Discussions Scientifiques et Sociales
مباحث علمية واجتماعية
Genres
فالاجتماع البشري هو الجدير بأن يسمى حيوانا مريدا متراضيا. وهنا مكان الوفاق بين مذهب الطبيعيين في الحيوان الاجتماعي ومذهب العقليين في العمران، فالواحد إنما يبين أصل الاجتماع والثاني غايته، والصحيح أن الواحد لا ينبغي أن يفصل عن الآخر؛ فتاريخ الاجتماع كله قائم بالشوق البسيط أولا، والتراضي أخيرا باستمالة الواحد إلى الآخر، ولا ريب أن ذلك تاريخ العالم أجمع. فالأفعال في الطبيعيات عمياء والسنن ثابتة، وهي بالحصر كذلك في العقليات، وإنما اكتسبت في هذه من القابليات ما جعل فعل الإرادات التي صارت عاقلة أظهر فيها؛ فارتباط أعضاء الاجتماع بعضها ببعض اختيارا كارتباط أعضاء الحيوان بعضها ببعض اضطرارا. •••
ومرجع أبسط صفات الحي إلى الحس والحركة، وهاتان الخاصتان هما بالحصر الحياة. والظاهر أن الحس والحركة هما أيضا صورتان لشيء واحد؛ إحداهما باطنة والأخرى ظاهرة، فهما أشبه شيء بالمقعر والمحدب. فالحس هو الكيفية التي تتصل الحركة بها إلى مشاعرنا الباطنة، والحركة الكيفية التي يتصل الحس بها إلى المشاعر الظاهرة. حرك ذراعك وأغمض عينيك، فإنك تدرك الحس لا الحركة، بخلاف الناظر إليك فإنه يدرك الحركة لا الحس. فالحس إذن هو إدراكنا الحركة الحاصلة فينا، والحركة هي إدراكنا الحس الحاصل في سوانا. والأصل الذي يرجع إليه الحس والحركة هو القوة، أو بالحري الإرادة التي هي أس كل وجود، وكل ما نعلمه يحملنا على الاعتقاد بأن الحس موجود في العالم، حيث توجد الحركة على صور تتفاوت في الوضوح والخفاء. ولا يخفى أن الفاصل بين الحيوان والنبات يعتبر اليوم صناعيا لا حقيقيا، والظاهر أنه كذلك أيضا بين النبات والجماد.
4
نعم إنه لم يستطع أحد أن يولد كرية حية من كرية غير حية، لكن هل يستطيع أحد أن يولد دقيقة من الكبريت من غير الكبريت، أو دقيقة من الأكسيجين من غير الأكسيجين، أو من مادة لا أكسيجين فيها؟ أم هل يلزم من ذلك الاعتقاد ببساطة الأجسام الكثيرة المسماة عناصر؛ ومن ثم القول بخلق خاص لكل من الكبريت والأكسيجين والكربون والهيدروجين والحديد والذهب ... إلخ؟ وهل يلزم كذلك القول بقوة خاصة لكل دقيقة معدودة في الكيمياء بسيطة شبيهة بالقوة الحيوية؟ فالعلم يميل إلى ضد ذلك؛ أي إلى التسليم بأن الجواهر الفردة الكيماوية ليست غير قابلة الانقسام قطعا، وإنما لا تقبله مع بقاء خصائصها فيها على حالها، كما أن الجسم الحي لا يقبله مع بقاء خصائصه فيه. كذلك الإنسان؛ فإنك لو شطرته شطرين ما بقي إنسانا، فهو من هذا القبيل جوهر فرد، وأما من قبيل آخر فهو اجتماع. •••
فهذه الاعتبارات تدلنا على أن الحياة موجودة في الطبيعة حيث توجد الإرادة على درجات متفاوتة، تارة هاجعة خفية كما في الجماد، وأخرى متنبهة ظاهرة كما في النبات، وطورا متمالكة متعارفة كما في الحيوان، وأخيرا متكاثرة متقوية باشتراك الإرادات العاقلة كما في الاجتماعات والممالك. فالحياة كالأزوت تتحول من حال إلى حال مرتقية من أدنى إلى أعلى، إلى أن تبلغ أرفع مقاماتها المعروفة. ألا ترى أن الفعل المسمى طبيعيا كالحرارة والكهربائية لا يغير إلا أعم خصائص الأجسام، فإذا زاد عن حد معلوم تحول إلى الفعل المسمى كيماويا الذي يغير تركيبها وهو هو في الحالين، ولم يتغير إلا في الكمية؟ ولو كان في إمكاننا أن نفعل على ما هو أدق تركيبا، ونسلط على الأجسام حالة خصوصية من الحرارة أو الكهربائية أو الحركة؛ لاستطعنا أن ننبه الحس، ونوقظ الحياة أو الإرادة من نومها العميق. فقد مر على الكون زمن كان فيه النظام الشمسي مشتعلا، ولم تكن العوالم سوى دخان، ومع ذلك فلا يبعد أن شرارة الحياة كانت موجودة في هذا الأتون الملتهب؛ لأنه ما لبث أن برد حتى ظهرت الحياة فيه. فالذي لا يعتقد المعجزات، أي الذي لا يعتقد إلا العلم، لا تفرق الحياة عنده عما يسميه المادة، التي هي نفسها ليست سوى مجموع قوى أو إرادات. فكل شيء في العالم حي، وكل شيء فيه فرد واجتماع معا. فعلم الحياة وعلم الاجتماع وعلم التكوين هي بالحقيقة علم واحد، والعالم نفسه مملكة عظيمة في حال التصور، وربما يظهر فيه يوما ما على صورة الفكر والإرادة العاقلة، كما ظهر فيه في الأصل على صورة حرارة أو حركة أو قوة. •••
على أن الحكماء والطبيعيين غير متفقين على النتيجة السياسية المتحصلة من التاريخ الطبيعي. بسبب ذلك حصل نزاع شديد بين اثنين من كبار الطبيعيين والحكماء في هذا العصر، وهما هكسلي وسبنسر الإنكليزيان. فهكسلي يكره جدا تشبيه الاجتماعات بالأحياء لاستخراج القواعد السياسية من ذلك؛ لأنه يزعم أن التاريخ الطبيعي لا يدل إلا على السياسة الاستبدادية. وأما سبنسر فيذهب غير مذهبه، حيث يقول إن التاريخ الطبيعي يدل على السياسة الحرة. ولا ينكر أن هكسلي مصيب في تنكره من التهافت على الاستقراء السريع؛ لأن علم الحياة وإن كان يعلمنا على نوع ما هو الجسم السياسي، وكيف صار إلى ما هو عليه؛ إنما لا يركن إليه في معرفة ماذا يصير إليه يوما ما. والعقل البشري أرفع من أن يتخذ الأحياء الدنيا مثالا له، وينقاد لها انقيادا أعمى. ومن الخطأ أيضا الاعتماد على مشابهة ظاهرة ناقصة، كما يفعل كثير من السياسيين ممن يبالغ أو يخطئ في استدلالات التاريخ الطبيعي، مبينين فضل الحكم الملكي بمثال النحل، أو فضل الحكم الجمهوري بمثال النمل. إنما لا ينكر أيضا أنه لا يجب أن يغفل أدنى شيء في هذا الوجود، حيث كل شيء ذو شأن.
فتمثيل الجسم الاجتماعي بالحي يؤدي، في نظر هكسلي، إلى حصر الحكومة في مركز معين حصرا شديدا، حيث يقول: «إن الدماغ يفتكر للجسم كله، ويشتغل له، ويحكم فيه حكما مستبدا، وإلا لكان يحق لكل عضلة في انقباضاتها، ولكل غدة في مفرزاتها، ولكل كرية في أفعالها؛ أن ترفض كل حق للجهاز العصبي في ذلك بشرط ألا تضر بسواها. وكيف تكون حالة الجسم يا ترى لو كان كل عضو من أعضائه يفعل أفعاله من نفسه؟» ورد عليه سبنسر أن الأعضاء قسمان: ظاهرة وباطنة. فإذا كانت القوة المنحصرة لازمة للظاهرة فليس الأمر كذلك في الباطنة؛ فهي تحتاج فقط لما فيها من القوة الغريزية، ولا تطلب من الغذاء إلا المقدار اللازم لتعوض به عن العمل الذي تعمله، وهذا هو العدل في الأحياء. والأمر كذلك في العمران؛ فإن الناس المحاربين في الخارج، والذين هم بمثابة أعضاء النسبة الظاهرة في الحي، يحتاجون ضرورة إلى حكومة مركزية تدبر أمرهم. وأما الذين في الداخل، القائمون بحركة التجارة والصناعة، والذين هم بمثابة أعضاء التغذية والدورة الباطنة؛ فبالضد من ذلك يحتاجون إلى الحرية. فاحتياج الاجتماع إلى حكومة حرة أو مستبدة يختلف باختلاف كونه مؤلفا من أمة متعلقة على الصناعة أو الحروب. فعلم الحياة لا يدل على الفوضى، كما يتوهم بعضهم، كما أنه لا يدل على الاستبداد.
وتداخل الحكومة ضروري في كل الأحوال، إنما هذا التداخل، كما يقول سبنسر، نوعان: موجب وسالب. فالموجب كما لو زرعت الحكومة أرضي، أو أكرهتني على اتباع طريقة معلومة في الزراعة. والسالب كما لو اقتصرت فقط على ردعي عن التعدي على أرض جاري، وإلحاق الضرر به. وهذا النوع الأخير من التداخل هو اللازم في الجسم الاجتماعي، فلتضمن الحكومة تنفيذ المعاهدات؛ أي العدل. وهكذا تكون قد تممت الوظيفة المطلوبة منها. قال الاقتصادي هويتلي: «إن أهم الأفعال التي تقوم بها حياة المملكة تتم بواسطة أناس لا يفتكرون بها، ولا يعلمون أنهم متشاركون، بل يسعى كل منهم وراء مصلحته فقط، وتتم بضبط واعتناء وانتظام لا يصل إليه جهد أفضل المنتبهين.» فلو فرض أن رجلا عهد عليه أن يقدم كل يوم لمدينة كبرى، كإحدى العواصم المعروفة، كفافها من الزاد وسائر ما تحتاج إليه؛ لما أمكنه القيام بهذه العهدة؛ لكثرة الاحتياجات المذكورة واختلافها. ولو ألقيت هذه العهدة إلى حكومة لما تم لها القيام بها بانتظام، ولأنفقت عليها النفقات الباهظة؛ إذ يحصل حينئذ ما يحصل لو كان الدماغ مكلفا بالانتباه لكل ما يلزم لتمثيل الدم، ولدورته في البدن، ولإخراج كل مفرز من غدته. فغذاء كل مدينة يصل إليها يوميا بدورة ذاتية، حركاتها منتظمة كحركات النبض. وتداخل الحكومة الموجب لا تكون له نتيجة سوى تعاقب الشبع والجوع على المدينة، وتداخلها السالب يضمن لها حياتها؛ إذ تستقيم معه حركة أسواقها، ويصبح أناسها في مأمن، بعضهم من بعض، في أعمالهم وسائر أحوالهم. فتعاون الناس بعضهم مع بعض، بحيث لا يرفع أحدهم نظره إلى ما وراء مصلحته، كاف لأن يفعل في صلاح حال العمران ما لا تستطيعه حكمة أعظم الحكماء، وانتباه أعظم الحكومات. •••
ولقائل: «إن الأفعال التي يفعلها الأفراد تحت عامل المنفعة الذاتية وإن كانت كافية في الاحتياجات المادية إلا أنها ليست كذلك في الاحتياجات التي من غير هذا المعنى.» فعلى ذلك يجيب سبنسر أنه من الخطأ أن يظن أنه لا يوجد خارجا عن المنفعة الذاتية إلا قوة اجتماعية، وهي قوة الحكومة. أليس للبشر ما عدا احتياجاتهم الذاتية احتياجات حبية، وهذه سواء فعلت وحدها أو اشتركت ألا تحدث أفعالا جليلة كالأفعال الحاصلة عن المنافع الذاتية؟ أتريد أن تعرف الأفعال الاجتماعية للمحبة منفردة كانت أو مشتركة؟ انظر إلى أعمال أهل البر والإحسان الصادرة عن الأفراد أو عن جمعيات خصوصية لا يد للحكومة فيها.
فالمنفعة والمحبة في نظر سبنسر كافيتان وحدهما للقيام بكل احتياجات الجسم الاجتماعي، كما أنهما تكفيان لاحتياجات الجسم الحي، والحكومة لا يطلب منها إلا أن تؤدي وظيفة شبيهة بوظيفة الدماغ؛ أي أن تكون النائبة عن الأمة في احتياجاتها المنفعية والحبية سالكة في ذلك سبيل العدل. فدماغ الحيوان مقر لنيابة حقيقية عن الجسم كله يلزم أن تكون نموذجا للحكومة. والأمر بالحقيقة كذلك؛ فإن الأعضاء ترسل أنباءها إلى الدماغ، وتحصر فيه لذاتها وآلامها، وتشكو له حاجاتها، وتخبره باختلال أحوالها. كأن الجسم كله مختصر فيه. ووظيفة الدماغ الصحيح، كما يقول سبنسر ، هي التعديل بين المصالح المختلفة الطبيعية والعقلية والأدبية والاجتماعية، وذلك هو وظيفة الحكومة المطلوب منها التعديل بين مصالح البشر المختلفة، بحيث إن كلا منهم ينال حقه بدون أن يضر بالآخر. •••
Page inconnue