيام كسرى أبرويز، قطري سوريا وفلسطين في طلائع القرن السابع الميلادي، فلما استعاد هرقل الأرض المفقودة رمم مملكة الغساسنة ترميما، بحيث تكفي لخدمة مصالحه وحسب، وأقبل الفتح العربي الإسلامي، فوجد على الغساسنة أميرا قليل الخطر يدعى جبلة بن الأيهم».
وتابع مؤرخنا حديثه فقال: «ولم يكن حظ المناذرة من الفرس بأحسن من حظ الغساسنة من البيزنطيين، فقد تذرعت الدولة الكسروية بحجة ما، لتقضي على النعمان الثالث، أبي قابوس، ابن المنذر الرابع، واستعان الفرس بانشقاق العرب، فنصبوا إياس بن قبيصة الطائي واليا على الحيرة، ومعه حاكم فارسي يأمر وينهى، وتلك كانت الحال يوم فتح خالد بن الوليد العراق في السنة 633».
وانقطع المؤرخ انقطاعة قصيرة، ثم أردف: «ولكن العرب لم يسمحوا بالدولة الفارسية أن تتصرف على هواها بالملك العربي النعمان بن المنذر، فردوا لها الضربة بضربة وفقوا فيها، فكانت أول نصر جعلهم على ثقة من أنفسهم، وساعد في إعدادهم المعنوي للوثبة الكبرى التي أدهشوا بها الدنيا».
وكأن مؤرخنا فطن إلى شيء فقال مستدركا: «على أنا لن نأخذ في حديث ذي قار قبل أن أذكركم بدولة عربية يظهر أنكم نسيتموها أو أهملتموها إهمالا، فإنها في رأيي لعظيمة المغزى في التاريخ العربي، تلك دولة بني كندة!»
وأحب مؤرخنا أن يتبين موقع كلامه من جماعة الجالسين، فدار بنظرات عجلى يتصفح الوجوه، ثم استأنف حديثه: «إني لأرى علامة الاستفهام ترتسم على الوجوه كيف التفت، فقليلون هم الذين يجعلون مملكة الكنديين في هذا الموضع الذي جعلتها فيه، ولكن تعالوا نشهد الواقع.» «نشأت دولة بني كندة بتأييد من التبابعة، فقد أعد حسان تبع حملة، وزحف نحو الشمال في شبه الجزيرة العربية، وكان التبابعة، بحكم انقطاع الموارد البحرية عنهم، قد ازدادوا اتجاها إلى البر وانتهجوا سياسة توسع لو أتيح لها النجاح لكانت انتهت في الواقع إلى توحيد شبه الجزيرة، وكان في حملة حسان تبع، بنو كندة يرأسهم أمير قوي، لقب بآكل المرار، فلما انقلب حسان تبع إلى اليمن، ترك آكل المرار وبني كندة حكاما يحكمون في الشمال، ولست أزعم أن الكنديين بلغوا مبلغا عظيما من الحضارة، ولكن مصدر دولتهم كان عربيا لا أجنبيا، وكان قيامهم محاولة استنباط للنظام من الفوضى، ومحاولة لم لشتات الديار والقبائل في شبه الجزيرة».
وهنا عاد مؤرخنا فأدار نظراته في الجالسين، وقال: «هذا هو المغزى الذي أراه لدولة الكنديين في التاريخ العربي، وجد واضح أن الكنديين فشلوا لأسباب كثيرة، منها سقوط دولة التبابعة، ومنها عداء الفرس والبيزنطيين والمناذرة والغساسنة لهم، ومنها سوء تدبيرهم وثورات القبائل عليهم كما اتفق الحجر، والد امرئ القيس الشاعر، إذ بعث جباته يجمعون له الإتاوة من بني أسد بالعصا، فانتفضوا عليه وقتلوه، ولكن فشل الكنديين أمر لا ينال من مغزى دولتهم في التاريخ العربي».
وسكت مؤرخنا هذه المرة سكوت الختام، وكأنه توقع أن يسمع كلمة من غيره، إلا أن سائر المؤرخين ظلوا صامتين، فهل كان صمتهم موافقة؟ إن للصمت معاني كثيرة! وبغتة ارتفع صوت من أحد المؤرخين يقول له : «إنك تملأ إناء الماضي مادة من الحاضر.»
فأجابه: «ذلك خير من أن نملأ إناء الحاضر مادة من الماضي، ومع ذلك ففي الحاضر من الماضي مادة لا تنكر، ولولا الشوق إلى فهم الحاضر والمستقبل لما كان لتفهم الماضي معنى، والنظر إلى وراء هو جزء من النظر إلى أمام!»
وانفض مجلس المؤرخين، ونحن لا نعلم هل وافقوا زميلهم على ما قال، ولكن تعزينا بأن اختلاف المؤرخين حكم من أحكام القضاء والقدر.
ناقة الفقراء
يعرض أقدم ذكر للثموديين في نقش يرجع إلى عهد الملك الآشوري سرغون الثاني.
حدث سرغون، على أسلوب الملوك الآشوريين في التفاخر، أنه حمل حملة شعواء على ثمود، فأخضعها في السنة السابعة من ملكه، أي في السنة 717 قبل الميلاد.
وألم العالم بليني، بذكر الثموديين في كتابه: التاريخ الطبيعي.
ويرجج العلماء أن اللحيانيين، الذين كانت عاصمتهم ديدن، في الشمال من شبه الجزيرة العربية، كانوا يمتون إلى الثموديين بصلة النسب الوثيق.
وكل هذا لنقول: إن الثموديين قوم من العرب البائدة عرفهم التاريخ.
أكانت مساكنهم على طريق التجارة بين الحجاز والشام، وكانت عاصمتهم الحجر، أو مدائن صالح اليوم.
وسموا ثمودا لقلة الماء في ديارهم، وثمود من الثمد، وهو الماء القليل.
وهذا يكاد يكون كل ما نعرفه عنهم، لولا قصتهم التي وردت في القرآن بقصد المثل والعبرة، وقد توسع الرواة في هذه القصة، فكانت إحدى النفائس العربية الرائعة.
قيل: لما أتت الريح العقيم على عاد عمرت الأرض بعدهم ثمود، وازدهرت، وطالت أعمار بنيها حتى كان الرجل منهم يشيد البيت المتين، فيخرب البيت والرجل حي، فجعلوا ينقبون المنازل في صخور الجبال.
وداخلهم العجب بأنفسهم، وذهب بهم البطر كل مذهب، وعاثوا في الأرض مفسدين، ولعل معنى ذلك أنهم راحوا ينقضون على قوافل التجارة، ويحبسون الماء القليل عن المسافرين، ويعدو أغنياؤهم على فقرائهم.
وفي مثل هذه الحال، يظهر المصلحون وترتفع أصواتهم نقية صافية مجلجلة.
وظهر النبي صالح، وارتفع صوته داعيا إلى الخير، ناهيا عن المنكر.
فلم يتبعه على مألوف العادة إلا قليل مستضعفون كانوا موضع الزراية، ثم أصبحوا موضع الاضطهاد.
ومشى سيد ثمود، جندع بن عمرو بن جواس، إلى صالح، في نفر من الزعماء والوجهاء، وقال جندع: إنك رجل يدعي أن الله يوحي إليه، وليس هذا بالأمر الهين على التصديق، وإنك لتريد حملنا على غير ما ألفنا، وليس باليسير علينا أن نتبعك، فنتحول عن طريق إلى طريق، فجئنا بآية تشهد أنك نبي الله، وما الله بباخل عليك إن كنت نبيه حقا.
فأجاب صالح: وهل تؤمنون إذا جاءتكم الآية؟
فقالوا: نؤمن.
وأقبل العيد الذي يعيده الثموديون، فحملوا أصنامهم وخرجوا بها، ولحق بهم صالح، ودعا الثموديون أصنامهم أحر الدعاء، والتفت جندع إلى صالح فقال له: لقد دعونا أصنامنا فادع أنت ربك، وانظر إلى هذه الهضبة الصخرية المنحازة عن الجبل، فاجعلها تلد ناقة.
فراح صالح يبتهل إلى ربه، وإذا بالقوم يشهدون عجبا: فقد تحركت الهضبة، وتمخضت صخرتها فانشقت عن ناقة عظيمة ما لبثت أن ولدت سقبا عظيما.
فقال جندع سيد ثمود: أما أنا فقد آمنت! وآمن جملة من القوم، ولكن ثلاثة يقال لهم: ذؤاب والخباب ورياب، أبو أن يصدقوا صالحا، وكانوا هم أصحاب الأصنام الثمودية ينتفعون بها، فصاح صائحهم: أمن أجل ناقة خرجت من هضبة تنكرون آلهتكم؟ بئس القوم أنتم لا يقر لكم دين!
وانجلى الأمر على فريق آمن بالجديد، وفريق أصر على القديم.
وقال صالح: هذه الناقة لا بد لها من ماء كثير، وأنتم في مكان ماؤه نزر يسير، فاجعلوا البئر يوما لها، ويوما لكم، ثم احلبوا من الناقة ما شئتم، فإن درها لغزير.
وتلاحقت الأيام والناقة ترد البئر التي أصبحت تسمى باسمها، فتشرب ماءها يوما حتى لا تبقي فيها قطرة، وتترك الماء لأهل ثمود في اليوم التالي، وأقام الثموديون يحلبون الناقة فيملئون آنيتهم ويغتذون.
وكأنها كانت ناقة الفقراء خاصة، فما لبث بعض الثموديين، من أصحاب المواشي، أن برموا بها، وقديما ضاق الأغنياء برزق الفقراء.
قال أصحاب المواشي: إن هذه الناقة الهائلة لتفرغ بئرنا يوما من يومين، ولتنزل الوادي في القيظ فتحتل الظل وتذعر مواشينا إلى مسقط الشمس في رأس الجبل ، ثم إنها لترعى العشب والشجر، فلا تكاد تترك لمواشينا ما تقتات به.
وعقدوا النية على قتلها، ودبت الحماسة، أول ما دبت، في النساء.
فتحركت عنيزة، وهي امرأة ذؤاب أحد أصحاب الأصنام الذين أبوا تصديق صالح، وكان لها ولزوجها غنم كثير، وكانت أم بنات حسان فاتنات، وتحركت صدوق، وهي امرأة غنية عهدت بأنعامها إلى زوجها، فآمن زوجها سرا بصالح، وأنفق في سبيله الأموال، فلما علمت بالأمر أكلها الغيظ، وانفصلت عن زوجها، وأبعدت عنه أولاده، فبجهد ما استطاع المسكين ردهم إليه.
واتصلت صدوق بالخباب، وهو أحد أصحاب الأصنام الذين رفضوا صالحا، وقالت له: إني جميلة كما ترى، فاعقر هذه الناقة الخبيثة أقبلك زوجا، فقال لها: لست بفاعل، فاعذريني، ولكني ظهيرك في هذا الأمر الذي تطلبين.
فاتجهت صدوق إلى ابن عم لها يسمى مصدع بن مهرج، ووعدته بنفسها ومالها إن هو أجابها إلى عقر الناقة، فوافقها.
أما عنيزة فدعت رجلا يقال له قدار بن سالف، فأطمعته ببنت من بناتها، وكان قدار هذا أشقر أزرق، قصير القامة، عظيم الزهو بنفسه، قليل الاحتشام، ذكر الرواة أنه ابن زنى!
وكان صالح قد أحس من قبل بأن مكيدة تدبر للناقة، فأنذر الثموديين بأن هلاك الناقة هلاكهم.
فقالوا له: لن يصيب الناقة شر، فقال: انظروا إلى أولادكم، فسيولد منهم في هذا الشهر شقي يشقيكم، فقالوا: لا يولد لنا ولد في هذا الشهر إلا أمتناه.
وولد للثموديين أولاد أماتوهم جميعا، إلا واحدا أبى أبوه أن يمسه.
فكان ذلك قدار بن سالف.
وجعل قدار يكبر في سرعة مخيفة، يشب في اليوم شباب غيره في الجمعة، ويشب في الجمعة شباب غيره في الشهر، ويشب في الشهر شباب غيره في السنة، حتى استوى في بضعة أعوام رجلا أشقر أزرق قصير القامة، أما كيف ظل قصير القامة، مع سرعة نموه، فهنا العجيبة ...
وأقبلت المرأتان، صدوق وعنيزة، كل بالرجل الذي تعتمد عليه، وتمت الصلة والموافقة بين مصدع بن مهرج وقدار بن سالف.
ويظهر أن امرأتين لم تكونا كافيتين، فأضاف بعض الرواة ثلاث نسوة دعوا إحداهن: ملكة، وكانت أشبه بالملكة في ثمود، أما الأخريان فعشيقتا مصدع وقدار.
وقالت ملكة للمرأتين: إذا سكر مصدع وقدار، فطلباكما لما يطلب الرجل المرأة، فقولا لهما: نحن الليلة كئيبتان لحزن ملكة، ولن تمسانا قبل أن تقتلا الناقة.
فكان ذلك مما زاد في وقدة الغضب لدى مصدع وقدار.
وأفاد أعداء صالح من باب افتتحوه للتشنيع عليه، فقد راحوا ينظرون إلى قدار، ويقولون: إن صالحا هول علينا، في شهر من الشهور، وعظم الخطب حتى دفعنا إلى قتل موالينا، ولو أننا أبقينا عليهم لكانوا اليوم كقدار، ووجد هذا التشنيع على صالح آذانا، وسخط الذين قتلوا أولادهم، وتحمسوا لقتل صالح، ومشوا إليه بنية السوء، فانقلب شرهم عليهم فماتوا، فقويت حملة التشنيع، وقال القائلون: إن صالحا حملهم على قتل أولادهم، ثم لم يكفه ذلك حتى قتلهم، وقام فريق يريدون الفتك بصالح، ولكن شرهم انقلب عليهم أيضا، وانتصر لصالح جماعة فكف عنه المغتالون.
على أن المكيدة التي كانت تدبر للناقة ظلت خيوطها تنصب سرا، وظل حبكها مستمرا.
وفي يوم خرج قدار ومصدع ومن مالأهما، وخرجت عنيزة بإحدى بناتها التي وعدت بها قدار، فوقفت قبالته، وكمن قدار في جذع شجرة على طريق الناقة، وهي صادرة عن البئر، وكمن مصدع في جذع شجرة أخرى.
فما مرت الناقة حتى أصابها مصدع بسهم نافذ، وشد عليها قدار بالسيف فعقرها.
أما فصيلها ففر إلى رأس الجبل معتصما.
وتحدث الناس بالحدث العظيم، واعتذروا لصالح، فقال: إنكم لهالكون إن لم تدركوا فصيلها.
غير أن مصدعا لحق بالفصيل، فنظم قلبه بسهم.
وكان مقتل الناقة وفصيلها يوم الأربعاء (أو يوم جبار) كما كانوا يسمونه.
فقال صالح: ليس لكم إلا أن تنتظروا الهلاك بعد ثلاثة أيام، فغدا، في مؤنس (أي: يوم الخميس) تصفر وجوهكم، ثم تحمر يوم العروبة (أو الجمعة) ثم تسود في شبار (أو السبت)، ثم يدرككم الفناء صبيحة الأحد.
وذهب عنهم صالح، وهم به مستخفون، فلما اصفرت وجوههم نهار الخميس أرادوا اتباعه وقتله، إلا أنه كان في حمى مكين، واشتغل الثموديون بأنفسهم فتكفنوا وتحنطوا وأقاموا ينتظرون الموت.
فما أقبل الأحد حتى دب فيهم الفناء، ووقعت عليهم صيحة من السماء.
ولم تنج إلا جارية مقعدة استفزها الرعب فخلعت عنها شللها، وانطلقت تحمل النبأ الهائل إلى وادي القرى، وهو حد ما بين الحجاز والشام، ووصفت الواقعة بلسانها المتلجلج، ثم استسقت من حولها شربة ماء، فما شربت حتى أسملت الروح.
وكان في حرم الله، في مكة، رجل ثمودي غني، حماه الحرم، فلما خرج منه صعقه الموت، فدفن، وجعل معه غصن من ذهب!
أما صالح فسار إلى الرملة في فلسطين، ويقال إنه عاد فلحق بمكة.
وسأل سائل من التاريخ: أمن أجل ناقة يصنع الله بقوم هذا الصنع؟
وأجابه مجيب: كلا! ولكنه رزق الفقراء سم على هاضمه، ولقد دفن مع الثمودي الذي مات بمكة غصن من ذهب، سخرية بالذهب، وتحديا للأولى يودون لو كانت دماء البشر ذهبا لهم!
الجنة السراب
ظهر قوم عاد في الأحقاف بين عمان وحضرموت، وقد سقط تاريخهم من ذاكرة التاريخ، فهم قدماء، وبهم يضرب المثل في القدم، وكفى.
أما منازلهم فظلت الأحقاف بين عمان وحضرموت، وأوتوا من شدة القوة وبسطة القامة ما لم يؤت بشر قط، فبلغ طول الطويل منهم سبعين، بل ثمانين ذراعا، وقيل: مائة، وبلغ قصر القصير منهم ستين ذراعا.
وكبرت رءوسهم حتى كان رأس واحدهم كالقبة، فوق أسطوانة رقبته، على قاعدة كتفيه.
وعظمت عيونهم حتى كانت تصح أعشاشا لسباع الطير، تبيض فيها وتفرخ.
واتسعت مناخرهم ونفخت فيها رياح الغرور.
وبنوا المباني تثقل صدر الأرض، وتصعد فتسد متنفس الفضاء.
وبطشوا بطش جبارين، كما قال عنهم القرآن، وضلوا بأصنامهم.
فأرسل الله إليهم هودا مذكرا منذرا، وكان ملكهم يومذاك شداد بن عاد.
فقال شداد لهود: ومن أقوى منا فيهلكنا كما تزعم؟ وماذا عند ربك إذا نحن آمنا به؟
فأجاب هود: أما هلاككم فأنتم مهلكو أنفسكم بالبغي، وأما ربي فعنده لأهل الخير جنة بنيت بالذهب واليواقيت واللؤلؤ، لا تعرف الحياة فيها غير السعادة. فضحك شداد، وقال: ما أراني عاجزا عن بناء جنة كجنة ربك .
قال الراوي : وكانت الدنيا صغيرة يومذاك، وكان شداد ملكها جميعها، فأنفذ إلى المعادن كلها من استخرج له الذهب، وغصب الحلي والنفائس من أيدي الناس، ونبش الكنوز المدفونة، ثم أرسل ألفا من جبابرة الفرسان، مع كل فارس ألف رجل، فضربوا في الأرض حتى وصلوا إلى جبل عدن فوجدوا بقعة زكية التربة، طيبة الهواء، طلقة المشارف، فخطوا مدينة مربعة كل جانب منها عشرة فراسخ، واحتفروا أساسا عميقا رصوه بحجارة الجزع اليماني حتى ظهر على وجه الأرض، ثم شيدوا سورا رفعوه خمسمائة ذراع وغشوه من خارج بصفائح الفضة المموهة بالذهب، فصار إذا ضربته الشمس اشتد وهجه وبريقه، فلم تتبين العين منه إلا كتلة من ضياء تشع في البعد.
ثم أقيمت على السور ألف منارة للحراسة، وبنيت القصور الشامخة في حيز السور، فبلغت مائة ألف قصر للرؤساء والعظماء، وجعلت الأعمدة من الزبرجد والياقوت، واشتقت المجاري للماء في كل وجه من المدينة، وغرست الأشجار المصوغة من نفائس المعادن، ونصبت عليها الطيور من اللؤلؤ والجوهر تفتح مناقيرها وتغرد بتدبير عجيب، وذرذرت في مجاري الماء حجارة كريمة تزيده تألقا وصفاء.
وأمر شداد بنهب الفرش والآنية من الدنيا لمدينته، فلم يبق ستار ولا بساط ولا إناء قيم إلا نهب من منازل الناس.
واكتملت «إرم ذات العماد» أو الجنة التي بناها شداد بن عاد يباهي بها جنة الله!
وركب شداد ذات يوم في موكب مهيب من الرؤساء والعظماء، وسار يريد النقلة إلى جنته.
فما أوشك أن يبلغها حتى خيل إليه أن صوتا يناديه من الآفاق، فيقول: ليست الجنة بجنة إلا مع السعادة، يا شداد، وليست السعادة بمستحيلة على الناس في الأرض، ولكنها طيبة غريبة من الطيبات، كلما كثر ذائقوها زكت وغزرت مادتها، وقد شئت أن تسعد وحدك أنت ورؤساؤك وعظماؤك، فبنيت لك هذه الجنة ونهبت الدنيا ونكلت بها، ولكنك ستموت ولم تذق السعادة، ستكون مدينتك سرابا يتلألأ من بعيد، ويخفى على الوافد، كالسعادة التي يطلبها نفر لأنفسهم بشقاء الناس، فينغصها عليهم شقاء غيرهم، إن الكأس التي يجرعها المرتوي تنسكب في صدره مرة للحرقة التي يجدها صدر الظمآن، وأن القيد الذي يغل العبد يغل السيد الذي لا بد له من أن يسهر على سلامة قيد عبده، رويدك يا شداد، جنتك هي الدنيا بأسرها، أو هي لن تكون جنة، وسكانها هم الناس كلهم أو هي لن يكون لها سكان، والسعادة لأهل الأرض جميعا، أو لا سعادة لأحد!
أصغى شداد إلى الصوت مليا وأصغى الموكب، وقال شداد: شد ما يذكرني هذا الكلام بهود، وشاء أن يستخف، ولكن الرهبة زحفت إلى نفسه واتصلت بأصحابه في الموكب، وكأن الآفاق تفجرت برعود وصواعق، فخر شداد ومن معه صرعى هالكين.
ولبثت مدينة إرم ذات العماد خبرا عن جنة أرضية، أراد أن يظفر فيها الرؤساء والعظماء بالسعادة على حساب الناس، فخفيت ولم تظهر إلا كما يظهر السراب، ولن تظهر إلا حين تصبح هي الدنيا كلها، ويدخلها الناس كلهم.
قال الراوي: ولكن عبد الله بن قلابة الأنصاري شردت له إبل في اليمن فخرج ينشدها، فعثر على إرم ذات العماد ودخلها، فوجدها خاوية، فما استطاع أن يمكث فيها إلا ريثما يلتقط بعض لؤلؤها المنثور، وحمل اللؤلؤ فأراه للخليفة: عمر بن الخطاب، أو معاوية.
فهذا الإنسان دخل وحده الجنة الأرضية، ولكنه خشي فراغها وصمتها وكآبتها، فالتقط شيئا منها وغادرها على عجل.
قال الراوي: ووجد اللؤلؤ الذي حمله معه قد اصفر وتغير!
الريح العقيم
وأقام هود في عاد منذرا مذكرا، ولم يتعظ قوم عاد بمصير شداد وموكبه على أبواب إرم ذات العماد.
فحبس الله المطر عنهم ثلاثة أعوام احمرت فيها السماء كصفيحة من النحاس المحمى.
وغاضت البشاشة من وجوههم، ويبست حلوقهم، فما كانوا يستطيعون الكلام إلا همسا مبحوحا.
وقال منهم قائل: في مكة البيت الحرام، والعرب إذا قحطت ديارهم لجأوا إليه فابتهلوا إلى السماء فجادتهم بالمطر، وكأني بكم تؤثرون الموت عطشا على الاستسقاء بمكة، ألا فهيا نرسل وفدا إلى البيت الحرام قبل أن يدركنا الفناء، وبمكة العماليق وسيدهم معاوية بن بكر، وما أم معاوية إلا ناهدة بنت الجبيري من قوم عاد ، فالرجل ابن أختنا كما ترون ونحن أخواله.
فما وقع كلام من قوم عاد موقعا أحسن من هذا الكلام، فاختاروا وفدا بلغ سبعين رجلا بينهم لقمان بن عاد وغيره من أهل الوجاهة فيهم، وانطلق الوفد حتى أتى مكة وحل ضيفا على معاوية بن بكر، فاستقبلهم معاوية خير استقبال، وأولم لهم الولائم، وأخرج قينتين له يقال لهما الجرادتان، فأمتعتاهم بأطيب الغناء.
ولبث الوفد على طعام وسماع وشراب، وذهلوا عما جاءوا لأجله، وقديما نسي الشعبان الجوعان، والريان العطشان.
فقال معاوية بن بكر: هلك أخوالي من عاد، وهؤلاء النفر الذين أوفدوهم لاهون بشهواتهم، وهم ضيوفي وما أستطيع أن أذكرهم بالواجب خوفا من أن يزعموا أن ضيافتهم ثقلت علي.
فقالت له قينتاه: هيئ لنا شعرا نغنهم به فيذكروا ما نسوا.
فخلا معاوية إلى نفسه فنظم هذا الشعر:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم
لعل الله يمنحنا غماما
فنسقي أرض عاد، إن عادا
قد أمسوا لا يبينون الكلاما
ولقنهما القينتين، فلما جلس الوفد على مألوف العادة إلى الشراب والطعام، أقبلت القينتان فغنتا البيتين، فما لفظتا اسم قيل حتى انتفض أحد أعضاء الوفد وكأنه كان في سنة من نوم.
واندفع قيل هذا، وهو رئيس الوفد، فقال: بئس ما فعلناه! نسينا قومنا وبلاءهم، فلنخرج إلى البيت الحرام منذ الساعة، ولنستسق الغمام، فلعل السماء تتكرم علينا.
فأجابه عضو من الوفد: ما أرانا بالغين خيرا إن لم نؤمن بنبينا هود.
فصيح به من كل جانب: إنك آمنت بالرجل سرا، ودسست نفسك بيننا، فنهض فاعتزلهم.
ونهضوا إلى البيت الحرام، وتخلف الرجل الذي آمن بهود، وتخلف لقمان بن عاد، ثم تبعا الوفد.
وجعل الذي آمن بهود يدعو دعاء خاصا، وجعل الوفد يدعو بلسان قيل دعاء يختلف عن الدعاءين.
وكأن السماء وقعت في حيرة، فهل السماء أيضا يبلبلها اختلاف الكلمة؟
ونشأت في الفضاء ثلاث سحب على عدد الأدعية: واحدة بيضاء، وواحدة حمراء، وواحدة سوداء.
فصاح قيل: لقد اخترنا السوداء، إنها حبلى بالماء! فغره المظهر.
وسارت السحابة السوداء حتى أتت قوم عاد، فطلعت عليهم من واد يسمونه المغيث، كان اسمه من قبل يطابق مسماه.
فتباشروا بالخير.
وإذا بعاصفة تهب، لها زئير الضواري، وقوة تقتلع المنازل والأشجار، وتدفع في الفضاء بكل إنسان وحيوان، وكأن أنفاسها من جهنم، فلا تمس خضرة أو حياة إلا أتت عليها.
فعلم قوم عاد أنها دنياهم قاربت النهاية، وأقبلوا على الموت كما يقبل الناس غير مختارين ولا طائعين، ودفنتهم ودفنت آثارهم طبقات الرمال التي ذرتها العاصفة، وانطوى عليهم صدر من الأرض شديد الكتمان.
أما الوفد الذين كانوا بمكة، فلما جاءهم النبأ بفناء عاد، علم قيل أنه خير فأساء الاختيار، فقال: أموت كما ماتت عاد، وكأن روحه كانت بين شفتيه فنفخها فطارت ووقع ميتا.
واختار الذي آمن بهود أن يؤتى البر والصدق، فقذفا في قلبه، ففحص عن مكان هود فلحق به.
واختار لقمان العمر الطويل، وقال: مات قومنا بالريح العقيم، فلأعيشن ما استطعت الحياة، وخيرته السماء بين عمر يطول ما بقيت سبع بعرات لا يمسها القطر، وبين عمر يمتد ما امتدت آجال سبعة أنسر، فاحتقر البعرات، وطلب عمر الأنسر السبعة.
فكان يأخذ الفرخ الذكر، إذا خرج من بيضته، فيربيه، فإذا مات أخذ غيره حتى بلغ النسر السابع وهو لبد.
وأدرك لقمان أن هذا نسره الأخير، وعرف أن كل يوم ينفرط من مدة هذا النسر إنما ينفرط من مدته، وأحس أن أنفاس هذا الطائر إنما هي أنفاسه تتلاحق، فاشتد حرصه عليه، وكثيرا ما ناجاه قائلا: ويحك إنك آخر عمري، فلا تطر بعيدا فوق الجبل فتعرض نفسك للأذى، ليتني كنت اخترت البعرات السبع، إذن لآويتهن من وقع الشمس والمطر وفعل الريح، فحفظتهن الدهر، ألا إنني كنت أحمق يوم علقت عمري على أجنحة النسور، ولكن تبا للبعرات! من يقبل أن يعيش دهره كالبعرة في كن من شمس الدنيا ومطرها وريحها؟
وطوى لبد ما طوى من الدهر، وفي يوم أفاق لقمان فوجد نفسه وهنا، ونظر إلى الجبل حيث كان يقع لبد إذا طار، فلم يره جاثما، فمشى إلى رأس الجبل خائر العزم فأبصر نسره ملقى، فزجره : انهض لبد ، فطار طيرة وهو يضطرب.
فقال لقمان: أتى أبد على لبد، أسفنا على عاد إن أفنتها الريح العقيم في يوم، ألا إن الأبد لريح عقيم، ولكنها بطيئة.
وغزا نفسه هذا اليأس الذي لا معنى له، هذا اليأس الذي يغزو الناس إذا قاربوا الموت فيأبون أن يموتوا قبل أن يقولوا رأيهم في الدنيا كلها، في آخر لحظة.
وسمع لقمان وقع جسد خبط الأرض قريبا منه، فهوى هو الآخر، وحاذى فمه منقار لبد، ومست يده مخلبه.
ولكن كان بين الفم الإنساني والمنقار فرق، وكان بين اليد البشرية والمخلب خلاف.
كان المنقار منطبقا راضيا بالانطباق، وكان المخلب منحلا قانعا بالانحلال، أما الفم الإنساني، فكان برغم الموت لا يزال يقول: لي كلمة أخرى جوهرية، لماذا لا تتركونني أنطقها؟ وأما اليد البشرية، فكانت برغم الموت تدعي أن لها عملا ضروريا لما يكتمل!
نداء العرض
مرة أخرى نواجه قبيلة من العرب البائدة أبادها ظلم رؤسائها وعسفهم.
تلك هي طسم، ولا ندري هل اشتق الرواة اسمها من الفعل طسم بمعنى اندثر، أم أنهم اشتقوا الفعل طسم من اسمها، فأصبح شعراؤنا يقولون الربع الطاسم، أي المندثر؟
كانت منازل طسم في أرض اليمامة، وكان عليهم ملك يقال له عمليق، رجل تناهى في السفاهة والسيرة الغاشمة.
وكانت من طسم قبيلة أخرى من العرب البائدة، تدعى جديس، وكانت جديس تذوق مر العذاب على يد عمليق.
قال الرواة: نشب الخلاف بين امرأة جديسية وزوجها، فطلقها وأبى إلا أن يأخذ منها ولدها، فحاكمته إلى عمليق، وقالت للملك: هذا ولدي حملته تسعا، ووضعته دفعا، وأرضعته شفعا، فما له يريد أن ينزعه مني؟
فقال زوجها: أيها الملك، لقد أعطيتها المهر كاملا، ولم أصب منها طائلا، إلا وليدا خاملا، فلا رضيت إلا بنزعه منها.
فقال عمليق: سأريحكما من هذا الخصام وأجعل الولد في جملة غلماني، فانطلقا.
فمضى الرجل، وانصرفت المرأة كسيرة القلب، ولم تستطع أن تثأر لنفسها إلا بأبيات من شعر تقول فيها:
أتينا أخا طسم ليحكم بيننا
فأنفذ حكما في هزيلة ظالما
لعمري لقد حكمت لا متورعا
ولا كنت فيما يبرم الحكم عالما!
و«هزيلة» اسمها. فلما سمع عمليق بالشعر غلى صدره غضبا وصاح: ما أعندكن يا نساء جديس، والله لا زفت منكن عذراء إلا لقيتها قبل بعلها.
وأقام وأقامت جديس على ذلك دهرا، حتى زوجت صبية جديسية كانت عنيدة حقا، فلم يجد الرواة أليق منها باسم الشموس، أي الجامحة النفور، وغاظها أن يزينها النساء أحسن زينة، ثم يسيروا بها في موكب إلى منزل عمليق وهن يتغنين:
أبدي بعمليق وقومي فاركبي
وبادري الصبح لأمر معجب
فسوف تلقين الذي لم تطلبي
وما لبكر عنده من مهرب!
أجل، غاظها أنهن كن يتغنين، وفي أنغامهن العذوبة والغبطة، ولم تجد أقبح من تلك الأصوات الجميلة والغبطة الذليلة، وأثار جنونها أن يبيت معها هذا المفترس عمليق، وأن يرضى قومها بهذا الذل، فقطعت هزيعا من الليل بعد هزيع وهي تغالب عمليقا وتحاول أن تدفع عنها بهيميته، فما استطاعت، ولكنها عزمت، إذا بزغ الصبح، أن تصنع شيئا لم تصنعه جديسية قبلها، فلقد كانت الجديسيات، إذا نحر عمليق عفافهن على مذبح بهيميته، ينطلقن إلى أزواجهن مطأطئات الرءوس مسربلات بالخزي والعار، وكان أزواجهن يتلقونهن مستسلمين إلى واقع الأمر، كأنه ناموس الدنيا من يوم خلقت إلى يوم تضمحل، أما هي فلن توطن نفسها على مثل هذا الخضوع والاستسلام.
وجعلت إذا نظرت إلى وجه عمليق تتحرق؛ لأن يدها فارغة من خنجر تغمده في صدره، ويح السلاح! إنه همجية في الإنسان، ومع ذلك فالإنسان يحس في حين أنه مسلوب الإنسانية إذا كان بلا سلاح!
وأخيرا انبثقت في الآفاق الأنوار الأولى، فخلى عمليق سبيل فريسته، وكان ينتظر منها أن تقف لحظة لتسأله بعض العطاء، وكان يقدر أنها ستلتمس كساء تلتف به بعد أن تمزقت ثيابها في العراك بينها وبينه، غير أنها صعقته بنظرة حاقدة من نار، وغادرت المكان بتلك الثياب الممزقة الملطخة تولول في الطريق:
لا أحد أذل من جديس
أهكذا يفعل بالعروس؟
وكأن سخطها وحقدها انفجرا من أعماق ضميرها الجريح، وصعدا إلى شفتيها شعرا، فطفقت تنشد وتلسع قومها بنشيدها لسع السياط:
أيجمل ما يؤتى فتياتكم
وأنتم رجال فيكم عدد الرمل؟
وتصبح تمشي في الدماء عفيرة
عشية زفت في الرجال إلى بعل
ولو أننا كنا رجالا وكنتم
نساء لكنا لا نقر بذا الفعل!
فموتوا كراما أو أميتوا عدوكم
ودبوا لنار الحرب بالحطب الجزل
وإلا فخلوا بطنها وتحملوا
إلى بلد قفر وموتوا من الهزل
فللبين خير من مقام على الأذى
وللموت خير من مقام على الذل
وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه
فكونوا نساء لا تعاب من الكحل
ودونكم طيب العروس فإنما
خلقتم لأثواب العروس وللنسل
فبعدا وسحقا للذي ليس دافعا
ويختال يمشي بيننا مشية الفحل!
فهاج أهل جديس، ومشى بعضهم إلى بعض، لقد سمعوا صوت العرض ينادي!
وقال أخو الشموس: يا قوم، ليست طسم بأعز منا، ووالله ما سامنا عمليق هذا الخسف لولا تفرقنا وتنابذنا وقبولنا ما لا يقبل.
فأجابه مجيب: إن طسما معهم كثرة العدد ووفرة السلاح، فلا طاقة لنا بهم.
فقال أخو الشموس: إن لم يكن أخذنا لهم وجاها، أخذناهم بالحيلة، ولو فوضتم إلي هذا الأمر لرأيتم ما يثلجكم.
فأجمعوا على تفويض الأمر إليه، فقال: لأقيمن وليمة أدعو إليها عمليقا وأشراف قومه، وإنكم لتعلمون غرورهم، فما أحسبهم يأتوننا إلا مطيبين مجلببين بفاخر الحلل، أما نحن فسنحمل معنا سيوفنا مخفاة محجوبة، فإذا دار السكر ثرنا عليهم فقتلناهم، وخرجنا على باقي طسم فأبدناهم.
وعلى ذلك قر الرأي.
فلما كان يوم الوليمة، أقبل عمليق وأشراف طسم تفوح منهم روائح الطيب وتزهر حللهم في ألوانها، واجتمع أهل جديس وقد أعدوا العدة.
وبسط الطعام وملئت الكئوس، وشرب عمليق وطسم شرب المغرور الواثق، وسايرهم رجال جديس.
ثم كانت كلمة جافية من طسمي إلى جديسي أو من جديسي إلى طسمي، وأبواب الخصام كثيرة حين يعزم المرء على فتحها وولوجها، فوقع ما كان مهيئا وقوعه، وفتكت جديس بطسم فتكة المستضعف المظلوم الذي أحس من نفسه اقتدارا وآنس فرصة.
فلم ينج من الطسميين إلا قليلون، هاموا على أوجههم، حتى بلغوا اليمن وفيها الحميريون التبابعة .
ولكن جديسا ما لبثت، هي الأخرى، أن انحدرت إلى سوء المصير، ذلك أنها بلغت النصر فنامت عليه، والنصر قمة تشرف على هوة، فإذا غفل الصاعد بعد تسنمها كان حريا بأن ينقلب عنها إلى الهوة.
لجأ الطسميون إلى اليمن فسعوا فيها إلى لقاء ملكها حسان تبع، فاستغاثوه واستنفروه وأطمعوه.
وكان التبابعة، بعد أن تيسرت الملاحة في البحر الأحمر وجف عنهم مورد الرزق البحري، ينتهجون سياسة تتجه بهم نحو البر وتلزمهم العناية بكل ما يقع في داخل شبه الجزيرة العربية.
فجرد حسان تبع حملة تأديبية على جديس وقصد منازلهم.
ومن غريب أمر هذه القبيلة جديس أن كفاءاتها جعلت كلها في نسائها.
قال الرواة: وكان بين نساء جديس امرأة يقال لها الزرقاء - زرقاء اليمامة - تستطيع أن ترى الراكب على مسافة ليال ثلاث.
وقد سمع حسان تبع بخبرها من الطسميين الذين لجأوا إليه، فأمر جنده بأن يرفعوا في زحفهم أغصانا خضراء.
وظلوا في مسيرهم حتى أصبحوا على مسافة ثلاث ليال من منازل جديس، فأرسلت الزرقاء بصرها في البعد، فإذا بها ترى شجرا زاحفا، فأنذرت قومها: «إني لأشهد غابة تقبل عليكم، وإني لأشتم رائحة الشر!»، فسخروا منها وقالوا: لقد خرفت الزرقاء.
فما انقضت الليالي الثلاث حتى باغتهم حسان تبع بجنده، فأوقع بهم وسفك دماءهم.
ودخلت جديس، كأختها طسم، في جملة العرب البائدة.
الثأر
أكان قد ولد قيس بن الخطيم، لما قتل جده عدي؟ أم أنه انتظر مصرع جده حتى أطل على الوجود؟ تلك مشكلة، ولكن ليت المشاكل كلها في بساطتها!
على أننا موقنون أن قيسا لم ينتظر مقتل أبيه الخطيم حتى ولد، إلا أنه كان طفلا لما فتكت يد من الأيدي بوالده، فلم يبق له إلا أمه الأرملة تتعهده، وتنفق عليه من مزرعة نخيل خلفها زوجها في مدينة يثرب.
وقد أحسنت الأم الأرملة تعهده، فكان ينمو يوما بعد يوم ويزداد قوة ونشاطا، ومع القوة والنشاط فهما وذكاء، وقعدت في ذات ساعة تفكر فيه وفي سرعة نموه، وخطر لها أن ابنها لا بد صائر إلى الشباب ، فمستخبر عن أبيه وجده، فإذا عرف أن كليهما مات قتلا، بحث عن القاتلين وطلب منهما الثأر فحمل بذلك نفسه على أشد الأخطار، وربما لحق به الهلاك، فأذاقها مرارة الثكل كما ذاقت، من قبل، مرارة الإرمال، وأحست أن عليها، لساعتها، أن تبتدع حيلة تستر بها حقيقة الأمر عن ابنها الناشئ.
وهكذا نهضت إلى كومة من تراب عند باب المنزل، فأكثرت من الأحجار عليها بحيث لا يشك رائيها أنها قبر، ثم شرعت منذ ذلك الحين تقول لابنها: هذا قبر جدك وأبيك! فلا يتداخله ريب في صدق ما تقول.
واستمر قيس في نموه الناشط مع الأيام، حتى بلغ دور الشباب فقويت بنيته واشتد ساعده، وأصبح يخالط غيره من شباب القبائل وينافسهم في مآتي الشجاعة والقوة، وكثيرا ما كانت تؤدي هذه المنافسة إلى شيء من النزاع الجدي، فاتفق له مرة أن نازع فتى وأظهر عليه التيه والكبرياء بشدة ساعديه، فقال له الفتى: خير لك لو جعلت شدة ساعديك على من قتل أباك وجدك، فصعد الدم في وجه قيس، وقال له: وهل أبي وجدي ماتا قتلا؟ ومن الذي قتلهما؟ فرد عليه الفتى أن اسأل أمك!
فعاد قيس حثيث الخطى إلى أمه، ومذ وضع رجله داخل الدار، رأت في ملامح وجهه تغيرا أنبأها بمحذور، فأثبتت فيه بصرها وجعلت تنتظر ما يبدر منه.
فقال: أماه! أخبريني كيف مات أبي وجدي، فقالت: يا بني! ماتا كما يموت الناس، وهذا قبرهما عند باب المنزل، ولكنها لم تستطع إخفاء ما فاض على وجهها من أمارات الدهشة والارتباك، ورأى قيس دهشتها وارتباكها وعرف أنها تستر عنه حقيقة، فأخذ سيفه وركز مقبضه في الأرض، وجعل رأسه إلى صدره وانحنى عليه، وقال: لماذا، يا أماه، لا تخبرينني بالواقع؟ والله لئن لم تخبريني، لأحملن صدري على رأس هذا السيف حتى يطل من ظهري، وكان في بريق عينيه ونبرة صوته ما دلها أنه لن يحجم عن إنفاذ ما يقول، وخشيت سوء العاقبة إن هي لم تعجل له بكشف السر، فقالت: صحيح يا بني أن جدك وأباك ماتا قتلا، وقاتل جدك رجل اسمه مالك، وقاتل أبيك رجل أجهل اسمه، ولكنه من بني عبد القيس يسكن هجر من قرى البحرين، وأزيدك أن مالكا قاتل جدك من قوم خداش بن زهير، وأبوك قد أحسن في حياته إلى خداش، ولا بد أن يكون خداش ذاكرا له إحسانه، فإن كنت عازما على طلب الثأر، فانطلق إليه واسأله المعونة، فإنه يعينك، ولا تخاطر وحدك بنفسك، فقال لها: وهل تشكين في أني عازم على طلب الثأر، ولكني عامل بنصيحتك فذاهب إلى خداش بن زهير منذ اليوم!
ثم خرج قيس إلى مزرعة نخيله ونادى بقومه، فاجتمع إليه عدد كثير، فقال: من منكم يأخذ مزرعتي هذه فيأكل غلتها ويقوم على نفقة أمي في غيبتي، لأني ماض لشأن من شئوني، فإن رجعت سالما فملكي عائد إلي، وإن هلكت بقيت المزرعة لمتسلمها يعول منها أمي حتى تموت، فأجابه إلى ذلك رجل منهم، فاطمأن باله على أمه ومزرعته، وامتطى بعيرا له وانطلق في الفلاة.
ولم يطل به السير حتى اهتدى إلى مكان خداش بن زهير واسترشد إلى منزله فقصده، فقيل له أن ليس فيه إلا امرأته، وأن خداشا يعود بعد حين، فعمد إلى شجرة يقعد تحتها ضيوف خداش، واستلقى في ظلها يستريح من عناء السفر، ثم إنه نادى امرأة خداش وسألها شيئا من طعام، فأطلت من خبائها ورمقته بعينها وقالت: يعز علينا أن ليس لدينا طعام يليق إلا بعض التمر، فأجابها: ما أبالي، فهاتي ما لديك، فبعثت إليه بصحفة من التمر، فأخذ واحدة وفلقها فلقتين فأكل فلقة وأعاد الأخرى إلى الصحفة وردها إليها، وقام يبدد الوقت بركوب بعيره، فلما رأت منه ذلك اشتد تعجبها، ولم تمس الصحفة حتى يرجع زوجها.
ورجع خداش بعد لحظة، فأرته الصحفة وفلقة التمر، وأخبرته بما كان من عجيب أمر الضيف، فقال لها: ما أظنه إلا رجلا طالب شأن عظيم، وقد تحرم أكل طعام الغرباء حتى يدرك شأنه، وجلس معها يلتقمان ما في الصحفة.
وإذا بقيس يطلع على بعد مرمى العين من المنزل راكبا بعيره ، فلمحه خداش وقال لامرأته: لعل هذا هو ضيفك، فمدت بصرها وقالت: أي والله! فشرع خداش يتأمله كلما دنا من منزله، ورأى قدمه مدلاة من ظهر البعير فقال لها: كأني بهذه القدم قدم الخطيم، صديقي اليثربي القديم، ولم يلبث قيس أن وصل إليهما وقرع بسنان رمحه مستأذنا، ودخل فعرف نفسه إلى خداش وأخبره بما قدم من أجله، فبش له ورحب به، وذكر إحسان والده إليه، وأظهر رغبة في مساعفته، ثم قال له: إن مالكا قاتل جدك رجل من قومي، وإنه منا لقريب، فلنبدأ به منذ غد، وسأعينك عليه ما دمت تستوفي منه حقا من حقوقك.
ونهضا باكرا في غرة اليوم الثاني، وخرجا إلى قصدهما، وفي الطريق قال خداش لقيس: يا هذا! إني حين نلتقي الرجل سأجلس إليه فأشغله بالحديث، فتهيأ أنت لعملك، حتى إذا ضربت بيدي على فخذه، فاضرب أنت بسيفك على عنقه! فقال قيس: أفلا يكون ذلك غدرا؟ فأجابه خداش: إن العدو هو العدو، فخذه كيف قدرت.
وظلا على سيرهما حتى التقيا الرجل، فجلس إليه خداش وخاض معه في فنون شتى من الحديث، وبقي قيس واقفا وقد جعل إحدى عينيه على مقبض سيفه، وجعل الأخرى على يد خداش ينتظر منه الإشارة، وبغتة رفع خداش يده في حدة الحديث، فأهوى بها على فخذ جليسه، فرفع قيس سيفه وأهوى به على عنق الرجل، وإذا برأس يتدحرج على الأرض!
وكان على مقربة منهم ناس رأوا المشهد المنكر، فاجتمعوا على قيس يريدون البطش به، فهب خداش واعترضهم قائلا: دعوه، فوالله ما قتل إلا قاتل جده، ولقد استوفى حقا من حقوقه، فخلوا عنه.
وعاد قيس وخداش يفكران بالسفر إلى البحرين، حيث يثأران من العدو الآخر، فلم يلبثا إلا قليلا حتى أكملا عدتهما وسافرا، فلما انتهيا إلى قرية هجر، وفيها مسكن العدو، قال خداش لقيس: انطلق فتشمم خبره، فإذا عرفته فاقصده وازعم له أنك عابر سبيل، وأن لصوصا من قومه نهبوا لك متاعا، وأنك قصدته دون غيره ليرده لك، فإذا تبعك وحده نلت منه مأربك، وإذا دعا بأصحابه معه فأظهر الضحك والسخرية، فلا بد من أن يسألك عن السبب، فقل له: إن رئيس القوم عندنا لا يخرج إلى اللصوص بأصحابه، حتى ولا بسلاحه، بل بسوطه، فيرد اللصوص ما كانوا قد نهبوه خشية له وتهيبا، فما أرى الرجل عندئذ إلا آمرا أصحابه بالرجوع، فإن لم يفعل فقدهم جميعا إلى هذا المكان فنبتدع لنا حيلة للظفر بهم.
فانطلق قيس، ولم يزل حتى اهتدى إلى منزل عدوه، فبدأه بما لقنه خداش، فأثارت الحمية الرجل، وبادر إلى دعوة أصحابه، فلم يشعر إلا بقيس يقهقه ملء شدقيه، فلما سأله عن السبب زاده شيئا مما لقنه خداش أيضا، فشرق وجه الرجل بدم الغضب وأمر أصحابه بالمكوث، وخرج معه وحده، فقاده قيس إلى موضع خداش، وهناك حقت الواقعة: طعن قيس عدوه بحربة في خاصرة فأنفذها من خاصرة! فلفظ روحه وسقط يتصبب جرحه فينقع الرمل ...
وأرادا أن يقفلا راجعين، ولكنهما خافا أن يفتقد قوم القتيل صاحبهم ويطلبوه فيدركوهما في الطريق، ورأيا الأفضل أن يختبئا حيث هما، حتى إذا جاء القوم لم يطرأ على بالهم أنهما قتلاه وأقاما في الموضع نفسه، فراحوا يطلبونهما في موضع آخر.
وهكذا مالا إلى دارات رمل فاندسا فيها إلى حين، ثم قفلا إلى حيث صدرا وقيس ينشده شعره:
فأبت بنفس قد أصابت شفاءها.
وهنا قال راوية من هذا العصر: طالما عيب على العرب الثأر، والثأر حق يستوفى من الجناة، ولقد ابتدع الناس الحكومة لتثأر من الجاني لضحيته، ولم يكن للعرب في جاهليتهم حكومة تثأر لهم كما أصبح للناس فيما بعد، ولكن ... ولكن الحكومة كثيرا ما تجاوزت حدها فثأرت لنفسها، أو لفئة، من الناس أجمعين، ويقتل العربي البدوي عدوه بخنجر ثأرا لحق مهضوم، فيسمى ذلك وحشية وفوضى، وتقتل حكومة شعبا بأسلحتها لأنه أبى حمل النير، فيجد هذا العمل من يسميه تمدينا وتنظيما، ما أشبه الكلمات بالدمغات التي تلصق بالصرر لتهريبها في الجمارك عبر الحدود! وكم متجر بالأفيون، إذا نظرت إلى الدمغة على صناديقه، قرأت الكلمة: دواء! وحسبت الرجل طبيبا أو صيدليا !
إذا صدق الإيمان!
النعمان بن المنذر، ملك الحيرة وعامل الدولة الساسانية على عرب العراق وتخومه، كان له نديمان: خالد بن المضلل وعمرو بن مسعود بن كندة، اصطفاهما لساعات أنسه ولهوه، واشتد تعلقه بهما، فكان لا يطيق فراقهما في ليل أو نهار.
ولكنه شرب يوما وطرب حتى أخذ منه السكر كل مأخذ، وخيل له أن نديميه أساءا في حضرته الأدب، فأمر من فوره بقتلهما، فضرب السياف عنقهما.
ثم صحا النعمان في اليوم التالي، فطلب نديميه فقيل له: أوليس قد أمرت بقتلهما؟ إليك الجثتين!
فحزن حزنا شديدا وأمر بدفنهما ورفع بناءين جميلين فوق قبريهما سماهما الغريين، وقال: إن يوما شربت فيه وطربت لهو يوم نعيم، ولأجعلن كل يوم موافق له من كل عام يوم نعيم، فلا يفد علي فيه وافد إلا أكرمته وأجزلت عطاءه، ولكن يوما عرفت فيه بقتل نديمي لهو يوم بؤس، ولأجعلن كل يوم موافق له من كل عام يوم بؤس، فلا يأتيني أحد إلا قتلته وطليت بدمه الغريين.
فكانت تلك سنة النعمان أعواما طوالا، له في كل عام يومان متعاقبان: يوم نعيم يسر به نفسه ويسر الوافدين عليه، ويوم بؤس يغتم فيه ويغضب فلا يزوره أحد إلا قتله.
واتفق يوما أن خرج بحاشيته في نزهة صيد إلى البادية، فعرض له حمار من حمر الوحش، فطارده حتى بعد عن أصحابه وانفرد عنهم، وفاجأته السماء بمطر صبيب، فلجأ إلى خيمة رجل من طي يقال له: حنظلة بن أبي عفراء.
فتلقاه الطائي بأحسن ترحاب وإن لم يعرفه أو يسأله عن اسمه، وتلك عادة العرب في الضيافة.
وقال الطائي لامرأته: قدمي هذه الشاة لأحتلبها ثم أذبحها، ولم تكن له شاة غيرها، فأطاعته، ثم انصرفت إلى دقيق عندها تصنع منه خبزا.
ووجد النعمان طعام الطائي طيبا فأكل منه حتى امتلأ، ولبث ينتظر أن يدركه أصحابه، ولكنهم لم يهتدوا إلى موضعه، وأقبل المساء فبات النعمان ليلته تلك في خيمة الطائي، ونام نوما مريحا، حتى إذا طلع الصباح قال له: يا أخا طي، ما أحسبك عرفتني ، أنا النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وإني شاكر لك حسن ضيافتك، فائتني في الخورنق أو السدير،
1
وسيكون لك عندي ما يرضيك.
فأجاب الطائي: سأفعل أيها الملك، إن شاء الله.
ونسي النعمان أن يحذره من أن يأتيه في يوم بؤسه، وكان أصحابه قد وصلوا إليه فركب وانصرف.
ومكث حنظلة زمانا حتى أصابته نكبة وساءت حاله وجاعت عياله، فقالت له امرأته: لو أتيت النعمان في الحيرة وذكرته بنفسك لعرفك وأنعم عليك، أوليس قد دعاك إلى زيارته ليجزيك على حسن ضيافتك له؟
فاستصوب حنظلة رأي امرأته وقام من ساعته يطلب الحيرة، فبلغها بعد مشقة.
واستأذن على الملك والناس يعجبون من هذا الأعرابي الغريب يسعى بنفسه إلى هلك محقق، فاليوم كان يوم بؤس النعمان!
فلما مثل بين يديه صفق النعمان كفا بكف وصاح: ما جاء بك اليوم يا أخا طي؟ هلا أتيت في غير هذا النهار الأسود؟ هو يوم بؤسي الذي عرفت فيه بقتل نديمي الحبيبين، وأقسم لو سنح لي في هذه اللحظة ولدي قابوس لقتلته وطليت بدمه الغريين! فأنا قاتلك لا محالة، ولكن سلني حاجتك من الدنيا أقضها لك، فهتف حنظلة: أبيت اللعن أيها الملك،
2
لم يكن لي علم بما أنت فيه، أما حاجتي من الدنيا فماذا أصنع بها بعد نفسي؟
قال النعمان: قضي الأمر، أنت مقتول، ولا سبيل إلى غير ذلك.
قال حنظلة: إذن أجلني، أيها الملك، عاما أعود فيه إلى أهلي أودعهم وأفي ديوني، وأرجع إليك.
قال النعمان: أقم كفيلا!
قال حنظلة: ومن لي بالكفيل، أيها الملك، في مثل هذه الحال؟!
غير أنه ما أتم كلامه حتى وثب فتى في مجلس الملك يدعى قراد بن أجدع الكلبي، فقال للنعمان: أبيت اللعن، علي ضمانه.
قال الملك: يا قراد، لا بد من قتلك إن لم يرجع الطائي.
قال قراد: رضيت أيها الملك.
فاحتجز النعمان قرادا، ووهب لحنظلة خمسمائة ناقة، فأخذها ومضى إلى أهله.
فلما حال الحول
3
ولم يبق من الأجل إلا يوم واحد، قال النعمان لقراد: ما أراك إلا هالكا يا فتى ... فالطائي لو أراد رجوعا لرجع.
قال قراد: رويدك أيها الملك ...
فإن يك صدر هذا اليوم ولى
فإن غدا لناظره قريب!
فذهب قوله مثلا.
ثم لما كان الغد أمر النعمان بقتل قراد، وكان يشتهي أن يقتله ليسلم الطائي، ولكن وزراءه قالوا له: ليس لك أن تنفذ فيه القتل حتى يستوفي يومه.
ومر النهار ثقيلا موحشا، وقراد قائم في إزار على النطع،
4
وسياف النعمان إلى جانبه ينتظر الشمس أن تغيب.
واصفرت أشعة الشمس صفرة يخالطها احمرار، وبدا كأن قرادا لم يبق له إلا لحظات يعيشها.
ويئس الجميع من عودة الطائي وقالوا: لن يرجع وقد فر من الموت! وقال بعضهم: هذا جزاء المروءة! وقال آخرون: ما كان ينبغي لقراد أن يكفل أعرابيا لا يعرفه في أمر تتوقف عليه الحياة.
ولكن قبل أن تغيب الشمس لاح فجأة للناظرين شخص من بعيد، يغذ السير كأنما تحمله الجن.
وأراد النعمان أن يصدر أمره الحاسم بقتل قراد، غير أن الحاضرين استمهلوه حتى يتبينوا من يكون هذا الراكب المجد إليهم.
وإذا هو حقا حنظلة بن أبي عفراء الطائي!
فاتسعت عينا النعمان من الدهشة وصاح به: ويحك! ما الذي دعاك إلى الموت بعد ما أفلت منه؟
فقال له حنظلة: الوفاء أيها الملك.
قال: ولكن ما الذي دعاك إلى الوفاء؟ يا له من مركب صعب ركبته!
قال حنظلة: ديني أيها الملك، إن لي دينا يقضي علي بأن لا أجازي شرا بشر، فكيف أجازي مروءة بخيانة وغدر؟
قال النعمان: ذلك دين عجيب، فما هو؟ - مسيحيتي، أيها الملك!
فأطرق النعمان لحظة، ثم قال: إن قرادا رجل تناهى في المروءة، وحنظلة رجل تناهى في الوفاء، وأنا ماذا أكون؟ أأرضى لنفسي أن أكون مثال اللؤم! لا لعمري، أطلقوا قرادا، أطلقوا حنظلة، اهدموا الغريين، ولن يكون لي بعد اليوم يوم بؤس، ثم التفت إلى حنظلة وقال له: أما دينك هذا فإنه جدير بأن يتبع، وأنا بعد اليوم على دينك فعلمني إياه.
دفاع عن جساس
يروي الرواة أن كليب بن ربيعة التغلبي قاد حلفا من عرب الشمال هزم به ملوك اليمن وعمالهم في معركة خزازى، ويجعلون ذلك في القرن الخامس الميلادي، ويؤكدون أن السبب في هذه الحرب هو ظلم ملوك اليمن وعمالهم لعرب الشمال.
وسواء أصح الخبر أم لم يصح، فالذي يعنينا أن ثورة الإنسان على ظلم غيره له فطرة فيه، أما ثورته على نفسه حين يظلم غيره فتلك مسألة أخرى!
ذلك بأن الرواة الذين حدثونا عن بطولة كليب في مقارعة ملوك اليمن وعمالهم، عادوا يحدثوننا أن كليبا أوقع الرهبة في قلوب العرب بعد انتصاره، واستطال عليهم، وأراد الانفراد بالرئاسة.
ثائر خلع ظالما ليحل في محله: قصة ليست بالغريبة.
قالوا: وكان كليب شجاعا شديد المراس، وطمع في المراعي فاختار أجودها، وجعلها حمى له لا يجوز لأحد أن يدخله، وسيج حماه هذا بأعجب سياج، اتخذ كلبا صغيرا ينبح، فلا يجسر أحد أن يخترق الحد الذي يبلغه نباح الكلب.
وزادوا فقالوا: إن كليبا إنما سمي باسم كلبه الصغير هنا، وضرب المثل بحماه، فقيل: أمنع من حمى كليب.
وذكروا أنه طاف يوما بهذا الحمى، فرأى فيه قبرة على بيض لها، فطارت مذعورة، فتنحى حتى عادت إلى بيضها وأنشأ يخاطبها:
لا تحذري شرا ولا تستنكري،
خلا لك الجو فبيضي واصفري،
ونقري ما شئت أن تنقري.
لقد أعطاها الأمان!
ولكن السيد المهيب الذي رفق هذا الرفق بأحد الطير، كان يضيق صدرا بأن ترعى ناقة عشبة في حماه، أو يبل حيوان أو إنسان ظمأه برشفة من ماء بئره.
فحدث في يوم أن رجلا من جرم، يقال له سعد بن خمر، نزل ببني مرة، وأقام عند عجوز منهم تلقب بالبسوس.
وكانت لسعد هذا ناقة سماها سرابا، فخرجت ترعى حتى دخلت حمى كليب فأكلت عشبا وشربت ماء ووطئت عش القبرة.
فغضب كليب، ولقي جساسا أخا امرأته، وأحد فتيان بني مرة، فصاح به: ما خبر هذه الناقة؟ اسمع إنها لضيف عند خالتك البسوس، فأقسم بأنصاب
1
وائل،
2
لئن رأيتها بعد اليوم تطأ الحمى، وضعت سهمي في ضرعها، ما بالكم تجرأتم علي يا بني مرة!
رد جساس: ما أرى الأمور بالغة بك هذا المبلغ، تقتل ناقة لضيف خالتي، وعندك أختى الجليلة، فأنت صهرنا وقريبنا وحميمنا.
أجابه كليب: لن تشفع لكم الجليلة، إني قاتل هذه الناقة إن رأيتها تدخل حماي بعد اليوم، فافهم عني ما أقول.
وافترقا على غيظ وجفوة.
وهاج كليب حين رأى الناقة تعود فتطأ حماه، وسدد سهمه إلى ضرعها، فانطلقت يشخب ضرعها دما ولبنا حتى بركت في فناء البسوس ولها عجيج وخوار شديد.
فخرجت إليها البسوس كاشفة الرأس تولول وتنشد أبياتا سمتها العرب بالموثبات؛ لأنها وثبت قوما على قوم، وكان أوجع الأبيات وأشدها إيقادا لعاطفة الثأر قول البسوس لضيفها:
فيا سعد لا تغرر بنفسك وارتحل
فإنك في قوم عن الجار أموات!
فصاح جساس لما سمعها: رويدك يا خالة، تعلمي أننا لسنا عن الجار بأموات.
وأقام بعد ذلك يتربص بكليب ويترقب خروجه إلى الحمى، حتى بلغه يوما أن كليبا ركب إلى حماه، فجد في أثره، فأدركه وقد دخل الحمى، فدق سنانه في صلبه، وسقط كليب يفحص الأرض برجله ونادى: أغثني يا جساس بشربة ماء!
فأجابه: مت بظمئك! ما عقلت استسقاءك الماء قبل الساعة.
وثار الشر في بني وائل، ومشى التغلبيون يقودهم المهلهل أخو كليب إلى بني مرة، ثم إلى بكر جميعا، وتساقى الفريقان الموت بالسيوف والرماح طوال نحو من أربعين سنة.
فكانت العرب إذا أرادت أن تبالغ في نعت شيء بالشؤم: أشأم من البسوس وأشأم من جساس!
وقصت العرب أخبار هذه الحرب في قصة شعبية مشهورة، ظهر فيها جساس مظهر النذل والمثير للفتنة، وظهر فيها كليب مظهر الضحية للغدر، والبطل الذي قتل بناقة.
ولكن راوية في القرن العشرين رد إلى هذه القصة معناها، فقال: وهل أوجد جساسا غير كليب؟ لولا غلو الظالمين لم يكن غلو الثائرين!
«اللص الشريف» منذ أربعة عشر قرنا
الحكاية قديمة جدا وطويلة، فلا نستطيع هنا أن نرويها على تفاصيلها كلها خشية أن تشغلنا عن الحكاية الأخرى التي قصدنا روايتها.
ولكننا نستطيع أن نتصور إنسانا ظهر مرة في التاريخ، واستقوى وأشار إلى أشياء، قال : هذه لي، مددت إليها يدي فحزتها، فمن مد إليها يده كسرتها! فأصبح ذلك سابقة درج عليها الناس من بعد، وبات فريق يشير إلى أشياء فيقول: هذه لي! وفريق أكبر لا يستطيع أن يشير إلى مثل تلك الأشياء فيقول: هذه لي!
ووقعت المشكلة العويصة، واعتصم كل فريق بمنطق من الكلام يحاول أن يقنع به الفريق الآخر، ولكنه احتفظ في النهاية بنوع آخر من المنطق هو أشد إقناعا.
وانبرى كثيرون من السعاة بالخير لتسوية المشكلة.
أما في شبه الجزيرة العربية، أيام الجاهلية، فقد برز من هؤلاء السعاة بالخير حاتم الطائي فقال: لا يسوي المشكلة كالكرم، وكان حاتم رجلا موسرا، وكان سخيا بذالا، فإذا وقع القحط أو اشتد البرد ويبست موارد الرزق من زرع وضرع، اجتهد في أن يعين الفقراء بما وسعته قدرته الواسعة.
على أن حاتما، وحده، لم يكن ليستطيع قومة بعبء المعوزين، ولم يكن ليجاريه أحد في بذله وسخائه، فكانت الغاية أن حاتما لم يطق، رغم طاقته، أن ينفع إلا نفرا قليلا من ذوي الحاجات، وكثيرا ما ساءت الحال بينه وبين امرأته، ومات لما مات، والفقراء فقراء والأغنياء أغنياء.
وأراد رجل آخر، في زمن الجاهلية أيضا، أن يحل المشكلة العويصة. ذلك هو عروة بن الورد العبسي.
لقد كره عروة طريقة حاتم في التسوية، وأبى على الصعاليك الذين لا يملكون شيئا أن يعيشوا بكرم الأغنياء، إن كان الأغنياء كرماء.
وبات إذا وقع القحط، وقسا البرد، يقول للصعاليك: تعالوا نجعل رزقنا في أسنة رماحنا. ففريق وافق، وفريق خالف، وقال الذين خالفوا: نطوف بأبواب الأغنياء حتى تنكشف الغمة وتنجلي الأزمة.
فأنشد عروة شعره الذي يقول فيه:
لحا الله صعلوكا إذا جن ليله
مصافي المشاش آلفا كل مجزر
ينام عشاء، ثم يصبح ناعسا
يحت الحصى عن جنبه المتعفر
ولكن صعلوكا صفيحة وجهه
كضوء شهاب القابس المتنور
مطلا على أعدائه يزجرونه
بساحتهم زجر المنيح المشهر
إذا بعدوا لا يأمنون اقترابه
تشوف أهل الغائب المنتظر
فذلك إن يلق المنية يلقها
حميدا وإن يستغن يوما فأجدر
ولقد وضع رسام مكسيكي عصري لوحة، فجعل فيها جماهير يواجهون، بعيون تعبة مكدودة وثياب بالية، نفرا يقبضون على عصي مقمعة بالفضة، وسلاسل الذهب تلمع على صدورهم، والجماهير فئتان: فئة تمد أيديها ضارعة مستعطية، وفئة تهز قبضاتها ساخطة مهددة.
وعروة، في شعره، كذلك الرسام في لوحته، قسم الصعاليك إلى طائفتين: فطائفة ترتاد المنازل التي تذبح فيها الذبائح فتكتفي بنهش ما يلقى لها من عظام، وطائفة ذات بأس وإباء تنقض فتغتصب رزقها اغتصابا.
وعاش عروة رئيسا للطائفة الثانية من الصعاليك، عاش زعيم عصابة يضرب بها في الآفاق غازيا، فيتناول أموال الموسرين ويقسمها بين أتباعه، حتى سمي عروة الصعاليك، وأبا الصعاليك.
قال الراوي: وما أخلقنا هنا أن نرجع إلى صاحب الأغاني، فنتكئ على حديثه. روى أبو الفرج أن عروة كان في قوم إذا أجدبوا تركوا في دارهم المريض والكبير والضعيف، فكان عروة يجمع أشباه هؤلاء من دون الناس من عشيرته، في الشدة، فيعنى بهم ويقيم لهم نفقا تحت الأرض يأوون إليه، أو يضرب عليهم حظيرة من شجر تقيهم قرص الريح والبرد، فمن قوي منهم، كأن يكون مريضا فيبرأ أو ضعيفا فتثوب قوته، خرج به فأغار وجعل لأصحابه الباقين في ذلك نصيبا، حتى إذا أخصب الناس وألبنوا وذهبت السنة، ألحق كل إنسان بأهله وقسم له نصيبه من غنيمة إن كانوا غنموها، فاتفق أن ضاقت بعروة الحال في بعض السنين فأنشد:
لعل ارتيادي في البلاد وبغيتي
وشدي حيازيم المطية بالرحل
سيدفعني يوما إلى رب هجمة
يدافع عنها بالعقوق وبالبخل
فزعموا أن الله قيض له، وهو مع قوم من صعاليك عشيرته، في شتاء شديد، ناقتين دهماوين، فنحر لهم إحداهما، وحمل متاعهم على الأخرى، وجعل يتنقل بهم من مكان إلى آخر، فنزل بهم بموضع يقال له ماوان، ثم إن الله قيض له رجلا صاحب مائة من الإبل قد فر بها من حقوق قومه، وذلك أول ما ألبن الناس، فقتله وأخذ إبله وامرأته، وكانت من أحسن النساء، فأتى بالإبل أصحاب الحظيرة ممن خلفهم وراءه، فحلب النياق لهم وحملهم عليها، حتى إذا دنوا من عشيرتهم أقبل يقسمها بينهم، وأخذ مثل نصيب أحدهم، فقالوا: لا واللات والعزى، لا نرضى حتى تجعل المرأة نصيبا، فمن شاء أخذها، فجعل يهم بأن يحمل عليهم فيقتلهم وينتزع الإبل منهم، ثم يذكر أنهم صنيعته، وأنه إن فعل ذلك أفسد ما كان صنع، فأفكر طويلا، ثم أجابهم إلى أن يرد عليهم الإبل إلا راحلة يحمل عليها المرأة حتى يلحق بأهله، فأبوا ذلك عليه حتى تطوع رجل منهم، فجعل له راحلة كانت من نصيبه.
قال الراوي: فما كان أعظم عروة يطيق هذه الإطاقة من معشر أحسن إليهم هذا الإحسان، ولم يقابلهم بغير شعر نظمه فيهم، فزعم أنهم - أولا وآخرا - ناس كالناس حين يمرعون ويتمولون.
وذهب راويتنا مذهبا في التأمل، فأردف قائلا: وقبل أن يفكر كتاب الروايات، في عصرنا هذا، بذلك الخلق العجيب الذي دعوه «اللص الشريف»، سبقهم عروة بن الورد بأجيال وعصور، ولكن عروة مات كحاتم، والفقراء فقراء والأغنياء أغنياء، فلم يحل المشكلة.
ثم أضاف الراوي بعد سكتة: إن المشكلة لم يكن لها حل يومذاك.
وزاد مبتسما: لو لم يكن وضح حل المشكلة اليوم، لآثرت أن أكون من عصابة كعصابة عروة!
الفداء من الوأد
كان اسمه أبو حمزة من غير أن يكون له حمزة، وكان يشتهي أن يكون أبا حمزة حقا، فتلد له امرأته طفلا ذكرا ينمو بين يديه، فيملأ خيمته مرحا وابتساما، حتى إذا شب صار له عونا على هذه الأم العجيبة، أم الناس جميعا، الحياة التي تمنح الناس عطاياها وتحرمهم، وتسعفهم، وتخذلهم في آن.
ولكن امرأته أبت إلا أن تخيب رجاءه، وكأنها كانت تسير على خطة مدبرة من عناد، فكلما امتلأ رحمها، توقع بعد التسعة الأشهر أن يلقى بوجهه وجه حمزة، غير أن امرأته دفعت إليه بأنثى يمزق صراخها حجاب سمعه.
وما يصنع بالبنات في هذه الصحراء التي قست فيها الحياة على بنيها قسوة شاذة؟ وكيف له أن يطعمهن والسن تمشي به؟ وماذا يغنيهن عنه إذا طلب الغزو أو دهمه الغزو؟ وأي عار يلحق به إذا سقطن في أيدي الأعداء؟
وعزم أبو حمزة أن يطلق امرأته أو يجفوها، فيتخذ له امرأة لا يكون حشوها البنات، وربما حدثته نفسه بأن يئد هذه البنية الجديدة التي يملأ صياحها المنكر جوانب خيمته.
وليس كالمرأة في الدنيا مخلوق عجيب، يتشمم ما يدور في خبايا الضمير، ضمير الزوج على الأخص.
ولم تمض دقائق حتى سمع أبو حمزة صوتا يرتفع في داخل الخيمة، يجتهد أن يغرق في قراره الكآبة التي تأبى إلا أن تطفو وتفيض على كل نغمة من نغماته.
كان ذلك صوت امرأته، وهي تنشد بنيتها:
ما لأبي حمزة لا يأتينا؟
يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا
تالله ما ذلك في أيدينا!
وإنما نأخذ ما أعطينا
ننبت ما قد زرعوه فينا!
فتعلقت بنفسه كآبة الصوت، ولبث مطرقا ساهما يغمره الصمت، لقد مس الشعر وحرك اللحن الإنسان النائم في أعماق هذا البدوي، ولكن كيف تتم يقظة الإنسان في الإنسان وهو فقير؟
قال الراوي: لا ندري هل كان أبو حمزة، هذا، البدوي الذي اتفقت له الحادثة مع صعصعة جد الفرزدق الشاعر؟ ولكن أي بأس في أن يكون هو إياه؟
وكأن أبا حمزة لم يقدم على طلاق امرأته ولم يستطع صبرا على جفائها، فقال: لأعيدنها تجربة أخرى، فإن ولدت غلاما فذاك، وإن ولدت بنتا وأدتها والله، قبل أن أسمع منها أول صيحة.
وانطوى عام وامتلأ رحم المرأة الخصبة، وتلاحقت الأشهر التسعة، وصاحبنا معلق النفس بين الخيبة والرجاء يعد امرأته الوعود الطيبة إن هي دفعت إليه بصبي، ويقسم لها أنها لن ترى ابنتها ساعة في الخيمة إذا ولدت أنثى.
وأقبلت الليلة التي أقبل معها المخاض، إلا أن المرأة لم تستطع أن تدفع وليدها، وأقبلت ليلة ثانية والولادة لا تزال على عسر، وكانت ليلة ثالثة، والنساء يقلن لأبي حمزة: أبشر! فما تعسرت ولادة على امرأة إلا جاءت بصبي، ولكن ادع ربك أن يهون الأمر وتسلم لك أم حمزة.
وبات صاحبنا ساهرا، يسمع صياح امرأته ولغط النساء في داخل خيمته، ويطعم النار فيحييها كلما همت بموت، وبغتة طلعت عليه ناقتان بركتا في الساحة، فقال: ليلة خير والله، ونهض إليهما، فإذا هما تعالجان الوضع، فنتجهما وتلقى فصيلين سمينين، وعاد ينتظر على ناره.
وكان في تلك الليلة أن خرج الشيخ صعصعة، جد الفرزدق الشاعر، يطلب ناقتين له أخذهما المخاض فجنتا من وجع، وانطلقتا في مدى الصحراء، فما زال به السير حتى أطل من بعد على نار تبوخ وتضيء، فحث بعيره إلى جهتها، فأقبل على صاحبنا أبي حمزة قاعدا، يعكس وجهه ظل اللهيب المتلاعب، وسمع لغط النساء داخل الخيمة وصوت امرأة تتوجع.
فحياه صعصعة وقال له: حملتني إليك نارك الموقدة وقد خرجت طالبا لي ناقتين على أهبة الوضع.
فرد أبو حمزة: ناقتاك عندنا، وقد وضعتا فصيلين، فمن تكون؟
فعرفه صعصعة بنفسه، فوثب البدوي ورحب به لعظم مكانته.
وقال صعصعة: إني لأسمع صراخ امرأة ولغط نساء، وقد أقسمت أن أعينك إن كنت في حاجة.
فأجاب أبو حمزة: إنها امرأتي تلد، وهذه ثالثة الليالي التي تعالج فيها الوضع.
وهنا ارتفع صوت امرأة تقول: خرج الوليد! خرج الوليد! فصاح أبو حمزة: إن كانت بنتا فلا سمعت صوتها، ولأحفرن لها حفرة منذ الساعة أواريها فيها.
فتلا كلامه صمت ثقيل، فأدرك أبو حمزة أنها بنت، وتقلص وجهه من الغيظ.
فقال صعصعة: أوتدفن ابنتك حية؟
فجاءه جواب أبي حمزة: وما أصنع بالبنات، وعندي منهن سرب، وأنا فقير والسن قد قطعت بي شوط الشباب كما ترى؟ ولئن كنت أنت حفيا بهذه الوليدة فاشترها مني.
فقال صعصعة: إن شئت اشتريتها بإحدى ناقتي، فهز أبو حمزة رأسه سلبا، وقال: موتها خير من بيعها بناقة، فرد صعصعة: إذن، فخذ الناقتين.
وبدأت تنقشع الغمامة عن وجه أبي حمزة، فقال: وتعطيني البعير الذي تحتك، إني أراه حسنا، شاب السن.
فوافقه صعصعة، وقال: أعطيكه، شرط أن تأذن لي أن أعود عليه إلى منزلي، فإذا وصلت فخذه مني، ولي عليك ميثاق لا تحلة منه أن تحسن إلى هذه البنية حتى تبين عنك بموت أو زواج.
قال الراوية: إن الرواة لم يذكروا لنا أن أبا حمزة بكى لما سمع كلام صعصعة، على أنه حقا شهق بالبكاء، وكان شهيقه من عزة مجروحة، وعرفان بالجميل، وأبوة سرت بعد حزن.
وانقلب صعصعة إلى منزله راضيا عن نفسه كما يرضى صانع المكرمة.
وفكر صعصعة في كثرة غناه، وكان موسعا عليه في دنياه، فقال: ليس هذا البدوي بالوحيد الذي يئد بناته من فقر وضنك، فلا علمت ببنت يريد أبوها وأدها إلا اشتريتها، ثم ساءته كلمة اشتريتها، فقال: افتديتها.
وازداد رضى عن نفسه لما تذكر أن هذه مكرمة لم يسبقه إليها أحد من العرب، وقد يقال إن شعوره بالزهو ربما أفسد عليه تلك المكرمة التي كان ينبغي لها أن تكون خالصة، على أن الشعور بالزهو حق طبيعي لمن استحقه.
وجاء، بعد زمان، حفيد صعصعة - وهو الفرزدق الشاعر - فملأ الدنيا فخرا بما صنع جده، ولكنه كان واحدا من أبناء العرب الآخرين الذين كفاهم أن يفخروا بفتوح الجدود، غير عابئين بما قال شاعرهم:
نبني كما كانت أوائلنا
تبني، ونفعل مثلما فعلوا!
عنترة: إنسانية العروبة
يأبى علينا راويتنا إلا أن نسمع حديثه عن عنترة، وقد نقول له ونعيد القول: إننا نعرف عنترة خير المعرفة، تليت علينا قصته في الجبل ونحن صغار ناعمو الأظفار، تليت علينا من كتاب في حلقة تحت إحدى شجرات السنديان التي تتوسط قرانا، وتليت علينا من أفواه جداتنا حول مواقد الشتاء، ثم سمعناها في مقاهي المدن، إننا نعرف عنترة وليد سبية حبشية، حملت به من أبيه شداد العبسي، فجاء عبدا فاحم البشرة، متقد العينين، غليظ الشفتين، فأنكره أبوه إنكارا، فلما كبر ألحقه بالماشية يرعاها، فوقعت غارة على الماشية وانتشب القتال بين العبسيين والمغيرين، وكادت الدائرة تدور على العبسيين، وعنترة واقف ناحية، فصاح به أبوه: كر يا عنترة! فقال عنترة: العبد لا يحسن الكر، وإنما يحسن الحلاب والصر!
فصاح أبوه: كر وأنت حر!
فخاض المعركة لما سمع بالحرية، فرجح به جانب العبسيين، وردوا عنهم الغارة، واستنقذوا الماشية، وأصبح عنترة فارسا مشهودا له.
وكانت له ابنة عم تدعى عبلة أحبها وأحبته، ولكن عمه مالكا كره سواده، فلم يزوجه بها، فعاش عنترة يخوض المعارك ويكلل رأسه بغار البطولة في الحرب التي ثار ثائرها بين عبس وذبيان، وكان، خلال حياته الحافلة بالمواقع، ينشد الشعر الذي يفيض رجولة وألما وحنينا، فظل تطفو منه بقايا على شفاه الرواة وأنقاض العصور، كما تطفو بقايا السفن على العباب.
قد نقول لراويتنا هذا القول ونعيده، ولكنه يأبى علينا إلا أن نسمع حديثه، فإن لعنترة قصة غنية بالمعاني، وإن كنا نعرف القصة فلربما فاتتنا المعاني.
سأل راويتنا: هل خطر في بالكم لماذا أحب الشعب العربي، ويحب، عنترة هذا الحب الرائع الثابت على الدهر؟
ولم ينتظر جوابا فأردف قائلا: ذلك أن بين عنترة والشعب صلات عميقة لم يعبر عنها ولكن وجودها حقيقة لا شك فيها، فعنترة منبوذ والشعب طالما أحس بأنه منبوذ أيضا، ولقد جاهد عنترة جهادا مرا، واستطاع أن يفرض نفسه فرضا بفروسيته وشعره، فكان انتصاره - انتصار هذا المنبوذ - عزاء للشعب بل أملا بأن المنبوذ الآخر يستطيع هو الانتصار أيضا.
وأضاف راويتنا: ثم إن حب العرب لعنترة إعلان عن صفة - كدت أقول طبيعة! - من صفات العروبة لا يصح نسيانها أو إهمالها، فعنترة أسود ابن سبية سوداء، وطالما عيره المعيرون بسواد لونه، ومع ذلك فالشعب العربي قد رفعه في التصور إلى مستوى مجيد في الرجولة، واعترف له بالبطولة، وجعله مثلا من المثل العالية في الفضيلة، وحفظ شعره وتغنى به، وكأن الشعب العربي أراد أن يتحدى مذهب العرقية والمؤمنين بهذا الضلال.
وكان راويتنا عارفا بمنكرات العصر الحديث، فقال: اشتهى فردريك نيتشه أن يرسم مثلا ينهد إليه الناس، فصور «الوحش الأشقر»، وظهر كثيرون يعلنون أنهم تجسيد من لحم ودم لهذا الوحش الأشقر، ولكن الإنسانية - لو سئلت - ما زالت تؤثر عليه الفارس الأسود عنترة.
وأي بأس في أن نتخطى الجاهلية قليلا، فنلقى الأمير العربي الحبيب الذي طفحت عنه السير بأنباء الفروسية والجود، ذلك هو معن بن زائدة! وأن له لحكاية بديعة يتحفنا بها ويكشف لنا جهة من النفس العربية، قال : كنت منقطعا إلى يزيد بن عمر بن هبيرة في عهد بني أمية، فانقلب الحكم إلى العباسيين، وكان عهد أبي العباس، ثم عهد أبي جعفر، ونشبت خصومة عقبتها الحرب بين ابن هبيرة والمنصور، فانحزت بنفسي إلى ابن هبيرة، وغلبنا المنصور، فغصت بين سمع الأرض وبصرها خوفا على دمي، وأقمت في الشمس حتى دبغ وجهي، وخففت لحيتي، ولبست جبة من صوف، وامتطيت بعيرا أريد التغلغل في البادية، وخلتني آمنا على نفسي من عيون الحرس.
غير أني لم أشعر إلا بعبد، متقلد سيفا، دنا فأخذ بخطام الجمل حتى أناخه وقبض علي، فقلت له: ما شأنك يا هذا؟ فأجابني: أنت والله بغية أمير المؤمنين! فتفرست فيه وقلت له: دعني يا هذا فمثلي لا يخطر لأمير المؤمنين ببال، فتبسم عن أسنان ناصعة، وقال لي: أنت معن بن زائدة، إن تجاهلت نفسك، فما أنا بالذي يجهلك. فمددت يدي إلى عقد كان معي وهمست في أذنه: هذا جوهر تساوي قيمته أضعاف ما يبذل لك أمير المؤمنين إذا دفعت بي إليه، فخذه ولا تكن سببا في تضييع دمي. فتناوله وتأمله طويلا، فحسبته قد رشي به، إلا أنه نظر إلي فقال: إنك لعلى حق في تقدير قيمة هذا العقد، غير أني سأسألك عن شيء، فإن صدقتني خليت عنك. فأجبته: سل ما بدا لك. فقال: شاعت عنك كثرة الجود يا رجل، فهل وهبت مالك كله؟ فأجبته: لا! فسألني: أنصفه وهبت؟ فأجبته: لا! فأتبع السؤال: أثلثه؟ فكنت أجيبه: لا، لا، وهو يسألني حتى بلغ العشر. فقلت له: أما هذا المقدار فنعم!
فأطرق قليلا، ثم قال: لم تصنع شيئا. إني والله جندي من المشاة، وليس رزقي من الخليفة بأكثر من عشرين درهما، وهذا العقد بألف دينار على ما أقدر، فاستبقه، ودمك عليك محقون، فإني وهبتك لنفسك ولحسن سمعتك في الناس، ولتعلم أن الدنيا لا تخلو ممن هو أجود منك. ورمى إلي بالعقد، وانطلق يعدو وأنا أهتف به: لهذا أهون علي من قطع الوريدين!
ثم صفا علي المنصور، فطلبت ذلك الزنجي فما عثرت له على أثر، فكأن أرضا بلعته.
قال راويتنا: فإن كل هذا العبد حقيقة، فإنها والله لسجية كريمة أن يتحدث عنه معن بمثل هذا الإكبار، وقد كان يستطيع أن يطوي الحكاية، وإن كان العبد فرضا افترضه معن، فإنها والله لسجية أكرم أن يخص أمير زنجيا من دون الناس بمثل هذه الشهامة، حقا إنها لإنسانية عميقة في الفارس العربي جعلته منذ مئات السنين يضفي مثل هذه الإنسانية على زنجي، بينما يقوم اليوم أقوام يدعون لأنفسهم أوج التمدن وينكرون الإنسانية، لا على السود وحسب، بل على غيرهم من البيض أيضا.
وما رد على هؤلاء بأحسن من قول القائل: من ينكر الإنسانية على سواه من الناس، ينكر الإنسانية على نفسه، علم أو لم يعلم.
المرأة إذا شاءت
في تلك السنة من القرن السادس الميلادي، أوشك أن لا يكون للناس حديث إلا هذه الحرب، المندلع أوارها منذ أعوام، بين بني عبس وبني ذبيان، على أثر السباق المشئوم، فلقد طال التناحر بين القبيلتين حتى كادت زهرة فتيانهما يحصدها السيف فلا تبقى أم عبسية أو ذبيانية إلا ذاقت مرارة الثكل ولوعته.
ولكن الحارث بن عوف، سيد بني مرة، صرف الحديث عن الحرب إلى أمر آخر استأثر بهمه كل استئثار، فهو يريد أن يتزوج، وهو معتز بماله وجاهه، فيقول لجليسه خارجة بن سنان المري: يا خارجة! أتراني أخطب إلى أحد في العرب ابنته، فيردني؟
وشد ما كانت دهشته حين أتاه الجواب: نعم، إن أوس بن حارثة بن لام الطائي يردك إذا خطبت إليه إحدى بناته.
فوثب الحارث على فوره، وصاح بغلامه: يا غلام! ارحل بنا إلى أوس بن حارثة الطائي! لا تبطئ لحظة عين.
وركب الحارث، وركب غلامه، وركب سنان بن خارجة، واندفعوا لا يلوون على شيء حتى بلغوا ديار أوس.
فقال أوس حين رأى الحارث: مرحبا بك.
رد الحارث: وبك أيضا، لقد جئتك خاطبا يا أوس، ولن أنزل حتى تؤنسني بقبول.
أجاب أوس: يا صاحبي: لست والله هناك.
1
فارتبك الحارث وانصرف مغموما مقفل الشفتين.
أما أوس فدخل على امرأته ، فتبينت في وجهه غضبا، فسألته: من الرجل الذي وقف عليك، فلم يطل بينكما الكلام؟
قال لها: يا أخت عبس،
2
ذلك الحارث بن عوف المري.
ردت: الحارث بن عوف سيد العرب؟! ما بالك لم تعزم عليه؟
3
أجابها: إن الرجل استحمق!
قالت: وكيف؟
قال: إنه أتاني خاطبا.
فصاحت به: أوتريد أن تزوج بناتك، أم أنت تريد أن تبقيهن عوانس؟ فإن لم تزوج سيدا كالحارث بن عوف، فمن تزوج إذن؟ أسرع فاستدرك ما كان منك.
رد أوس بعد إطراق: أراك، يا أخت عبس، قد غلوت في الطلب، فكيف أتدارك ما كان مني وقد جبهت الرجل؟
أجابت: تلحقه الساعة، فتقول له أنك فجأتني بأمر لم يتقدم فيه كلام، فلم يكن عندي من الجواب إلا ما سمعت، وسترى أنه يثني عنان جواده فيتبعك.
فخرج أوس، وركب في أثر الحارث.
وسمع خارجة بن سنان خبب جواد وراءهما، فتلفت فرأى أوسا يسعى نحوهما.
فأقبل على الحارث فقال له: أرى الرجل يسعى في أثرنا!
فرد الحارث: وما شأننا به؟ امض!
فلما رأى أوس أن الحارث ما زال يحث السير، صاح به: يا ابن عوف! اربع علي ساعة.
فوقف الحارث حتى دنا منه أوس وقال له: إنك فجأتني يا رجل، فلا تغضب، وإن لك عندي ما تحب.
فكأن سحابة انقشعت عن وجه الحارث، فأشرقت أساريره، وقال لأوس: إن كان ذلك، فأنا عائد معك الساعة.
ودعا أوس الحارث بن عوف وغلامه وخارجة بن سنان إلى خيمة أعدها للضيوف، ثم دخل على زوجته فقال لها: لقد أصبت، يا أخت عبس، ها هو الرجل ينتظر في خيمة الضيوف، ادعي لي كبرى بناتنا.
فدعتها، فلما صارت بين يدي أبيها قال لها: يا بنية! هذا الحارث بن عوف، من سادات العرب، جاءني خاطبا، وقد أردت أن أزوجك إياه، فما تقولين؟
فأطرقت لحظة، ثم قالت: لا تفعل يا أبي.
قال، واتسعت عيناه بالدهشة: ولم؟
قالت: لأن في وجهي ردة،
4
وفي خلقي بعض العهدة،
5
ولست بابنة عمه فيرعى ما بيننا من رحم،
6
وليس بجارك في البلد فيستحي منك، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني.
ففكر أوس، ثم قال: قومي يا بنية، بارك الله عليك، وادعي لي أختك الوسطى.
فغابت الفتاة وحضرت أختها، فقال لها أبوها: يا بنية! رأيت أن أزوجك الحارث بن عوف من سادات العرب، فإنه أتاني خاطبا، فما رأيك؟
أجابته: أعفني يا أبي، فأنت تعلم أني خرقاء، وليست بيدي صناعة، ولا آمن أن يجد في ما يكره، فيطلقني، وما هو ابن عمي فيرعى لي حقا، ولا هو جارك في بلدك فيداريك.
قال أبوها: قومي، بارك الله عليك، وادعي لي بهيسة، أختك الصغرى.
فما لبثت الصغرى أن أقبلت عليه، فخاطبها بما خاطب به أختيها من قبلها.
فأجابته: امض، يا أبي، في ما عزمت عليه.
فعجب أوس وقال: ولكني عرضت الأمر على أختيك، فخافتا أن يرى الرجل منهما ما يكره فيطلقهما.
فردت: وعلام أخاف؟ وأنا الجميلة وجها، الصناع
7
يدا، الرفيعة خلقا، الحسيبة أبا، فإن طلقني فلا أخلف الله عليه!
فضحك أوس، ثم خرج إلى خيمة الضيوف، فقال للحارث: إني زوجتك بهيسة، بنتي الصغرى، فهي التي قبلتك من أخياتها جميعا.
فأجاب الحارث: وإني قبلت! وهذا حارثة بن سنان وغلامي يشهدان علي، ولن أبرح حتى أحمل معي عروسي.
فعاد أوس إلى امرأته، فأمرها أن تهيئ بنتها وتصلح من شأنها.
ثم أمر ببيت فضرب للحارث وأنزله فيه، ثم بعث إليه عروسه.
فلم يلبث الحارث عندها هنيهة حتى خرج معجلا.
فسأله خارجة بن سنان: أبنيت بأهلك يا حارث؟
8
فأجابه: لا والله، فإني ما دنوت منها حتى قالت: حياءك يا رجل! أعند أبي وإخوتي؟ هذا والله لا يكون ... فأخجلتني.
فقال له خارجة: إذن، ترحل بها.
وودعت الفتاة قومها، وانطلق بها الحارث يصحبه رفيقاه.
فلما أصبحوا على مسافة من ديار أوس، انتحى الحارث بعروسه ناحية، ولكنه لم يلبث أن عاد.
فسأله خارجة: أتراك بنيت بأهلك؟
فكان جوابه: لا والله، قالت لي: أكما يفعل بالأمة الجليبة،
9
والسبية الأخيذة؟
10
لا والله، حتى تنحر الجزور،
11
وتذبح الغنم، وتولم الولائم التي تليق بمثلي.
فقال خارجة: يا حارث! إني لأرى في هذه الفتاة همة وعقلا، وأرجو أن تنجب.
12
وتابع الحارث رحيله حتى أتى دياره، فأحضر الإبل والغنم، وهيأ الطعام، ودعا الناس، ثم فرغ ليخلو بعروسه.
فجبهته بقولها: أما عندك، يا رجل، مروءة تنهاك، وشرف يردعك؟
فجمد في مكانه لا يحير، ثم استجمع نفسه فقال لها: قد ترين أني أحضرت من المال ما يرضيك، وملأت قصاع الطعام ودعوت الجموع الحاشدة، فماذا بعد هذا تريدين؟ ولم تعرضين بمروءتي وشرفي وأنا السيد الكريم؟
أجابت: أي سيد؟! وأي كريم؟! تفرغ للنساء، والعرب يقتل بعضها بعضا؟! هذه عبس أوشكت أن تفني ذبيان، وتلك ذبيان توشك أن تفني عبسا، والأرض تحتج للدم المراق، اخرج إلى القوم فامش بينهم بالصلح، وانههم عن هذا السفه، ويومئذ أنت السيد الكريم!
فخرج الحارث يتفصد جبينه عرقا.
ولقيه خارجة بن سنان فسأله: لعلك بنيت بأهلك يا حارث؟
فكان جوابه: لا والله.
فدهش خارجة، وقال: ولم يا حارث؟ - ما رأيت كاليوم فتاة عرضت بمروءتي وشرفي لأني أفرغ للنساء، والعرب يقتل بعضهم بعضا. - أما قلت لك إن في هذه الفتاة همة وعقلا؟ فماذا أنت فاعل؟ - وهل بقي، يا خارجة، سبيل إلا أن أمشي إلى عبس، وإلى ذبيان، فأسعى بالصلح بينهما؟! - وإني أعرف لك شريكا في هذه المحمدة هو هرم بن سنان، فلقد أقسم بأن يدفع من ماله ديات القتلى إذا كفت القبيلتان عن الحرب ...
قال الحارث: لعلهم استقلوا الديات، فأنا أدفع من مالي فتضاعف دية كل قتيل ونحقن الدماء.
قال خارجة: إنهم حسبوا الديات، فإذا هي ثلاثة آلاف بعير. - لتكن ثلاثة آلاف بعير! فأنا وهرم بن سنان ندفعها، هيا بنا. •••
وقدر للحارث بن عوف وهرم بن سنان أن يصلحا بين عبس وذبيان، ويدفعا ديات القتلى من القبيلتين ثلاثة آلاف بعير، ويحسما الشر، ويحقنا الدماء.
وكان ذلك كله بفضل امرأة.
ولما دخل الحارث بن عوف على عروسه بهيسة يبشرها بالنبأ، فتحت له ذراعيها تعانقه، وقالت: أهلا بالسيد في العرب! اليوم قمت بحقي، لا يوم نحرت الجزور والغنم وملأت بطونا في عرس.
وتسامع الناس بما كان من حديث هذه المرأة في دفع البلاء وحقن الدماء، فقال أحدهم: يا للمرأة إذا شاءت!
وقال ثان: على أن تشاء الخير!
فقال ثالث: ولكنها لا تشاء إلا الخير! لن تشاء تدمير الحياة ما دامت أما، تتجدد بها الحياة.
ذو قار
استطاع عدي بن زيد، بدهائه وبما كان له من نفوذ عند كسرى ملك الفرس، أن يجعل النعمان بن المنذر ملكا على الحيرة دون باقي إخوته، وكان النعمان قد ربي في حجر عدي، فعرف له فضله في تربيته وفي تولي العرش فخصه بإكرام وإعظام.
ولكن رجلا يدعى ابن مرينا كان يود أن يولي العرش ولدا آخر من أبناء المنذر أشرف هو على تربيته بنفسه، فلما لم يوفق سخط سخطا شديدا، وخص عديا بالقسط الأكبر من سخطه، وكان ابن مرينا، هذا، غنيا بلغ الغاية في الغنى، فجعل يتقرب إلى النعمان ويسرف في إهدائه تحف الهدايا، حتى عطف عليه النعمان وأعاره أذنا واعية، فبات ابن مرينا إذا ذكر عدي، يقول: نعم الرجل! على أن فيه مكرا وخديعة.
ونسج ابن مرينا وأعوانه مكيدة من أخبث المكائد، ذلك أنهم زوروا نص كتاب على لسان عدي، وأرسلوه إلى قهرمان لدى كسرى، ثم دسوا من جاءهم بالكتاب فأطلعوا النعمان عليه، فإذا فيه شتم له وتعريض بملكه، فغضب النعمان واستزار عديا وقذف به في السجن، فانطلق أبي، أخو عدي، يستغيث بكسرى، فبعث الملك الفارسي إلى ملك الحيرة يأمره فورا بإطلاق عدي، فدس النعمان إلى سجينه من قتله، ثم أنفذ أمر كسرى فأطلق سراح الجثة!
وكان لعدي ولد سماه زيدا، ففر الولد خوفا على دمه، ثم أدرك النعمان أن عديا كان مكذوبا عليه، فأسف وكفر عن ذنبه بهذا الغسل العجيب الذي يقال له الندم، الذي يستعمله من يذنبون وهم فوق يد القانون.
واتفق أن خرج النعمان للصيد، فلقي غلاما عرف فيه ملامح عدي، فسأله عن نفسه، فإذا هو زيد بن عدي، فأظهر له الحزن على ما حل بأبيه، وحمله إلى بلاطه وأعطاه العطايا ، ثم قدمه إلى كسرى، فشب زيد في البلاط الفارسي، ولم يلبث أن أصبحت له منزلة أبيه من قبله لدى الملك.
على أن زيدا لم ينس للنعمان فعلته بأبيه، ولم يغتفرها له، وترقب الفرص ليوقع به عند كسرى.
وصادف أن كان في خزانة ملوك الفرس رقعة مكتوب فيها صفة المرأة التي تؤثر على غيرها من النساء، قال الراوي: وكان الفرس يتبركون بالوجه الجميل، وأكثر الناس فرس من هذا القبيل، وعثر كسرى يوما على تلك الرقعة، وود أن تكون له امرأة تطابق صفتها الصفة التي قرأها، ولم يخطر بباله أن يبعث في طلب المرأة من أرض العرب، ولكن زيدا آنس فرصة فقال له: أيها الملك، إن الرقعة التي وجدتها كتبها المنذر الأكبر ملك الحيرة، وقد غنم من الحارث الأكبر الغساني جارية فذة الجمال، فأهداها إلى أنو شروان، فابعث أنت إلى النعمان يبعث إليك جارية وفق المراد.
1
أما الصفة المكتوبة في الرقعة فلن أتلوها عليك، أيها القارئ، لأنني أخشى أن تصرف ذهنك عن متابعة ما نحن فيه!
وانقضت أيام، فإذا بزيد ورجل فارسي ينطلقان من المدائن إلى الحيرة، فلقد أنفذهما كسرى ليأتياه من النعمان بامرأة تطابق صفتها الصفة التي عثر عليها فشغلت عقله وحسه.
وبلغ زيد ورفيقه الحيرة، ومثلا أمام النعمان، فلما قرأ كتاب الملك الفارسي، برم وقال: أما في مها السواد وعين فارس ما يكفي به الملك حاجته؟ فسمع الفارسي وسأل زيدا: ما معنى هذا؟ فنقل له زيد الكلام بحرفه، وترجم لفظتي «المها» و«العين» بلفظة «كاوان» الفارسية، ومعناها البقر!
ثم قفل زيد ورفيقه إلى المدائن، وزيد أعلم الناس بأنه قد وفق في عقدة عقدها لن تلبث أن تشتد على مخنق النعمان، وقال الفارسي لكسرى: إن النعمان ملك الحيرة يسألك: أليس في بقر السواد وفارس ما تكفي به حاجتك؟ فها نحن نعود إليك كما انصرفنا عنك.
فامتلأ صدر كسرى غيظا، وراح زيد يطعم ناره وقودا فتزداد ضراما.
وسمع النعمان بغضب كسرى، وأتاه كتاب كسرى يدعوه إليه، فحمل أهله وسلاحه وما قوي عليه من متاع، فلجأ إلى بني طي، وكان متزوجا فيهم، وسألهم أن يدخلوه بين جبليهما المنيعين، ويحموه من الملك الفارسي إذا وجه الجيش في طلبه، فخاف بنو طي من بطش كسرى.
فارتحل النعمان عنهم وطاف القبائل حتى نزل سرا في بني شيبان، فاجتمع بكبير من كبرائهم هو هانئ بن مسعود، واستجاره فلباه هانئ، ولكنه قال له: ما أظن الخرق قد اتسع على الراقع، وما ينبغي لك أو لي أن نهجم هجوما على أمر قد يكون فيه هلاكك وهلاكي سدى، وما أحبك أن تفهم من هذا أنني أريد تملصا من رعي ذمامك، على أنني رأيتك رجلا مكذوبا عليه، فلو انطلقت إلى كسرى وحملت إليه الهدايا وأخبرته اليقين، لكان لك حظ في النجاة مع السلم، ولعدت إلى عرشك ملكا، ولئن مت فذلك خير لك من أن تعيش مخلوعا ساءت بك الحال وانقلبت من عز إلى ذل.
فأجابه النعمان: رأيك نعم الرأي، فكيف أصنع بحرمي؟ فقال هانئ: يمكثن في حفظي لا يخلص إليهن أحد وفي وفي قومي رمق.
فقبل النعمان، وتوجه إلى كسرى، فلم يكن كسرى أقل هياجا عليه من فيلته التي طرحته تحت أرجلها فوطئته وعجنته بدمه في السنة 602.
واستعمل كسرى إياس بن قبيصة الطائي على الحيرة، وأمره أن يجمع ما خلفه النعمان فينقله إليه، فأرسل إياس إلى هانئ بن مسعود يطلب منه تركة النعمان، فأجاب هانئ: إني أحد رجلين، إما رجل استودع أمانة فما ينبغي له أن يردها إلا إلى صاحبها، وإما رجل قيل عنه ما قيل افتراء وبهتانا، ولا أرى لأحد علي في الحالتين حقا.
فبعث إياس بجواب هانئ إلى كسرى فثارت ثائرته، وطفق العرب من بني بكر يغيرون على السواد، وطفق بنو شيبان، وهم قوم هانئ وبطن من بني بكر، يغيرون في طليعة المغيرين وينخسون خاصرة الدولة الفارسية، ففكر كسرى في تجريد حملة على البكريين، ليوقع بهم كما أوقع من قبله سلفه كسرى أنو شروان ببني تميم، في يوم الصفقة، إذ اعتدوا على متاع كان قد سيره إلى عامله باليمن ، فطوقهم وذبح منهم خلقا كثيرا في حصن المشقر بالبحرين، ولعل كسرى أبرويز رجع بالذاكرة إلى عهد سابور الثاني حين حمل على العرب حملته المنكرة، فقبض على كثيرين من ساداتهم، وخلع أكتافهم من مواضعها، فسمي سابور ذو الأكتاف؛ وحظر على العرب دخول عاصمته، وبنى مدينة آلوس على جزيرة في وسط الفرات وجعلها قاعدة مسلحة، واحتفر خندقا عظيما أنشأ عليه القلاع، وقرض دويلة الضجاعمة العربية، وافتتح مدينتها الحضر،
2
وأمن مملكته من شر غارات العرب.
أجل، ربما قلب كسرى أبرويز الثاني هذه الصفحات من تاريخ الأمس في ذاكرته، وربما ألحت عليه شهوة إلى تجديد ما فعل سابور، ولكنه رأى في الروية خيرا، فأبرويز يحس أن الدولة الفارسية لم تبق قادرة على بذل ما كانت تبذل من قوى؛ وهو يعلم أن بلاده معرضة للفتن الداخلية طمعا في العرش، بل يعلم أنه لولا زواجه بابنة إمبراطور الروم موريقي، ولولا مساعدة الجيوش الرومية له، لما استطاع بالأمس أن يقضي على القائد بهرام الذي عصاه واغتصب منه العرش وطرده، فإذا كانت الحال بينه وبين الروم سلما اليوم، فمن يعرف مباغتات الزمان؟
3
وحدث أن وفد على كسرى قيس بن مسعود بن خالد بن ذي الجدين، وكان سيدا عربيا وجيها، فقال له الملك الفارسي: أجعل لك ولقومك مالا وإقطاعا تستعينون به على جدب أرضكم وقحط زمانكم، أفتكفيني غاراتكم على السواد؟ فرضي قيس، ولكنه لم ينجح في قطع الغارات إلا أمدا يسيرا.
فطفح صدر كسرى، واستشار إياس بن قبيصة الطائي في الحملة على بني بكر، فدعاه إياس إلى الصبر والملاينة، واتباع الحيلة، حتى يجد منهم غفلة وتفرقا، فيرميهم بفرسان من العجم، فلم تعجب كسرى نصيحة إياس وقال له: ما أراك إلا رجلا من العرب، وبنو بكر أخوالك، وإنك لتريد دفع العقاب عنهم.
وكان عند كسرى رجل تغلبي اسمه النعمان بن زرعة، قد طوى النفس على حزازات من حرب البسوس بين التغلبيين والبكريين، فقال للملك الفارسي: إني بنا معشر العرب لخبير، أشد ما يؤذينا القيظ، فلو أعددت العدة وارتقبت ميعاد القيظ لوجدت بني بكر يتهالكون على ماء يقال له ذو قار تهالك الفراش، فعاجلتهم بالجيش وأمكنتك منهم الفرصة، وإني مقيم عندك إلى أن يأزف الزحف، فأنطلق مع الحملة التي تأذن بتسييرها، فوافقه كسرى.
وجاءت أيام القيظ فقصد البكريون موضع ذي قار، حتى إذا علم الملك الفارسي أنهم باتوا منه على مسيرة ليلة، في المكان الذي يدعى حنو ذي قار، أخذ في تعبئة الحملة، فعقد لإياس بن قبيصة الطائي على الشهباء والدوسر (وهما كتيبتان جعلهما ملوك الفرس قوة عسكرية تابعة للمناذرة: رجال الشهباء من الفرس ورجال الدوسر من العرب التنوخيين على الأخص)، وعقد للنعمان بن زرعة على بني تغلب والنمر، وعقد للهامرز، وهو قائد فارسي كان يلي السواد، على ألف من الأساورة، وعقد لقائد فارسي، يدعى خنابزين، على ألف أيضا، وانتهز المناسبة، فسير معهم اللطيمة، وهي قافلة المتاع الذي كان يرسله إلى عامله باليمن. ومن هنا يبدو أن الملك الفارسي كان يرمي من الحملة إلى غرضين، أولهما: منع العرب من الاعتداء على تخوم مملكته، وثانيهما: تخويفهم من الاعتداء على قوافله، لتصبح الطريق آمنة بينه وبين اليمن البلد المحتل.
وزحف الجيش الكسروي حوالي خمسة آلاف من عرب وفرس، وليس هذا بالعدد القليل إذا نسب إلى الزمن والمحيط، وكان عتاده من أمتن العتاد وأوفره.
فلما شارف الجيش الأرض التي ينزلها بنو بكر، مضى النعمان بن زرعة إليهم فنزل بابن أخت له، ولقي القوم من بني شيبان ومعهم هانئ بن مسعود، فقال لهم: أتاكم ما لا طاقة لكم به من جنود كسرى، والشر بعضه أهون من بعض، فادفعوا إلى الملك رهنا منكم فلعله يعفو ويكف عنكم، ولأن يفتدي قليلكم كثيركم خير من أن تهلكوا جميعا.
فكان جوابهم: ننظر في أمرنا.
وبثوا الخبر في بني بكر، وأقاموا ببطحاء ذي قار ينتظرون وفود البكريين كلهم ليروا رأيا في ما يفعلون.
وقدم بنو بكر، قوم بعد قوم، حتى ظهر منهم بنو عجل وعليهم حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي، فلم يبق من لم يصح: هذا سيدنا ، وسألوه الرأي ، وقالوا له: هذا النعمان بن زرعة أنبأنا بما نوى كسرى من البطش، وهانئ بن مسعود أميل إلى ركوبنا الفلاة.
وكان حنظلة أصلع ضخم الهامة، عظيم البطن مشرب الوجه بحمرة، وكان الحر قد فصد عرقه وزاد وجهه احتقانا، فقعد ومر بيده على جبينه يمسح العرق وصرخ بصوت مغضب: إني لأسمع أصواتا تضج حولي، فلا تجرن فارس أرجلها بهذه البطحاء، بطحاء ذي قار، وأنا أسمع لكم نبرة أو نفسا يتردد. إني لا أرى وجها غير وجه القتال، أما ركوبنا الفلاة فهو الموت عطشا، وأما الاستسلام إلى كسرى فهو ذبح رجالنا وسبي نسائنا وذرارينا، ثم التفت حنظلة إلى هانئ فقال له: أخرج ما أودعك النعمان من سلاح وفرقه في المقاتلة، فإن كان الظفر رددناه عليك، وإن كان الموت فلا أرى هذا السلاح إلا أهون مفقود بجانب أرواحنا.
ودار حنظلة فوجد النعمان بن زرعة واقفا فصاح به: إنك شهدت وسمعت يا هذا، ولولا أنك رسول، ولولا أننا نريدك أن ترجع إلى من أرسلك فتخبره، لقتلناك، فامض عنا.
وانطلق النعمان بن زرعة، وجعل هانئ بن مسعود يوزع ما لديه من سلاح، وتفجرت في النفوس ينابيع من قوة، كانت محبوسة في الأغوار، وكان حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي صاحب اليد السحرية التي فكت عن تلك الينابيع أقفالها، فتفجرت زاخرة عامرة، ولولا وجود تلك الينابيع المحبوسة لذهب جهد حنظلة عبثا من العبث، فالبطل الفرد يكون أثره بمقدار ما يجد - أو يوجد - التجاوب بينه وبين من حوله.
وبات الجميع ليلتهم على يقظة وتأهب.
وعلم البكريون، من نزيل كان بينهم، أن الفرس رماة أفتك ما عندهم النشاب، فقرروا أن يتكردسوا للمعركة كراديس، أي: قطعا قطعا من الخيل، فإذا صرف الفرس نشابهم إلى كردوس وهجموا عليه شد كردوس أو كراديس أخرى على الفرس، حتى لا يعرف العدو أين يضرب، ولا من أين تقع عليه الضربة.
وأقبل اليوم التالي، وهو يوم المعركة، فنهض حنظلة إلى الوضن التي تستعملها النساء في ركوب الأينق، فبدأ بقطع وضين امرأته، ثم قطع الوضن كلها كي يستحيل على النساء الفرار على الأينق إذا فر الرجال، وصاح: ألا فليعلم كل منكم أنه إذا خلى مكانه فقد أسلم حليلته للسبي، فقاتلوا في مدى ما بين الظفر أو الموت، وإنه لمدى ضيق، وبادروا العدو بالشدة فذلك أوقع.
ونهض هانئ بن مسعود وقد قنع بالقتال، فأرسلها كلمات فيها هدوء الحكمة، وليس فيها برود الحكماء، فقال: إن الحذر لا يدفع القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية!
وتعالت أصوات النساء في الحض على البأس والبلاء، فصاحت امرأة عجلية:
إن تهزموا نعانق
ونفرش النمارق
أو تهزموا نفارق
فراق غير وامق!
ودنا جيش الفرس يسير على تعبئة وفق النظام، ومعه الأفيال، ووقف الجانبان متقابلين، وخرج أسوار فارسي يتحدى العرب للبراز، فلم يلبث طويلا حتى انبرى له فارس عربي طعنه فدق صلبه، فاغتاظ الهامرز وخرج بنفسه يدعو إلى البراز، فانبرى له فارس عربي هو الحوفزان، فألقاه صريعا.
وكان ذلك مما شجع العرب وفت في أعضاد الفرس، حتى أن بعض العرب الذين كانوا في الجانب الفارسي هزهم الحنين إلى قومهم، فعزموا أن يضموا صفوفهم إلى صفوفهم، وتذكر بنو إياد، وكانوا مع الجيش الكسروي، قول شاعرهم:
على رغم سابور بن سابور أصبحت
قباب إياد حولها الخيل والنعم
والإياديون كثيرا ما أذاقوا المملكة الفارسية بأسهم، وكثيرا ما ذاقوا منها العذاب، قبل أن تجندوا لها جنودا مرتزقة، فبعثوا إلى البكريين يقولون: أي أحب إليكم، أن نلحق بكم الساعة أم أن ننتظر اشتداد المعركة فننتقل إلى جانبكم؟ فأجابهم البكريون: بل أحب إلينا أن تنتقلوا في غمار المعركة، فإنه أشد ضعضعة ودهشة للعدو.
والتحم الفريقان، ولحق بنو إياد ببني بكر في عنفوان المعركة، ولم يستطع الفرس أن يجاروا العرب في سرعة التفرق والتجمع، مع رشاقة الضربة وشدتها، فذاقوا أول هزيمة أنزلها بهم العرب، وكان ذلك حافزا أيقظ ثقة العرب بأنفسهم وجرأهم وهيأهم لساعة قريبة أعدها لهم التاريخ وأعدهم لها، والتاريخ يزن الإرادات ويعتبرها، ولكن له، بالنتيجة، إرادته الخاصة، والبرهان أن يوم ذي قار كان مفاجأة للفرس، كما كان مفاجأة للعرب، وغير يسير أن نحكم أي المفاجأتين كانت أشد وأعظم!
قال الراوي: وكان العرب عامة، والنصارى خاصة، ناقمين على الكسروية الفارسية لما أنزله بهم سابور الثاني الملقب بذي الأكتاف، وكان مما فعله هذا الملك أن ضاعف الجزية السنوية على النصارى، فلما وقع يوم ذي قار، خرجت الصبايا النصرانيات العربيات في أكمل زينة فرحا بالانتصار الرائع.
ولم يمض وقت حتى كان محمد بن عبد الله يذكر ذا قار ويقول: «هو أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا».
وكأن فرح الصبايا النصرانيات وكلمة محمد بن عبد الله رمزان باقيان يذكراننا بيوم اجتمعت فيه الكلمة العربية من أجل إثبات الوجود ودفع الحيف.
الإنسان المنقسم على نفسه
في كتاب المستطرف للأبشيهي هذه الحكاية الغريبة، نقل عن أحدهم أنه قال: دخلت بلدة من بلاد اليمن، فرأيت بها إنسانا من وسطه إلى أسفله بدن واحد، ومن وسطه إلى أعلاه بدنان مفترقان، برأسين ووجهين وأربع أيد، وهما يأكلان ويشربان ويتقاتلان ويتلاطمان ويصطلحان.
قال: ثم غبت عنهما قليلا، ورجعت فقيل لي: أحسن الله عزاءك في أحد الشقين.
فقلت: وكيف صنع به؟
فقيل: ربط في أسفله حبل وثيق وترك حتى ذبل ثم قطع، ورأيت الجسد الآخر بالسوق ذاهبا وراجعا ...
قال راوية من العصر: قرأت هذه الحكاية الغريبة وأنا لا أزال في مطلع من العمر، وعيناي لم تنفتحا على الحياة إلا بعض انفتاح، وكنت قد سمعت الكثير عن كذب القصاصين العرب، وعن حبهم للمبالغة والغلو والإغراق، فقلت في نفسي: شد ما أساء ناقل الحكاية إلى راويتها، وهل يعقل أن يعتدي إنسان على المعقول مثل هذا الاعتداء؟ ومن يجهل أن هذا المخلوق الذي نعتته الحكاية إنما هو تزوير مفضوح على الطبيعة؟ ثم طفقت أسمع أن الروح العربية سطحية، وأن العقل العربي غير غواص، وأن القدرة العربية على التعبير الفني عن عميقات الفكر ليست بالقدرة العظيمة، وكدت في يوم من الأيام أن أصدق كل هذا الذي سمعت، إلا أن عيني كانت تزداد انفتاحا على الحياة، وكانت النتيجة أن أصبحت قارئا خيرا مما كنت، وأدركت صحة قول القائل: لا يستطيع الأديب أو المفكر، مهما استغنى، أن يستغني عن القارئ الصالح، وكم فقر أو غنى في أديب، أو مفكر، إن هو في الواقع إلا فقر أو غنى في القارئ، وها أنا أعود اليوم فألتفت إلى الحكاية الغريبة، حكاية المخلوق الذي روي أنه عاش في بلدة من بلاد اليمن.
كنت أريد أن أقول المخلوق الشاذ، على أني أتمثله اليوم إنسانا واحدا من وسطه إلى أسفله، وإنسانين اثنين من وسطه إلى أعلاه، وبدلا من أن أعجب منه أراني أعجب من نفسي كيف كنت أجده تزويرا على الطبيعة، وكل إنسان هو في الحقيقة واحد من وسطه إلى أسفله، ثم هو اثنان من وسطه إلى أعلاه!
أجل! هو اثنان برأسين ووجهين وأربع أيد، هو اثنان برأسين تجول فيهما الأفكار مؤتلفة ومتناقضة، هو اثنان بوجهين صادقين ومنافقين، هو اثنان بأربع أيد: عاملة وكسلى، خادمة للخير وآثمة، بانية وهادمة، هو اثنان إذا أكل أكل اثنان، بل ربما أكل واحد وجاع واحد، وإذا شرب شرب اثنان، بل ربما شرب واحد وظمئ واحد، هو اثنان يتقاتلان فيما بينهما ويتلاطمان ويصطلحان، واحد مقهور وواحد منصور، واحد باك وواحد ضاحك، واحد حاقد وواحد غافر، هو اثنان، هو الشخص المنقسم على نفسه، يهرم واحد منه أو يمرض، فينقلب خطرا على الآخر أو ضررا، فيحتاج الآخر إلى علاج، علاج جراحي مستأصل، فيربط الهرم أو المريض بحبل وثيق في أسفله حتى يذبل فيقطع.
ولو أن الراوية كان شاهد المخلوق اليمني يوم قطع عنه شقه، لرأى كيف ألقاه في الكفن والنعش، وكيف حمله إلى القبر، ثم لرأى أن الإنسان يحتاج من نفسه لنفسه إلى العلاج الجراحي، ويحتاج أن يقيم لنفسه من نفسه الجنازة، وأن يكون منه الدافن والمدفون، وكل ذلك في سبيل الحياة والتجديد.
ولو أن الراوية انتظر يوم رأى المخلوق اليمني ذاهبا وراجعا في السوق، وقد قطع عنه شقه الآخر، لو أنه انتظر هنيهة لرأى شقا آخر ينبت في موضع الشق المقطوع، ثم لرأى رأسا جديدا ينمو، ووجها جديدا ينمو، ويدين جديدتين تنموان، ولرأى الشخص يعود إلى ازدواجه وانقسامه على نفسه، فقال: سنة الحياة، سخر لها حتى الموت! ولن تجد لسنة الحياة تبديلا.
سراب وواحة
يتحدث الناس عن سفر من صقع في الأرض إلى صقع، وقل أن يتحدثوا عن سفر من عصر إلى عصر، ومن جيل إلى جيل.
ولكن صاحبنا هذا عربي من الجاهلية تخطى مسافة الوقت إلى القرن العشرين، أو هو عربي من القرن العشرين طوى الزمان القهقرى إلى الجاهلية.
وخاض الصحراء، ووقع عليه ليل كليل امرئ القيس أو الشنفرى، وسمع الذئاب تعوي، وانغمر بإحساس أفاضه عليه ما يحيق به من ظلام وفراغ، وخيل إليه أن الصمت حوله يتحدث بهمس وينادي بجهر، فأقام يتلقى الأصداء من صوب إلى صوب، وأصبح يقص القصص عن الجن والغيلان وشياطين الشعر.
إلا أن نهاره كان أجدى من ليله في صحرائه.
لقد اندفع يمشي، والشمس فوقه كرة من نار مشبوبة، تبسط تحته بساطا من لهيب، وتنشر في الفضاء أمامه بريقا يكد عصب العينين، وتسكب في حلقه الظمأ، فتساوي الدنيا عنده قطرة ماء، ويحلم بالسلسبيل الرقراق، وإذا هو يرى الدنيا تنبع له الماء حقا، على بعد غير بعيد، ويرى الماء يتألق صفاء ويدعوه، ويشهد مع الماء ألوانا كأغرب الألوان وأفتنها، فيستشعر الراحة وكأنه يحس بالنسيم البليل يمسح محياه، وبالعذب البارد يقع على غلته فينقعها.
ويسعى، يسعى شيقا لهفان، فلا يلحق بالماء حتى يهرب منه، ويتمثل له مرة أخرى، على بعد غير بعيد، صافيا، لامع الصفحة، محفوفا بعجائب الألوان، فيتبعه، ويظل يتبعه، حتى يعلم أنه السراب.
ثم ماذا؟ يقول للصحراء من حلق جاف وقلب ناقم: شد ما تعذبين أبناءك وتهزئين بهم يا قاسية، فتبقى الصحراء على صمتها الذي لا أثر فيه للحنان، ويضمحل السراب كالوهم الذي افتضح أمره.
فيحمل صاحبنا نفسه بعناد كعناد حب الحياة، ويمشي، والصحراء كأنها بساط لا يطوى وراءه حتى ينشر أمامه، وإذا به يجد نفسه قد أطل على خضرة ونضارة، فيتهم عينيه، ويتهم الصحراء، ويقول في أعماقه: سراب آخر! سراب آخر!
ولكنه لا يلبث أن يدرك الخضرة والنضارة، فيلمس النبات يجادله في حقيقة وجوده، ويرى الماء، فيغمس فيه إصبعه مترددا في أن يصدق اليقين.
غير أن النبات والماء لا ينبسان بكلام، فالوجود حقيقة تقنع بذاتها، واليقين لا يتنازل للشك.
فيكب بشفتيه على الماء، ويغرق براحتيه، فيسقي وجهه وينام على بساط العشب، ويسمع صوتا يأتيه من السكون: «أنا الصحراء! قلت لي من قبل: شد ما تعذبين أبناءك وتهزئين بهم يا قاسية. ولقد أخطأت؛ كنت ظمآن والشمس تلفعك بحرها فتمنيت وتشهيت، فلوحت لك بالسراب فصدقت، فوقعت في الخيبة، وما كان لك أن تصدق السراب، إنه تخييل أمنية تمجدت بذاتها، وشهوة تبجحت بنفسها، وعينين زور عليهما العصب المكدود، وإني لا أكافئ النفوس التي تتوهم، ولقد أقبلت على هذه الواحة وفيها الماء والعشب، فأطفأت من صدرك شعلة مشبوبة، واسترحت على الأخضر اللين، ونسيت أن تفكر، نسيت أن هذا الماء لو لم تتعهده يد لغاض، ولما نبت هذا النبات، ولكانت هذه الخضرة والنضارة زوالا من الزوال، إني أكافئ اليد التي تنشئ وتبدع».
فتحرك العربي وقال: «سمعت الصوت، وعرفت أيتها الصحراء، عرفت فيك السراب، وعرفت فيك الواحة، وفهمت الرمز، فهمت أنك كالحياة أو أن الحياة مثلك، وفهمت أنك كالدهور أو أن الدهور مثلك، سراب وواحة.
أما السراب فجمال هنيهة وعزاء شر من المصيبة، وأينما كنت من بقاع الأرض، وأينما كنت من عصور الزمان، فسأدعو هذا الدعاء: «اللهم جنبني من كل شيء سرابه، وأدخلني منه في الواحة»!»
Page inconnue