7
وله فضل كبير في نشر الفلسفة بين الناس بمؤلفاته العديدة ولا سيما الإلهيات والمنطق، هذا إلى كثير من أمثال هؤلاء الفلاسفة؛ كالبيروني، وابن مسكويه، وابن الهيثم.
وقد كان انتشار الفلسفة بين المسلمين في القرن الثالث والرابع والخامس للهجرة سببا في حركة جديدة قام بها المتكلمون - علماء الكلام - يريدون بها مقاومة تعاليم أرسطو وأفلاطون والأفلاطونية الحديثة المتعلقة بالإلهيات، أو الرد عليها ودحضها، فنشأ من ذلك أبحاث كلامية كثيرة، فبحثوا في العلة والمعلول والزمان والمكان والحركة والسكون، والجوهر الفرد والدور والتسلل ونحوها، ولم تكن ردودهم موجهة إلى الفلاسفة فحسب، بل إلى كل من خالف سنتهم من معتزلة وزنادقة وفلاسفة وظاهرية وحنابلة، ومن أعلام هذه الطريقة: أبو الحسن الأشعري، وإمام الحرمين، والباقلاني، ولكن أحدا منهم لم يخص الفلسفة بالطعن ولا رد عليها من جميع جهاتها حتى جاء الغزالي 450-505ه، فدرس الفلسفة اليونانية درسا دقيقا - كما حدث هو نفسه - ثم حمل عليها حملة شديدة من جميع جهاتها، وألف في ذلك كتابه المشهور (تهافت الفلاسفة)، وكفر الفلاسفة لبعض تعاليمهم، وأظهر منافاة الفلسفة لتعاليم الدين، ودعا الناس إلى الرجوع إلى دينهم الصحيح الخالي من الفلسفة، ورغب في التصوف، وأبان أنه الطريق الحق إلى الله، وكان بليغا في قوله، مخلصا في حديثه، سهل العبارة، قوي الحجة، فأثر ذلك في المسلمين أثرا كبيرا، وكان من آثاره أن حول الناس عن الاشتغال بالفلسفة، ورجعهم إلى الكتاب والسنة، وأعلى شأن التصوف والصوفية وحبب ذلك إلى الناس، وسار على طريقة الغزالي كثيرون من بعده.
هذا مجمل حال الفلسفة في الشرق، أما في المغرب - أعني في الأندلس وشمالي إفريقية - فقد أزهرت الفلسفة حينا أكثر من إزهارها في الشرق، وكان فلاسفة الأندلس والمغرب أكثر ابتكارا من فلاسفة المشرق، وكان يندر بين مسلمي الأندلس الخلاف في العقائد والمذاهب كالذي كان عند المشارقة، فكلهم - إلا القليل - مالكي سني، أخذوا الفلسفة عن أهل المشرق؛ فقد كان منهم رحل إليه، رحلوا عن طريق القاهرة وأمعنوا في الرحلة حتى إلى فارس وانتفعوا بعلومهم، وجاء الحكم الثاني 350-366ه فبعث في شراء الكتب إلى الأقطار رجالا من التجار، فجمعوا إليه كتبا جمة، فاشتغل الأندلسيون بالرياضة والعلوم الطبيعية والتنجيم والطب بعد أن نقلت إليهم كتب الفارابي ورسائل إخوان الصفا وطب ابن سينا. وقد تعاون المسلمون واليهود معا على الاشتغال بالفلسفة في الأندلس، ولم يلبث أن نبغ منهم كثيرون، مع مقاومة العامة وأشياعهم مقاومة أشد من مقاومة المشارقة.
ومن أشهرهم: (1)
ابن باجة، وقد اتبع تعاليم الفارابي. (2)
وأبو بكر بن طفيل، مات سنة 531ه، وصل إلينا من تآليفه رواية (حي بن يقظان)، وكان بطلها «حي» يعيش في جزيرة لا يسكنها أحد من الناس، وليس له علاقة بأحد من أهل الجزائر الأخرى، بحث بعقله بحثا منطقيا متدرجا من البسيط إلى المركب حتى وصل إلى الاعتقاد بالله، وغرضه فيها أن يبين أن الشرع يتفق مع العقل. وقد ترجمت إلى اللاتينية وظهرت سنة 1671م وسنة 1700، ولم يمض على ظهورها عشرون سنة حتى ظهرت رواية روبنصن كروسو.
8 (3)
ابن رشد، وهو أشهر فلاسفة الأندلس على الإطلاق 520-595ه، كان يعد أرسطو أكبر الفلاسفة، وقد شرح تعاليمه حسبما وصلت إليه، ودافع عن الفلسفة وألف كتابه (تهافت التهافت) ردا على الغزالي في طعنه على الفلسفة، وأبان في كتب أخرى أن الفلسفة لا تناقض الدين، وألف في ذلك كتابا صغيرا سماه (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال)، وأكثر مؤلفاته لا توجد بالعربية، وإنما موجود ترجمتها، من ذلك شرح أقوال أرسطو مع الرد على الغزالي، رتبت وطبعت باللاتينية في البندقية سنة 1560م، في أحد عشر مجلدا، وترجم له كتاب في الطب طبع كذلك في البندقية، وله كثير من المؤلفات مترجم إلى اللغة العبرانية، وكان لفلسفته شهرة في الكنائس والمدارس الأوروبية منذ القرن الثالث عشر الميلادي - السابع الهجري.
وبانتهاء القرن السادس الهجري تقريبا وقف المسلمون عن البحث الفلسفي والنظر في العلوم الكونية، ولم يكن العلم إلا نقلا، فالمؤلف ينقل عمن قبله فحسب، حتى لا تكاد تجد في كتاب جملة ذات معنى جديد، والمعلم إنما يعلم ما سمع من أساتذته، والاختلاف الذي يظهر بينهم إنما هو اختلاف في الشكل لا في الجوهر - وليس ثمة مجال للبحث في أسباب ذلك - ولم ينبغ منهم نابغ مبتكر ذو شخصية ظاهرة إلا ابن خلدون المتوفى سنة 808ه؛ فإنه بإجماع الشرقيين وكثير من الغربيين مخترع فلسفة التاريخ أو علم الاجتماع، وأكبر الباحثين فيه في الشرق والغرب إلى القرن التاسع عشر الميلادي، فبحث في «أحوال العمران»؛ في الملك والكسب والعلوم والصنائع بوجوه برهانية، وكما قال هو في مقدمة كتابه: «إن كثيرا قبله حوموا على الغرض ولم يصادفوه ولا تحققوا قصده ولا استوفوا مسائله.» وأمل ممن يأتي بعده أن يستمروا في البحث ويضعوا ما فاته من المسائل، وقد تحققت أغراض ابن خلدون، ولكن لم يكن الذي حققها هم المسلمون، بل أوجست كومت وسبنسر وأمثالهما، «وكما كان ابن خلدون في هذا الموضوع هو السابق، فلم يكن له بين المسلمين لاحق.»
Page inconnue