Discussions Scientifiques et Sociales
مباحث علمية واجتماعية
Genres
على أني لا أعلم، كيف أن الدين الذي فيه مثل هاتين الآيتين: «حب قريبك كنفسك، وحب الله فوق كل شيء.» و«كما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضا بهم.» الجامعتين فيهما كل واجبات الإنسان نحو ربه ونحو قريبه؛ يجوز أن يقال فيه مثل قول أديبنا السويفي من أنه دين شرك بالله ودين خراب في الدنيا، ولا أناقشه في اللاهوت؟ ولعل له في علم الاقتصاد نظرا جديدا يخالف قولهم: «الإنسان مدني بالطبع.» ويعلمنا أن «التكافل في العمران غير التكافؤ في قواه»، فتعمر حينئذ الدنيا عنده بالتفريق والتخاذل والاكتفاء والانفراد والاستئثار، فيتألف المجتمع بانفراط عقده - وما هي إلا لآلئ منثورة - ويتقدم تقدما سرطانيا متباريا في مشي القهقرى، حتى يبلغ ما بلغنا إليه في هيئتنا الحاضرة من الارتقاء الدركي (وإن شئت إلا الموضة اليوم فالرقي)، الذي صارت سماؤنا فيه كسماء خيل المعري وهي تعب، وصارت عقولنا فيه أضيق من دوائر جماجمنا، ومرامي نظرنا أقرب من أرانب أنوفنا منا. وهل قارئ كتب مثل هؤلاء الأساطين في العلم والأدب والفلسفة الذين ذكر لنا أسماءهم يجوز له - مع كل سعة هذا الاطلاع - أن يقف في فهم كلامهم على مثل هذا الاكتفاء؟ وما هو لعمري لو درى إلا مثل اكتفاء القارئ في قوله:
فويل للمصلين . على أن غرضنا هنا ليس هذا، فما باله يدفعنا للنظر في حقيقة الأديان والمفاضلة بينهما، ولم نقصد في كل ما كتبنا إلا مصلحة العمران بالتوفيق بينها وبين أصول الأديان بما تراءى من الإمكان؟ وهل في مقالتنا الأولى غير ذلك حتى يقوم علينا المسيحيون يتهموننا في أننا تعرضنا للدين المسيحي، والمسلمون يناقشوننا في المفاضلة بين الدينين؟ إنها لمصيبة.
وقبل أن ننتهي من هذا البحث أريد أن أجاري حضرته مجاراة كلية للوصول إلى النتيجة المترتبة على كلامه، والتي وقف عندها. فأنا أسلم له جدلا ب «أن العالم المسيحي [كما يقول] لم يرتق إلا بعد احتكاكه بالعرب، وأن المسيحية عثرة في سبيل الارتقاء، وأن الإسلام هو موجد هذه المدنية الباهرة.» فقط يبقى عليه أن يقول لنا لماذا إذن أتباع النصرانية ساروا في مضمار التمدن شوطا بعيدا، وأتباع الإسلام وقفوا متقهقرين؟ فإن قال إن الأسباب اجتماعية، عدنا إلى حيث افترقنا وكنت مصيبا. ولعله لا يقول غير هذا القول؛ لئلا يجني حينئذ جنايتين على العمران وعلى الدين نفسه. أم هو يريد بهذه المغالطات التمويه حتى يبقى حجاب الجهل مسدولا على عقول الناس؛ ليبقوا كما في قوله:
صم بكم عمي فهم لا يرجعون ؟ أما نحن فنميل إلى ما هو أدعى لمصلحة العمران من مثل قوله:
وما جعل عليكم في الدين من حرج ،
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر . وهذا ينطبق كل الانطباق على ما رمينا إليه في مقالتنا الأولى إنارة للأذهان؛ لكي يعلم الجميع على السواء
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
ننشر هنا المقالة التي أشرنا إليها في هذا الرد، والتي نشرت في المؤيد بتاريخ 30 مارس سنة 1908 دعما لمقالنا، ولو أنها ليست لنا؛ لما فيها من الفائدة في هذا الموضوع؛ حسما لهذه المسائل الخلافية التي يتذرع بها المتنطعون في الأديان لإثارة الفتن بينهم. وقد نشرت بتوقيع «محمد صادق الجيزاوي»، وهو - في علمنا - اسم مستعار، ولولا أننا لم نستأذن صاحبها لصرحنا باسمه الحقيقي، وهو من خيرة علماء المسلمين وأفاضلهم، وهذا نص هذه المقالة مع بعض حذف.
كلما خمدت زادوها سعيرا
من أجل كرومر قامت في هذه الأيام ضجة دينية بين المسلمين والنصارى في هذه البلاد؛ فالمسلمون قد فرحوا إذ ظنوا أنهم قد فازوا على كرومر بقولهم كما قال، وصولتهم في التبشير والتنفير كما صال؛ والنصارى لم يجدوا من الذوق أن يجادلوا في بعض ما سمعوه عن دينهم؛ لعلمهم بأن كرومر تخطى الحدود، وأتى بما لا ينتظر من مثله، فأحرج صدور إخوانهم.
Page inconnue