الجزء الأول
المآخذ على شرح ابن جني
الموسوم بالفسر
1 / 5
نص الكتاب
1 / 7
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرف الإنسان بنطق اللسان على سائر الحيوان، وفضل اللغة العربية على سائر اللغات بالبيان والتبيان، وألقى في صدف الآذان من جوهر بحار الأذهان ما يربي على الدر والمرجان، وألهم من الكلم المنظوم ما يوفي على المنثور إلا على القرآن، وجعل الشعراء يتسابقون في حلبة الشعر كالخيل يوم الرهان: فمنهم مجل نبرز، وسكيت مقصر عن مدى ذلك الميدان، وميز بين الفكر الصحيح والسقيم في استخراج دفائن معان كالعقيان، فلا يهتدي لإصابة عيون تلك المحاسن إلا المحسنو النضال والطعان، وصلى الله على الكامل المبعوث من عدنان، بأكمل الأديان إلى الإنس والجان، وعلى آله وصحبه أولي الضل والإفضال واليمن والإيمان، وبعد:
فإني لما رأيت ما حظي به أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي من اعتناء الناس بشعره؛ العالم منهم والجاهل، ولهجهم بذكره؛ النبيه فيهم والخامل، والتقييد لأوابد أمثاله السيارة، والتنقيب عن غوامض معانيه الحسنة المختارة، والتمثيل بأبياته الشوارد، والترتيل لآياتها في المشاهد، والتضمين لها في صدور الكتب والرسائل، والتزيين بها في قلوب المجالس والمحافل، وكثرة الشارحين لها من الفضلاء، والحانين عليها من الأدباء، حتى لقد كادت تنسيهم أشعار الأوائل وتلهيهم عن تلك
الفضائل، فتهدم منها ذلك المنار، وتطفئ منها تلك النار. وقد قال في ذلك بعض شعراء أهل العصر: (الرمل)
يَا أبَا الطَّيَّب أَهْدَيْ ... تَ لنا من فِيكَ طِيبَا
مَنْطِقًا نَظْمًا كَنظْم ال ... درَّ في الدُّرَّ غَرِيَبا
أَطْرَبَ الأنْفُسَ لَّما ... راحَ للرَّاح نَسِيَبا
مُنْسِيا ذِكْراهُ من ذِكْ ... رى حَبِيبٍ وحَبيبَا
1 / 9
إلا أنهم قصروا في بعض المعاني فهدموا بها تلك المباني، وأشكل عليهم بعض الأبيات، فخفيت عنهم تلك الآيات. فرأيت أن أضع كتابا مختصرا ينبه على ما أغفلوه، ويهدي إلى ما أضلوه، ويبين ما جهلوه، من غير أن أكون زاريا عليهم أو مهدي اللوم إليهم، كيف وقد سهلت أقدامهم من وعره، وبينت أفهامهم من سره، فأصابوا الجم الغفير، وأخطئوا النزر اليسير: (الطويل)
ومَنْ ذَا الذي حَازَ الكمالَ فيَكْمُلاَ
والشروح التي تتبعها، واستخرجت مآخذها وجمعتها خمسة شروح:
شرح ابن جني.
شرح أبي العلاء المعري.
شرح الواحدي.
شرح التبريزي.
شرح الكندي.
لأن هذه المشهورة الدائرة في أيدي الناس، المحفوظة المنقولة بألسن الرواة الأكياس، فإذا وقف الطالب على هذا المختصر، وتأمله ممعنا فيه النظر، تبين أن قد حلت له تلك المعاني المشكلة، وفتحت له تلك الأبواب المقفلة، وتناول بعد ذلك ما سواها في هذه الشروح على ثقة بالصواب، ويقين لدى السؤال بصحة الجواب.
وربما وقع فيها قول لغير من ذكرته فبينت الصحيح من السقيم، والمعوج من القويم، إلا أن هذا الخطر الذي تجشمته، والعبء الذي تحملته مرام بعيد، ومقام شديد، ليس من شأن من استنفد عمره في معرفة وجوه الإعراب، واستفرغ جهده في ضبط لغة الأعراب، ولا من نظم
1 / 10
أبياتا في صدر كتاب أو رد جواب، أو استزارة صديق، أو استهداء رحيق وما أشبه ذلك مما لم ينعم فيه النظر، ويتعب به الفكر. ولكن هذا من شأن من أطال معاركة المعاني والقوافي، فبات منها على مثل الأشافي ودفع إلى سلوك مضائقها، وحماية حقائقها، وجاب سهولها وحزونها، وراض ذلولها وحرونها، وافترع أبكارها وعونها، وفجر أنهارها وعيونها، وأبرم حبال وقصيدها، وأحكم نظام درها وفريدها، وأطال إبالة حيلها وعشارها، وأجال قداحه على أعشارها، وكسع شولها بأغبارها، فإذا وصل إلى هذه الفضيلة، ورقي هذه الرتبة الجليلة، وأحس من نفسه بلوغ كمالها، وإحراز خصالها، فعند ذلك فليتعاظ شرح أشعار الفحول، وليعان استنباط معاني فروعها والأصول، وأحكام علم جملها والفصول. ولست بمدع إدراك هذه المنزلة، وإحراز هذه التكملة، ولكني حاطيها لعلى ممن يدانيها، ويبلي فيها (فيسلك بعض شعابها، ويتمسك ببعض أسبابها)، فإن أصبت الصواب فبيمن من وسمت باسمه هذا الكتاب، وإن زلت قدمي عن الطريق، فمنه استمد الهداية والرشد والتوفيق، ومن الله تلتمس لإعانة، وتقتبس الإبانة.
فأول ما ينبغي أن يبتدأ به من المآخذ في شروح ديوان أبي الطيب، المآخذ على الشيخ أبي الفتح عثمان بن جني؛ لأنه هو المبتدئ لشرحه، المفتتح لفسره، المسند إليه رواياته، المأخوذ عنه حكاياته، وقد طول في الشواهد وقصر في المعاني، وسأبين ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى.
1 / 11
فمن ذلك ما ذكره في خطبة الكتاب من قوله: (الخفيف)
حَسَنٌ في عيونِ أعدائِهِ أَقْ ... بَحُ مِنْ ضَيْفِهِ رَأَتْهُ السَّوامُ
قال: الذي يسبق إلى النفس من هذا؛ أنه حسن في عيون أعدائه، وأنه أقبح من ضيفه رأته السوام. وليس الأمر كذلك بل بضده. وإنما معناه: حسن: أي: هو حسن، وتم الكلام. ثم كأنه قال: هو أقبح في عيون أعدائه من ضيفه في وقت رؤية السوام له، وهو المال الراعي؛ لأنه ينحره للأضياف، وكذلك يهلك الأعداء ويبرهم.
وأقول: إن هذا الذي فسره وجه صالح، وليس أن يرد التفسير الأول، وقد ذكره الشيخ أبو العلاء، وهو أن أعداءه يرونه حسن الصورة قبيح الفعل فهم في هذا يرونه قبيحا حسنا، وفي الوجه الآخر يرونه قبيحا. فتفسير أبي العلاء أمدح لإثبات الحسن له (عند كل أحد)، وأصنع لإثبات الحسن له والقبح، (وأخذه) من وجهين مختلفين.
ومن ذلك في الخطبة أيضا قوله:
1 / 12
قال: تم الكلام على أصغره أي: استكبروه منه واستصغروه هو.
ثم قال مبتدئا:
. . . . . . . . . ... أكبرُ من فعِلِهِ الذي فَعَلَهْ
أي: فاعل الفعل أكبر من الفعل، فكأنه قال: هو أكبر من فعله.
وأقول: هذا وجه حسن، وثم وجه آخر قد ذكره غيره، وهو أن يكون أكبر من فعله فاعلا العامل فيه أصغره، كأنه قال: وأصغره رجل أو فارس أكبر من فعله.
ومن ذلك في الخطبة أيضا تفسيره قوله: (الطويل)
وقد عَادَتِ الأجْفَانُ قُرحًا من البُكا ... وعادَ بَهَارًا في الخُدودِ الشَّقَائقُ
قال: ومما استدللت به حصافة لفظه وصحة صنعته ودقة فكره؛ أنني سألته عن قوله في البيت، فقلت: أقرحى: مما أم قرحا: منون؟ فقال: قرحا: منون، ثم قال:
ألا ترى أن بعده: وعاد بهارا؟
يقول: فكما أن بهارا جمع بهارة وإنما بينهما الهاء، فكذلك قرحا جمع قرحة فإنما بينهما الهاء.
1 / 13
وأقول: لعل أبا الطيب لم يرد الذي ذكره من الجمع بينهما بالجمع الذي بينه وبين مفرده الهاء، وإنما أراد بالتنوين المبالغة في المعنى، فجعل الأجفان قرحا ولم يصفها بقرحى؛ لأن الأول أبلغ (كما كان بهارا كذلك)، ويكون من باب: (البسيط)
. . . . . . . . . ... فإنَّما هي إقْبَالٌ وإدبارُ
لأن الوصف بالمصدر أبلغ من الوصف باسم الفاعل، ومنه رجل فطر وصوم، أو يكون أراد تحسين الألفاظ فصرف الكلمتين؛ لأن ذلك أحسن في الذوق وأعذب في السمع.
ومن ذلك قوله: وإني لأعجب ممن يجهل فضله، أو يستجيز تجاهله وهو الذي يقول: (الطويل)
إذَا كان شَمُّ الرَّوح أدنى إليكم ... فلا بَرِحَتْني رَوْضَةٌ وقَبُولُ
فأي محدث يتعالى في عذوبته إلى أن يقول:
. . . . . . . . . . ... فلا بَرِحتَنْي رَوْضَةٌ وقَبْولُ
فيقال له: إذا كان تفسير هذا كما ذكرته وهو: فلا برحت روضة وقبول إياي، لم يكن فبه عذوبة ولا عليه طلاوة، وأما المعنى فلم يقع موقعه من الغزل لذكر الموت وذلك قوله قبله: (الطويل)
1 / 14
وإنَّ رَحِيلًا واحدًا حالَ بيْنَنَا ... وفي المَوْتِ من بعد الرَّحيلِ رَحيِلُ
ومن ذلك قوله في شرح قوله: (الكامل)
وَهَبِ المَلامَةَ في اللَّذَاذةِ كالكَرَى ... مَطْرُودةً بسُهَادِهِ وبكائِهِ
قال: يقول: أجعل ملامتك إياه في التذاذكها كالنوم في لذته، فاطردها عنه بما
عنده من السهاد والبكاء، أي: لا تجمع عليه اللوم والسهاد والبكاء، أي: فكما أن السهاد والبكاء قد أزالا كراه، فاترك ملامتك إياه.
1 / 15
وأقول: هذا ليس بشيء!
والمعنى: أنه قال لعاذله: إن الكرى الذي يستلذ به الإنسان قد طردته عن عيني بالسهاد والبكاء؛ فاجعل الملامة المستلذة عنه كالكرى مطرودة عني بهما.
ويحتمل أن يكون المعنى: هب الملامة التي لا استلذ بها، بل استضر بها، كاكرى في اللذاذة، أفليس الكرى المستلذ به مطرودا بالسهاد والبكاء؟ فما ظنك بالملامة؟ فاجعلها كذلك؛ (والوجه الأ (ول) هو الصواب).
وقوله: (الكامل)
وشَكِيَّتي فَقْدُ السَّقَام لأنَّهُ ... قد كانَ لَّما لي أَعْضَاءُ
قال: يقول: إنما كنت أحس السقام بأعضائي، فلما فنيت وتلفت للضر والمشقة شكوت فقد السقام؛ لأن السقيم، على كل حال، موجود والفاني معدوم، والعدم اعظم من السقم؛ هذا يقتضيه ظاهر اللفظ. ومحصول البيت أنه يطلب أعضاءه لا السقام.
1 / 16
وأقول: إن تفسيره البيت صواب إلى قوله: والعدم اعظم من السقم. وقوله: ومحصول البيت أنه يطلب أعضائه لا السقام ليس بشيء! بل محصول البيت أنه يطلب حالا اصلح من الحال التي هو فيها وإن غير صالحتين، أي: أنا في حال العدم، فمن لي أن أرجع إلى حال السقام! وهذا مثل قوله: (الطويل)
ومن لي بَيوْمٍ يَوْمٍ كَرِهْتُهُ ... قَرُبْتُ به عند الوَدَاعِ من البُعْدِ
وقوله: (الكامل)
لا تكْثُرُ الأمْواتُ كثْرَةَ قِلَّةِ ... إلاَّ إذا شَقِيتْ بكَ الأحْيَاءُ
قال: قوله: كثرة قلة: يقول: إنما تكثر الأموات إذا قل الأحياء، فكثرتهم كأنها، في
الحقيقة، قلة.
وقوله: شقيت بك أي: شقيت بفقدك، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وهذا كقوله تعالى: (ولكن البر من آمن بالله). وقوى ذلك بما حكاه عن أبي عمرو السلمي قال: عدت أبا علي في علته التي مات فيها فاستنشدني:
لا تكثُرُ الأموات. . . البيت. . .
فلم أزل أنشده وهو يستعيده إلى أن مات!
1 / 17
قال الواحدي: وهذا فاسد من وجهين:
أحدهما: أنه إذا مات واحد لا يكون ذلك كثرة قلة.
والآخر: أنه لا يخاطب الممدوح بمثل هذا. قال: ولكن المعنى أنه أراد بالأموات القتلى، لا اللذين ماتوا قبل الممدوح. ومعنى شقيت بك أي: بغضبك عليهم، وقتلك إياهم. يقول: لا تكثر القتلى إلا إذا قاتلت الأحياء، وشقوا بغضبك، فإذا غضبت عليهم وقاتلتهم قتلتهم كلهم.
وأقول: إن قوله: إنه أراد بالأموات القتلى لا اللذين ماتوا بغير قتل خطأ؛ لأن في ذلك صرف الكلام عن ظاهره، وحمله على المجاز من غير علة محوجة.
والمعنى: لا تكثر الأموات الذين في القبور إلا إذا غضبت على الأحياء وقتلتهم، فحينئذ تكثر الأموات (بمن قتلته لإضافتهم إليهم،) وتلك الكثرة قلة؛ لأنه لا فائدة لهم فيها ولا انتفاع بها.
وقوله: (الخفيف)
وأنا مِنْكَ لا يُهَنَّئ عُضْوٌ ... بالمَسَرَّاتِ سَائرَ الأعْضَاءِ
1 / 18
قال: يقول: أنا منك أهنئك؟ وهل رأيت عضوا من جملة هنأ سائر الأعضاء منها؟
وأقول: هذا الذي أنكره مستبعدا قد جاء لأبي نواس أحسن مجيء على وجه المجاز والاستعارة وهو قوله: (البسيط)
قَنِعْتُ إذْ نِلْتُ من أَحْبَابِي النَّظرا ... وقلتُ: يا ربَّ ما أعطيتَ ذّا بَشَرا
لم يَبْقَ مِنَّيَ من قَرْنٍ إلى قَدَمِ ... شيءٌ سوى القَلْبِ إلاَّ هَنَّأ البَصَرا
وقوله: (الطويل)
سُبِقْنَا إلى الدُّنْيَا فَلَوْ عَاش أَهْلُهَا ... مُنِعْنَا بها من جَيْئَةٍ وذُهُوبِ
قال: أي لو عاش من قبلنا لما أمكننا نحن المجيء والذهاب، لأن الله - تعالى - بنى الدنيا على الكون والفساد ولم يخصصها بأحدهما وليس ذلك في الحكمة.
وأقول: الظاهر أنه أراد: أي لو عاش أهل الدنيا فلا يموتون لامتلأت الأرض من الخلق فتعذرت الحركة عليها؛ المجيء والذهاب، لكثرة الخلق. وفي هذا تسلية لسيف الدولة بكثرة من مات.
1 / 19
وقوله: (الطويل)
ولا فَضْلَ فيها للشَّجاعة والنَّدَى ... وصَبْرِ الفَتَى لَوْلاَ لِقاءُ شَعُوبِ
قال: يقول: لو أمن الناس الموت لما كان للشجاع فضل؛ لأنه قد أيقن بالخلود فلا خوف عليه، وكذلك الصابر والسخي، لأن في الخلود وتنقل الأحوال من عسر إلى يسر، وشدة إلى رخاء ما يسكن النفوس، ويسهل البؤس.
وأقول: إن قوله في الشجاع صواب، وفي الصابر والسخي بما علله من العسر واليسر وغير ذلك غير صواب. والصحيح؛ أن يعلل أمر الصابر والسخي بما علل به أمر الشجاع، فيقال إن الشجاع لو لم يتخوف الموت، ويجوز وقوع الهلاك، لما كان لإقدامه فضل. وكذلك الصابر؛ لأنه بمنزلة الشجاع لأن الصبر شجاعة، والشجاعة صبر.
وكذلك يقال في الجواد: إنه إذا أعطى ماله وهو واثق بالسلامة في غزو الأعداء، وسلب الأموال، واقتحام الأخطار في الأسفار بقطع البحار، وجوب القفار، لم يكن له بالجود فضل؛ لأنه قادر على خلف ما يعطي من غير خوف هلاك، ولا تجويز
تلف. (وهذا مثل قوله أيضا: (البسيط)
لولا المَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كلهُمُ ... الجُودُ يُفْقِرُ والإقدَامُ قَتَّالُ)
1 / 20
وقوله: (الطويل)
وكَمْ لَكَ جَدا لم تَرَ العَيْنُ وَجْهَهُ ... فَلَمْ تَجْرِ في آثارهِ بِغُروبِ
قال: يقول: إذا لم تعاين الشيء لم تعتدد به أكثر الأحوال، فلذلك ينبغي لك أن تتسلى عن عينك، كما لم تحزن لأجداد الماضين الذين لم ترهم.
وأقول: إن هذا الذي ذكره ليس بشيء! والمعنى أنه أراد تسلية سيف الدولة فقال: كم لك جدا فقد عن بعد لم تبكه، فاجعل هذا الذي فقد عن قرب بمنزلته؛ لأنه قد شاركه في الفقد، وسواء في ذلك القريب والبعيد.
وقوله: (الطويل)
نَزَلْنَا عن الأكْوَارِ نَمْشِي كَرامةً ... لِمَنْ بانَ عنه أن نُلِمَّ به رَكْبا
لم يذكر معنى البيت وهو من أغرب المعاني وأحسنها. يقول: نزلنا عن إبلنا نمشي إكراما للمحبوب الذي بان عنه؛ أي: لم يعلم أن نلم به، أي: بالربع، ركبا،
1 / 21
أي: لو ألممنا به راكبين، لم يعلم بذلك لبعده عنه، ولكننا ألممنا به ماشين كرامة له. فأن والفعل في موضع رفع بأنه فاعل بان عنه.
وقوله: (الطويل)
لَقَدْ لَعَبَ البَيْنُ المُشِتُّ بها وبي ... وزَوَّدني في السَّيْرِ ما زَوَّدَ الضَّبَّا
قال: الضب لا يرد الماء، وأنشد رجزا وضع على لسانه وقد قال هـ الحوت: رد
1 / 22
يا ضب فقال: (منهوك الرجز)
أصْبَح قَلْبي صَرِدَا
لا يَشْتَهِي أَنْ يَرِدَا
إلا عَرَادا عَرِدَا
وصلِيَانًا بَرِدا
وعَنْكَثًا مُلْتَبِدَا
قال: والمعنى لم يزودني البين شيئا استعين به على السير. ضربه مثلا.
وأقول: إن الضب يوصف بالذهول، وقد قالوا: أذهل من ضب وذلك أنه إذا خرج من جحره راعاه بطرفه، فإذا غاب عنه ذهل وحار!
يقول: زودني البين الذهول والحيرة بفراق الأحباب.
1 / 23
وقوله: (الطويل)
ومَنْ تَكُنِ الأسْدُ الضَّواري جُدودَهُ ... يَكُنْ ليلُهُ صُبْحا ومَطْعَمُهُ غَصبْا
لم يذكر ابن جني تعلق هذا البيت بما قبله واتصاله به.
وأقول: إنه لما ذكر في البيت الذي قبله لعب البين به، وأخبر أنه كثير الأسفار، قلق في البلاد، قال: فأنا في ذلك ليلي نهار ومطعمي غصب، وذلك فعل الأسد؛ لأن أجدادي أسود. وليت شعري! كيف ساغت له هذه الدعوى في أجداده بأنهم أسود، وهم يقصرون عن أن يكونوا ثعالب؟! وكأنه عاد عن هذه الدعوى فيما بعد مخافة الإكذاب؛ فشط، فاستفهم، فقال: (الطويل)
ولستُ أبَالي بَعْدَ إدْرَاكي العُلا ... أكانَ تُراثا مَا تَنَاولتُ أم كَسْبَا
يقول: إذا أدركت العلا فلا أبالي أورثته عن آبائي أم أدركته بنفسي.
وقوله: (الطويل)
فَبُورِكتَ من غَيْثِ كأَنَّ جُلُودَنَا ... به تُنبتُ الدَّيباجَ والوَشْيَ والعَصْبَا
قال: جعله كالغيث، وجعل جلودهم كالأرض التي تنبت إذا أصابها الغيث؛ يريد كثرة ما يعطيهم من الكسي والتحف.
1 / 24
وأقول إنه لم يرد كثرة الكسي والتحف، ولكن أراد ألوانها المختلفة؛ وذلك أن الغيث إذ أصاب الأرض أنبتت ألوانا مختلفة من الزهر، فكذلك الكسي التي
يعطيها، ولذلك جعلها من الوشي والعصب، وهي برود اليمن، تحوي ألوانا مختلفة، والديباج عمل الروم كذلك.
وقوله: (الطويل)
فَحُبُّ الجَبَانِ النَّفْسَ أورَدَهُ التُّقَى ... وحُبُّ الشُّجاع النفسَ أورَدَهُ الحَرْبَا
قال: يرد الشجاع الحرب (إما) ليبلي بلاء يشرف ذكره في حياته به، وإما يقتل فيذكر بالصبر والأنفة بعد موته. وأنشد على ذلك أبياتا للعرب والمحدثين، وقال: المحدثون يستشهد بهم في المعاني كما يستشهد (بالقدماء) في الألفاظ. وفسر البيت الذي بعده، وهو قوله: (الطويل)
ويختَلِفُ الرَّزقانِ والفِعْلُ واحِدٌ ... إلى أنْ تَرَى إحسانَ هذا لِذَا ذَنْبَا
بأن قال: إن الرجلين ليفعلان فعلا واحدا، فيرزق أحدهما ويحرم الآخر؛ فكأن الإحسان الذي رزق به هذا، هو الذنب الذي حرم به هذا.
1 / 25
قال: وهذا مثل قول الشاعر: (الوافر)
وكَمْ مِنْ مَوْقِفٍ حَسَنٍ أُحِيلتْ ... مَحَاسِنُهُ فَعُدَّ من الذنُوبِ
قال: ومثله: (الطويل)
يَخِيبُ الفَتَى مِن حيثُ يُرْزَقُ غيرُهُ ... وَيُعْطَى الفَتَى مِن حيثُ يُحْرَمُ صَاحِبُهْ
وأقول: إنه لم يفهم معنى البيتين، ولا ترتيب الآخر منهما على الأول.
ومعنى البيت الأول، أن الجبان يحب نفسه فيحجم طلبا للبقاء، والشجاع يحب نفسه فيقدم طلبا للثناء، والبيت الثاني مفسر للأول.
يقول: فالجبان رزق بحبه نفسه الذم لإحجامه، والشجاع رزق بحبه نفسه المدح لإقدامه، فكلاهما محسن إلى نفسه بحبه لها؛ فاتفقا في الفعل الذي هو حب النفس، واختلفا في الرزقين اللذين هما الذم والمدح، حتى إن الشجاع لو أحسن إلى نفسه بترك الإقدام، كفعل الجبان، لعد ذلك له ذنبا. فهذا هو المعنى، وهو في غاية
الإحكام بل في غاية الإعجاز، لا ما فسره.
1 / 26