كاتب هذه السطور، لا يقصد بها اللوم والتقريع، لكنه كأحد المتعلقين بأذيال الأدب، يملك مقدارا من غيرة تثيره، وإخلاص يدفعه من حين إلى آخر لإلقاء كلمة أو إبداء ملاحظة، قد تندفع أحيانا من صدره بعزم القنبلة لطيلة ما يتحملها، وشدة ما يضغط عليها. ذلك لأنه قدر له كما قدر لكثيرين سواه، أن يستفيق من «غيبوبة» سداها الإهمال، ولحمتها النسيان، نلقيها على بصائر وقلوب البشر، أوهام الحداثة وأحلام الصبا، فتضعف فيها نباهة الإحساس، وتشوش عليها دقة الشعور والتمييز. استفاق ونظر إلى حياته الأدبية الماضية، كما ينظر من رأس جبل إلى السهل البعيد، فرآها بكل ما فيها من الأقوال والأفعال والأفكار، وبكل ما حوته من الأشواق والأحلام والآمال، وهما وضلالا، ثم نظر إلى رفاقه من أبناء شعبه، متفحصا مستجليا مقابلا، فإذا بالأكثرية - الأكثرية الهائلة منهم - قد نسجت حياتها الأدبية على نفس المنوال، وسارت في نفس الطريق، وجد نفسه مع الألوف المؤلفة، من حملة الأقلام، بيننا يسيرون في موكب التقليد، ناشرين أعلام الجهل، نافخين أبواق الضلال، ضاربين طبول الوهم والادعاء، ظاهرين سيوف الخيلاء والتعصب باسم الأدب؛ ليذبحوا بها شرذمة قليلة من إخوانهم الأبطال، المدافعين على أسوار برج الأدب، ويدكوا ذاك البرج ويمحوا آثاره ؛ لذلك يقف الآن في وسط الطريق، ويصرخ في رفاقه صرخة مريرة، أملا أن يوقفهم عند حدهم صداها القاسي الشديد.
قد يكون هؤلاء القوم المتهوسون بأجمعهم، غير قابلين صلاحا؛ لأنهم لم يخلقوا ليكونوا من أهل الأدب، وقد يكون بينهم فئة قليلة أو كثيرة ممن وهبتهم الطبيعة شيئا من المقدرة الأدبية، لكنها لا تزال محجوبة، لأنهم لم يستفيقوا بعد من «غيبوبتهم»، ولم يتفحصوا شئونهم بعيون الإخلاص، التي لا يشوبها غرض. فلمثل هذه الفئة لا لغيرها نوجه هذه السطور؛ علها تقع منهم على عاطفة خدرها الوهم فتنبهها، أو فكرة أعماها التقليد فتهديها. ولجميع من يفهم العربية أقول: إن الداء الذي أكل لحم لغتكم ونخر عظمها، هو داء مزدوج، داء المبالغة، وداء الألفاظ. (2) المبالغة
مما يخفف ثقل اللوم عن عواتق حملة الأقلام بيننا، ويكسر من حدة قلم الناقد الملتهبة، أمر حقيقي فينا كالحياة، ثابت كالزمان، وهو قواعد الأدب الموروثة.
لو سمعنا أحد شعراء هذا العصر، يرثي إسكافا من أقربائه مات بين النعال والأحذية قائلا: إن الفضل مات بموته، والعلم هد ركنه، والأدب أمسى يتيما. ويتعجب كيف أن النجوم لم تنظم حدادا، والدهر لم يقف حائرا. أو لو قرأنا شعرا لآخر يمدح فيه أنور باشا وحصانه الأدهم، بقوله: إن صهيله «في قلب أوروبا له ترديد.» أو لو سمعنا عاشقا ينشد:
أمر بالحجر القاسي فألثمه
لأن قلبك قاس يشبه الحجر
وسألنا الشعراء الثلاثة: لماذا كل هذا الغلو؟ لضحكوا منا، ولا شك مشفقين لجهلنا، ثم أخرج أولهم من تحت إبطه كتاب علم المعاني والبيان، وأظهر الثاني ديوان المتنبي أو الفارض، وفتح الثالث كتاب نهج البلاغة. وقدموها إلينا، وقد لاحت ابتسامة الانتصار على ثغورهم، ولسان حالهم يقول: «تعلموا هنا قواعد البلاغة وحدود البيان، وبعدئذ لا تحتاجون إلى سؤال.»
هؤلاء القوم ويا للأسف معذورون بعض العذر. كيف لا، وكل ما تعلموه منذ أصبحوا يتهاجون الكلمات يبتدئ ب «حدثنا سهيل بن عباد قال»، وينتهي بشرح المعلقات السبع؟ أيلام التلميذ على حفظ مسائله؟ أوليس طبيعيا أن تنمو النبتة معوجة إذا ربطناها إلى حائط معوج؟ وهل الذنب ذنب الأرض أنها لا تعطي قمحا إذا زرعناها قطربا؟
لكن دعونا الآن من الذنب والمذنب، وتعالوا نبسط أمامنا تلك القواعد والحدود، التي أورثنا إياها صاحب نهج البلاغة، وصاحب البيان وأمثالهما؛ لنجر عليها ونتمسك بها في مزالق الشعر ومهاوي النثر. فهل ذاك صحيح أن: «أعذب الشعر أكذبه»؟
الشعر والنثر كلام.
Page inconnue