فللأسماء خطرها إذن، ويوشك الرجل الذي ليس له اسم ألا يكون موجودا، وهم من أجل ذلك يتصايحون بي من كل وجه مطالبين بأن أسميهم بأسمائهم ليستمتعوا بالوجود الصحيح.
وما ينبغي أن تسألني كيف يتصايحون وهم لم يوجدوا بعد؛ فإنهم يتصايحون على نحو خاص لا يسمعه أحد غيري، ولو أني منحتهم أسماءهم لكان من الممكن أن يتجاوز تصايحهم أذني إلى أذنيك.
وما أظنك تنكر أن الشخص الوحيد الذي استطعت أن تتصوره من أشخاص هذه القصة الذين مروا بك إلى الآن إنما هو شخص البستاني الذي سميته عثمان، ولو لم أسمه لما تبينته، كما أنك لم تتبين إلى الآن شخص الشاعر على كثرة ما أضفت إليه من الصفات، ولا شخص هذا الفتى الطارق على ما وصفت لك من منظره الجميل وطلعته الرائعة ووجهه المشرق الوضاء.
فهم لا يتجاوزون الإنصاف حين يطالبونني بأن أسميهم بأسمائهم، ولكن ماذا أصنع وأنا أشد الناس ضيقا بابتكار الأسماء، لا يطاوعني عقلي الضئيل، ولا خيالي الكليل على هذا النحو من العبث؟! ثم أنا من جهة أخرى أكره أن أختار الأسماء؛ لأني أخشى أن أختار أسماء لها أشخاص قد اتخذوها لأنفسهم، أو وسمهم بها آباؤهم، وهذا أبغض الأشياء إلي؛ فقد أنبأتك أن هذه القصة لم تقع أحداثها في مصر، ولا في بلد متاخم أو مجاور لمصر كما يقول الناس في هذه الأيام، وإنما افترضت أن تكون أحداث القصة قد وقعت في إسبانيا، لا لأنها وقعت في إسبانيا بالفعل، فدون وقوعها في إسبانيا خطوب وأهوال، بل لأن إسبانيا هي الأرض التي تبنى فيها قصور الخيال والتي وجدت فيها تلك الربى التي ذكرها الشاعر الموشح حين طلب إلى السحب أن تجلل تيجانها بالحلي.
من أجل هذا كله أكره أن أسمي أهل هذه الربوة بأسمائهم، وأخشى بنوع خاص أن يصرف بعض الناس هذه الأسماء وما يرون حولها من الحديث إلى أنفسهم، فيظنوا أني قد أردت بهم شرا وعرضت لهم من قريب أو من بعيد.
فإذا عاهدني القراء على أن يؤمنوا أوثق الإيمان فيما بينهم وبين أنفسهم بأن هذه الربوة ليست قائمة في مصر ولا في البلاد المتاخمة أو المجاورة لها، وبأن أهلها ليسوا مصريين ولا عربا ولا شرقيين، فقد أستطيع أن أجيب أشخاص القصة إلى ما يريدون، وأهدي إلى كل واحد اسما يميزه ويمنحه حظه من الوجود الذي يطمع فيه ويطمح إليه، وإن كان الوجود في نفسه ليس شيئا يستحق الطمع فيه أو الطموح إليه.
وليس ينبغي لك أن تظن أني أمزح أو أداعب حين أغض من قيمة الوجود؛ فلست أنا في هذا مبتدئا ولا مبتكرا، ولست فيه بدعا من الناس، وما أكثر الفلاسفة والشعراء الذين ينكرون قيمة الوجود ويرونه شرا أي شر، ويودون لو أنهم لم يدفعوا إليه، أو لو أنه لم يدفع إليهم! وأنت تذكر بالطبع أن أبا العلاء تمنى غير مرة لو أن حواء ماتت قبل أن تمنح زوجها الولد أو لو أنها ماتت عقب ولادتها لابنها الأول، وأنت تذكر كذلك أن أبا العلاء - ومن قبله فلاسفة كثيرون - كان يرى النسل جناية لا ينبغي أن يجنيها الرجل العاقل الحازم، وقد ظن بنفسه العقل والحزم، فلم يقترف هذا الإثم، ولم يتورط في هذه الجناية.
ولو سمع لي أشخاص القصة وقبلوا نصحي لهم ومشورتي عليهم، لما طمعوا في الوجود ولما طمحوا إليه، ولما أثقلوا علي بهذا الإلحاح في أن تكون لهم أسماء يعرفون بها، كما أن لغيرهم من الناس أسماء يعرفون بها، ولكن أرسطاطاليس قد أخطأ تعريف الإنسان حين قال إنه حيوان ناطق، ولو قد وفق إلى الصواب لقال إنه حيوان أحمق، وليس أدل على حمقه من طمعه في الوجود وطموحه إليه وحبه للحياة.
وما دام هؤلاء الأشخاص قد استوفوا أعظم حظ ممكن من الحمق فأبوا إلا أن تكون لهم أسماء، فلنسم الشاعر راغبا، ولنسم الفتى نعيما، فأما أبوه فلنرجئ تسميته إلى أن نلقاه في مكتبه ذاك الذي اتخذه لنفسه سجنا منذ آخر الليل.
قال الفتى للشاعر حين سكت عنه الضحك: قد كنت أبحث عنك لأودعك، فقد أزمعت السفر قبل أن يقبل الليل، وعزيز علي أن أحرم هذه الساعات الحلوة التي أخلو فيها إليك، فأسمع ما تنشدني من شعرك الرائع الجميل، وما تقص علي من طرائف الأخبار ونوادرها.
Page inconnue