ولعلي أعود إلى هذا كله ... على أني لا أدري ما عسى أن أقول بعد حين؛ فقد يمكن أن أستطرد من حديث ديجاس إلى حديث الرقص، وإلى حديث الرسم، فلست أريد أن أترجم له على النحو المألوف، فلست حسن الرأي في التراجم، وهذا لا يدل إلا على أني لم أخلق لها. فليست حياة رجل من الناس آخر الآمر إلا مصادفات يتبع بعضها بعضا، وإلا أجوبة دقيقة أو غير دقيقة لهذه الأحداث أو تلك.
على أن ما يعنيني من حياة رجل من الناس شيء آخر غير هذه الأعراض التي تطرأ له، وليس ينفعني مولده ولا حبه ولا شقاؤه، ولا كل هذه الأشياء التي يمكن أن تلاحظ في حياة الناس؛ لأني لا أجد في هذا كله أيسر الوضوح المقنع الذي تستبين به قيمته الصحيحة، والذي يميزه تمييزا عميقا من الناس جميعا ومني.
ولست أزعم أني لا أميل في كثير من الأحيان إلى هذه التفصيلات التي لا تعلمنا شيئا ذا خطر، ولكن أقول: إن ما يمتعني لا يهمني دائما، وهذه حال الناس جميعا. فلنحذر مما يمتع ويسلي. «بول فاليري في أول كتابه ديجاس ورقص ورسم.»
على نحو من هذا القول كنت أريد أن أبدأ هذا الحديث الذي أستأنفه عن لزوميات أبي العلاء في آخر ساعة من ساعات النهار، وأول ساعة من ساعات الليل، وفي يوم من أيام الصيف الفرنسي على كل حال.
وكانت معان تشبه هذه المعاني تضطرب في نفسي، وتلح في أن تجري على لساني، وأن يثبتها قلم صاحبي في الصحف. ولكني كنت أمانعها أشد الممانعة، وآبى عليها أشد الإباء، وأرفض أعنف الرفض أن أطلب إلى صاحبي إعداد القرطاس والقلم، وأن يستعد للكتابة على حين أستعد أنا للإملاء.
وكنت أوثر على ذلك المضي في قراءة اللزوميات هذه التي أخذت في قراءتها منذ أيام. ولكن هذه الخواطر كانت أقوى مني وأشد بأسا. فقد جعلت تدور في رأسي، وتحاول أن تحرك لساني، وأن تطلق صوتي، حتى ألهتني عما كان صاحبي يقرأ لي من شعر أبي العلاء. فطلبت إليه أن يكف عن القراءة. وصبرت لهذه الخواطر ريثما أحرقت سيجارة أو سيجارتين لا أدري، أريد أن أصرفها عن نفسي. فلما رأيتها لا تريد أن تنصرف بالحسنى أردت أن أصرفها بالعنف.
وكان صاحبي قد أهدى إلي هذا الكتاب من كتب بول فاليري منذ أسابيع، فطلبت إليه أن يأخذ في قراءته لي، مستيقنا بأن حديث هذا الكاتب الفرنسي العظيم عن هذا المصور الفرنسي العظيم، وعما أراد أن يستطرد إليه من الرقص والرسم، سيشغلني عن أبي العلاء ولزومياته، فضلا عن الحديث في أبي العلاء ولزومياته. ولكن أعجب للمصادفات، وأعجب لقول فاليري نفسه: إن حياة رجل من الناس ليست إلا سلسلة من المصادفات. وأعجب لقول أبي العلاء نفسه في أول اللزوميات: إنه إنما قال ما قال بقضاء لا يشعر كيف هو.
فلم أكد أسمع لمقدمة بول فاليري حتى رأيت خواطري مصورة، ومعاني ممثلة، وحتى خيل إلي أن هذه المعاني والخواطر قد قامت أمامي ضاحكة مني، هازئة بي، تقول: لقد حاولت أن تكظمنا وتكتمنا فلم تفلح ولم توفق، وحاولت أن تفر منا إلى هذا الكتاب فإذا نحن نطالعك، وإذا أنت تطالعنا في أوله فأذعن للقضاء، وخذ في الإملاء.
هنالك لم أر بدا من أن أترجم هذه الصفحة من صفحات بول فاليري، ومن أن أستعيرها بدءا لهذا الحديث. والغريب الذي لم أكن أتوقعه ولا أفترضه أن كثيرا من صفات هذا المصور الفرنسي، الذي كنت أسمع اسمه، وأجهل من أمره كل شيء، تشبه ما ألفت وأحببت من صفات أبي العلاء. فشدة الرجل على نفسه إلى أقصى غايات الشدة، وشك الرجل في مقدرته إلى أبعد آماد الشك، وارتياب الرجل بأحكام الناس في أمور الفن، وزهد الرجل في الشهرة وبعد الصيت، وفي الثراء وسعة ذات اليد، وانصرافه عن الحمد الكاذب، والثناء الرخيص، وتأجيله لذة الظفر بالفوز، وخلقه المصاعب لنفسه، وبغضه للطرق القصار والأبواب الواسعة، وإيثاره الطرق الطوال والأبواب الضيقة. كل هذه الخصال التي يحدثنا بها بول فاليري عن صديقه وأثيره ديجاس؛ قد حدثتنا بها القرون والأجيال عن أبي العلاء، إلا أن الأول كان مصورا رساما، والآخر كان شاعرا حكيما.
وما قضيت العجب، وما أظنني سأقضيه من توافق هذه المصادفات، وتوارد هذه الخواطر! ولولا أني قد شهدت ذلك بنفسي وخضعت له، وتأثرت به لما صدقته، ولا اطمأنت نفسي إليه. وإني لأعذر قارئا إن شك في صدق هذا الحديث، وظن - فيما بينه وبين نفسه، أو فيما بينه وبين الناس - أني قد قدرت له ذلك تقديرا، وموهته عليه تمويها.
Page inconnue