Discussions Scientifiques et Sociales
مباحث علمية واجتماعية
Genres
أراني ركبت متن الخيال في قولي إنها تريد أن تمهد له سبل السعادة على هذه الأرض. والأولى أن أقول إنها تريد أن تقلل من ويلاته، فتضمن له حاجاته وتصون حقوقه بعد أن تفرض عليه واجباته، وترفعه من تحت مواطئ الأقدام إلى مقامه كإنسان، وتعلمه أنه عضو من الاجتماع لا يجوز أن يبقى عالة عليه غير نافع، وأنه عامل فيه لا يجوز أن يبقى غير منتفع، وأن تبادل المنفعة ينبغي أن يكون على قدر العمل.
هذا هو مبدأ الاشتراكية، ومن ظن غير ذلك فهو واهم، وهذا هو المبدأ الذي أدافع عنه، فهل فيه مأخذ علي لعاقل، أو مظنة بي لجاهل؟
والاشتراكية ترجمة لفظة سوسياليزم الإفرنجية، وضعها كتابنا الأولون وجرى عليها الجمهور. وهي خطأ في التعريب جر معه خطأ أعظم في الفهم والصواب. الاجتماعية من الاجتماع، أي العمران، وأصحابها الاجتماعيون، ولكننا جاريناهم هنا عملا بالمثل القائل: «خطأ مشهور خير من صواب مهجور.»
وهي ليست مذهبا من المذاهب، بل هي نتيجة لازمة لنظر الإنسان في الاجتماع. وهي قديمة كالاجتماع نفسه، ومثبوتة في تعاليم الفلاسفة وسائر المصلحين في جميع العصور . وكلما ارتقت مدارك الإنسان وزاد اختباره زادت انتشارا واقتدارا، وهي لا تعلم اقتسام المال (كن مطمئنا على ثريوتك أو ثريتك، ما شئت وما شاءت النحاة تصغير ثروة)، بل العدل في تقسيم المنفعة بين العمل ورأس المال.
ولا بد لي قبل التوسع في الموضوع أن أزيل وهما وقع لك، واحذر أن يجرك ذلك إلى وهم آخر لا أقصده، فلا أعود أعرف كيف أتخلص منك وأنت كشبكة الصياد.
فأنا لم أقم «في الأخبار» للمدافعة عن خطة، بل عن مبدأ أعتبره مشتركا بين سائر المصلحين - والاشتراكيون أعظمهم اليوم - وهو إصلاح مركز الإنسان في العمران، وما دفعني إلى ذلك إلا ما كتب هناك مما يوهم أن الاجتماع على هدى، وأن الاشتراكيين يدفعونه إلى الضلال؛ لئلا يكون لذلك تأثير سيئ في الأفكار المتقلقلة التي تحتاج إلى تنشيط، فيجبنها عن التوغل في فيافي هذه المباحث، ويرميها في الجمود.
ولذلك لم أقف عند الأسماء، ولم أبخس أحدا حقه، فساويت بالفضل بين جميع الذين ناهضوا الاجتماع في سائر أطواره بقصد الإصلاح من الفلاسفة المصلحين إلى دعاة الأديان أنفسهم، ولم أنكر فضل أولئك الذين تطوعوا في هذا الجهاد، فكانوا كالأعضاد فيه، ولو أنهم أتوا أحيانا أعمالا مشجوبة قضت عليهم، وذهبوا فيها شهداء نظام الاجتماع.
ولا ريب أن الاشتراكية هي الدعوة المنصبة نحوها الأفكار، والمعقود عليها الآمال اليوم. وهي وإن كانت متفقة في الغاية إلا أن فيها اختلافا كثيرا في الآراء، شأن كل فئة في دعوة مثل هذه كثيرة العقبات، وأي مذهب من المذاهب الكبرى، علميا كان أو فلسفيا أو دينيا، لا تكثر فيه المسائل الخلافية من دون أن تمس جوهره بشيء.
ولذلك رأيت أن البحث في هذا الموضوع الشاسع الأطراف البعيد المرمى، لا يأمن صاحبه الزلل والخبط في تيه فيافيه، إن لم ينخعه من أقوم السبل وأصحها، وأي أصح من رد الشيء إلى أصله ووضعه في محله؟
فالاجتماع طبيعي هو وكل ما فيه مستفاد من الطبيعة، والنواميس التي تسوس نظامه هي نفس نواميسها، وأعظم هذه النواميس اثنان؛ أحدهما يوجب التنازع، وهو تكافؤ القوى في العمران كتكافئها في الطبيعة. والآخر يوجب الارتقاء، وهو تكافل العمران بتوفير قواه كتكافل العالم أجمع بتوفير قواه في ارتقائه.
Page inconnue