12
في فلورنسا، ولكن مضى عليها عدة قرون من يوم أن فارقت مدينة النيل (الإسكندرية) وهي تسير في ثلاث شعب متوازية إلى أن صبت مياهها الزاخرة كلها في مدينة نهر الأر (فلورنسا) مركز النهضة، فهناك تقابلت الروح الغربية والبيزنطية والمدنيات اللاتينية النصرانية، وسال بها الوادي ففاض على أوروبا بأجمعها.
قال ج. ب. أدمس في كتابه (المدنية في القرون الوسطى): «إن الأحوال السيئة التي سادت في أوروبا في القرون الوسطى الأولى من جراء غارات التيوتونيين فأخمدت نور العلم الذي كان عند الأقدمين صارت إلى الزوال ... وجرت حوادث عظيمة وظهرت أفكار جديدة في التجارة والاستكشاف وفي السياسة انتشرت بين الناس بالعدوى، فكانت تزيد في نمو العقل البشري يوما بعد يوم.» وابتدأ الإنسان يتحقق من أن وراءه تاريخا هاما يستطيع أن يتعلم منه مسائل كثيرة؛ وذلك أن العقل لما أدركه الإعياء من التقاليد الجافة التي كانت في القرون الوسطى، وأحس بثقل أغلال الكنيسة التي كانت تمنعه من أن يفكر لنفسه، ولى وجهه شطر الأفكار والعلوم اليونانية يدرسها، وفعل ما فعله المشارقة في الإسكندرية لما أن شغفوا بالآداب اليونانية، وابتهج المتعلم في القرون الوسطى برفع النقاب عن عالم الفكر اليوناني لما رأى فيه من غنى وجمال، فجاء عصر جديد وثني أكثر منه نصرانيا يناهض المدنية النصرانية في القرون الوسطى، حييت فيه المذاهب الفلسفية القديمة، وعادت الفلسفة الأفلاطونية فبزغت في سماء إيطاليا بعد أن مر على غروبها في الإسكندرية عدة قرون وهي محتجبة في خبايا الأديرة، وبعثت أكاديمية أثينا
13
في رياض فلورنسا (انظر: «دريبر» في كتابه الرقي العقلي)، وأخذ الفلاسفة ينظرون بشوق إلى الأزمان الوثنية الجليلة!
سار الإصلاح الديني جنبا لجنب مع الحمية لمدنية اليونان والرومان في الفنون والعلوم، وجاء المجرى الجديد الذي سال من بيزنطية - القسطنطينية - فمر بإيطاليا، ثم غمر أوروبا كلها فحول مجرى الأفكار الغربية، ولم تقتصر نهضة الإنسان على إحيائه علوم الأولين واستكشاف ما كانوا يعرفونه، بل تهيجت فيه عواطف وقوى طال زمن إهمالها، واستيقظ من غفلته فشعر شعورا جديدا بالحياة وبالعالم الذي فيه يعيش، وبما يعرض له من المسائل التي تتطلب حلا، وأحس بقدرة عقله على اكتناه أسرار الطبيعة، وحل ما يعرض عليه من هذه المسائل (أدمس ص365).
قال «برك هارت» في كتابه الممتع (مدنية إيطاليا أيام النهضة ص131): في القرون الوسطى كان النظر إلى باطن الإنسان وما حوله من الأشياء الخارجية بين النوم واليقظة قد سدل عليه ستار نسجه الدين والوهم والتعصب الأعمى، منع الإنسان أن يرى العالم على ما هو عليه، وما كان يحس الإنسان بنفسه إلا كفرد من جيل أو شعب أو حزب أو أسرة أو طائفة، وما كان يحس لنفسه بشيء من الشخصية، ورفع ذلك الستار أيام النهضة فرأى من الممكن أن يفكر فيما حوله من الأشياء سواء كان حكومة أو أي شيء في العالم، كما رأى من الممكن أن يفكر في نفسه، وأعتقد أنه فرد ذو روح حساسة. وامتاز ذلك العصر بشعور الإنسان فيه بشخصيته المطلقة، وبمعارضته للسلطة وذويها، وذهابه شوطا بعيدا في اعتبار العالم كله وطنا له، وهذه دلائل أعظم رقي يصل إليه الناس في تقدمهم العقلي. وقد أعلت النهضة شأن الطبيعة الإنسانية والحياة الدنيوية مخالفة في ذلك طريقة التفكير في القرون الوسطى، ولذلك يسمى العلماء الذين خصصوا أنفسهم لدراسة آداب اليونان والرومان والعلوم عند القدماء «الإنسانيين»، كما تسمى عقائدهم ومثلهم العليا «الإنسانية». وكان من خير ما أحدثه هؤلاء الإنسانيون «نمو الفردية» - أعني الرأي القائل بأن الإنسان ينبغي أن يفكر بنفسه لنفسه، وهو رأي كان قد أهمل في عصر عبودية العقل، وهذا الرأي هو ما كان يجد وراءه علماء إيطاليا منذ زمان.
وأول ما بدت بشائر تقرير ما للإنسان من شخصية كان زمن النهضة، وتم ذلك على يد «العلماء المتبحرين» الذين جاءوا بعد فرددوا تعاليم النهضة وأيدوها، أمثال: ديديرو، وروسو، وفنكلمان، وهامان، وهردر.
قال فندلبند: «إن الفلسفة في أيام النهضة لم تعد من عمل الجماعات - كما كانت في القرون الوسطى - بل أصبحت من عمل أفراد أحرار مستقلين.» وقد كان من أهم أغراض النهضة تقرير الحرية الفردية، وبعبارة أخرى إنماء الشخصية، وجاء الإصلاح الديني فساعدها على ذلك.
فهم الناس على عهد الإصلاح الديني أن لهم حق الحكم الشخصي على الأشياء، وتحررت أفكارهم من قيود قيدها بها رجال الدين، وقد كان هذا كامنا في نفوس الناس من قبل، ولأن يعد هذا سببا في حركة الإصلاح أقرب من أن يعد نتيجة. (انظر فندت ص176). فمبادئ الإصلاح الديني كانت الثورة على سلطة الكنيسة، وإعطاء الإنسان حق الحكم الشخصي، وكان من آثار هذا الإصلاح تحرير العقول من العبودية التي وضع نيرها رجال اللاهوت، وفصل الفلسفة عن الدين وجعلها علما دنيويا مستقلا،
Page inconnue