17
فتداعت عقائد القرون الوسطى الجافة، ونبذت آراؤها، وأهمل الجدال في عالم الغيب، ولكن لم تكن الآراء الجديدة قد استقرت بعد، بل كانت في طور التكون. وقد كانت الفلسفة في طور تكونها تنظر إلى الماضي، ولست أعني ذلك الماضي القريب الذي كانت هي على وشك أن تفارقه، وإنما أعني الماضي البعيد وعهده القديم - عهد الإغريق والرومان - واعتاضت بما وجدته في ذلك العهد من عقائد القرون الوسطى، «وبذلك جرت الفلسفة في مجرى النهضة ومذهب الإنسانية، وسار ذلك المجرى من إيطاليا فعم العالم المتمدن كله»
18
وقد ذكرنا قبل أن الفلسفة الحديثة من عهد النهضة كانت أميل إلى الاتجاه نحو الطبيعة، وكان الفكر الحديث - بدافع الروح اليونانية - منصرفا إلى الطبيعة وعلومها ينظر فيها نظرا غير متحيز، كما كانت الحال عند الإغريق، وبعثت الأفكار اليونانية على الرغبة في تعرف العالم من جديد، وحق ما قيل: «إن الذي يقصد إلى الفلسفة الطبيعية أو الفنون والآداب كذلك لا بد أن يعرج على اليونان.» هذا ولم تكن الفلسفة الحديثة طبيعية فحسب، بل كانت فردية أيضا؛ فقد كان من خواصها لفت عقل الفرد وتحريره من رق الإيمان، وكان من أغراض الحركة الحديثة تقرير حق الأفراد في الحكم على الأشياء، والترخيص لكل فرد أن يبحث أي شيء وينتقده، غير مقيد في ذلك بأية سلطة خارجية، وعلى الجملة فقد تقرر أن يكون لعقل الفرد القول الفصل في الحكم على الأشياء، وبذلك فشا الاعتقاد بأن العقل قادر أن يحل كل ألغاز العالم ويصل إلى أبعد أسرارها، وعلى هذا الأساس بنى ديكارت وسبينوزا وليبنتز نظمهم الكبرى «فيما بعد الطبيعة»، ويسمى مذهبهم مذهب «العقليين».
وهذا الميل إلى إخضاع كل شيء لبحث العقل أدى إلى وضع العقل نفسه تحت البحث، فصار كل من العالم المادي والعقلي خاضعا للنظر والامتحان، وكان الشأن في العصور الحديثة كالشأن عند اليونان؛ ففي كليهما جاء أولا عصر النظر في الكون، ثم شفعه عصر النظر في الإنسان نفسه، فتوجه النظر في البحث في أصل معرفة الأشياء، وتحول مجرى الفكر إلى الأبحاث النفسية - السيكولوجية - وأخذ الإنسان يسأل: ما أصل المعرفة والإدراك؟ وما منبعهما؟ آلعقل أم التجربة؟ بحث في هذه المسائل وأمثالها «جون لوك» الذي نهج منهج «ديكارت» واختار كسلفه «بيكون» أن أصل المعرفة التجربة لا العقل، وانتشرت نظرية «التجريبيين» القائلة بأن المعرفة مستقاة من التجربة في إنجلترا، كما انتشرت نظرية «العقليين» القائلة بأن أساس المعرفة العقل فيما عدا إنجلترا من ممالك أوروبا.
وقد قارن «فلكنبرج» بين خصائص العقل في الممالك الثلاث الكبرى التي كان لها الحظ في الفلسفة من عهد «ديكارت» إلى عهد «كانت» فقال: «إن الفرنسي تغلب عليه حدة الذهن، والإنجليزي البساطة والوضوح، والألماني التعمق والتفكير، ففرنسا منبت الرياضيين، وإنجلترا منبت العمليين، وألمانيا منبت المفكرين النظريين، فالأولى موطن الشكاك المرتابين، كما أنها موطن المتحمسين، والثانية موطن العمليين الواقعيين، والثالثة معهد المثاليين.»
وقد جاء بعد «لوك» «دافيد هيوم» - وهو من أكبر من يتجلى فيه مظهر الفكر الإنجليزي من حيث العمق والثبات - فرقى ما قاله «لوك» في التجربة، وأوصله إلى فلسفة الشك
19
والفلسفة الوضعية،
20
Page inconnue