شكر وتقدير
مقدمة
الجزء الأول: رؤية جديدة لأخلاق علمانية
1 - إعادة النظر في العلمانية
2 - إنسانيتنا المشتركة
3 - البحث عن السعادة
4 - الرأفة: أساس الرفاهية
5 - الرأفة ومسألة العدالة
6 - أهمية الفطنة
7 - الأخلاق في عالمنا المشترك
الجزء الثاني: تربية القلب عن طريق تدريب العقل
مقدمة: البدء بالنفس
8 - اليقظة الأخلاقية في الحياة اليومية
9 - التعامل مع المشاعر الهدامة
10 - تنمية القيم الداخلية الأساسية
11 - التأمل كتنمية للعقول
خاتمة
شكر وتقدير
مقدمة
الجزء الأول: رؤية جديدة لأخلاق علمانية
1 - إعادة النظر في العلمانية
2 - إنسانيتنا المشتركة
3 - البحث عن السعادة
4 - الرأفة: أساس الرفاهية
5 - الرأفة ومسألة العدالة
6 - أهمية الفطنة
7 - الأخلاق في عالمنا المشترك
الجزء الثاني: تربية القلب عن طريق تدريب العقل
مقدمة: البدء بالنفس
8 - اليقظة الأخلاقية في الحياة اليومية
9 - التعامل مع المشاعر الهدامة
10 - تنمية القيم الداخلية الأساسية
11 - التأمل كتنمية للعقول
خاتمة
ما وراء الأديان
ما وراء الأديان
أخلاقيات لعالم كامل
تأليف
الدالاي لاما
ترجمة
ياسمين العربي
مراجعة
الزهراء سامي
شكر وتقدير
لقد حالفني الحظ بتأليف هذا الكتاب؛ إذ ساعدني فريق التحرير نفسه الذي عمل في كتابي السابق «أخلاق للألفية الجديدة» إضافة إلى شخص آخر أو اثنين. ولهذا أود أن أعرب عن شكري وامتناني لجهود الأعضاء المعنيين في مكتبي الخاص، وللمساعدة القيمة التي قدمها مترجمي، الذي يتولى ترجمة أعمالي منذ فترة طويلة، ثوبتين جيمبا لانجري، وامتناني أيضا لما أولاه ألكسندر نورمان ومساعده جورج فيتزهيربرت، من عناية في التحرير.
إنني آمل مخلصا أن يسهم ما هو مكتوب هنا، في بناء عالم أكثر رأفة وأكثر سلاما، وإن كان ذلك بدرجة صغيرة للغاية. بالطبع لن نغير العالم بين عشية وضحاها. ولن نغيره بأطروحة صغيرة كهذه. وإنما سيأتي التغيير تدريجيا من خلال زيادة الوعي، ولن يتحقق الوعي إلا بالتعليم. إذا وجد القارئ أي فائدة فيما هو مكتوب هنا، إذن فقد آتت مساعينا ثمارها بسخاء. وإذا لم يجد القارئ مثل هذه الفائدة، فلا يشعرن بأي حرج في أن يضع هذا الكتاب جانبا.
الدالاي لاما
دارامسالا، 2 يونيو 2011
مقدمة
أنا الآن رجل عجوز. ولدت عام 1935 في قرية صغيرة شمال شرق التبت. ولأسباب خارجة عن سيطرتي، عشت معظم حياتي في سن البلوغ لاجئا عديم الجنسية في الهند، التي ظلت موطني الثاني لأكثر من خمسين عاما. كثيرا ما أقول مازحا إنني أطول ضيف مكث في الهند. ومثل الكثيرين ممن هم في مثل عمري، شهدت العديد من الأحداث المؤثرة التي شكلت العالم الذي نعيش فيه. ومنذ أواخر ستينيات القرن العشرين، سافرت كثيرا أيضا، وشرفت بلقاء أناس ينتمون إلى العديد من الخلفيات المختلفة؛ فلم يقتصر من التقيت بهم على رؤساء الدول ورؤساء الوزراء، والملوك والملكات، والقادة من جميع الأديان الكبرى في العالم، بل التقيت أيضا عددا كبيرا من الأشخاص العاديين من جميع مناحي الحياة.
حين أتأمل العقود الماضية، أجد العديد من الأسباب التي تبعث على السرور. فقد أدى تقدم العلوم الطبية إلى القضاء على أمراض فتاكة. وانتشل ملايين الأشخاص من الفقر، وتمكنوا من تلقي أنظمة حديثة في التعليم والرعاية الصحية. لدينا أيضا إعلان عالمي لحقوق الإنسان، وقد نما الوعي بأهمية هذه الحقوق نموا هائلا. ونتيجة لذلك، انتشرت مبادئ الحرية والديمقراطية في جميع أنحاء العالم، مع زيادة الاعتراف بوحدة الإنسانية. ثمة وعي متزايد أيضا بأهمية البيئة الصحية. فمن نواح كثيرة، كانت فترة نصف القرن الماضي تقريبا، فترة من التقدم والتغير الإيجابي.
في الوقت نفسه، وعلى الرغم من التقدم الهائل في الكثير في المجالات، لا يزال مقدار المعاناة كبيرا، ولا تزال الإنسانية تواجه صعوبات ومشكلات هائلة. فبينما يتمتع الناس في الأجزاء الأكثر ثراء من العالم بأنماط حياة تتسم بارتفاع الاستهلاك، لا يزال هناك ملايين لا حصر لها لا تلبى احتياجاتهم الأساسية. وبالرغم من انحسار خطر الدمار النووي العالمي مع نهاية الحرب الباردة، فإن الكثيرين لم يزالوا يتكبدون معاناة الصراع المسلح ومآسيه. وفي العديد من المناطق أيضا، يتعين على الناس التعامل مع المشكلات البيئية، وتصحبها التهديدات التي تواجه معيشتهم وما هو أسوأ من ذلك. في الوقت نفسه، يكافح كثيرون آخرون من أجل البقاء في مواجهة انعدام المساواة، وتفشي الفساد والظلم.
لا تقتصر هذه المشكلات على بلاد العالم النامي. ففي البلدان الغنية أيضا، يوجد العديد من الصعوبات، بما في ذلك انتشار المشكلات الاجتماعية من إدمان الكحول، وتعاطي المخدرات، والعنف المنزلي، والتفكك الأسري. الناس قلقون على أطفالهم، وقلقون بشأن تعليمهم وما يخبئه العالم لهم. الآن، علينا أيضا أن نعترف باحتمالية أن يكون النشاط البشري مضرا بكوكبنا إلى حد لا يمكن التراجع بعده، وهو تهديد يخلق المزيد من الخوف. كما أن جميع ضغوط الحياة الحديثة تجلب معها أيضا مشاعر التوتر والقلق والاكتئاب والشعور المتزايد بالوحدة. ونتيجة لهذا، ففي كل مكان أذهب إليه، أجد الناس يشكون. أنا نفسي أشتكي من وقت لآخر!
من الواضح أن شيئا ما ينقصنا بشدة في طريقة تعاملنا - نحن البشر - مع الأمور. لكن ما هذا الذي ينقصنا؟ أعتقد أن المشكلة الأساسية هي أننا نولي الكثير من الاهتمام للجوانب الخارجية والمادية في الحياة، بينما نهمل الأخلاق والقيم الداخلية، ونحن نفعل ذلك على جميع المستويات.
ما أعنيه بالقيم الداخلية هي تلك الصفات التي يقدرها جميعنا في الآخرين، وتحدونا نحوها غريزة فطرية توارثناها من طبيعتنا البيولوجية بصفتنا كائنات لا تعيش ولا تنمو إلا في بيئة من الاهتمام والمودة والحنو؛ وهو ما يمكننا التعبير عنه بكلمة واحدة هي التعاطف. إن جوهر التعاطف هو الرغبة في تخفيف معاناة الآخرين وتعزيز سعادتهم. هذا هو المبدأ الروحاني الذي تنبثق منه جميع القيم الداخلية الإيجابية الأخرى. جميعنا يقدر ما يتسم به الآخرون من صفات داخلية تتمثل في الطيبة والصبر والتسامح والصفح والكرم، ومن المنطلق نفسه نبغض جميعا مظاهر الجشع والحقد والكراهية والتعصب الأعمى. ومن ثم؛ فإن التشجيع الفعال على الصفات الداخلية الإيجابية لقلب الإنسان، التي تنشأ من نزعتنا الجوهرية للتعاطف، مع تعلم محاربة نزعاتنا الأكثر تدميرا سيحظى بتقدير الجميع. وسنكون نحن أنفسنا أول المستفيدين من هذا التعزيز لقيمنا الداخلية دون شك. إننا نتجاهل حياتنا الداخلية على نحو يعرضنا للخطر، وكثير من المشكلات الكبرى التي نواجهها في عالمنا اليوم قد نتجت عن هذا التجاهل.
منذ وقت ليس ببعيد زرت أوريسا، وهي منطقة في شرق الهند. ومؤخرا أدى الفقر في هذا الجزء من البلاد، وخاصة بين مجموعات القبائل، إلى تصاعد الصراع والتمرد. فالتقيت بعضو برلماني من المنطقة وناقشنا هذه القضايا. فهمت منه أنه يوجد عدد من الآليات القانونية والمشروعات الحكومية الجيدة التمويل القائمة بالفعل، التي تهدف إلى حماية حقوق مجموعات القبائل وكذلك إلى منحهم المساعدة المادية. قال إن سبب المشكلة هو الفساد الذي أدى إلى أن هذه البرامج لم تعد بالنفع على الفئات المستهدفة بالمساعدة. عندما تخرب مثل هذه المشروعات بسبب عدم الأمانة وعدم الكفاءة وانعدام المسئولية على يد أولئك المكلفين بتنفيذها، فإنها تصبح بلا قيمة.
يظهر هذا المثال بوضوح شديد أنه حتى عندما يكون النظام سليما، فإن فعاليته تعتمد على طريقة استخدامه. وفي النهاية، لا يمكن لأي نظام، أو أي مجموعة من القوانين أو الإجراءات، أن يكون فعالا إلا بقدر فاعلية الأفراد المسئولين عن تنفيذه. ذلك أنه إذا أسيء استخدام أحد الأنظمة الجيدة بسبب انعدام النزاهة لدى بعض الأشخاص، فمن السهل أن يصبح هذا النظام مصدرا للضرر لا مصدرا للمنفعة. هذه حقيقة عامة تنطبق على جميع مجالات النشاط البشري، وحتى على الدين. لا شك بأن الدين لديه القدرة على مساعدة الأشخاص على الشعور بالسعادة في حياتهم وتحقيق المعنى منها، لكن حين يساء استخدامه، فإنه يمكن أن يصبح هو أيضا مصدرا للنزاع والانقسام. ينطبق الأمر نفسه في المجالات التجارية والمالية؛ إذ ربما تكون الأنظمة في حد ذاتها سليمة، لكن إذا كان من يستخدمونها عديمي الضمير ويغلبون خدمة مصالحهم الشخصية، فستتضاءل منافع تلك الأنظمة. ومن المؤسف أننا نشهد حدوث هذا في أنواع كثيرة من الأنشطة البشرية؛ حتى في الرياضات الدولية؛ إذ يهدد الفساد مفهوم اللعب النزيه نفسه.
مما لا شك فيه أن الكثيرين من الأشخاص الذين يتسمون بالحكمة يدركون تلك المشكلات ويعملون بإخلاص على إصلاحها من داخل مجالات خبراتهم. ثمة أشخاص يشاركون بالفعل في هذا الجهد من جميع الفئات؛ فمنهم السياسيون، وموظفو الخدمة المدنية، والمحامون، والمعلمون، ودعاة حماية البيئة، والنشطاء، وغيرهم. هذا جيد جدا إلى حد ما، لكن الحقيقة أننا لن نحل مشكلاتنا أبدا إذا اكتفينا بوضع قوانين ولوائح جديدة. ففي النهاية، يكمن مصدر مشكلاتنا في مستوى الفرد. إذا كان الأفراد يفتقرون إلى القيم الأخلاقية والنزاهة، فلن يكون أي نظام من القوانين واللوائح كافيا. وما دام الناس يعطون الأولوية للقيم المادية، فسيستمر الظلم، والفساد، والإجحاف، والتعصب، والجشع؛ وجميع ذلك من مظاهر تجاهل القيم الداخلية.
فما الذي ينبغي لنا أن نفعله إذن؟ إلى أين نلجأ لطلب المساعدة؟ إن العلم، بجميع الفوائد التي جلبها لعالمنا الخارجي، لم يقدم بعد الأساس العلمي لتنمية أسس النزاهة الفردية؛ أي القيم الإنسانية الداخلية الأساسية التي نقدرها في الآخرين والتي ستنفعنا إذا نميناها في أنفسنا. ربما ينبغي لنا إذن أن ننشد القيم الداخلية في الدين مثلما فعل الناس لآلاف السنين؟ فلا شك بأن الدين قد ساعد ملايين الأشخاص في الماضي، ويساعد الملايين اليوم، وسيستمر في مساعدة الملايين في المستقبل. لكن بالرغم من جميع فوائده في تقديم الإرشاد الأخلاقي وإسباغ معنى على الحياة؛ ففي العالم العلماني الذي نحيا فيه اليوم، لم يعد الدين وحده كافيا لأن يكون أساسا أخلاقيا. ومن أسباب ذلك أن العديد من الأشخاص حول العالم لم يعودوا يتبعون دينا بعينه. ومن الأسباب الأخرى أيضا أنه في ظل تلك الدرجة الكبيرة من الترابط والتواصل بين شعوب العالم في عصر العولمة والمجتمعات المتعددة الثقافات، سنجد أن الأخلاق القائمة على دين واحد أيا كان، لن تروق إلا لبعضنا، ولن يدرك الجميع المعنى الذي تمثله. في الماضي، عندما كانت الشعوب تعيش كل منها في عزلة نسبية عن الأخرى، مثلما عشنا - نحن أهل التبت - على مدار قرون في سعادة خلف الجبال التي اتخذناها جدرانا لنا، فإن حقيقة أن الجماعات كانت تمارس مناهجها الأخلاقية المبنية على أساس ديني لم تكن تشكل أي صعوبات. أما اليوم، فإن أي حل يستند إلى الدين فيما يتعلق بمشكلة تجاهلنا للقيم الداخلية لن يكون حلا عالميا بأي شكل من الأشكال، ومن ثم فإنه لن يكون كافيا. ما نحتاج إليه اليوم هو نهج أخلاقي لا مرجعية فيه للأديان ، ومن شأنه أن يكون مقبولا بالقدر نفسه لدى المؤمنين بالأديان وغير المؤمنين بها؛ ما يلزمنا هو أخلاق علمانية.
قد يبدو غريبا أن يصدر هذا الرأي من شخص عاش منذ سن مبكرة في زي الرهبنة. غير أنني لا أرى تناقضا في ذلك. إن إيماني يوجب علي السعي وراء تحقيق الخير والمنفعة لجميع الكائنات الواعية، كما أنه يلزمني أيضا بتجاوز تعاليمي الخاصة كي أصل إلى أولئك الذين ينتمون لديانات أخرى وأولئك الذين لا ينتمون لأي دين؛ وهو ما يتماشى تماما مع رأيي هذا.
إنني على ثقة من أن محاولة الوصول إلى نهج علماني جديد لأخلاق عالمية، أمر ممكن وجدير بالسعي إليه. وثقتي إنما تنبع من اقتناعي بأننا جميعا - جميع البشر - ننزع في الأساس نحو ما نتصور أنه الخير، أو ربما نحن مفطورون على هذا. وأيا كان ما نفعله، فإننا نفعله لأننا نعتقد أنه سيعود بمنفعة ما. وجميعنا أيضا يقدر طيبة الآخرين. إننا نتجه جميعا بطبيعتنا نحو القيم الإنسانية الأساسية المتمثلة في الحب والرأفة. كلنا يفضل حب الآخرين على كراهيتهم. جميعنا يفضل كرم الآخرين على شحهم. ومن منا لا يفضل التسامح والاحترام والعفو عن عيوبنا على التعصب وعدم الاحترام والضغينة؟
في ضوء ذلك، فإنني على يقين راسخ بأن لدينا في متناول أيدينا وسيلة لترسيخ القيم الداخلية دون التعارض مع أي دين، والأهم من ذلك أننا نستطيع تحقيق ذلك دون الاستناد إلى الدين. إن تطوير هذه الرؤية الجديدة للأخلاق وممارستها هو ما أعتزم توضيحه على مدار هذا الكتاب. وآمل أن يساعد ذلك في تعزيز الفهم بشأن حاجتنا إلى الوعي الأخلاقي والقيم الداخلية في هذا العصر المفرط في المادية.
في البداية، يجب أن أوضح أن نيتي ليست أن أملي على الناس القيم الأخلاقية. فالقيام بذلك لن يجدي نفعا. ذلك أن محاولة فرض المبادئ الأخلاقية من الخارج، أو فرضها بالأوامر إن جاز التعبير، لا يمكن أن يكون فعالا أبدا. وبدلا من ذلك، فإنني أدعو كلا منا إلى تكوين فهمه الخاص لأهمية القيم الداخلية. لأن هذه القيم الداخلية هي المصدر لبناء عالم متناغم أخلاقيا، وهي أيضا مصدر السكينة الفردية والثقة والسعادة التي نسعى جميعا إليها. لا شك بأن جميع الأديان الكبرى في العالم، بتأكيدها على الحب والرأفة والصبر والتسامح والعفو، يمكنها تعزيز القيم الداخلية، وهي تفعل ذلك حقا. لكن واقع العالم اليوم هو أن تأسيس الأخلاق على الدين لم يعد كافيا. ولهذا السبب أعتقد أن الوقت قد حان لإيجاد طريقة تتجاوز الأديان، للتفكير في الروحانية والأخلاق.
الجزء
رؤية جديدة لأخلاق علمانية
الفصل الأول
إعادة النظر في العلمانية
(1) القيم الداخلية في عصر العلم
أنا رجل دين، لكن الدين وحده لا يمكن أن يحل جميع مشكلاتنا.
منذ وقت ليس ببعيد، حضرت حفلا رسميا بمناسبة افتتاح معبد بوذي جديد في بيهار، وهي ولاية فقيرة وذات كثافة سكانية مرتفعة للغاية تقع في شمال الهند. ألقى الوزير الأول لبيهار، وهو صديق قديم لي، خطابا جيدا أعرب فيه عن اقتناعه بأن ولاية بيهار ستزدهر الآن ببركات بوذا. وعندما جاء دوري للحديث، اقترحت - على نحو مازح إلى حد ما - أنه إذا كان ازدهار بيهار يعتمد على بركات بوذا فحسب، فإنه كان لا بد لها أن تزدهر منذ زمن طويل! ذلك أن بيهار هي موطن الموقع الأقدس لدى البوذيين: بود جايا، حيث بلغ بوذا الشهير الاستنارة الكاملة. إن التغيير الحقيقي يستلزم ما هو أكثر من بركات بوذا، بالرغم مما قد تتمتع به من قوة، ويستلزم أيضا ما هو أكثر من الصلاة. فعلاوة على ذلك، نحتاج إلى العمل، الذي لن يتحقق إلا من خلال الجهود المقتدرة للوزير الأول وآخرين من أمثاله!
ليس القصد من هذا أن البركات والصلاة عديمة الجدوى. الحق أنني أرى أن الصلاة لها فائدة نفسية عظيمة. ولكن علينا أن نتقبل أن نتائجها الملموسة تصعب رؤيتها في كثير من الأحيان. فعندما يتعلق الأمر بالحصول على نتائج محددة مباشرة، يتضح أن الصلاة لا يمكن أن تضاهي إنجازات العلم الحديث على سبيل المثال. حين مرضت منذ بضع سنوات، كانت معرفتي بأن الناس يصلون من أجلي تطمئنني بالتأكيد، لكن يجب أن أعترف أن معرفتي بأن المستشفى الذي كنت أعالج فيه يضم أحدث المعدات المخصصة للتعامل مع حالتي مطمئنة بدرجة أكبر!
في ضوء تفوقنا المتزايد في العديد من جوانب العالم المادي خلال المائتي عام الماضية أو نحو ذلك، من غير المفاجئ أن نجد الكثير من الأشخاص اليوم يتساءلون عما إذا كنا نحتاج إلى الدين على الإطلاق. فالأشياء التي لم تكن في الماضي سوى محض أحلام؛ مثل القضاء على الأمراض، والسفر عبر الفضاء، وأجهزة الكمبيوتر، أصبحت حقيقة من خلال العلم. فلا غرو إذن أن يضع الكثيرون كل آمالهم في العلم لدرجة الاعتقاد بإمكانية تحقيق السعادة بالوسائل التي يستطيع العلم المادي تقديمها.
وبالرغم من أنني أستطيع تفهم تقويض العلم للإيمان في بعض جوانب الدين التقليدي، فلست أرى سببا يجعل لتطور العلم التأثير نفسه على مفهوم القيم الداخلية أو الروحانية. حقيقة الأمر أن الحاجة إلى القيم الداخلية أكثر إلحاحا في عصر العلم هذا، مما كانت عليه في أي وقت مضى.
في محاولتي لتقديم حجة قوية تدعم التمسك بالقيم الداخلية والعيش الأخلاقي في عصر العلم، سيكون من المثالي أن أقدم هذه الحجة بعبارات علمية بحتة. وعلى الرغم من عدم إمكانية القيام بذلك بالاستناد إلى أسس البحث العلمي بصورة خالصة حتى الآن، فأنا متأكد من أنه مع مرور الوقت، سوف تظهر تدريجيا حجج علمية أكثر موثوقية تؤيد فوائد القيم الأخلاقية الداخلية.
لست عالما بالطبع، ولم يكن العلم الحديث جزءا من تعليمي الرسمي عندما كنت طفلا. ومع ذلك، فمنذ جئت إلى المنفى، نجحت في تحصيل الكثير مما فاتني. وعلى مدار أكثر من ثلاثين سنة حتى الآن، عقدت اجتماعات منتظمة مع خبراء وباحثين في العديد من المجالات العلمية؛ منها الفيزياء، وعلم الكونيات، وعلم الأحياء، وعلم النفس، مع التركيز مؤخرا على علم الأعصاب.
تركز التقاليد التأملية في جميع الأديان تركيزا كبيرا على استكشاف العالم الداخلي للتجربة والوعي؛ لذلك كان أحد أهدافي في تلك المناقشات هو استكشاف الفهم العلمي لجوانب مثل الفكر، والعاطفة، والتجربة الذاتية.
أشعر بالتشجيع الشديد من حقيقة أن العلم، ولا سيما علم الأعصاب، ينتبه الآن بشكل متزايد إلى هذه الأمور التي طالما تجاهلناها. كما أنني سعيد بالتطورات الأخيرة في المنهجية العلمية لهذه المجالات؛ إذ يتوسع حاليا المبدأ العلمي التقليدي للتحقق الموضوعي عن طريق طرف ثالث ليشمل مجال التجربة الذاتية. ومن أمثلة ذلك عمل صديقي الراحل فرانسيسكو فاريلا في علم الظواهر العصبية.
لطالما كان لدي أيضا اهتمام طويل الأمد بماهية الأساس العلمي الذي قد يكتشف لفهم آثار الممارسة التأملية والتنمية القصدية لصفات مثل التعاطف، والحنان الناشئ عن الحب، والاهتمام، والهدوء الذهني. وكنت أشعر على الدوام أنه إذا استطاع العلم توضيح إمكانية مثل هذه الممارسات وفائدتها، فربما يمكن تعزيزها من خلال التعليم العام.
من حسن الحظ أن لدينا الآن مجموعة من الأدلة البارزة إلى حد مقبول والمستمدة من علم الأحياء التطوري، وعلم الأعصاب، ومجالات أخرى تشير إلى أن الإيثار والاهتمام بالآخرين لا يصبان في مصالحنا الخاصة فحسب، بل إنهما يعدان أيضا من الأمور الفطرية في طبيعتنا البيولوجية، وينطبق ذلك حتى من منظور علمي شديد الصرامة. إن مثل هذه الأدلة عندما تجتمع مع انعكاسها على تجاربنا الشخصية وتقترن بالفطرة السليمة البسيطة، فإنها يمكنها - في رأيي - أن تقدم مبررات قوية توضح فوائد تنمية قيم إنسانية أساسية لا تستند إلى المبادئ الدينية أو إلى الإيمان على الإطلاق. وهذا أرحب به. (2) مدخل إلى العلمانية
هذا إذن هو الأساس لما أسميه «الأخلاق العلمانية». وأنا أعي أن استخدامي لكلمة «علماني» يثير لدى بعض الأشخاص، ولا سيما بعض الإخوة والأخوات من المسيحيين والمسلمين، بعض الهواجس. فالبعض يرون أن الكلمة نفسها تشير إلى الرفض القاطع للدين، أو حتى العداء معه. قد يبدو لهم أنني باستخدامي هذه الكلمة، أدعو إلى إقصاء الدين من النظم الأخلاقية، أو حتى من جميع مجالات الحياة العامة. ليس هذا ما أقصده على الإطلاق. وإنما ينبع فهمي لكلمة «علماني» من الطريقة التي تستخدم بها عادة في الهند.
إن الهند الحديثة لديها دستور علماني وتفخر بكونها دولة علمانية. وفي الاستخدام الهندي ، نجد أن مصطلح «علماني» بعيد كل البعد عن الإشارة إلى العداء مع الدين أو مع المؤمنين، بل إنه يعكس في حقيقة الأمر احتراما عميقا لجميع الأديان، والتسامح معها جميعا. ويشير المصطلح أيضا إلى توجه احتوائي وحيادي يشمل غير المؤمنين.
إن هذا الفهم لمصطلح «علماني»، الذي ينطوي على الاحترام والتسامح المتبادل مع جميع الأديان ومع غير المؤمنين بالأديان أيضا، يأتي من الخلفية التاريخية والثقافية الخاصة بالهند. وعلى المنوال نفسه، أعتقد أن الفهم الغربي للمصطلح ينبع من التاريخ الأوروبي. أنا لست مؤرخا، ولا خبيرا في هذا الشأن بالطبع، لكن يبدو لي أنه عندما بدأ العلم يتقدم بسرعة في أوروبا، شهدت القارة حراكا نحو مزيد من العقلانية. وقد تضمنت هذه العقلانية، من بين أشياء أخرى، رفضا لما أصبح يعد ضربا من خرافات الماضي. لقد ظل العديد من المفكرين الراديكاليين منذ ذلك الوقت وحتى عصرنا هذا يرون أن تبني العقلانية يستلزم رفض الإيمان الديني. وتعد الثورة الفرنسية، التي عبرت عن العديد من الأفكار الجديدة للتنوير الأوروبي، مثالا جيدا على ذلك بعنصرها الجوهري القوي المتمثل في مناهضة الدين. وقد كان لهذا الرفض بعد اجتماعي مهم بالطبع. صار الدين يرى باعتباره أمرا محافظا مرتبطا بالتقاليد، وشديد الارتباط بالأنظمة القديمة وبكل إخفاقاتها. إن إرث هذا التاريخ، كما يبدو، هو أن العديد من المفكرين والمصلحين الأكثر تأثيرا في الغرب ظلوا لأكثر من مائتي عام ينظرون إلى الدين باعتباره عقبة أمام التقدم لا سبيلا إلى تحرر الإنسان. الأكثر من ذلك أن الماركسية، وهي إحدى أقوى الأيديولوجيات العلمانية في القرن العشرين، استنكرت الدين باعتباره «أفيون الشعوب»؛ مما أسفر عن عواقب مأساوية؛ إذ استخدمت الأنظمة الشيوعية العنف لقمع الدين في عدة أجزاء من العالم.
في رأيي أن هذا التاريخ هو ما جعل العلمانية تفهم في الغرب في كثير من الأحيان على أنها معادية للدين. فغالبا ما ينظر إلى العلمانية والأديان على أنهما موقفان متعارضان يناقض كل منهما الآخر، وثمة قدر كبير من الريبة والعداء بين أتباع المعسكرين.
على الرغم من أنني لا أستطيع قبول المقترح القائل بأن الدين يمثل عقبة أمام التطور البشري، فأنا أشعر حقا أن المشاعر المعادية للدين قد تكون مفهومة في سياق التاريخ. فالتاريخ يعلمنا الحقيقة المزعجة التي تخبرنا أن المؤسسات الدينية وأتباع الأديان من جميع الطوائف قد تورطوا في استغلال آخرين في مرحلة أو أخرى. ثم إن الدين قد استخدم ذريعة للنزاع والقمع. حتى البوذية بتعاليمها اللاعنفية، لا يمكنها الهروب من هذه التهمة بالكلية.
ولهذا حين تكون المواقف السلبية تجاه الأديان في الغرب أو في أي مكان آخر مدفوعة بالاهتمام بشأن العدالة، فإنها يجب أن تحظى بالاحترام. الحق أنه يمكن القول إن أولئك الذين يلفتون الأنظار إلى رياء المتدينين الذين ينتهكون المبادئ الأخلاقية التي ينادون بها، والذين يقفون ضد الظلم الذي ترتكبه الشخصيات الدينية والمؤسسات، إنما يعملون بذلك على تعزيز التقاليد الدينية نفسها وإفادتها. ومع ذلك، فعند تقييم مثل هذه الانتقادات، من المهم التفريق بين الانتقادات الموجهة إلى الدين نفسه وتلك الموجهة إلى المؤسسات الدينية، وهما شيئان مختلفان تماما. إنني أرى أن مفاهيم العدالة الاجتماعية لا تتعارض بأي حال من الأحوال مع المبادئ التي يتبناها الدين نفسه؛ إذ تهدف جميع التقاليد الإيمانية العظيمة في صميمها إلى تعزيز الصفات الإنسانية الأكثر إيجابية وتنمية قيم مثل الكرم، والرأفة، والعفو، والصبر، والنزاهة الفردية. (3) العلمانية في الهند
بالنسبة إلي إذن، فإن كلمة «علماني» لا تثير أي مخاوف. وإنما أكن الاحترام لمؤسسي الدستور العلماني للهند، مثل الدكتور بي آر أمبيدكار، والدكتور راجندرا براساد الذي حظيت بشرف معرفته بصفة شخصية. لم تكن نيتهم في تعزيز العلمانية هي التخلص من الأديان، بل الاعتراف على نحو رسمي بالتنوع الديني للمجتمع الهندي. لقد كان المهاتما غاندي نفسه، مصدر الإلهام وراء الدستور، رجلا متدينا للغاية. وضمن في اجتماعاته اليومية للصلاة قراءات وتراتيل من جميع التقاليد الدينية الرئيسية في البلاد. ويتبع هذا المثال اللافت للنظر في المراسم العامة بالهند إلى يومنا هذا.
هذا النوع من التسامح الديني الذي جسده غاندي ليس بالشيء الجديد في الهند. وإنما تمتد جذوره القديمة في الماضي إلى أكثر من ألفي سنة. يتضح هذا، على سبيل المثال، في أعمدة منقوشة يرجع تاريخها إلى عهد الإمبراطور أشوكا في القرن الثالث قبل الميلاد. يحوي أحد النقوش موعظة تحث على «تكريم دين الآخر؛ لأن ذلك يقوي كلا من دين المرء ودين الآخر.» علاوة على ذلك، يكشف لنا الأدب السنسكريتي عن ثقافة كلاسيكية اتسمت بالتسامح الفكري وثراء النقاش. ففي الهند، خضع العديد من المواقف الفلسفية لمناقشات كبرى منذ العصور القديمة. فحتى بعض المواقف الفكرية التي تقترب كثيرا من المادية الحديثة والإلحاد؛ لها تاريخ مشرف ومحترم في التراث الهندي. وتوجد نصوص فلسفية كلاسيكية تضم العديد من الإشارات إلى مدرسة «شارفاكا»، التي رفض أتباعها أي فكرة عن وجود الإله أو وجود أي روح أو حياة أخرى. وبالرغم من أن بعض المفكرين الآخرين كثيرا ما كانوا يعارضون آراء «شارفاكا» بشدة بوصفها أفكارا عدمية، فإن موقف المادية الراديكالية الذي تبنته المدرسة عولج بجدية كموقف فلسفي، وكان يشار إلى مؤسسها بشكل عام بلقب «ريشي»؛ أي «حكيم». علاوة على ذلك، حظي بعض مؤيدي أفكار «شارفاكا» بمستوى لا بأس به من التقدير والاحترام، منحهم إياه بعض الحكام الهنود الذين كان الكثيرون منهم متسامحين على نحو رائع مع المعتقدات الدينية الأخرى. ويعد الإمبراطور المسلم «أكبر» الذي أجرى محاورات مع الهندوس والمسيحيين وغيرهم، أحد أمثلة هذا التقليد.
منذ بعض الوقت، أجريت مناقشة كاشفة بشأن هذا الموضوع مع نائب رئيس وزراء الهند السابق؛ السيد إل كيه أدفاني. وقد أشار إلى أن ثقافة التسامح والتنوع والنقاش المترسخة في الهند منذ وقت طويل، هي على وجه التحديد ما يفسر نجاحها البارز في الحفاظ على ديمقراطيتها العلمانية. وأنا متأكد من أنه على حق. غالبية مواطني الهند الآن من الهندوس، لكن يوجد العديد أيضا من الديانات الأخرى التي تحظى بتمثيل جيد. فالهند موطن ثاني أكبر تجمع سكاني للمسلمين في العالم، وتلك حقيقة لا يقدرها الكثيرون في الغرب، وتوجد أيضا عدة ملايين من السيخ والمسيحيين، إضافة إلى مجموعات لا يستهان بحجمها من أتباع الديانات الجاينية، والبوذية، والزرادشتية، واليهودية. الحق أن الأقليات العرقية والدينية في الهند متعددة للغاية بحيث لا يتسع المجال لذكرها جميعا. علاوة على ذلك، توجد مئات اللغات المختلفة المستخدمة اليوم في البلد. وفي خضم هذا التنوع البشري الهائل، من المعتاد أن ترى المعابد الهندوسية والمآذن الإسلامية تقف كل منها بجانب الأخرى في شوارع المدينة. وفي معظم القرى بالفعل، يوجد أكثر من دين ممثل بين سكانها.
التقيت مؤخرا برجل من رومانيا زار العديد من القرى الهندية لأغراض مشروع بحثي. وحين أخبرني عن قرية في راجستان ذات أغلبية مسلمة وليس فيها سوى ثلاث عائلات هندوسية، أبدى دهشته من أن هذه العائلات كانت تعيش هناك دون شعور بالخوف أو التوجس. رأيت أن دهشته ناتجة، ولا بد، عن تضليل وسائل الإعلام الغربية في تصويرها للعلاقات بين الطوائف في الهند. لا شك بأن الهند قد شهدت بعض حوادث العنف الطائفي الخطيرة والمؤسفة للغاية، لكن يظل من الخطأ تعميمها على شبه القارة الهندية بأكملها. فبصرف النظر عن هذه الحوادث الفردية، تحافظ الهند في المجمل رغم تنوعها الكبير، على مجتمع مسالم ومتناغم. من الواضح أن العقيدة الهندية القديمة «الأهيمسا»، أو اللاعنف، قد ازدهرت واعتمدت مبدأ للتعايش السلمي بين جميع الأديان. هذا إنجاز هائل، وأحد النجاحات التي يمكن لبلدان أخرى في العالم أن تتعلم منه. (4) التسامح في عصر العولمة
أحيانا أصف نفسي بأنني رسول عصري للفكر الهندي القديم. وثمة فكرتان من أهم الأفكار التي أشاركها أينما سافرت: مبادئ اللاعنف والتناغم بين الأديان، وكلتاهما مستمدة من التراث الهندي القديم. على الرغم من أنني تبتي بالطبع، فأنا أعتبر نفسي أيضا ابن الهند على نحو ما. فمنذ الطفولة، تغذى عقلي على كلاسيكيات الفكر الهندي. وبداية من سن السادسة عندما بدأت دراستي كراهب، كانت غالبية النصوص التي أقرؤها وأحفظها هي نصوص لأساتذة بوذيين من الهنود، وكان العديد منهم من جامعة نالاندا القديمة في وسط الهند. ومنذ بداية مرحلة البلوغ، تغذى جسدي أيضا بالطعام الهندي: الأرز و«الدال»؛ أي «العدس».
ولهذا، فأنا سعيد للغاية لمشاركة هذا الفهم الهندي للعلمانية والتشجيع عليه؛ إذ إنني أعتقد أنه سيكون ذا قيمة كبيرة للإنسانية جمعاء. ففي عالم اليوم المترابط والمعولم، أصبح من المألوف للأشخاص من ذوي وجهات النظر والأديان والأعراق العالمية المختلفة أن يعيشوا جنبا إلى جنب. وكثيرا ما يدهشني هذا في أسفاري، لا سيما في الغرب. بالنسبة إلى جزء كبير من البشرية اليوم، من المحتمل أو من المرجح، أن يكون جار المرء، أو زميله، أو صاحب عمله من المتحدثين بلغة أم مختلفة، ويأكل طعاما مختلفا، ويتبع ديانة مختلفة.
ولهذا السبب، من الأمور الشديدة الإلحاح أن نجد طرقا للتعاون والتآزر بروح القبول والاحترام المتبادلين. ذلك أنه بينما يجد كثير من الناس بهجة في العيش في بيئة عالمية؛ حيث يمكنهم التعامل مع طيف واسع من الثقافات المختلفة، لا شك بأن آخرين قد يجدون صعوبات في العيش بالقرب من أشخاص لا يشاركونهم لغتهم أو ثقافتهم. فقد يولد هذا ارتباكا وخوفا واستياء؛ مما يؤدي في أسوأ الأحوال إلى عداء مفتوح وأيديولوجيات إقصائية جديدة على أساس العرق أو الجنسية أو الدين. من المؤسف أننا عندما ننظر حول العالم نرى أن التوترات الاجتماعية منتشرة إلى حد كبير بالفعل. إضافة إلى ذلك، يبدو من المحتمل أن مثل هذه الصعوبات قد تزداد مع استمرار الهجرة الاقتصادية.
في عالم كهذا، أرى أن من الضروري لنا أن نجد نهجا مستداما بحق وعالميا للأخلاق، والقيم الداخلية، والنزاهة الفردية؛ نهجا يمكن أن يتجاوز الاختلافات الدينية، والثقافية، والعرقية ويروق للناس على مستوى إنساني جوهري. هذا البحث عن نهج عالمي مستدام هو ما أسميه مشروع الأخلاق العلمانية.
وبينما أستمر في توضيح هذا النهج، يجب أن أراعي وجود بعض الأشخاص الذين لا يزالون يشككون في جدوى فصل الأخلاق عن الأديان بهذه الطريقة، بالرغم من تأييدهم لتفسيري للعلمانية على النهج الهندي. إن انعدام الثقة في محاولات الفصل بين الأمرين قوي للغاية بين بعض أتباع الأديان الألوهية لدرجة أنني حذرت في بعض المناسبات، من استخدام كلمة «علماني» عند الحديث عن الأخلاق أمام الجمهور. من الواضح أن هناك أشخاصا يؤمنون بإخلاص تام بأن فصل الأخلاق عن الدين خطأ كبير في حد ذاته، وأنه بالفعل مصدر للعديد من المشكلات الاجتماعية والأخلاقية في المجتمع الحديث، مثل تفكك الأسر، وازدياد عدد حالات الإجهاض، والانحلال الجنسي، وإدمان الكحول، وإدمان المخدرات، وما إلى ذلك. فهم يرون أن هذه المشكلات تنتج إلى حد كبير من أشخاص فقدوا أساس تشكيل القيم الداخلية، والذي لا يمكن أن يوفره سوى الأديان. إن الأشخاص الذين ترتبط معتقداتهم الدينية ارتباطا وثيقا بالممارسة الأخلاقية، يصعب عليهم تصور وجود إحداهما دون الأخرى. فبالنسبة إلى من يعتقدون أن الحقيقة تستلزم وجود إله، وحده الإله هو من يمكنه إلزامنا بالأخلاق. فهم يعتقدون أنه من دون إله يؤدي دور الضامن، لا توجد سوى حقيقة نسبية في أفضل الأحوال؛ ومن ثم فما هو صحيح لدى أحد الأشخاص قد لا يكون صحيحا لدى شخص آخر. وفي هذه الحالة، لا يوجد أساس لتمييز الصواب من الخطأ، أو لتقييم الخير والشر، أو للحد من الأنانية والنزعات الهدامة، مع تنمية القيم الداخلية.
على الرغم من أنني أحترم وجهة النظر هذه تماما، فهي ليست وجهة نظري. فأنا لا أوافق على أن الأخلاق تتطلب تأصيلا من المفاهيم الدينية أو الإيمان. وإنما أعتقد اعتقادا راسخا أن الأخلاق يمكن أن تظهر أيضا ببساطة كرد فعل طبيعي وعقلاني لإنسانيتنا في حد ذاتها وحالتنا البشرية المشتركة. (5) الدين والأخلاق
بالرغم من أن هذا الكتاب ليس عن الدين في المقام الأول، ففي سبيل التفاهم والاحترام المتبادلين بين المؤمنين بالدين وغير المؤمنين به، أعتقد أن الأمر يستحق قضاء بعض الوقت للنظر في العلاقة بين الدين والأخلاق.
منذ آلاف السنين والدين يكمن في قلب الحضارة الإنسانية. فليس من العجيب إذن أن يكون الاهتمام بالآخرين والقيم الداخلية الأساسية التي تنبثق من هذا الاهتمام، كالطيبة والأمانة والصبر والعفو، قد صيغت إلى حد كبير بمصطلحات دينية. ففي جميع التقاليد الدينية الرئيسية حول العالم؛ الألوهية وغير الألوهية، يحتفى بهذه القيم إضافة إلى قيم أخرى مثل، الانضباط الذاتي والرضا والكرم، بصفتها هي الدليل لعيش حياة ذات معنى تستحق التعب. ولا غرو في هذا على الإطلاق. فلما كان اهتمام الدين هو الروح البشرية، فمن الطبيعي تماما أن تكون ممارسة هذه القيم الداخلية، التي تجلب مثل هذه المكافآت فيما يتعلق بالسلامة الروحانية لنا ولمن حولنا، جزءا لا يتجزأ من أي ممارسة دينية.
بصفة عامة، يمكن تقسيم نظم العقيدة التي تؤسس عليها أديان العالم القيم الداخلية وتدعمها، في فئتين.
فمن ناحية، لدينا الأديان الألوهية، التي تشمل الهندوسية والسيخية والزرادشتية واليهودية والمسيحية والإسلام. وفي هذه الأديان، ترتكز الأخلاق في الأساس على فهم محدد للإله بوصفه خالقا وبوصفه الأساس المطلق لكل الوجود. من وجهة نظر ألوهية، فإن الكون بأكمله جزء من خلق وخطة إلهيين؛ ومن ثم فإن نسيج ذلك الكون نفسه مقدس. وبما أن الإله محبة لا نهائية أو عطف لا نهائي، فإن محبة الآخرين جزء من محبة الإله والعمل من أجله. ثم إنه في العديد من الأديان الألوهية يسود الاعتقاد بأننا سنواجه بعد الموت حكما إلهيا؛ مما يوفر حافزا قويا آخر لمراعاة ضبط النفس في تصرفاتنا واتخاذ الحذر الواجب خلال حياتنا هنا على الأرض. عندما تؤخذ طاعة الإله على محمل الجد، يكون لها تأثير قوي في الحد من التمركز حول الذات؛ ومن ثم فإن من شأنها أن تضع الأساس لنظرة أخلاقية محكمة للغاية وإيثارية أيضا.
من ناحية أخرى، لدينا الأديان غير الألوهية، كالبوذية واليانية وفرع من مدرسة السامخيا الهندية القديمة، التي لا تنطوي على الإيمان بخالق إلهي. بدلا من ذلك، فإنها تنطوي على المبدأ الأساسي للسببية، لكن الكون يرى وفقا لها بلا بداية. ومن دون كيان خالق يؤسس للقيم الداخلية والحياة الأخلاقية، تؤسس الأديان غير الألوهية الأخلاق على فكرة «الكارما» بدلا من الإله. إن الكلمة السنسكريتية «كارما»، تعني ببساطة «الفعل». ومن ثم؛ فعندما نتحدث عن الكارما الخاصة بنا، فإننا نشير إلى جميع أفعالنا المقصودة المتمثلة في أفعال الجسد والكلام، والعقل، وعندما نتحدث عن «ثمار» الكارما لدينا، فنحن نتحدث عن عواقب هذه الأفعال. ترتكز عقيدة الكارما على اعتبار السببية قانونا للطبيعة. فكل ما نقصده من الأفعال أو الكلمات أو الأفكار، له تيار من العواقب قد لا ينتهي. وعند الجمع بين هذا الفهم وفكرة البعث والحيوات المتتالية، فإنه يصبح أساسا قويا للأخلاق وتنمية القيم الداخلية. فعلى سبيل المثال، نجد أن أحد التعاليم البوذية الأساسية يتضمن النظر إلى جميع الكائنات على أنها كانت أما للإنسان في مرحلة ما في حيواته السابقة التي لا حصر لها، وذلك كجزء من تأسيس رابط عميق من التعاطف مع جميع الكائنات.
يتضح من هذا إذن أن جميع الأديان تؤسس، بدرجة أو بأخرى، غرس القيم الداخلية والوعي الأخلاقي على نوع ما من الفهم الميتافيزيقي (أي لا يمكن إثباته تجريبيا) للعالم وللحياة ما بعد الموت. ومثلما أن عقيدة الدينونة الإلهية تؤسس للتعاليم الأخلاقية في العديد من الديانات الألوهية، فإن عقيدة الكارما والحيوات المستقبلية تؤسس لها في الأديان غير الألوهية.
في سياق الأديان، يكون لهذا الفهم، سواء أكان ألوهيا أم غير ألوهي، أهمية كبيرة؛ إذ إنه لا يوفر الأسس لاتخاذ القرار بشأن عيش حياة أخلاقية فحسب، بل يضع أسس الخلاص أو التحرر ذاته أيضا. ولهذا، فبالنسبة إلى ممارسي الشعائر الدينية، لا يمكن الفصل بين السعي لحياة أخلاقية والتطلعات الروحية النهائية.
لست ممن يعتقدون أن البشر سيكونون على استعداد للاستغناء عن الدين بالكلية قريبا. وعلى العكس من ذلك، أرى أن الإيمان قوة لتحقيق الخير ويمكن أن يقدم فائدة عظيمة. فمن خلال تقديم فهم للحياة البشرية يتجاوز وجودنا المادي المؤقت، يمنح الدين أملا وقوة لأولئك الذين يواجهون الشدائد. إن قيمة تقاليد الإيمان العظيمة في العالم هي موضوع ناقشته بإسهاب في كتاب سابق بعنوان «نحو قرابة حقيقية للأديان». بالرغم من ذلك، فمع جميع فوائد الدين في التقريب بين الناس، ومنح التوجيه والسلوى، وتقديم رؤية للحياة الطيبة التي يمكن للأشخاص السعي جاهدين لمحاكاتها، لا أعتقد أن الدين عامل ضروري في الحياة الروحانية.
لكن ما تأثير هذا فيما يتعلق بترسيخ الأخلاق وتنمية القيم الداخلية؟ اليوم في عصر العلم الذي يرى الكثيرون فيه أن الدين لا معنى له، ما الأساس الذي يتبقى لنا لمثل هذه القيم؟ كيف يمكننا إيجاد طريقة لتحفيز أنفسنا أخلاقيا دون الاستناد إلى معتقدات تقليدية؟
إنني أعتقد أن البشر يمكنهم العيش من دون دين، لكنهم لا يستطيعون العيش من دون قيم داخلية. ولذا فإن حجتي لاستقلال الأخلاق عن الدين هي حجة شديدة البساطة. فللروحانية، كما أراها، بعدان. البعد الأول هو أن السلام الروحي الأساسي، الذي أعني به القوة الداخلية والتوازن الداخلي على مستوى العقل والوجدان، لا يعتمد على الدين، بل يأتي من طبيعتنا البشرية الفطرية بصفتنا كائنات تتسم بنزعة طبيعية للتعاطف والطيبة والاهتمام بالآخرين. البعد الثاني هو ما يمكن اعتباره روحانية قائمة على أساس ديني، وهو بعد آلي نكتسبه من نشأتنا وثقافتنا ويرتبط بمعتقدات وممارسات معينة. والفرق بين البعدين يشبه الفرق بين الماء والشاي. فالأخلاق والقيم الداخلية من دون سياق ديني كالماء؛ شيء «نحتاج» إليه كل يوم للحفاظ على صحتنا والبقاء على قيد الحياة. والأخلاق والقيم الداخلية القائمة على سياق ديني هي أشبه بالشاي. فالشاي الذي نشربه يتكون في أغلبه من الماء، لكنه يحتوي أيضا على بعض المكونات الأخرى: أوراق الشاي أو التوابل أو ربما بعض السكر أو الملح، في التبت على الأقل، وهذا يزيد من قيمته الغذائية ويجعله أكثر إشباعا، وشيئا نريده كل يوم. لكن بغض النظر عن طريقة تحضير الشاي، فإن المكون الأساسي دائما هو الماء. وبينما يمكننا العيش من دون شاي، فلا يمكننا العيش من دون ماء. وعلى هذا النحو، فإننا نولد بلا دين، لكننا لا نولد بدون الحاجة إلى التعاطف.
ومن ثم، فإن روحانيتنا الإنسانية الأساسية أكثر تأصلا من الدين. فنحن نتمتع بنزعة إنسانية أساسية تجاه الحب، والطيبة، والمودة، بصرف النظر عما إذا كان لدينا إطار ديني أم لا. عندما نرعى هذا المورد البشري الأبلغ تأصلا، عندما نشرع في تنمية تلك القيم الداخلية التي نقدرها جميعا في الآخرين، فسنبدأ حينئذ في العيش بالطريقة الروحانية. يكمن التحدي إذن في إيجاد طريقة لتأسيس الأخلاق ودعم تنمية القيم الداخلية التي تتماشى مع العصر العلمي، مع عدم إغفال الاحتياجات الأعمق للروح البشرية، والتي تتمثل لكثير من الأشخاص في الإجابات الدينية. (6) التأسيس للأخلاق في الطبيعة البشرية
لا يوجد إجماع، عبر جميع الثقافات وجميع الفلسفات، بل وجميع وجهات النظر الفردية في حقيقة الأمر، بشأن التوجه الجوهري للطبيعة البشرية. إنما يوجد بدلا من ذلك الكثير من الآراء. ولتبسيط الأمر قدر الإمكان سنقول إن هناك من يعتقد، في أحد طرفي الطيف، أننا بطبيعتنا نميل إلى العنف والعدوانية والتنافس في الأساس، بينما يتبنى آخرون، في الطرف الآخر من الطيف، وجهة النظر القائلة بأننا نميل في الغالب إلى اللطف والمحبة ودماثة الأخلاق. تقع معظم وجهات النظر بين هذين الطرفين، حيث يمكن استيعاب جميع صفاتنا وميولنا بدرجات متفاوتة. وبصفة عامة، إذا اعتبرنا أن الطبيعة البشرية تغلب عليها النزعات التدميرية، فالأرجح أن أخلاقنا ستتأسس على شيء خارج أنفسنا. ذلك أننا سنفهم الأخلاق بوصفها وسيلة لتقييد تلك النزعات التدميرية بهدف تحقيق الخير الأكبر أيا كان. أما إذا نظرنا إلى الطبيعة البشرية باعتبارها تميل في الغالب نحو الطيبة والرغبة في حياة سلمية، فيمكننا إذن اعتبار الأخلاق وسيلة طبيعية تماما وعقلانية لاتباع إمكاناتنا الفطرية. بناء على هذا الفهم، تتكون الأخلاق بدرجة أقل من القواعد التي يلزم اتباعها، وبدرجة أكبر من مبادئ للتنظيم الذاتي الداخلي لتعزيز تلك الجوانب من طبيعتنا، والتي ندرك أنها تعود بالخير علينا وعلى الآخرين. وهذا النهج الثاني يتناغم مع رأيي الخاص. (7) ركيزتان للأخلاق العلمانية
أعتقد أن نهجا شاملا للأخلاق العلمانية، له القدرة أن يكون مقبولا على نطاق عالمي، يتطلب الاعتراف بمبدأين أساسيين فقط. كلا المبدأين يمكن فهمه بسهولة استنادا إلى تجربتنا المشتركة كبشر وفطرتنا السليمة، وكلاهما مدعوم بنتائج الأبحاث الحديثة، ولا سيما في مجالات مثل علم النفس وعلم الأعصاب، والعلوم السريرية. المبدأ الأول هو الاعتراف ب «إنسانيتنا المشتركة» وطموحنا المشترك لتحقيق السعادة وتجنب المعاناة، والثاني هو فهم الاعتماد المتبادل بصفته سمة أساسية للواقع البشري، ومن ذلك واقعنا البيولوجي كحيوانات اجتماعية. من هذين المبدأين، يمكننا تعلم تقدير العلاقة التي لا تنفصم بين رفاهيتنا الشخصية ورفاهية الآخرين، ويمكننا تطوير اهتمام حقيقي بصالح الآخرين. أعتقد أن هذين المبدأين معا يشكلان أساسا كافيا لتأسيس الوعي الأخلاقي وتنمية القيم الداخلية. فمن خلال مثل هذه القيم نكتسب الشعور بالارتباط بالآخرين، ومن خلال تجاوز المصلحة الذاتية الضيقة نجد المعنى، والغاية، والرضا في الحياة.
قبل تقديم عرض منهجي للتصور الذي لدي لهذا النهج العلماني، ينبغي أن أتحدث قليلا عن الخلفية التي تشكل آرائي بشأن هذا الموضوع، والدافع وراء ذلك.
منذ الطفولة وأنا راهب بوذي في تقليد الماهايانا التبتي. وقد تشكل فهمي للأخلاق، وكذلك لقضايا مثل الطبيعة البشرية والسعي وراء تحقيق السعادة، بناء على هذه الخلفية. وعلى المستوى الشخصي، فإن نهجي اليومي في ممارسة الأخلاق متأثر بعمق بكتابات تقاليد النالاندا الهندية، التي تجمع بين البحث الفلسفي النقدي والحياة الأخلاقية والممارسة التأملية. في سياق هذا الكتاب أعتمد على بعض مصادر تقليد النالاندا. ومع ذلك، فمن المؤكد أن نيتي، في تقديم هذا الكتاب، ليست زيادة عدد البوذيين! في الحقيقة، عندما يطلب مني تقديم التعاليم البوذية في الغرب، غالبا ما أشارك وجهة نظري الشخصية بأنها ليست بالفكرة الجيدة إلى حد كبير أن يتبنى الناس ممارسات دينية لا تستند إلى ركيزة جيدة في ثقافتهم وخلفيتهم التعليمية. فمن شأن ذلك أن يكون صعبا وأن يؤدي إلى ارتباك لا داعي له. وإن دافعي في تقديم هذا الكتاب لا يتعدى الرجاء في المساهمة في تحسين الإنسانية. إذا كانت الموارد المستمدة من تراثي يمكن أن تفيد من لا ينتمون إليه، فأعتقد أن من الجيد الاستعانة بتلك الموارد. ولا يعنيني بالطبع من تأليف هذا الكتاب نشر إيماني. لكني أدعو قرائي إلى تحري الأمور بأنفسهم والتحقق منها. وإذا وجدوا بعضا من رؤى الفكر الهندي الكلاسيكي مفيدا في عمليات بحثهم، فهذا ممتاز، وإذا لم يجدوا أي فائدة، فلا بأس بذلك أيضا!
ولهذا، لن أقدم في الفصول التالية، أفكاري بصفتي بوذيا، ولا حتى بصفتي مؤمنا بالدين، بل بصفتي إنسانا فحسب من بين ما يقرب من سبعة مليارات إنسان آخر، إنسان يهتم بمصير البشرية ويريد أن يفعل شيئا لحماية مستقبلها وتحسينه.
الفصل الثاني
إنسانيتنا المشتركة
(1) رؤيتنا لأنفسنا
تخبرنا الملاحظة أن كيفية تعامل البشر مع بعضهم، وفي الواقع مع العالم من حولهم، تعتمد إلى حد كبير على الطريقة التي يرون بها أنفسهم. كلنا لدينا العديد من الطرق المختلفة لرؤية كينونتها وماهيتنا، وتؤثر وجهات النظر المختلفة هذه في سلوكنا. على سبيل المثال، يمكن أن ننظر إلى أنفسنا من منطلق النوع الاجتماعي كرجال أو نساء، أو كأتباع لهذا الدين أو ذاك، أو كأفراد في هذا العرق أو ذاك أو هذه الجنسية أو تلك. وقد نرى أنفسنا من منظور الأسرة، كأب أو أم، على سبيل المثال. ويمكن أيضا أن نحدد هويتنا تبعا لمهنتنا، أو مستوى تعليمنا أو إنجازاتنا. ووفقا للمنظور الذي نتبناه، نطرح توقعات مختلفة عن أنفسنا. وهذا بدوره يؤثر في سلوكنا، بما في ذلك تعاملنا مع الآخرين.
لكل فرد هويته المستقلة. ولذلك، فمن المهم للغاية في أي محاولة لوضع نهج عالمي حقيقي للأخلاق أن يكون لدينا فهم واضح لما يوحدنا جميعا، وهي إنسانيتنا المشتركة. إننا جميعا من البشر؛ السبعة مليارات نسمة بأكملهم بشر. وفي هذا الصدد، جميعنا متشابهون بنسبة مائة بالمائة.
في البداية إذن، دعونا نفكر فيما يجعل منا بشرا حقا. حسنا، أولا وقبل كل شيء، إنه واقعنا المادي البسيط: جسمنا هذا المكون من عدة أجزاء من عظام وعضلات ودم، والكثير جدا من الجزيئات والذرات وما إلى ذلك.
على المستوى المادي الأساسي، لا يوجد فرق نوعي بين المادة التي يتكون منها جسم الإنسان والمادة التي تتكون منها كتلة من الصخر على سبيل المثال. فمن حيث التكوين المادي، تتألف كل من كتلة الصخر وأجسامنا البشرية في جوهرها من مجموعات من الجسيمات الدقيقة. يقترح العلم الحديث أن جميع مواد الكون هي مواد يعاد تدويرها على نحو لا نهائي. والأكثر من ذلك أن العديد من العلماء يذهبون إلى أن ذرات أجسامنا نفسها كانت ذات يوم في نجوم بعيدة في الزمن والمكان.
ومع ذلك، فمن الواضح أن الفئة التي ينتمي إليها الإنسان تختلف تماما عن الفئة التي تنتمي إليها كتلة صخرية. إننا نولد، وننمو، ثم نموت، وكذلك هي الحال في النباتات وجميع الحيوانات الأخرى. لكننا بخلاف النباتات، نتمتع أيضا بتجربة واعية. فنحن نشعر بالألم ونختبر المتعة. إننا كائنات واعية، وهو ما نسميه في اللغة التبتية «سيمدن».
خلال إحدى المناقشات العديدة التي أجريتها مع صديقي الراحل عالم الأعصاب فرانسيسكو فاريلا، تحدثنا عما يميز أشكال الحياة الواعية عن أشكال الحياة النباتية. وحسبما أتذكر، فقد اقترح معيارا لهذا التمييز: «قدرة كيان ما على تحريك نفسه من مكان إلى آخر»، أو كلمات أخرى بهذا المعنى. إذا كان الكائن الحي يستطيع نقل جسمه بأكمله من مكان إلى آخر للهروب من الخطر والبقاء على قيد الحياة، أو للحصول على الغذاء والتكاثر، فيمكن إذن اعتباره كائنا واعيا. أثار هذا التعريف اهتمامي لأنه يشير، حتى من وجهة نظر علمية، إلى أن ما يميز مثل هذا الكائن الحي مرتبط بالقدرة على الشعور بالمتعة والألم، وبالاستجابة لهذه المشاعر، حتى وإن كانت هذه الاستجابات غريزية في معظمها أو حتى بأكملها. فعلى مستوى أساسي للغاية، تعد قدرة المرء على الاستجابة لبيئته المحيطة من خلال التجربة الواعية هو ما يمكننا اعتباره «العقل»، بالمعنى الأوسع للكلمة.
ليس هذا بالمكان المناسب للشروع في معالجة مطولة للقضية الكبيرة المتمثلة فيما يشكل «العقل»، والطرق التي يتميز بها العقل البشري عن غيره من عقول الكائنات الأخرى؛ ولذا سأكتفي بذكر القليل عن هذا الشأن هنا.
إن المكونات الأساسية للتجربة البشرية، وفقا للعلم الحديث، هي بيانات حواسنا: البصر، والسمع، واللمس، والتذوق، والشم. وفي مستوى آخر من الإدراك، تكمن خبراتنا الذاتية لهذه الأحاسيس الأساسية، وهو المستوى الذي يتحدد فيه إن كنا نختبرها كتجارب ممتعة، أو مزعجة، أو محايدة، أو مزيج من هذا كله. وحسبما نعرف حتى الآن، فإننا نتشارك في هذا النوع من الإدراك للتجربة الحسية من متعة أو ألم مع حيوانات أخرى. فيبدو أن الطيور والثدييات على سبيل المثال، تدرك التجربة الحسية على نحو شبيه للغاية بطريقة إدراكنا لها، بينما يبدو أن أنواعا أخرى من الحيوانات، مثل الأسماك والحشرات، تختلف عنا اختلافا كبيرا في هذا الصدد.
وبصرف النظر عن اتساع نطاق الوعي وتنوعه عبر أنواع الحيوانات المختلفة، فمن الواضح أن جميع الكائنات التي تتمتع بتجربة واعية تتجه نحو السعي وراء التجارب الممتعة وتجنب التجارب غير السارة أو المؤلمة. وفي هذا الجانب الأساسي، لا نختلف نحن البشر عن الحيوانات الأخرى. فعلى غرار الحيوانات، نسعى لتجنب المعاناة وننجذب انجذابا طبيعيا نحو التجارب الممتعة أو السعيدة.
لكن إذا كان هذا التوجه الأساسي سمة مميزة للكائنات الواعية في العموم، فإن البشر يشكلون فئة خاصة نسبيا. فلا شك أن الخبرة الإنسانية تنطوي على ما هو أكثر من الاستجابة للتجربة الحسية. نحن لسنا كالكلاب أو القطط، على سبيل المثال، التي تستجيب بشكل عام لتجاربها بناء على غريزتها فقط. لقد تطور لدينا، نحن البشر، على مدى عدة آلاف من السنين، تعقيد هائل يميزنا عن جميع الحيوانات الأخرى. وينعكس هذا الاختلاف في الحجم الكبير لأدمغتنا ذات القشرة الجبهية المتطورة بدرجة أكبر كثيرا مما هي عليه في أدمغة الأنواع الأخرى. (2) الوعي البشري والتعاطف
في مناقشتي لتعقيد العقل البشري، لا أقصد عملياتنا الفكرية أو العقلانية فحسب وقدرتنا على التفكر الذاتي، وإنما النطاق الكامل لتجربة الوعي التي نختبرها، والتي لا تقتصر على الأفكار والخيال والذاكرة فحسب وإنما تشمل المشاعر والعواطف أيضا. الواقع أنني حين أتحدث عن «العقل» أو «التجربة» بهذه الطريقة العامة نوعا ما، أفكر عادة في الكلمتين التبتيتين: «سم» (العقل) و«شيبا» (الإدراك)، وكلتاهما لا تشير فحسب إلى الأنشطة الفكرية السائدة التي عادة ما ترتبط بكلمات مثل «العقل» و«ذهني» في اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات الغربية، بل إلى جميع مجالات تجربتنا الداخلية، بما في ذلك المشاعر والعواطف التي غالبا ما توصف في تلك اللغات على أنها أمور متعلقة بالقلب.
منذ حين، بدأ العلماء الغربيون في إجراء اختبارات عصبية علمية على ممارسي التأمل لوقت طويل من التبتيين، وذلك لقياس الآثار البيولوجية لممارساتهم التأملية. قيل لي إن العلماء في إحدى المناسبات، كانوا يتحدثون عن تجربتهم مع مجموعة من الرهبان في دير «نامجيال» هنا في دارامسالا. ولتوضيح تقنياتهم، ارتدى أحد العلماء على رأسه قبعة بيضاء تبرز منها كتلة كبيرة من الأسلاك والأقطاب الكهربائية. وعندما رآه الرهبان على هذا، انفجر بعضهم في الضحك. ظن العلماء أنهم كانوا يضحكون على المنظر الغريب لعالم غربي بأسلاكه المتصلة برأسه. لكن اتضح أنهم كانوا يضحكون أيضا لدهشتهم من أن الأسلاك كانت متصلة بالرأس فقط دون أي جزء آخر من الجسد. فعلى أية حال، إذا كان الغرض هو قياس صفات مثل الرأفة أو الحنان الناشئ عن الحب، أفلا يكون لأجزاء أخرى من الجسم، كالقلب، الأهمية ذاتها؟ في هذه الأيام، صرنا على دراية أفضل بالنماذج العلمية المعاصرة ولم نعد نندهش كثيرا من المركزية التي يوليها العلم الحديث للدماغ. وقد غير العلماء أيضا طرقهم إلى حد ما؛ إذ تشمل الآن إجراء قياسات للكشف عن التغيرات في القلب.
عند التطرق لما يميز عقل الإنسان عن عقول الكائنات الأخرى، تظهر على الفور بعض السمات الرئيسية. فنحن البشر نتمتع بقدرة قوية وبارعة على التذكر، وهي على ما يبدو أكبر بكثير من تلك الموجودة لدى العديد من الحيوانات الأخرى؛ مما يسمح لنا بالذهاب بأفكارنا إلى الماضي. ونحن نتمتع أيضا بالقدرة على الذهاب بأفكارنا إلى المستقبل. علاوة على ذلك، فإن لدينا خيالا قويا للغاية وقدرة شديدة التطور على التواصل باستخدام لغة رمزية. ولعل الأمر الأكثر تميزا هو أن لدينا القدرة على التفكير المنطقي؛ القدرة على التقييم النقدي ومقارنة النتائج المختلفة في كل من المواقف الحقيقية والخيالية. وبالرغم من أن الحيوانات الأخرى قد يكون لها بعض هذه القدرات بدرجة محدودة، فهي لا تتطابق مع البشر في مستوى تعقيدها.
إلى جانب هذه السمات، لدينا خاصية أخرى أساسية للغاية في هويتنا كبشر؛ وهي قدرتنا الغريزية على التعاطف. لسنا وحيدين في ذلك بالطبع. فبعض الحيوانات تصدر عنها سلوكيات يبدو أنها تدل على التعاطف. ومع ذلك، فهي سمة إنسانية جوهرية. عندما نرى شخصا يتألم، حتى وإن كان غريبا في الشارع أو ضحية لكارثة طبيعية نشاهدها في التلفزيون أو نسمع عنها في الراديو، فإننا نستجيب استجابة غريزية لمعاناته. ولا يتوقف الأمر عند هذا فحسب، بل نشعر أيضا بدافع غريزي للقيام بشيء حيال الأمر؛ لمساعدة ذلك الغريب في الشارع، أو للتخفيف من معاناة من نراهم على شاشات التلفزيون، وذلك بصرف النظر عما إذا تصرفنا بناء عليه أم لا.
ينطبق الأمر نفسه عندما نرى الناس ينتصرون على الشدائد؛ إذ تتيح لنا قدرتنا الفطرية على التعاطف مع تجارب الآخرين أن نشاركهم فرحتهم. أعتقد أن جزءا من السبب في أن الكثيرين منا يحبون مشاهدة الأفلام، والألعاب الرياضية، والمسرحيات، وقراءة الكتب المسلية، وغير ذلك؛ هو أنها، بخلاف ما تقدمه لنا من إثارة، تمنحنا الفرصة للشعور بأفراح الآخرين وأحزانهم كما لو كانت أفراحنا وأحزاننا. إننا نستمتع بطبيعتنا بتجربة التعاطف، وننشدها كثيرا في حياتنا. ومن الأمثلة على هذا، ذلك السرور الذي يشملنا حين يفرح الأطفال الصغار؛ إذ نحب أن نرى وجوههم متوهجة عندما نبتسم لهم، أو نعطيهم شيئا، أو نحكي لهم قصة. وعلى غرار ذلك أيضا، فإننا نستمتع تلقائيا بسعادة أحبائنا. الجميع يفضل رؤية الآخرين مبتسمين على رؤيتهم عابسين.
ولأننا حيوانات اجتماعية؛ أي نظرا لأن بقاءنا وازدهارنا يعتمدان على كوننا جزءا من مجموعة أو مجتمع، فإن لقدرتنا على التعاطف آثارا عميقة على طلبنا للسعادة والرفاهية. (3) السعادة والمعاناة
أعتقد أن الزعم بأننا جميعا نسعى إلى حياة سعيدة هو زعم لا يحتاج إلى تبرير. ما من أحد يتمنى الصعوبات أو المشكلات. وهذا شيء تؤكده بنية أجسادنا. ذلك أن العلوم الطبية تشير على نحو متزايد إلى أن الشخص الذي يشعر بالسعادة والسكينة، وتخلو حياته من الخوف والقلق، سوف يتمتع بفوائد صحية ملموسة. من المنطقي كذلك أنه حتى الأشخاص المصابون بالمرض يكونون أفضل كثيرا إذا كانوا يتمتعون بمنظور إيجابي. ولهذا؛ ثمة حقيقة بسيطة في رأيي تتمثل في أن جسدنا البشري هذا ينشد الحياة السعيدة. فالعقل السعيد هو عقل سليم صحيا، والعقل السليم صحيا مفيد للجسم.
غير أن سعادة الإنسان ومعاناته ليستا مباشرتين، وذلك على العكس من الحيوانات الأخرى. فقد يجد الكلب السعادة عندما يتناول وجبة جيدة ثم يذهب إلى الشرفة للاستلقاء. وعلى الرغم من أننا قد نستوعب مثل هذه المتع البسيطة، فمن الجلي أنها ليست كافية بأي حال من الأحوال لتحقيق الرضا الحقيقي للبشر.
إن السعي البشري الدائم لتحقيق السعادة وتجنب المعاناة لا يفسر أعظم الإنجازات البشرية فحسب، بل يفسر أيضا التطور الذي شهده دماغنا الكبير هذا على مدى آلاف السنين. أعتقد أنه حتى مفهوم الدين ذاته قد نشأ عن هذا السعي. ذلك أننا نواجه حتما في مسار الحياة مشكلات تفوق قدرتنا على التحكم. ولهذا؛ فللحفاظ على الأمل وارتفاع معنوياتنا، نطور مفهوم الإيمان، ولكي ندعم الإيمان نلجأ إلى الصلاة، والصلاة عنصر جوهري في الدين. وعلى المنوال نفسه أقترح أن الإنجازات البشرية الاستثنائية في العلوم والابتكارات التكنولوجية على مدى القرون القليلة الماضية قد نشأت عن الرغبة في التغلب على المعاناة وتحقيق السعادة.
وعلى أية حال، فبالرغم من أن تطورنا العقلي الاستثنائي يميزنا - نحن البشر - عن أشكال الحياة الأخرى ويدفع النجاح المذهل لنوعنا، فإن هذا التعقيد العقلي ذاته، هو في الوقت نفسه مصدر للعديد مما نواجهه من المشكلات والصعوبات الأكثر استمرارا. معظم المشكلات التي نواجهها في العالم اليوم، مثل الصراع المسلح والفقر والظلم والتدهور البيئي، قد نشأت واستمرت بفعل النشاط البشري المعقد. علاوة على ذلك، فإن المصادر الأشد إلحاحا للمعاناة الداخلية على المستوى الفردي؛ الخوف والقلق والتوتر على سبيل المثال، ترتبط هي أيضا ارتباطا وثيقا بتعقيد عقولنا وبمخيلاتنا المستعدة للإثارة. (4) المساواة الجوهرية
إننا جميعا متماثلون جوهريا في سعينا لتحقيق السعادة وتجنب المعاناة؛ ومن ثم متساوون. هذه نقطة مهمة. ذلك لأننا إذا تمكنا من دمج إدراكنا لهذه المساواة الإنسانية الجوهرية في نظرتنا اليومية، فأنا واثق تماما من أن ذلك سيعود بفائدة كبيرة علينا كأفراد، لا على المجتمع بشكل عام فحسب. أنا عن نفسي متى ما التقيت بالناس، سواء أكانوا رؤساء أم متسولين، من السود أم من البيض، قصار القامة أم طوالا ، أغنياء أم فقراء، من هذا الشعب أم من شعب آخر، من معتنقي هذا المعتقد أم ذاك، أحاول أن أتعامل معهم بوصفهم بشرا فحسب يسعون، مثلي، لتحقيق السعادة ويرغبون في تجنب المعاناة. أجد أن تبني هذا المنظور يولد شعورا طبيعيا بالقرب حتى مع أولئك الذين كانوا حتى تلك اللحظة غرباء عني تماما. فعلى الرغم من كل السمات الفردية التي نتمتع بها، وبغض النظر عن التعليم الذي تلقيناه أو المكانة الاجتماعية التي ربما نكون قد ورثناها، وبصرف النظر أيضا عما حققناه في حياتنا، فنحن جميعا نسعى لإيجاد السعادة وتجنب المعاناة خلال حياتنا القصيرة هذه.
ولهذا كثيرا ما أشير إلى أن العوامل التي تقسمنا هي في الواقع أكثر سطحية بكثير من تلك التي نشترك فيها. فرغم جميع السمات التي تميزنا: العرق واللغة والدين والنوع الاجتماعي والثروة وكثير غيرها، جميعنا متساوون من حيث إنسانيتنا الأساسية. والعلم يثبت هذه المساواة. فقد أظهر تسلسل الجينوم البشري، على سبيل المثال، أن الاختلافات العرقية لا تشكل سوى جزء ضئيل من تركيبتنا الجينية التي نتشارك جميعا في الغالبية العظمى منها. حقيقة الأمر أنه على مستوى الجينوم، تظهر الاختلافات بين الأفراد أكثر وضوحا مما هي عليه بين الأعراق المختلفة.
في ضوء هذه الاعتبارات، أعتقد أنه قد حان الوقت لكل منا كي يبدأ في التفكير والتصرف على أساس هوية مترسخة في عبارة «نحن بشر».
الفصل الثالث
البحث عن السعادة
بالأمل وحده يحيا الإنسان، وينطوي الأمل في تعريفه على التفكير في شيء أفضل. وفي رأيي أن بقاءنا على قيد الحياة نفسه يعتمد على فكرة ما بشأن تحقق السعادة في المستقبل. غير أننا إذا قبلنا أن البشر يميلون جوهريا نحو نشد السعادة وتجنب المعاناة، فسيظل علينا استكشاف ما تعنيه السعادة، والمصادر التي يمكن أن نستقيها منها. إن السعادة مصطلح عام إلى حد ما، ومن ثم فقد يساء فهمها. ينبغي أن نوضح على سبيل المثال، أننا في السياق العلماني لهذا الكتاب لا نتحدث عن المفاهيم الدينية للسعادة المطلقة، بل عن البهجة البسيطة أو السعادة التي نفهمها جميعا بالمعنى العادي أو في سياق الحياة اليومية.
مثلما أشرت سابقا، فإن تحقيق السعادة لكائنات مثلنا على هذه الدرجة من التعقيد ليس بالأمر السهل. فعلى عكس سعادة الكلاب أو القطط على سبيل المثال، تستلزم السعادة البشرية ما هو أكثر من الإشباع البسيط للشهوة الحسية. فما هي إذن مصادر سعادة الإنسان؟
هناك ثلاثة عوامل تسهم بدرجة كبيرة في رفاهية الإنسان تطرح نفسها على الفور، وأعتقد أن معظم الأشخاص سيوافقون عليها، وهي: الثروة أو الرخاء، والصحة، والصداقة أو الرفقة. (1) الثروة والصحة والصداقة
فلنبدأ إذن بالثروة. هل يؤثر وضعنا المادي في سعادتنا؟ حسنا، إنه يؤثر بالطبع! من الحماقة أن ننكر أهمية العوامل المادية في رفاهيتنا. ففي نهاية المطاف، حتى الناسك الذي يعيش معتزلا في كهف جبلي يحتاج إلى الطعام والكساء. وبدون مستوى معين من الراحة المادية، لا يمكن للناس العيش بالكرامة التي نستحقها جميعا كبشر. فالمال بلا شك عامل مهم في سعينا لتجنب المعاناة وتحقيق السعادة.
لكن كم يكفينا من المال؟ في اللغة التبتية، نشير إلى المال في بعض الأحيان بالاسم المستعار «كونجا دوندوب». يبدو هذا اللقب للأذن التبتية كأي اسم شخصي عادي، لكنه يعني شيئا أشبه بأنه «القدر الذي يجعلنا جميعا سعداء ويمكنه تلبية جميع رغباتنا». ونظرا إلى أن المال يمنحنا الخيارات والحرية، فمن الطبيعي أن يجده الناس شديد الجاذبية لا يستطيعون فيما يبدو الاكتفاء منه. ومن حين لآخر، أمازح جمهوري التبتي بشأن إخلاصهم ل «كونجا دوندوب». ففي جزء من ممارستنا الدينية التقليدية، عادة ما نتلو - نحن التبتيين - إحدى تعويذات المانترا المرتبطة ببوذا الرأفة: «أوم ماني بادمي هم». نتلوها كثيرا طوال اليوم، همسا في كثير من الأحيان، حتى عندما نكون مشغولين بأشياء أخرى: نقول: «أوم ماني بادمي هم، أوم ماني بادمي هم.» لكن عندما يتلوها الناس بسرعة، تدغم الأصوات بعض الشيء فتصبح: «أوم ماني بادمي، أوم ماني بادمي ... ماني بادمي ... أوم ماني ... ماني ... ماني»، وعند هذه المرحلة يبدو الأمر كما لو أنهم يتحدثون الإنجليزية، ويقولون: «ماني، ماني، ماني»؛ أي «المال ، المال، المال»!
لكن مرة أخرى، وبغض النظر عن المزاح، لا شك أن الثروة والرخاء يعودان بالفوائد. فنحن البشر نحتاج إلى مأوى لائق، وبيئة صحية، وطعام مغذ، ومياه نظيفة. هذه هي احتياجاتنا الأساسية، ومن ثم فهي متطلبات أساسية لسعادة الإنسان.
بالرغم من ذلك، فمع أن المزيد من فوائد الثروة، مثل منزل جديد، أو سيارة جديدة، أو ربما هاتف جديد، قد توفر بعض الارتفاع المؤقت في مستوى راحتنا أو تكيفنا اليومي، ليس هناك ما يضمن أنها ستجلب أي إشباع دائم أو أنها ستسهم في تعزيز الشعور العام بالرفاهية. حقيقة الأمر أن الحصول على الكثير جدا من الممتلكات غالبا ما يؤدي إلى مزيد من القلق، والإجهاد، والتوتر. ويمكن لهذه العوامل بدورها أن تغذي مشاعر الغضب والاستياء أيضا.
من المثير للاهتمام أن الأدلة التي جمعها علماء النفس والاجتماع في السنوات الأخيرة تشير بوضوح كبير إلى أن المقتنيات المادية ليس لها سوى تأثير مؤقت على ما يسمونه «الازدهار النفسي». تشير تلك الدراسات إلى أنه بعد تلاشي الإثارة الأولية الناتجة عن عملية شراء جديدة، سرعان ما تعود سعادتنا إلى مستواها السابق. في اللغة التبتية المنطوقة، لدينا تعبير يجسد هذه الظاهرة جيدا، ولا أعرف له مكافئا دقيقا في لغات أخرى. عندما يكون الشخص منجذبا بصفة خاصة إلى الإثارة الناتجة عن اقتناء أشياء جديدة، نسمي ذلك الشخص «أسار تسابو»؛ أي «أسار جدا»، حيث «سار» تعني «جديد». والمعنى الضمني هو أن مثل هذا الشخص ليس طماعا فحسب، بل سريع الانفعال أيضا ومتقلب؛ فدائما ما يسير وراء أحدث التوجهات أو أحدث الأدوات. وأعتقد أن الثقافة الاستهلاكية الحديثة تميل إلى تشجيع هذا النوع من التقلب.
من الصراع على الموارد في العالم الطبيعي إلى الصراع داخل العائلات، غالبا ما تكون القيم المادية مصدرا للمشكلات. غير أن الثروة المادية ليست بضمان للسعادة. فقد قابلت في الواقع بعض الأشخاص الشديدي الثراء وحتى أصحاب المليارات الذين اعترفوا أنهم لا يشعرون في حياتهم بالرضا أو السعادة على المستوى الشخصي. تنسج الثروة حول الأشخاص ما يشبه الشرنقة ؛ مما يجلب شعورا بالوحدة في كثير من الأحيان. ومن ثم فإن «كونجا دوندوب» ليس بالصديق الذي يعتمد عليه، والذي يجلب أيضا الكثير من المعاناة. وبينما يمكن للثروة المادية أن تكون مصدرا لقدر كبير من التوتر والتعاسة، فإن الثروة النفسية، القائمة على الحب والرأفة، لا يمكن أن تصبح كذلك. من الواضح إذن أي نوعي الثروة ينبغي أن نسعى إليه حقا.
لكنك قد تقول إن الثروة تمنح حقا نوعا من الأمان والرضا الدائم إلى حد بعيد. ربما يكون هذا صحيحا، لكن ما مدى الأمان الذي يمكن أن توفره الثروة المادية؟ إن الكوارث الطبيعية المتكررة تذكرنا على الدوام بمدى هشاشة الأمن المادي الذي نشعر به.
ولهذا، فالأكثر أهمية من المال، أو الممتلكات، أو المكانة هو حالتنا المعنوية أو النفسية. سيكون أفراد الأسرة الفقيرة سعداء إذا شعروا بالعاطفة والطيبة والثقة فيما بينهم. وقد يعيش جيرانهم الأغنياء في رفاهية، لكن إذا أحاط الشك أو الاستياء بعقولهم، فلن يشعروا بسعادة حقيقية. وذلك أمر بديهي. ولذا فإن المستوى النفسي أمر جوهري في نهاية المطاف.
إن الأبحاث الحديثة في مجال العلوم الاجتماعية لم توضح أن الفوائد النفسية للثروة هي أمر مؤقت فحسب، بل أوضحت أيضا أن المستوى العام للرضا في المجتمع عندما تكون الثروة موزعة بالتساوي بين السكان يكون أكبر مما هو عليه عندما تكون هناك فوارق كبيرة بين الأغنياء والفقراء. ومرة أخرى يشير هذا إلى أنه لا يمكن قياس الرفاهية بأسس مادية موضوعية؛ إذ يعتمد على مجموعة من العوامل السياقية التي تؤثر على الموقف النفسي للفرد تجاه علاقتنا بتلك الثروة. •••
وماذا عن الصحة؟ هل الصحة مصدر للرفاهية؟ لا شك أنها هي أيضا كذلك. فمثلما اختبر معظمنا بنفسه، عندما نشعر بألم مستمر أو انزعاج، فقد يصبح حفاظنا على السلوك الإيجابي أمرا شديد الصعوبة. ولذلك، فالاعتناء بصحتنا البدنية أمر بالغ الأهمية. علينا أن نأكل جيدا، وأن ننام جيدا، وأن نمارس بعض التمارين. وإذا مرضنا، فيجب أن نستشير طبيبا مؤهلا مناسبا وأن نتبع العلاج الموصوف. وهذا جانب واضح من الأمر . ومع ذلك، إذا نظرنا إلى الصحة بوصفها أمرا بدنيا خالصا، ولم نهتم إلا بحالة أجسامنا وأهملنا ما سوى ذلك من العوامل النفسية والعاطفية، فإننا نكون مخطئين. ذلك أنه لا يوجد ارتباط ضروري أو مباشر بين الاستمتاع بصحة بدنية جيدة وبين السعادة. فبالرغم من كل شيء، أليس ممكنا لشخص يتمتع بجسم سليم وقوي أن يكون غير سعيد؟ الحق أنه أمر شائع للغاية. وهل يكون من غير الممكن بالقدر نفسه أيضا أن يشعر شخص يعاني صحة ضعيفة، بل سيئة للغاية، بالسعادة؟ أنا واثق من إمكانية حدوث هذا. هل ذلك الضعف البدني الذي يصيب العجائز على سبيل المثال، ينطوي بالضرورة على التعاسة؟ بالطبع لا! ولذا، على الرغم من أن الصحة البدنية تسهم بالتأكيد في سعادة الإنسان، فهي ليست مصدرها المطلق. أما المصدر الحقيقي للسعادة، فنؤكد مرة أخرى أنه يتعلق بحالتنا النفسية، ونظرتنا، ودوافعنا، ومستوى مودتنا تجاه الآخرين. •••
والآن لنتناول الصداقة. مما لا شك فيه أن وجود دائرة قريبة من الأصدقاء؛ الأشخاص الذين يمكننا قضاء الوقت معهم وتبادل الخبرات، أمر مهم للغاية. ونظرا لأننا حيوانات اجتماعية، تشكل علاقاتنا مع الآخرين جزءا أساسيا في تحقيقنا للرفاهية. بالرغم من ذلك، علينا أن نفكر مليا فيما يميز الصداقة الحقيقية عن العلاقات السطحية التي لا تجلب سوى المنافع الاجتماعية السطحية. لا شك أن المال والمكانة الاجتماعية والمظهر، كلها من الأمور التي تجلب معها قدرا كبيرا من الاهتمام في المجتمع البشري. لكن ما الهدف الحقيقي لهذا الاهتمام؟ أيمكن ألا يكون هؤلاء الأشخاص أصدقاء حقيقيين لنا بل أصدقاء لأموالنا، أو مكانتنا، أو مظهرنا الجيد؟ وإن كان الأمر كذلك، فماذا سيحدث إذا انحسر معين ثرواتنا أو نضب؟ ماذا لو فقدنا مظهرنا الجيد أو أموالنا؟ هل سيظل هؤلاء الأصدقاء موجودين عندما نحتاج إليهم، أم أنهم سيتلاشون من حياتنا؟ مكمن الخطر أن هؤلاء الأصدقاء سيختفون سريعا.
من الجلي أن الصداقة الحقيقية لا تقوم إلا على الثقة والمودة، ولا يمكن أن تنشأ إلا على أساس من الشعور المتبادل بالاهتمام والاحترام. ومن ثم؛ فإن مشاعر الثقة والحنان الناشئ عن الحب، التي تقاوم مشاعر العزلة أو الوحدة، لا تنبع من مجرد الوجود الخارجي للآخرين أو من المظهر الخارجي للصداقة، بل مما يبديه الشخص نفسه من الاهتمام والاحترام تجاه الآخرين. إن مصدرها الجوهري يكمن بداخلنا.
خلال إحدى زيارتي إلى إسبانيا منذ عدة سنوات، التقيت راهبا مسيحيا قضى خمس سنوات يعيش ناسكا في صومعته. سألته عما كان يفعله خلال كل هذه الفترة. فأجاب أنه كان يتأمل في الحب. عندما قال هذا، بلغة إنجليزية أضعف حتى من لغتي، رأيت عمق المشاعر في عينيه حتى إنه لم يكن يحتاج إلى قول أي شيء أكثر من ذلك. إنه مثال على شخص عاش بمفرده لكنه لم يشعر بأي وحدة. إن الحنان أو الرأفة هما ما يربطنا بالآخرين قبل أي شيء. فقد يشعر بعض الأشخاص ممن يبدو أن لديهم الكثير من الأصدقاء والمعجبين بعزلة شديدة مع ذلك. وأود أن أذكر مثل هؤلاء الأشخاص أن الترياق الوحيد لمثل هذه الوحدة هو موقفهم الداخلي من المودة، والاهتمام، والحنان تجاه إخوانهم من البشر. (2) مستويان من الرضا
تكشف هذه الاعتبارات أننا حين نتحدث عن السعادة، فإننا غالبا ما نخلط بين حالتين مختلفتين تماما ومستقلتين إلى حد كبير، ومستويين، من الرضا. فمن ناحية ما، لدينا تلك المشاعر الممتعة التي تنبع من التجارب الحسية. وتسهم كل من الثروة والصحة والصداقة إلى حد كبير في تكون مثل هذه المشاعر لدينا. ومن ناحية أخرى، ثمة مستوى أعمق للرضا لا ينبع من المحفزات الخارجية بل من حالتنا النفسية ذاتها. هذا هو المستوى الثاني من الرضا، الذي ينبع من داخلنا، وهو ما أعنيه عندما أتحدث عن السعادة البشرية الحقيقية.
نظرا لأن النوع الأول من الرضا يعتمد على التحفيز الحسي، فإنه هش وعابر بطبيعته. ذلك أن هذه المتع لا تدوم إلا بقدر دوام التحفيز الحسي، وعندما يتوقف التحفيز، لا يكون لها أي دور دائم في إحساسنا العام بالرفاهية. على سبيل المثال، يقضي كثير من الناس وقتا طويلا في مشاهدة الفاعليات الرياضية. لكن ما الذي يتبقى لهم بعد انتهاء الفاعلية؟ ما المنفعة الطويلة الأجل التي اكتسبوها؟
تنبع جميع المتع القائمة على التحفيز الحسي عن إشباع رغبة ملحة بمستوى ما. وإذا أصبحنا مهووسين بإشباع تلك الرغبة، فسيتحول هذا في النهاية إلى شكل من أشكال المعاناة. حتى المتعة التي نشعر بها من تناول الطعام تتحول إلى معاناة إذا أفرطنا في الأكل.
لا أريد بهذا أن أقول إن مثل هذه المتع عديمة القيمة تماما، وإنما أرغب فحسب في توضيح أن الرضا الذي تجلبه هو رضا عابر وينطوي على دورات من الرغبة الملحة تتولد من تلقاء نفسها. وفي عالم اليوم المادي الذي نغفل فيه عن القيم المعنوية في كثير من الأحيان، من السهل للغاية أن نقع في عادة السعي المستمر وراء التحفيز الحسي. غالبا ما ألاحظ أنه إذا لم يكن الناس يستمعون إلى الموسيقى، أو يشاهدون التلفزيون، أو يتحدثون في الهاتف، أو غير ذلك من الأفعال، فإنهم يشعرون بالملل أو القلق ولا يعرفون شيئا آخر يقومون به. وذلك يشير إلى أن إحساسهم بالرفاهية يعتمد بشكل كبير على مستوى الرضا الحسي.
فماذا عن المستوى الآخر؛ المستوى الداخلي للرضا؟ من أين ينبع؟ وكيف يمكن الوصول إليه؟ حسنا، إن السعادة الحقيقية تستلزم أولا راحة البال أو درجة من الهدوء النفسي. وعندما يتحقق ذلك، تهون المشقة. فمع القوة النفسية والاستقرار المستمدين من السلام الداخلي، يمكننا أن نتحمل جميع أنواع الشدائد.
يمكن توضيح الدور الذي تؤديه عقولنا في تقرير سعادتنا بسهولة كبيرة. تخيل فردين قد شخصا بالمرض العضال نفسه، لنقل إنه شكل متقدم من أشكال السرطان غير القابل للعلاج. يتلقى أحدهما هذا الخبر بمشاعر الغضب والإشفاق على الذات، مع هوس بالتركيز على وضعه الظالم، بينما تلقاه الآخر بتقبل هادئ. في كلتا الحالتين، فإن الحالة المادية، من حيث الصحة البدنية والمعاناة، واحدة. غير أن الشخص الأول يتجرع مزيدا من الألم النفسي والعاطفي، أما الشخص الهادئ فهو أفضل استعدادا لمواصلة الحياة والاستمرار في الاستمتاع بالأشياء التي تجلب له الفرح، كالأسرة مثلا أو الإخلاص لقضية معينة، أو القراءة. والفرق الوحيد بينهما هو نفسية كل منهما.
مع المرونة الداخلية، يصبح من الممكن الحفاظ على درجة من السعادة حتى في الظروف الشديدة الصعوبة. ومن دون هذه القوة الداخلية، لا يمكن لأي قدر من الإشباع الحسي أن يجعلنا سعداء.
بالرغم من ذلك، إذا كان السلام النفسي هو خط دفاعنا الأول ضد المشقة والمعاناة، فثمة عوامل جوهرية أخرى تسهم هي أيضا بشكل كبير في مستوى سعادتنا وفرحنا الحقيقيين. تشير الأبحاث العلمية الحديثة إلى أن العامل الرئيسي من بينها هو الإحساس بالغاية الذي يتجاوز المصلحة الذاتية الضيقة والشعور بالتواصل مع الآخرين أو الانتماء إلى مجتمع ما. وأنا أعتقد أن أساس هذين العاملين هو الرأفة أو المودة، وذلك هو ما أنتقل إليه الآن.
الفصل الرابع
الرأفة: أساس الرفاهية
مثل جميع الثدييات الأخرى، نولد - نحن البشر - من أمهاتنا، ونظل لبعض الوقت بعد الميلاد معتمدين اعتمادا تاما على اهتمام أمهاتنا أو غيرهن من مقدمي الرعاية البالغين. لمدة تسعة أشهر نتغذى في أرحام
لنا ولا قوة. لا يمكننا الجلوس أو الزحف، فضلا عن الوقوف أو المشي، فلا يمكننا البقاء على قيد الحياة من دون عناية الآخرين واهتمامهم بنا. وفي حالة الضعف المطلق تلك، يكون أول عمل لنا كأطفال حديثي الولادة هو الرضاعة من أثداء أمهاتنا. وبلبنهن نتغذى ونحصل على القوة. والواقع أن فترة الاعتمادية لدى صغار البشر طويلة على نحو خاص. وينطبق هذا علينا جميعا، بما في ذلك حتى أسوأ المجرمين. فلولا الرعاية المحبة التي نتلقاها من الآخرين، لما عاش شخص منا أكثر من بضعة أيام. ونتيجة لهذه الحاجة الشديدة إلى الآخرين في المرحلة المبكرة من نمونا، فإن النزعة نحو العاطفة جزء من تكويننا البيولوجي.
تلك سمة نتشارك فيها مع العديد من الثدييات الأخرى، ومع الطيور أيضا؛ أي مع كل تلك الكائنات التي يعتمد بقاؤها في مراحل النمو المبكرة على تلقي الرعاية من الآخرين. ومن الجلي أن جميع هذه الحيوانات تعرف شكلا من أشكال الشعور بالاتصال أو الترابط. حتى إذا كنا لا نستطيع أن نسمي هذا الشعور بالعاطفة على نحو صريح، فجميع هذه الكائنات تتمتع بشكل ما من مشاعر القرب. وفي المقابل، نختلف نحن عن السلاحف أو الفراشات، التي تضع بيضها ثم تتركه ولا ترى نسلها بعد ذلك أبدا. لا توجد لهذه الحيوانات فترة تنشئة، ولهذا فإنني أتساءل إن كان بإمكانها إدراك العاطفة أم لا. منذ عهد قريب خلال حديث في جامعة أكسفورد، اقترحت بشيء من المزاح أن يجري العلماء الحاضرون بعض الأبحاث في هذا الشأن. هل تتعرف تلك الحيوانات التي لا تتطلب أي فترة للتنشئة على والديها، على سبيل المثال؟ أشك في ذلك نوعا ما. وهو شيء سأكون مهتما للغاية برصده.
أما بالنسبة إلى البشر، فمن الجلي مع فترة تنشئتنا الطويلة أن اهتمام الآخرين وعاطفتهم يؤدي دورا جوهريا لبقائنا ورفاهيتنا. إن الأبحاث الطبية الحديثة توضح أن الاتصال الجسدي من الأم أو من الشخص المقدم الرعاية خلال فترة الطفولة المبكرة يمثل عاملا جوهريا في زيادة حجم الدماغ. ويؤكد علم النفس الحديث أن الرعاية التي نتلقاها في سن الرضاعة والطفولة تترك أثرا عميقا في تطورنا العاطفي والنفسي. يشير هذا البحث أيضا إلى أن الأشخاص الذين يفتقرون إلى العاطفة في فترة الطفولة أكثر عرضة لأن ينتابهم في الحياة بعد ذلك شعور مترسخ بانعدام الأمان.
ثمة برنامج سمعت عنه منذ بضع سنوات يعمل على تحسين الرعاية التي تقدمها دور الأيتام في بعض الأماكن المضطربة في أمريكا اللاتينية. وبالرغم من أن التدابير التي يدعمها هذا البرنامج هي ثمار أبحاث علمية ونفسية مهمة، فهي أيضا أمور بسيطة للغاية وتدركها الفطرة السليمة؛ إذ تعكس جميعها الدور الجوهري للدفء البشري والعاطفة في تطورنا النفسي والبدني. تتضمن هذه التدابير، على سبيل المثال، إسكان الأطفال في مهاجع أصغر وأكثر حميمية، وتوزيعهم في مجموعات صغيرة على أفراد مقدمي الرعاية؛ حتى تتاح لهم الفرصة لتطوير علاقة شبيهة بالعلاقات الأسرية الطبيعية. وفي حالة الرضع، يحث مقدمو الرعاية على ممارسة المزيد من الاتصال الجسدي والتحدث مع الأطفال والنظر في عيونهم أثناء تغيير حفاضاتهم وما إلى ذلك من الأعمال. وهذه التدابير، على الرغم من بساطتها، يمكن أن تحدث تأثيرا يدوم مدى الحياة.
يتضح اعتمادنا على الآخرين بأكبر درجة في مرحلة الطفولة، لكنه لا ينتهي عندها. فكلما واجهنا صعوبات في الحياة، لجأنا إلى الآخرين للحصول على الدعم. عندما نمرض، على سبيل المثال، نذهب إلى الطبيب. وعلى مدار حياتنا بأكملها، تستفيد حتى صحتنا البدنية من مشاعر المودة والدفء البشرية البسيطة. إن التعافي من المرض في حد ذاته لا يقتصر على تلقي العلاج الطبي المناسب أو وضع المواد الكيميائية المناسبة في مجرى دمائنا، بل يعتمد أيضا إلى حد كبير على الرعاية البشرية التي نتلقاها.
تعززت هذه الفكرة لدي مؤخرا عندما خضعت لعملية جراحية في دلهي لإزالة المرارة. كان من المفترض أن تكون عملية جراحية بسيطة، لكن حدثت بعض المضاعفات، وما كان ينبغي أن يستغرق عشرين دقيقة قد استغرق أربع ساعات، واضطررت إلى قضاء بضعة أيام للتعافي في المستشفى. ومن حسن الحظ أن الأطباء والممرضات هناك كانوا طيبين وعطوفين معي للغاية، وأتذكر الكثير من الفرح والضحك. فلا يساورني كثير من الشك في أن بيئة الدفء الإنساني والسعادة التي ساهموا في خلقها ساعدت في التعجيل بشفائي.
نحن نعتمد أيضا بشكل كبير على دفء مشاعر الآخرين وعطفهم عندما نصل إلى نهاية حياتنا. كم هو من الأفضل كثيرا أن نخرج من هذا العالم محاطين بالحب والعاطفة وفي بيئة من السلام والسعادة، عن أن نكون محاطين باللامبالاة أو العداء وفي بيئة من النزاع والاستياء! من وجهة نظر عقلانية بحتة، ينبغي ألا نكترث لمشاعر الآخرين تجاهنا عندما نكون على وشك الموت؛ إذ لا يمكن لمواقفهم أن تؤثر فينا عندما نرحل. لكننا في الحقيقة نهتم بالأمر كثيرا. فعند لحظة الموت، تهمنا النوايا الحسنة للآخرين على نحو كبير. وهذه ببساطة إحدى حقائق الطبيعة البشرية.
ليس البشر وحيدين بالطبع في هذا الاعتماد على دفء مشاعر الآخرين ومودتهم. ذلك أن الدراسات العلمية تسفر عن استنتاجات مماثلة فيما يتعلق بالثدييات الأخرى المختلفة التي تحتاج أيضا إلى فترة التنشئة. على سبيل المثال، سمعت مؤخرا عرضا تقديميا لبعض العلماء بشأن سلوك القردة. وقد لاحظوا أن القرود الصغيرة التي عاشت مع أمهاتها كانت في الغالب أكثر مرحا وأقل مشاكسة من تلك التي انفصلت عن أمهاتها عند الولادة. فقد أظهرت تلك التي انفصلت عن أمهاتها سلوكا عدوانيا؛ مما يشير إلى أنها مضطربة عاطفيا وتفتقر إلى الشعور الداخلي بالأمان. وأظهرت دراسة أخرى دور العناية بالتنظيف في التطور البدني المبكر للفئران. فحتى الفئران التي جرت تربيتها خصيصا لتكون قلقة، قد أظهرت استجابة إيجابية لسلوك اللعق بغرض التنظيف، وانحسر سلوكها القلق تدريجيا تحت تأثير هذا الاهتمام. لقد تمكن العلماء أيضا من تتبع التغيرات الجسدية في أدمغة هذه الحيوانات التعسة، وأوضحوا أن التنظيف قد أطلق بالفعل مواد كيميائية مهدئة في الدماغ وخفض من مستويات هرمونات التوتر في الجسم.
لا أقصد من هذا كله أن أقترح أن رفاهيتنا سلبية تماما أو تعتمد على الطريقة التي يعاملنا بها الآخرون. فالأهم حتى مما نتلقاه من دفء ومودة هو ما نمنحه للآخرين من دفء ومودة. فمن خلال تقديم الدفء والعاطفة، ومن خلال الاهتمام الحقيقي بالآخرين؛ بعبارة أخرى، من خلال الرأفة، نصل إلى شروط تحقيق السعادة الحقيقية. ولهذا السبب، فإن منح المحبة أهم حتى من أن يكون المرء محبوبا.
الكثيرون من الناس يفترضون خطأ أن الرأفة ممارسة دينية. وليس ذلك بصحيح. فبالرغم من أن الرأفة جوهرية في التعاليم الأخلاقية لجميع التقاليد الدينية الكبرى، لكنها ليست قيمة دينية في حد ذاتها. فالكثير من الحيوانات تدركها وتقدرها مثلما قلت، وتمتلك الثدييات القدرة على ممارستها بالطبع.
يفترض الكثير من الناس أيضا أن الشعور بالتعاطف مع الآخرين هو أمر جيد للآخرين فقط وليس لأنفسهم. وهذا أيضا غير صحيح. ذلك أن مسألة ما إذا كانت طيبتنا ستجلب النفع للآخرين أم لا، تعتمد على العديد من العوامل التي سيكون بعضها خارج نطاق سيطرتنا. لكن سواء أنجحنا في تحقيق النفع للآخرين أم لا، فإن المستفيد الأول من ذلك التعاطف هو أنفسنا دائما. عندما تنشأ فينا الرأفة أو الدفء ويتحول تركيزنا بعيدا عن مصلحتنا الذاتية الضيقة، فإن الأمر يغدو وكأننا فتحنا بابا داخليا. تقلل الرأفة من خوفنا، وتعزز ثقتنا، وتجلب لنا قوة داخلية. وبتقليلها لانعدام الثقة، تجعلنا منفتحين على الآخرين وتجلب لنا إحساسا بالتواصل معهم وشعورا بوجود هدف في الحياة ومغزى منها. ثم إن الرأفة تمنحنا أيضا هدنة من الصعوبات التي تواجهنا.
منذ وقت مضى، في أثناء زيارتي لبود جايا، وهو موقع حج بوذي مهم في الهند، أصبت بعدوى شديدة في الجهاز الهضمي. كان الألم شديدا لدرجة أنني اضطررت لإلغاء سلسلة التعاليم بأكملها التي كان من المقرر أن ألقيها هناك. شعرت بالأسف الشديد لإحباط آلاف الأشخاص الذين سافروا من أجل الحضور، وكثير منهم من أماكن بعيدة. غير أنني اضطررت للذهاب إلى المستشفى بشكل عاجل. وكان هذا يعني مروري بالسيارة عبر أفقر المناطق الريفية في الهند.
كان الألم يعتصر بطني. وفي كل مرة تهتز فيها السيارة على الطريق، كنت أشعر بأن الألم يغمرني. وعندما نظرت من نافذة السيارة، رأيت مشاهد من الفقر المستشري. رأيت أطفالا يعانون نقص التغذية يركضون عراة في التراب. ولمحت رجلا عجوزا للغاية يرقد على سرير نقال بالقرب من الطريق. بدا وحيدا وليس لديه من يعتني به. وبينما استمرت السيارة في طريقها، لم أستطع التوقف عن التفكير في مأساة الفقر والمعاناة الإنسانية. وقد لاحظت بعد ذلك أنه عندما تحولت أفكاري من معاناتي إلى التأمل في مصاعب الآخرين، هدأ ألمي.
إن الملاحظة المتمثلة في أن اهتمامنا بالآخرين يسهم في تحقيق رفاهيتنا لها أيضا ما يدعمها من الأبحاث العلمية. ذلك حيث توجد الآن أدلة علمية متزايدة على أن الحب والطيبة والثقة وما يشبهها من المشاعر، لا تعود بالفوائد النفسية فحسب، بل تعود أيضا بفوائد ملحوظة على الصحة البدنية. إنني أعرف دراسة حديثة تبين أن تحري تنمية الحب والرأفة يمكن أن يؤثر حتى في حمضنا النووي نفسه. وقد لوحظ هذا التأثير في أجزاء حمضنا النووي المعروفة باسم «التيلوميرات»، التي تربط العلوم الطبية بينها وبين عملية التقدم في العمر.
علاوة على ذلك، تبين أيضا أن المشاعر السلبية مثل القلق والغضب والاستياء تقوض من قدرتنا على مكافحة المرض والعدوى. فقد أخبرني أحد أصدقائي من العلماء مؤخرا أن مثل هذه المشاعر السلبية المستمرة تلتهم جهازنا المناعي في حقيقة الأمر.
منذ سنوات، حضرت عرضا تقديميا في نيويورك اقترح فيه أحد علماء الطب أن الرجال الذين يكثرون في استخدام ضمائر المتكلم، مثل «أنا»، و«لي»، بدرجة لا تتناسب مع الضمائر الأخرى، هم أكثر عرضة من غيرهم للإصابة بالنوبات القلبية. لم يقدم العرض حينها تفسيرا للأمر، لكني كنت أرى أن دلالته واضحة إلى حد كبير. إن كثرة استخدام ضمائر المتكلم تشير على الأرجح إلى مستوى عال من التركيز على الذات. والأرجح أن هؤلاء الأشخاص أكثر عرضة للإجهاد والقلق اللذين يصاحبان التمركز حول الذات. ومن المعروف بالطبع أن الإجهاد والقلق مضران بالقلب. بالرغم من هذا، فأولئك الذين يكثرون من الحديث عن أنفسهم صادقون على الأقل، وذلك في رأيي أفضل من التظاهر بالتعاطف مع التمركز حول الذات في حقيقة الأمر!
إن تلك العلاقة التي لا تنفصم، بين الحالة العقلية والوجدانية من ناحية وبين الرفاهية والصحة من ناحية أخرى، توحي لي بأن بنية أجسامنا نفسها، ترشدنا إلى المشاعر الإيجابية. فمثلما أقول في كثير من الأحيان، يبدو أن تقدير الحب والعاطفة يسكن في خلايا دمائنا.
حسنا، ينبغي التوضيح أنه ما من خطأ جوهري في السعي وراء المصالح الفردية. وإنما هو على العكس من ذلك تعبير طبيعي عن نزعتنا الأساسية في السعي وراء السعادة وتجنب المعاناة. الحق أن اهتمامنا باحتياجاتنا الخاصة هو ما يمنحنا القدرة الطبيعية على تقدير مودة الآخرين وحبهم. ولا تصبح غريزة المصلحة الذاتية هذه أمرا سلبيا إلا عندما نفرط في التركيز على الذات. فعندما يحدث هذا، تضيق رؤيتنا؛ مما يقوض قدرتنا على رؤية الأمور في سياقها الأشمل. وفي ظل هذا المنظور الضيق، يمكن حتى للمشكلات الصغيرة أن تحدث إحباطا هائلا، ويعتقد المرء أنها لا تطاق. وعندما تظهر تحديات كبرى حقيقية ونحن في مثل هذه الحالة، يكمن الخطر في أننا سنفقد كل أمل، ونشعر باليأس والوحدة، ويستنزفنا الإشفاق على الذات.
المهم في الأمر أنه عند السعي وراء مصلحتنا الذاتية، يجب أن نكون «أنانيين حكماء» وليس «أنانيين حمقى». والأنانية الحمقاء هي السعي وراء مصالحنا الخاصة بطريقة محدودة قصيرة النظر. أما الأنانية الحكيمة فهي التحلي بنظرة أشمل وإدراك أن مصلحتنا الفردية الطويلة الأجل تكمن في صالح الجميع. إن الأنانية الحكيمة تعني أن نتحلى بالتعاطف.
إذن، فقدرة الإنسان على الاعتناء بالآخرين ليست شيئا تافها أو شيئا يمكن الاستهانة به. وإنما هي ملكة ينبغي الاعتزاز بها. إن التعاطف من عجائب الطبيعة البشرية، إنه مورد داخلي نفيس، وهو أساس رفاهيتنا والانسجام في مجتمعاتنا. ولهذا، إذا كنا نسعى لتحقيق السعادة لأنفسنا، فعلينا أن نتحلى بالتعاطف، وإذا كنا نسعى لتحقيق السعادة للآخرين، فعلينا أيضا أن نتحلى بالتعاطف! (1) محبة أم
كانت أمي هي أول من علمني الرأفة. كانت زوجة مزارع بسيطة وأمية لا تفقه القراءة والكتابة، لكني لا أستطيع تصور مثال أفضل منها على شخص متشبع بروح الرأفة حتى أعماقه. كل من قابلها قد تأثر بلطفها ومودتها. كان هذا على النقيض من أبي، الذي كان حاد الطباع بدرجة كبيرة، حتى إنه كان يصفعنا أحيانا ونحن أطفال. ولأنني ابن أمي، فقد كنت محظوظا بما يكفي لتلقي جرعة خاصة من عاطفتها، وأنا على يقين من أن هذا ساعدني على أن أكون أكثر تراحما. ومع ذلك، فربما أكون قد أسأت استغلال طيبتها من وقت لآخر حين كنت طفلا. فعندما كانت تحملني على كتفيها، كنت أقبض على أذنيها بيدي. وعندما كنت أريدها أن تذهب إلى اليمين، كنت أجذب أذنها اليمنى. وعندما كنت أريدها أن تذهب إلى اليسار، كنت أجذب أذنها اليسرى. وإذا ذهبت في الاتجاه الخطأ، كنت أحدث جلبة كبيرة. وبالطبع كانت تكتفي بالتظاهر بعدم فهم إشاراتي، وقد تحملت نوباتي الصاخبة دون أن تغضب. الحق أنني لا أتذكر أن أمي فقدت أعصابها مع أي شخص. كانت شخصا لطيفا للغاية، ليس مع أطفالها فحسب، بل مع كل شخص قابلته.
لا شك أن حب الأم لطفلها هذا هو حب بيولوجي إلى حد كبير. فغريزة الأمومة قوية للغاية، وتساعد الأم على التغاضي عن تعبها البدني وإرهاقها خلال رعايتها لطفلها. وليس لهذه التضحية بالنفس علاقة بمستواها التعليمي، أو بفهمها للأخلاق، أو بأي شيء آخر، بل هي أمر طبيعي تماما.
لقد تذكرت قوة عاطفة الأم تجاه طفلها حديث الولادة في أثناء رحلة جوية بين اليابان وأمريكا قمت بها مؤخرا واستغرقت ليلة كاملة. جلس في الصف المجاور لي على متن الطائرة زوجان شابان بصحبتهما طفلان صغيران. كان الطفل الأكبر في الثالثة أو الرابعة من عمره تقريبا، بينما كان الأصغر لا يزال رضيعا، ربما يبلغ من العمر سنة واحدة. فور أن أقلعت الطائرة، بدأ الطفل الأكبر يركض هنا وهناك، ممتلئا بالطاقة والإثارة. استمر الأب في ملاحقته وإعادته إلى مقعده. في إحدى المرات، قدمت للصبي حلوى. أخذها دون أن يقول أي شيء، ثم واصل السير في الأرجاء. في هذه الأثناء، كان الطفل الأصغر يبكي، وتناوب الوالدان على تهدئته وحمله ذهابا وإيابا في الممر. في النهاية، نال التعب من الصبي الأكبر ومكث لينام، لكن الرضيع كان لا يزال قلقا واستمر في البكاء. في البداية، ساعد الأب في الاعتناء بالرضيع، ولكنه في النهاية جلس هو أيضا لينام. في الصباح، لاحظت احمرار عيني الأم. لم تنم، وقضت الليلة بأكملها في الاعتناء بالرضيع، لكني لم ألحظ أي أثر للاستياء أو المرارة عليها؛ فقد كانت لا تزال ترعى أطفالها بحنان وتفان رائعين. أنا عن نفسي لا أتصور أنني أستطيع أن أكون صبورا إلى هذا الحد!
إن هذا النوع من سلوك المحبة غير المشروطة؛ سلوك الأم تجاه مولودها، هو ما أعنيه عندما أتحدث عن الرأفة بصفتها مصدر جميع قيمنا الأخلاقية أو الروحية المشتركة. هذا هو الحب الذي يتجلى في الرمز المسيحي للعذراء مع طفلها يسوع، وهو ما أجده قويا للغاية. (2) مستويات الرأفة
إنني أميز بوجه عام بين مستويين من الرأفة. الأول هو المستوى البيولوجي الذي كنت أصفه، وتمثله عاطفة الأم تجاه وليدها. والثاني هو المستوى الممتد، الذي يجب تنميته عمدا.
على الرغم من أن الرأفة في المستوى البيولوجي يمكن أن تكون غير مشروطة، كحب الأم لطفلها، فهي أيضا متحيزة ومحدودة النطاق. ومع ذلك، فهي ذات أهمية قصوى؛ لأنها البذرة التي يمكن أن تنمو منها الرأفة غير المنحازة. فيمكننا أن نستند إلى قدرتنا الفطرية على الود، ثم نعمل على تمديدها باستخدام ذكائنا وقناعتنا.
بشكل عام، ننزع - نحن البشر - بدرجة كبيرة لأن نشمل باهتمامنا الأشخاص الأقرب إلينا أولا، ثم توسعة هذا الاهتمام ليشمل مجتمعنا الأوسع؛ أي أولئك الذين نتشارك معهم في اللغة، أو المكان، أو الدين، على سبيل المثال. ذلك طبيعي تماما ومن شأنه أن يكون فعالا إلى حد كبير. فعندما ينبع حافز الأفراد من الإخلاص لقضية ما أو من مشاعر القرب تجاه مجموعة بعينها، يصبحون قادرين على فعل أشياء عظيمة. يمكن لمثل هذه المشاعر أن تجمع الناس معا وتساعدهم على تجاوز مصلحتهم الذاتية الضيقة. وبهذا المعنى، تصبح هذه المشاعر نافعة. بيد أنه من المؤسف أن مثل هذه العلاقات القائمة على الأسرة أو المجتمع أو الأمة أو اللغة أو الدين، غالبا ما يصاحبها تمييز متصاعد بين «نحن» و«هم». المشكلة هي أننا عندما نرى أنفسنا من منظور هذه المجموعة أو تلك فقط، فإننا نميل إلى نسيان هويتنا الأوسع كبشر.
من العناصر الأساسية في هذه المشاعر المتحيزة هو ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح «التعلق». ذات مرة، في مؤتمر علمي في الأرجنتين، أخبرني أحد معلمي صديقي فرانسيسكو فاريلا أنه كعالم ينبغي ألا يتعلق كثيرا بمجال بحثه؛ لأن هذا قد يشوه قدرته على تقييم الأدلة بموضوعية. حين سمعت هذه الكلمات شعرت على الفور أنها لا بد أن تنطبق أيضا على المجال الديني. فبصفتي بوذيا على سبيل المثال، يجب أن أسعى جاهدا ألا يكون تعلقي بالبوذية مفرطا. لأن ذلك ما سوف يعيق قدرتي على إدراك قيمة التقاليد الدينية الأخرى.
علاوة على ذلك، ففي ظل عنصر التعلق، غالبا ما تعتمد عاطفتنا تجاه الآخرين واهتمامنا بهم على علاقة هؤلاء الآخرين بنا . إننا نهتم بمن يعتنون بنا ويعاملوننا جيدا. بالرغم من ذلك، فعندما تعتمد عاطفتنا على تحقيق أهدافنا وتوقعاتنا الشخصية، التي نسقطها على الآخرين، فستكون دائما شديدة الهشاشة. ومن ثم، فما دام الآخرون يحققون توقعاتنا، يسير كل شيء على ما يرام، لكنهم حالما يتوقفون عن ذلك، من السهل أن تتحول عواطفنا إلى استياء، بل وحتى كراهية.
وعلى العكس من ذلك، فإن الرأفة الشاملة الممتدة ليست متجذرة في أي عنصر يتعلق بالذات، بل في الإدراك البسيط المتمثل في أن الآخرين جميعهم بشر يطمحون مثلنا تماما إلى تحقيق السعادة وتجنب المعاناة. ومع هذا النوع من الرأفة، يكون شعورنا بالاهتمام بالآخرين مستقرا تماما ولا يتأثر بأي موقف قد يتخذونه منا. حتى لو هددنا الآخرون أو أساءوا لنا بالكلام، فإننا نظل نشعر بالرأفة تجاههم ونظل مهتمين بصالحهم. ومن ثم، فإن الرأفة الحقيقية لا توجه نحو سلوك الأشخاص بل نحو الأشخاص أنفسهم.
لما كانت مشاعر الاستياء والغضب والعداوة لا تعود علينا بأي نفع، فمن الجلي أنه من مصلحتنا أن ندعم موقفنا تجاه جميع الآخرين بهذا النوع الحقيقي غير المشروط وغير المتحيز من الرأفة. ولا شك بأن ذلك سيجلب لنا المنافع.
ما أطالب به هو أن نتجاوز شعورنا المحدود أو المتحيز بالقرب من هذه المجموعة أو تلك أو بهذه الهوية أو تلك، وأن ننمي بدلا من ذلك الشعور بالقرب من العائلة البشرية بأكملها. فمن الممكن أن يؤدي الموقف القائم على «نحن» و«هم» إلى الصراع وحتى الحرب، وهو ما يؤدي إليه بالفعل في كثير من الأحيان. ومن ثم؛ فالأفضل كثيرا والأكثر واقعية هو الموقف القائم على «نحن جميعا». •••
قد يبدو للبعض أن فكرة الرأفة العالمية هذه مثالية للغاية وربما حتى دينية. غير أنني لا أعتقد أنها مثالية للغاية. فالكثير من الأشياء التي نتعامل معها الآن كأمور مسلم بها، مثل فكرة التعليم الشامل، كانت لتبدو مثالية للغاية في الماضي، لكنها تعد الآن أفكارا عملية تماما وضرورية بالفعل. أما عن القول بأن فكرة الرأفة العالمية هي فكرة دينية، فأنا لا أوافق هذا الرأي. لا شك أن الإيثار والخدمة التي يوليها بعض الأشخاص للآخرين هي أمور متجذرة في نسكهم الدينية، مثلما نجد في مبدأ خدمة الرب. لكن في الوقت نفسه، يوجد اليوم عدد لا يحصى من الأشخاص في العالم ممن يهتمون بالبشرية جمعاء، وهم مع ذلك لا يتبعون أي دين. يرد على ذهني الآن جميع الأطباء وعمال الإغاثة المتطوعين في أماكن مثل دارفور أو هايتي أو في أي مكان به نزاع أو كارثة طبيعية. ربما يكون بعضهم من المؤمنين، لكن الكثيرين منهم ليسوا كذلك. إن اهتمامهم لا يقتصر على هذه المجموعة أو تلك، بل هو موجه ببساطة إلى البشر. إن دافعهم في ذلك هو الرأفة الحقيقية؛ العزم على التخفيف من معاناة الآخرين.
ولهذا؛ لا يساورني أدنى شك في إمكانية تعزيز الرأفة العالمية ضمن إطار علماني بحت. لقد قال لي صديقي القديم البروفيسور بول إيكمان ذات مرة، وهو أحد الرواد في مجال علم العاطفة، إنه حتى تشارلز داروين، مؤسس النظرية الحديثة في التطور، كان يرى أن «حب جميع الكائنات الحية هو أنبل صفات الإنسان».
إنني أتذكر جيدا الاستجابة العالمية لإعصار تسونامي الآسيوي الذي حدث في ديسمبر من عام 2004. لقد فاجأني فيض الاهتمام العام الذي أعقب تلك الكارثة، ورأيت أنه تمثيل قوي لوحدتنا كعائلة بشرية. ولم تكن تلك حالة منفردة. ذلك أن هذه الاستجابة قد تبعتها استجابات عالمية مشابهة من الرعاية والاهتمام بالمآسي الأخيرة. ففي عصر تنتقل فيه الأخبار بسرعة كبيرة في جميع أنحاء العالم، نما إحساسنا بالمجتمع واهتمامنا بمن يبعدون كثيرا عنا، على نحو هائل. في أوائل القرن العشرين، كانت المشاعر القومية قوية للغاية، بينما كان الوعي بإنسانيتنا ككل ضعيفا للغاية. ففي تلك الأيام، كان الناس أقل وعيا بما يحدث في مناطق أخرى أو قارات أخرى. أما الآن، فمع نقل وسائل الإعلام العالمية للأخبار بهذه السرعة، أصبح لدينا وعي أعمق بالترابط بين الناس في كل مكان. وإلى جانب هذا، يبدو أن اهتمام الناس بالبشرية جمعاء، وإدراكهم لقيمة حقوق الإنسان الأساسية يتعمق أيضا . وبالنسبة إلي، فإن هذا التوجه مصدر كبير للتفاؤل بشأن المستقبل.
إن التحلي بهذا النوع من الاهتمام بجميع إخواننا من البشر لا يتطلب منا أن نكون أشخاصا مميزين من أي نوع أو قديسين. فعلى العكس من ذلك، تكمن هذه الرأفة الشاملة لدى كل منا. خلال الديكتاتورية النازية مثلا، بذل بعض الألمان كل ما في وسعهم لحماية اليهود وإنقاذهم، مع تعريض حياتهم نفسها لخطر جسيم. وعندما سئلوا عن سبب قيامهم بذلك، أجاب معظمهم بأنهم شعروا بأنه واجب عليهم، وأن أي شخص كان ليفعل مثلما فعلوا لو كان في موقفهم. وقد كان هؤلاء الأشخاص عاديين تماما، مثلي ومثلك. فمن خلال التعاطف؛ ذلك الاهتمام بإخواننا من البشر، يصبح الجميع قادرين على القيام بأعمال بطولية مماثلة.
ربما لا يزال بعض القراء يشعرون بشيء من الرفض لفكرة الرأفة العالمية. فبينما يروق لهم هذا التوجه حين يتبناه الآخرون، قد يشعرون بأن تحليهم به سوف يستلزم منهم تحمل مسئولية «ويلات العالم»، وأنه ليس لديهم متسع لكل هذه المعاناة الإضافية في حياتهم. وبمعنى محدود، فمن الصحيح أن الاهتمام بالآخرين ينطوي على المشاركة في مصاعب لا تخصنا. رغم ذلك، فإن التعب النابع من مشاركة ألم الآخرين يختلف تماما عن اختبار معاناتنا الشخصية على نحو مباشر. عندما تتعاطف مع شخص في ضائقة، قد تشعر في البداية ببعض الإرهاق النفسي. لكن اختيارك الطوعي بالانفتاح على صعوبات ذلك الشخص الآخر يظهر شجاعة، والشجاعة تمنح الثقة. وعلى النقيض من ذلك، عندما يكون الألم ألمك، فأنت لا تمتلك مثل هذه الحرية أو الاختيار. الفرق بين الحالتين واضح إذن.
علاوة على ذلك، على الرغم من أن الرأفة تنشأ من التعاطف، فإن الاثنين ليسا سواء. يتميز التعاطف بكونه نوعا من الرنين العاطفي؛ أي مشاركة مشاعر الشخص الآخر. أما الرأفة، فهي لا تقتصر على مشاركة الخبرات مع الآخرين، بل تنطوي أيضا على الرغبة في رؤيتهم وقد ارتاحوا من معاناتهم. إن التحلي بالرأفة لا يعني أنك ستظل على مستوى الشعور بالكامل، وهو الأمر الذي قد يكون مستنزفا للغاية. فبالرغم من كل شيء، لم يكن الأطباء المتحلون بالرأفة ليصبحوا فعالين بقدر كبير إذا ظلوا منهمكين على الدوام في مشاركة مرضاهم في آلامهم. فالرأفة تعني الرغبة في القيام بشيء ما للتخفيف من مصاعب الآخرين، وهذه الرغبة في المساعدة، بعيدة كل البعد عن جذبنا أكثر إلى الشعور نحن أنفسنا بالمعاناة، بل هي تمنحنا في واقع الأمر الطاقة والإحساس بالغاية والاتجاه. وعندما نتصرف بناء على هذا الدافع، فإننا نستفيد أكثر، نحن ومن حولنا.
بالرغم من ذلك، بما أن الرأفة الشاملة تنطوي على توسع تدريجي لدائرة اهتمام المرء بحيث تشمل في النهاية البشرية كلها، فإنها تحتاج إلى تنمية مستمرة. ومن خلال توظيف ذكائنا وقناعتنا بضرورتها وقيمتها، نتعلم تدريجيا كيفية تمديد نطاق اهتمامنا وتوسيعه، نبدأ بعائلتنا القريبة أولا، ثم نضمن كل من نتعامل معهم، بما في ذلك أعداؤنا بصفة خاصة، ثم عائلتنا البشرية بأكملها، وحتى جميع الكائنات. (3) التدريب على الرأفة
أولئك الذين يؤمنون بالأديان لديهم موارد غنية لتنمية الرأفة، ويمكن للنهج الدينية أن تقدم موارد عظيمة للإنسانية بأكملها. لكن الدين ليس ضروريا لتنمية الرأفة. فثمة أساليب علمانية للتدريب على الرأفة تستخدم بالفعل، بل إن فعاليتها قد أثبتت علميا أيضا. يبدو أن تنمية القيم الداخلية تشبه التمارين البدنية إلى حد كبير. كلما دربنا قدراتنا بدرجة أكبر، أصبحت أكثر قوة. فعلى سبيل المثال، أظهرت أبحاث علم الأعصاب التي أجراها صديقي القديم البروفيسور ريتشارد ديفيدسون أنه حتى الفترات القصيرة من التدريب على الرأفة، حتى وإن كانت بقصر أسبوعين فحسب، يمكن أن تؤدي إلى تغييرات يمكن ملاحظتها في أنماط الدماغ، إضافة إلى زيادة النزعة تجاه العطاء الخيري. إنني آمل أن يمهد مثل هذا البحث الطريق لإدخال التدريب على الرأفة في المدارس، وهو أمر قد يكون مفيدا للغاية. ذلك أن التعليم الحديث يرتكز بدرجة كبيرة على القيم المادية. لكن مثلما أشير في كثير من الأحيان، من الضروري ألا نهمل تثقيف قلوب أطفالنا بينما نثقف عقولهم، وتغذية طبيعة الرأفة لديهم من العناصر الأساسية في تثقيف القلوب. وسوف أعود إلى مناقشة هذا الموضوع فيما بعد.
الفصل الخامس
الرأفة ومسألة العدالة
(1) مسألة العدالة
في عدد من المناسبات الأخيرة، اعترض أشخاص مفكرون من المتعاطفين مع فكرة الأخلاق العلمانية على اقتراحي بأن الرأفة يمكن أن تكون الأساس لمثل هذا النظام العلماني. ذلك أن كثيرين على ما يبدو، يجدون تضاربا بين مبدأ الرأفة الذي ينطوي على العفو، وبين ممارسة العدالة التي تتطلب معاقبة المخالفين. وهم يرون أن مبدأ العدل أو الإنصاف هو المبدأ الذي ينبغي أن يدعم أي نهج إنساني للأخلاق، وليس مبدأ الرأفة. تتمثل حجتهم في ذلك في أن إعطاء الأولوية للرأفة والعفو من شأنه أن يسمح للمجرمين بالفرار من العقاب وينصر المعتدين. ويقولون إن أخلاق الرأفة لا تختلف كثيرا عن أخلاق الضحية، التي ينتصر العدوان فيها دائما، وتغفر الاعتداءات على الدوام، ويصبح الضعفاء عاجزين دون دفاع.
إن هذا الاعتراض يستند في رأيي إلى سوء فهم أساسي لما تستلزمه ممارسة الرأفة. فلا يوجد شيء في مبدأ الرأفة: الرغبة في رؤية الآخرين وقد خففت عنهم المعاناة، ينطوي على الاستسلام لمظالم الآخرين. ثم إن الرأفة لا تستلزم أن نقبل الظلم بخنوع. إن الرأفة بعيدة كل البعد عن تعزيز الضعف أو السلبية؛ إذ إنها تستلزم ثباتا عظيما وشخصية قوية.
لقد كانت الرأفة العالمية هي الدافع لدى البعض من أعظم محاربي الظلم في العصر الحديث، وقد كانوا من ذوي الشخصية القوية والعزم، ومنهم المهاتما غاندي والأم تيريزا ونيلسون مانديلا، ومارتن لوثر كينج الابن، وفاتسلاف هافيل، وغيرهم. لا يمكن للمرء أن يصف مثل هؤلاء الأشخاص بالخنوع أو التقاعد لمجرد أنهم جمعوا بين تفانيهم من أجل تحقيق صالح الآخرين وبين التزامهم بالممارسات السلمية ورفض العنف. •••
فمثلما قلت إذن، لا تتضمن الرأفة بأي حال من الأحوال الاستسلام في وجه الاعتداء أو الظلم. عندما يستلزم أحد الأوضاع غير العادلة استجابة قوية، كما هي الحال بشأن سياسة التمييز العنصري، فإن الرأفة لا تتطلب أن نقبل بالظلم، بل أن نأخذ موقفا ضده. إنما تقتضي فحسب أن يكون مثل ذلك الموقف غير عنيف. لكن اختيار اللاعنف ليس علامة على الضعف، بل هو علامة على الثقة بالنفس والشجاعة. حين يصبح الأشخاص على خلاف ما، فإنهم لا يفقدون أعصابهم عادة ويلجئون إلى الصراخ وحتى إلى العنف، إلا حينما تنفد حججهم. لكن عندما يشعر أطراف النزاع بالثقة في أن الحق إلى جانبهم، يظلون في كثير من الأحيان هادئين ويواصلون مناقشة قضيتهم. ولهذا، فإن التحلي بسلوك هادئ وغير عنيف هو في الواقع دلالة على القوة؛ لأنه يوضح الثقة النابعة من تأصل الحق والعدالة في جانب المرء.
يمكننا توضيح هذه النقطة المتعلقة بضرورة الوقوف في وجه الظلم مع التحلي بالاهتمام النابع عن الرأفة تجاه الشخص المعتدي، من خلال مثال على مستوى شخصي. تخيل أن لك جيرانا يتسمون بصعوبة المراس، ويتصرفون تجاهك بعدوانية على نحو متكرر. فما الرد المناسب في هذه الحالة الذي يمكن اتخاذه على أساس الرأفة؟ وفقا لفهمي، فما من سبب لأن تمنعك الرأفة، بما في ذلك بالطبع الرأفة تجاه المعتدين، من اتخاذ رد فعل قوي. وحسب السياق، فإن عدم الاستجابة بإجراءات قوية، ومن ثم السماح للمعتدين بمواصلة سلوكهم التخريبي، يمكن حتى أن يحملك جزءا من المسئولية عن الضرر الذي يواصلون التسبب فيه. إضافة إلى ذلك، فإن عدم اتخاذ أي إجراء للتصدي لمثل هذا السلوك يشجع في حقيقة الأمر هؤلاء الأشخاص التعساء، كما أنه سيؤدي على الأرجح إلى التمادي والإتيان بسلوك أكثر تدميرا عن سابقه، وهو ما يؤدي إلى المزيد من الضرر للآخرين، ولأنفسهم أيضا على المدى الطويل. إن الطريقة الوحيدة لتغيير عقل شخص ما هي الاهتمام، وليس الغضب أو الكراهية. فالتدابير المادية أو العنيفة لا يمكن أن تقيد سوى السلوك المادي للآخرين، دون أي سبيل لها على عقولهم.
ثمة قصة من جنوب التبت تحكي عن شخص يقول لصديق له: «ضربني فلان ذات مرة، فالتزمت الصمت، وضربني مرة أخرى، فالتزمت الصمت، وضربني مرة ثالثة، فالتزمت الصمت، وظل يضربني، وما زلت ألتزم الصمت.» هذا مثال على ما لا تعنيه الرأفة. هذا خنوع وهو ليس بالنهج الصحيح. فالمطلوب في وجه الظلم هو الرأفة القوية! (2) العدالة بمفهوميها: الواسع والضيق
ما من تعارض إذن بين الرأفة حين تفهم على النحو الصحيح، وبين ممارسة العدالة. ولكن من المهم مع قولنا هذا أن نميز بين المبدأ العام للعدالة؛ بوصفها مبدأ شاملا للإنصاف والإصلاح على أساس الاعتراف بالمساواة بين البشر، وبين الفهم الضيق للعدالة بوصفها تطبيقا للقانون في نطاق أي إطار قانوني معين. من الناحية المثالية، ينبغي أن ينعكس كل من هذين المفهومين للعدالة دائما أحدهما على الآخر، لكن في بعض الأحيان لا يحدث ذلك مع الأسف. إذا نظرنا إلى جنوب أفريقيا تحت حكم الفصل العنصري، فسنرى على نحو واضح أن النظام القضائي قد يتجاهل المبدأ العالمي للمساواة بين البشر، ويحمي بدلا من ذلك مصالح قطاع معين من المجتمع. فخلال تلك الفترة، كان من الممكن أن يعاقب شخص غير أبيض لمساسه بمصالح الأقلية الحاكمة، حتى في الأمور التافهة. ساد وضع مماثل في الهند تحت الحكم الاستعماري واستمر ذلك في أجزاء أخرى من العالم، حيث تقمع أقليات وجماعات معينة على يد آخرين. ومن الواضح أن مثل هذه الأنظمة القانونية تعكس مفهوما محدودا للغاية عن العدالة.
توجد أيضا حالات تقيد فيها حقوق أحد المجتمعات المتدينة أو الجماعات السياسية على يد مجتمعات أو جماعات أخرى. عندما يصون النظام القانوني لبلد ما قدسية الوحدة الوطنية والنظام الاجتماعي بصفتهما أهم أولوياته، ويدين أي أفعال تفسر على أنها تقوض هذه القيم بصفتها جرائم جنائية، فإن هذا النظام القانوني لن يخدم العدالة الحقيقية. ومن أمثلة ذلك فترة السجن الطويلة التي تعرضت لها أون سان سو تشي بعد فوزها في انتخابات بورما. ومن أمثلة ذلك أيضا، ما حدث مؤخرا من اعتقال رفيقي الحائز جائزة نوبل للسلام ليو شياوبو في الصين. عندما ينتقد الناس مثل هذه الانتهاكات للعدالة، تدافع الدول عن نفسها بقولها إن كل شيء قد تم وفقا لحكم القانون. غير أنه حين يرتبط القانون بمصالح ضيقة النطاق، فإنه يفشل في دعم المفهوم الأساسي للعدالة بصفتها مبدأ للإنصاف يقوم على أساس المساواة بين البشر. فلكي يدعم القانون العدالة بحق، يجب أن يحمي الحقوق العالمية للبشر. (3) دور العقاب
لا شك أن معظمنا يرى العدالة على أنها مبدأ عالمي للإنصاف القائم على المساواة الأساسية باعتبارنا بشرا، سواء أكانت تلك المساواة أمام الإله، أم المساواة من حيث تطلعنا الأساسي نحو تحقيق السعادة وتجنب المعاناة، أم المساواة أمام القانون كمواطنين. بالرغم من ذلك، يبدو أن الإجماع أقل بشأن الممارسة الفعلية للعدالة في مسائل الجريمة والعقاب. فعلى سبيل المثال، تختلف آراء الناس بشأن قضايا مثل عقوبة الإعدام والغرض من العقوبة. يرى البعض أن من هذه الجرائم ما هو شديد الشناعة وشديد السلبية، حتى إنه يجب عدم إظهار أي رحمة تجاه مرتكبيها.
عندما يتعلق الأمر بالاعتداء، فإن جميع الأديان الكبرى تنطوي على فكرة للإصلاح أو استعادة التوازن في الحياة أو الحيوات القادمة. في الديانات الألوهية، يوجد مفهوم المحاكمة الإلهية. وفي التعاليم البوذية التقليدية، يؤكد قانون الكارما أن الأفراد سوف يجنون في نهاية المطاف ثمار أفعالهم. وكلا هذين المعتقدين يسمح بظهور الرأفة في الشئون الإنسانية الدنيوية. من وجهة نظر علمانية، ومن دون مثل هذين المعتقدين في العقاب والثواب في الحياة الآخرة، يجب أن نسأل أنفسنا عن الهدف الفعلي من مبدأ العقاب. أهو القصاص والانتقام؛ أي أن شعور المعتدين بالمعاناة هو الهدف في حد ذاته؟ أم هو منع ارتكاب المزيد من الاعتداءات؟ في رأيي أن الهدف من العقوبة لا يتمثل في إلحاق المعاناة بالمعتدين. بدلا من ذلك، ينبغي أن يكون للمعاناة الناتجة عن العقاب غرض أسمى، وهي ثني المعتدي عن تكرار الجرم وردع الآخرين عن ارتكاب أفعال مماثلة. وبهذا، لا يكون الهدف من العقاب تأديبا بل ردعا.
ينبغي بالطبع أن يكون لدى المحاكم وسائل لعقاب المعتدين. ذلك أن ترك الجرائم المروعة كالقتل والاعتداء العنيف دون عقاب قد يوحي بأن أسوأ أفعال البشرية مقبول بطريقة ما، ولن يكون ذلك في مصلحة أي شخص، بمن فيهم مرتكبو هذه الجرائم أنفسهم. فللعقاب دور حتمي وضروري في تنظيم شئون البشر، ويتمثل هذا الدور في الردع ومنح الناس شعورا بالأمان والثقة في القانون.
ومع ذلك، إذا كان الهدف من العقاب هو الردع فحسب، فقد يقال إذن إنه حتى أفعال الاعتداء البسيطة يجب أن يقابلها عقوبات شديدة للغاية، باعتبارها الرادع الأكثر فعالية ضد سلوك كهذا. وبالرغم من أن هذه الطريقة قد تكون فعالة لضمان انخفاض معدلات الجريمة، فهي ليست نهجا يمكنني قبوله. فليس من العدل أبدا أن يعاقب شخص ما بعقوبة شديدة لارتكابه جرما بسيطا. بدلا من ذلك، ينبغي أن نراعي تحقق نوع من التناسب؛ أي كلما زادت شدة الجريمة، زادت شدة العقاب.
إن هذا يثير التساؤل عن حدود الإصلاح. وأعتقد أن من المهم للغاية أن ندرك أن جميع البشر لديهم القدرة على التغيير. ولذا، أرى أن فكرة عقوبة الإعدام غير مقبولة. ولهذا السبب دعمت لسنوات طويلة، حملة منظمة العفو الدولية لإلغائها. وليس رأيي هذا من قبيل التساهل. لكن قتل بشر آخرين بهدف القصاص، أيا كان ما فعلوه، لا يمكن في رأيي أن يكون فكرة صحيحة؛ إذ تحول دون إمكانية تغيرهم. وأعتقد أن الأكثر حكمة للمجتمع هو الحفاظ على إتاحة تلك الإمكانية.
إنني أعي أن الانتقام العنيف؛ أي الرد بقوة على الاعتداء، على سبيل المثال، هو شيء متجذر بعمق في الغريزة الإنسانية. ونحن لا نختلف في هذا الصدد عن الحيوانات الأخرى، التي عند مهاجمتها قد تتقاتل حتى الموت. بالرغم من ذلك، يبدو أن ممارسة الانتقام سمة إنسانية خاصة، وترتبط بقدرتنا على التذكر. وربما كان الانتقام ضروريا للبقاء في المجتمع البشري البدائي، لكن مع تطور المجتمع أدرك الناس العواقب السلبية للانتقام وقيمة العفو. وهذا، في رأيي، هو المعنى الحقيقي للتحضر.
ولهذا؛ فإنني أعتقد أن إشباع غرائزنا العنيفة من خلال السعي للانتقام هو أمر مضلل ولا يخدم مصلحة أحد. ذلك أن النتيجة الوحيدة المضمونة للانتقام هي أنه سيغرس بذورا لمزيد من الصراع. إنه يثير الاستياء والخطر المتمثل في ظهور دائرة متصاعدة من العنف والانتقام لا يمكن كسرها إلا عند نبذ مبدأ الانتقام نفسه. إن الانغماس في الرغبة في الانتقام يخلق جوا من الخوف، والمزيد من الاستياء، والكراهية. وعلى النقيض من ذلك، حيثما يوجد العفو، فثمة فرصة للسلام. لذلك، فإن الانتقام، في فهمي، ليس له أي دخل في ممارسة العدالة. الفكرة نفسها قد عفاها الزمن. ذلك أن الانتقام يضعف المجتمع، أما العفو فيمنحه القوة.
لقد تجلى ذلك بقوة من خلال ما حدث في جنوب أفريقيا بعد تفكيك نظام الفصل العنصري. فتحت القيادة الحكيمة لنيلسون مانديلا، تصرف «المؤتمر الوطني الأفريقي» بشهامة لضمان عدم وجود أي حوادث انتقامية تقريبا ضد الأقلية البيضاء. ولو كان القادة اختاروا بدلا من ذلك التركيز على الماضي وخلق جو من الاستياء، لكان الوضع قد أصبح مأساويا بالفعل. بدلا من ذلك، أنشأت الحكومة لجنة «الحقيقة والمصالحة» برئاسة صديقي القديم وزميلي الروحي رئيس الأساقفة ديزموند توتو. واتباعا لمثاله الأخلاقي، استندت اللجنة إلى مبدأ أن إعلان الحقيقة من جانب المسئولين عن ارتكاب المخالفات الجسيمة وحتى الفظائع، سيعود بأثره في الشفاء والتحرر على كل من الضحايا ومرتكبي هذه الجرائم. واليوم بعد أكثر من عشر سنوات على انتهاء اللجنة من عملها، من شبه المؤكد أن تلك العملية قد جلبت للكثيرين من الضحايا ومرتكبي الجرائم على حد سواء، قدرا كبيرا من راحة البال، ومنحتهم أيضا الفرصة لطي هذه الصفحة من حياتهم. وقد تشرفت بمقابلة الرئيس مانديلا بعد فترة وجيزة من تحرر جنوب أفريقيا من سياسة الفصل العنصري. تركت هذه الزيارة لدي انطباعا عظيما، وليس ذلك للطفه فحسب، بل أيضا لعدم شعوره بالاستياء تجاه أولئك المسئولين عن سجنه الطويل.
في رأيي أن ممارسة العدالة بعيدة كل البعد عن التناقض مع مبدأ الرأفة، وإنما ينبغي أن تستند إلى نهج أساسه الرأفة. أتذكر دائما شرح وزير العدل الاسكتلندي لقراره الصعب بإطلاق سراح الشخص المدان في تفجير طائرة «لوكربي». فقد قال إن الناس في بلده «يرغبون في العدالة ويريدون تعزيزها بالرأفة والرحمة.» وأنا أدرك أن قراره أثار الكثير من الجدل والغضب لدى بعض عائلات الضحايا. لكني أعتقد أن تصريح الوزير كان في حد ذاته حكيما للغاية. فعندما يتعلق الأمر بالعدالة، يجب ألا تنحى الرأفة والرحمة جانبا. (4) التفريق بين الفعل والفاعل
النقطة المهمة بشأن مبدأ الرأفة، باعتبارها أساس ممارسة العدالة، هو أنها ليست موجهة نحو «الأفعال»، بل نحو «الفاعل». تتطلب الرأفة منا أن ندين الأفعال الخاطئة ونعارضها بكل الوسائل اللازمة، بينما نسامح في الوقت نفسه مرتكبي تلك الأفعال ونحافظ على موقف ودي تجاههم. فمثلما أن الإله، بمصطلحات الديانات الألوهية، يحرم الخطيئة بينما لا يزال يحب المخطئ، علينا نحن أيضا أن نعارض الخطأ بقوة مع الحفاظ على اهتمامنا بالمخطئ. ومن الصواب أن نفعل ذلك لأنني أؤكد مرة أخرى أن جميع البشر لديهم القدرة على التغير. وأعتقد أننا جميعا نعرف هذا من واقع تجربتنا الخاصة. فبالرغم من كل شيء، ليس من الغريب للغاية على أولئك الذين يعيشون حياة متهورة في شبابهم أن يتسموا بالمسئولية والاهتمام مع اكتسابهم النضج والخبرة. في التاريخ أيضا، يوجد العديد من الأمثلة على الأفراد الذين كانت بداية حياتهم بغيضة من الناحية الأخلاقية، لكنهم جلبوا فائدة كبيرة للآخرين فيما بعد. لنا أن نذكر على سبيل المثال، الإمبراطور أشوكا، والقديس بولس، وغيرهم كثير.
إن هذه القدرة على التغير حقيقة حتى لأولئك الذين ارتكبوا أفظع الأفعال. يشجعني على هذا الاعتقاد المناقشات التي خضتها على مدار السنوات مع ممثلي السجناء والاختصاصيين الاجتماعيين العاملين في السجون في كل من الهند والولايات المتحدة. إنها لمأساة كبيرة أن الإحصائيات في كثير من البلدان، تشير إلى عودة السجناء لارتكاب الجرائم مجددا. بعض البلدان الآن تستخدم برامج إعادة التأهيل، التي توفر للمجرمين من خلال التدريب النفسي، الإرشاد والتوجيه بشأن كيفية إعادة تعديل فهمهم للعالم تدريجيا وتعلم المساهمة في سبل رفاهية الآخرين بدلا من سلبها منهم. فعلى سبيل المثال، في إطار مبادرة قدمتها كيران بيدي في سجن «تيهار» المشدد الحراسة في دلهي، يتلقى السجناء دروسا في تأمل اليقظة الذهنية. وأنا متفائل بأنه مع الوقت، سيثبت هذا البرنامج فعاليته في مساعدة حتى السجناء الأكثر بؤسا على تطوير إحساس بالغاية في الحياة من خلال الاهتمام بالآخرين. إنني أشعر بالتواضع دائما عندما ألتقي بالأشخاص الذين يديرون مثل هذه البرامج وبالسجناء الذين شعروا بتأثيرها الإيجابي.
وتلخيصا لما سبق، دعوني أقول ببساطة: تذكر أنه حتى المجرم إنسان مثلك وقادر على التغير. عاقب المخطئ بما يتناسب مع الجرم الذي ارتكبه، لكن لا تنغمس في الرغبة في الانتقام. فكر بدلا من ذلك في المستقبل، وفي طرق لضمان عدم تكرار الجريمة. (5) العقاب الإيثاري
منذ وقت ليس ببعيد، حضرت مؤتمرا أقيم في زيورخ بشأن موضوع الرأفة والإيثار في النظم الاقتصادية. في هذا المؤتمر، قدم خبير اقتصادي نمساوي يدعى إرنست فير مفهوما مثيرا للاهتمام أطلق عليه اسم «العقاب الإيثاري».
شرح الخبير مفهومه من خلال إحدى ألعاب الثقة. تجرى هذه اللعبة على جولات ويشارك فيها عشرة لاعبين. يعطى اللاعبون مبالغ متساوية من المال ويطلب منهم المساهمة ببعضها في صندوق تمويل جماعي. يشرح القائم بالتجربة أن المبلغ الإجمالي الذي يسهم به اللاعبون في هذا الصندوق في كل جولة سيضاعف ثم يعاد توزيعه عليهم بالتساوي. في الجولات الأولى، كان معظم اللاعبين كرماء إلى حد كبير وقدموا للصندوق المركزي مساهمات ضخمة؛ اعتقادا منهم بأن الآخرين سيفعلون الشيء نفسه. وهذا في رأيي يعكس جانب التفاؤل البديهي في الطبيعة البشرية. ومع ذلك، فمن الحتمي أن يوجد بعض الأفراد الذين يمتنعون ولا يسهمون بشيء. فمن ناحية مالية أساسية، يرون أن أكثر ما يجلب لهم الربح هو الاحتفاظ بنصيبهم مما منح لهم، دون إنفاق أي من أموالهم. يعرف مثل هؤلاء الأشخاص في لغة الاقتصاد باسم «المنتفع المجاني». ونتيجة لسلوكهم، يبدأ اللاعبون الآخرون في الشعور بأنهم يتعرضون للاستغلال، ويبدءون في تقليل مساهمتهم في الصندوق المركزي شيئا فشيئا حتى ينهار النظام بأكمله في نهاية المطاف، وعادة ما يكون ذلك في الجولة العاشرة. في هذه المرحلة، لا أحد يرغب في المساهمة، على الرغم من أن عرض القائم بالتجربة المتمثل في مضاعفة أي أموال تجري المساهمة بها، لا يزال قائما.
في هذه المرحلة، يتعرف اللاعبون على مفهوم العقاب الإيثاري، وهو آلية تمكنهم من معاقبة المنتفعين المجانيين. فمن خلال المساهمة ببعض من أموالهم في صندوق عقاب غير قابل للاسترداد، يستطيعون إجبار المنتفعين المجانيين على دفع ضعف ذلك المبلغ. ومن ثم، فعلى سبيل المثال، عن طريق إنفاق ثلاثة دولارات في العقاب، يمكن للاعب أن يجعل أحد المنتفعين المجانيين يدفع ستة دولارات. وقد اتضح بالفعل أنه فور إدخال هذا النظام في اللعبة، يمكن أن يستمر التعاون بين اللاعبين إلى أجل غير مسمى تقريبا. ذلك أن مثل هذا الإجراء يثني المنتفعين المجانيين المحتملين عن استغلال الآخرين، ونتيجة لذلك يستمر اللاعبون في المساهمة في الصندوق المركزي ويستفيد الجميع.
بالرغم من أن هذه التجربة قد صممت في الأساس لاختبار نظرية في الاقتصاد، فأنا أرى أنها تتضمن أيضا رسالة يمكن تطبيقها على نحو شامل. فهي توضح لنا إمكانية فرض العقاب بطريقة تعود بالنفع على الجميع، بما في ذلك المعتدون أنفسهم. وهي توضح أيضا فكرة أن العقاب الذي لا يستوجب الانتقام، بل يصلح المعتدي، يكون في صالح الجميع. (6) العفو
يعد العفو جزءا جوهريا من سلوك الرأفة، لكنه فضيلة يسهل إساءة فهمها. ففي البداية ينبغي أن نوضح أن العفو لا يعني النسيان. ففي نهاية المطاف، إذا نسي المرء خطأ قد ارتكب، فلن يتبقى شيء ليعفو عنه! ما أقترحه بدلا من ذلك هو أن نجد للتعامل مع الاعتداء طريقة تمنحنا راحة البال وفي الوقت نفسه تجنبنا الخضوع لدوافع هدامة كالرغبة في الانتقام. وسوف أستفيض لاحقا في الحديث عن الطرق التي يمكن أن تتيح لنا القيام بذلك، لكن جزءا مما هو مطلوب يتمثل في قبول أن ما حدث قد ولى. سواء أكان الأمر على مستوى الفرد أم على مستوى المجتمع ككل، فمن المهم الاعتراف بأن الماضي خارج سيطرتنا. أما الطريقة التي «نستجيب» بها لأخطاء الماضي فهي ليست كذلك.
مثلما ذكرت من قبل، من الضروري جدا أن نراعي التمييز بين الفعل والفاعل. قد يكون هذا صعبا في بعض الأحيان. فعندما نكون نحن أنفسنا أو بعض المقربين منا للغاية ضحايا لجرائم فظيعة، يمكن أن يكون من الصعب إقصاء الشعور بالكراهية تجاه مرتكبي تلك الجرائم. بالرغم من ذلك، إذا توقفنا برهة لتدبر الأمر، فسندرك أن التمييز بين الفعل المروع ومرتكبه هو شيء نقوم به كل يوم بالفعل عندما يتعلق الأمر بأفعالنا وتجاوزاتنا. ففي لحظات الغضب أو الانزعاج، يمكن أن نكون وقحين مع أحبائنا أو عدوانيين تجاه الآخرين. ربما نشعر لاحقا ببعض الندم أو الأسف، لكن حين نراجع انفعالنا، فإننا لا نعجز عن التمييز بين ما فعلناه وبين ما نحن عليه. إننا نعفو عن أنفسنا بطبيعة الحال، وربما نعزم على عدم القيام بالخطأ نفسه مرة أخرى. ونظرا للسهولة الشديدة التي نجدها عندما يتعلق الأمر بمسامحة أنفسنا، فلا شك بأننا نستطيع بالتأكيد تقديم المعروف نفسه للآخرين! ليس جميعنا بالطبع قادرا على مسامحة نفسه، وقد يمثل هذا عقبة. فقد يكون من المهم لمثل هؤلاء الأشخاص أن يمارسوا الرأفة والعفو تجاه أنفسهم كأساس لممارسة الرأفة والعفو تجاه الآخرين.
ثمة حقيقة أخرى يجب وضعها في الاعتبار، وهي أن العفو عن الآخرين يترك في النفس أثرا محررا للغاية. عندما تنهمك في الأذى الذي ألحقه بك أحد الأشخاص، فسوف تنزع لا محالة إلى الشعور بالغضب والاستياء حين تطرأ الفكرة على ذهنك. غير أن التشبث بالذكريات المؤلمة وإضمار النوايا السيئة لن يفيد بأي شيء في تصحيح الخطأ المرتكب ولن يكون له أي أثر إيجابي عليك. ستتلاشى راحة بالك، وسيضطرب نومك، بل يمكن حتى لصحتك الجسدية أن تتأذى في نهاية المطاف. من ناحية أخرى، إذا تمكنت من التغلب على مشاعر العداء تجاه المعتدين وأن تعفو عنهم، فسيعود ذلك عليك بفائدة فورية وملموسة. من خلال ترك أفعال الماضي في الماضي واستعادة اهتمامك برفاهية هؤلاء الذين أخطئوا في حقك، تكتسب شعورا رائعا بالثقة الداخلية والحرية، وهو ما يمكنك من المضي قدما؛ إذ تبدأ أفكارك السلبية وعواطفك في التلاشي.
بالنسبة إلي، أرى أن قوة العفو تتجلى على نحو لافت للنظر في مثال رجل أعتبره بطلا شخصيا لي، وهو ريتشارد مور. عام 1972، عندما كان عمره لا يتجاوز العاشرة، أصيب ريتشارد بالعمى الكلي بسبب رصاصة مطاطية أطلقها جندي بريطاني في أيرلندا الشمالية. كان من الممكن لهذه المأساة أن تحول الصبي إلى رجل غاضب وناقم. لكن ريتشارد لم يحمل أي نية سيئة قط، وكرس حياته لقضية إيجابية وهي مساعدة الأطفال المعرضين للأذى حول العالم وحمايتهم. والواقع أنه حرص أشد الحرص على إيجاد الرجل الذي تسبب له في العمى وإخباره بأنه قد عفا عنه. وقد أصبح الرجلان الآن صديقين. فيا له من مثال رائع على قوة الرأفة والعفو!
على الرغم من أننا - نحن التبتيين - قد عانينا الكثير، فلا يزال شعبنا يحاول عدم الاستسلام لأي نزعة نحو العداء والانتقام. فنحن نحاول الحفاظ على تحلينا بالرأفة حتى تجاه الجنود الشيوعيين الصينيين المسئولين عن ارتكاب الفظائع ضد التبتيين. ويسفر ذلك في بعض الأحيان عن نتائج غير متوقعة. فمؤخرا على سبيل المثال، قابلت ابن ضابط سلاح الفرسان الصيني، الذي تورط عندما كان عضوا في جيش التحرير الشعبي في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، في اضطهاد التبتيين. أرسل إلي الأب الذي صار عجوزا الآن، رسالة عن طريق ابنه يبدي فيها أسفه واعتذاراته الصادقة عن أفعاله. كان سماع هذه الرسالة أمرا مؤثرا للغاية. ومع ذلك، أعتقد أنه لو كانت هناك كراهية من جانبي، لما كان لهذه الحادثة إلا أن تزيد منها. من خلال عدم التشبث بتجارب الظلم الماضية، ومن خلال المحاولة الواعية لتنمية الرأفة تجاه إخواننا وأخواتنا من الصينيين، نتفادى - نحن التبتيين - أن نعلق في الماضي، ونتمكن من الحفاظ على إحساسنا بالحرية. لكن هذا لا يعني أننا لا نتخذ موقفا حازما ضد الظلم الذي نواجهه.
ولهذا، فردا على من يصرون على أن العدالة هي ما ينبغي أن يكون الجوهر لأي نظام أخلاقي وليست الرأفة، أقول إنه لا يوجد في الواقع أي تضارب بين مبدأ العدالة وبين ممارسة الرأفة والعفو. حقيقة الأمر أنني أرى أن مفهوم العدالة نفسه يستند إلى الرأفة. (7) نطاق الأخلاق
في الختام، يجدر بنا أن نستكشف نطاق الأخلاق بإيجاز. إذا فهمت الأخلاق على أنها آلية للحفاظ على النظام الاجتماعي ليس إلا، فلن تغطي سوى جوانب السلوك الإنساني الخارجي التي يكون لها تأثير مباشر على الآخرين ويمكن ملاحظته. وإذا كانت غير معنية إلا بتأثير أفعالنا على الآخرين فقط، أي ب «عواقب» أفعالنا فحسب فعليا، فإن أي مشاعر ونيات قد نحملها في قلوبنا، ستكون غير ذات صلة أو محايدة، فيما يتعلق بالأخلاق. لكني لا أستطيع القبول بهذا. فهذا الفهم للأخلاق ضيق ومحدود للغاية.
إن فكرة الأخلاق في حد ذاتها تصبح غير منطقية تماما، بدون تضمين الدافع. إذا اصطدم رأسنا بشجرة، فهل نلوم الشجرة؟ بالطبع لن نفعل ذلك! إن فكرة المسئولية الأخلاقية تستلزم وجود دافع داخلي. ومن ثم، فإن وصف الأخلاق دون الرجوع إلى مستوى الدافع يبدو غير مكتمل على الإطلاق من وجهة نظري.
حقيقة الأمر أن بعد التحفيز الداخلي هو أهم جانب من جوانب الأخلاق. ذلك أنه حين يكون دافعنا نقيا؛ أي موجها بصدق إلى منفعة الآخرين، فإن أفعالنا ستميل بطبيعة الحال إلى أن تكون سليمة أخلاقيا. ولهذا السبب أرى أن الرأفة هي المبدأ الأساسي الذي يمكن أن يبنى عليه نهج أخلاقي كامل. فانطلاقا من الاهتمام القائم على الرأفة بصالح الآخرين، تنشأ جميع قيمنا ومبادئنا الأخلاقية، بما في ذلك العدالة.
الفصل السادس
أهمية الفطنة
لم أزل أؤكد حتى الآن أهمية الرأفة: دافع الاهتمام الحقيقي بصالح الآخرين، باعتبارها أساس الأخلاق والرفاهية الروحية وحتى أساس فهم العدالة. ومن خلال الاعتراف بإنسانيتنا المشتركة وطبيعتنا البيولوجية ككائنات تعتمد سعادتها على الآخرين، نتعلم أن نفتح قلوبنا، وبذلك نكتسب إحساسا بالغاية والاتصال بمن حولنا. وقد أشرت أيضا إلى أن الرأفة الشاملة وغير المنحازة هي الأرضية التي تنبثق منها جميع القيم الداخلية الإيجابية، مثل الصبر والطيبة والعفو والانضباط الذاتي والقناعة وما إلى ذلك.
بالرغم من هذا، ففي حين أن دافع الرأفة السليم هو أساس الأخلاق والروحانية، فثمة عامل جوهري آخر إذا أردنا تحقيق نظام متوازن وعالمي بالفعل للأخلاق. فمع أن النية هي العامل الأول والأكثر أهمية لضمان أن سلوكنا أخلاقي، فنحن نحتاج أيضا إلى «الفطنة» للتأكد من واقعية خياراتنا وأن نياتنا الحسنة لن تذهب سدى.
على سبيل المثال، إذا أدخل السياسيون بلادهم في حرب دون اعتبار كامل للعواقب المحتملة، فحتى إذا كان دافعهم في ذلك يستند بصدق إلى الرأفة، فسوف تكون النتيجة كارثية على الأرجح. المطلوب إذن، إضافة إلى حسن النية، هو استخدام قدرتنا النقدية المتمثلة في الفطنة. ذلك أن ممارسة هذه الملكة، التي تمكننا من فهم المواقف بطريقة تتوافق مع الواقع، تسمح لنا بترجمة نياتنا الحسنة إلى نتائج جيدة.
تؤدي الفطنة أيضا دورا حاسما في تكوين المستوى الشخصي للوعي الأخلاقي. فاستخدام ذكائنا هو الطريقة التي نصل بها إلى الفهم، والفهم هو أساس الوعي. إذن فالوعي الأخلاقي؛ أي الوعي بما سيفيد المرء نفسه والآخرين، لا ينشأ فجأة بطريقة سحرية، بل يأتي من استخدام المنطق. ومن هذا الجانب، فإن تعليم الوعي الأخلاقي لا يختلف عن أي نوع آخر من التعليم. (1) إرساء القيم الداخلية
جميع أفعالنا لها عواقبها، التي يكون لها حتما تأثير على كل من أنفسنا والآخرين. ولأننا نحتاج في حياتنا اليومية على الدوام إلى اتخاذ قرارات صغيرة تتسم بهذا البعد الأخلاقي، فمن المفيد للغاية أن تكون لدينا قواعد أخلاقية أساسية، أو مبادئ توجيهية يمكن الرجوع إليها. فحتى اختيار المنتجات التي نشتريها أو نوعية الطعام الذي نأكله يستلزم قدرا من الفطنة الأخلاقية. وفي معظم الأحيان لا تتاح لنا الفرصة ونحن نتخذ هذه الخيارات، للتفكير في جميع الاختيارات المتاحة والنظر في جميع النتائج المحتملة على أساس كل حالة على حدة. الحق أننا إذا كنا سنفكر بعمق في كل خيار أخلاقي نواجهه، فلا أعتقد أنه سيتبقى لدينا الكثير من الوقت لفعل شيء آخر. ولهذا؛ فسيكون من المفيد أن تكون لدينا قواعد داخلية عامة لتوجيه أفعالنا كي تساعدنا في تلك المناسبات التي لا يتسع الوقت لدينا لتفنيد الأمور بالتفصيل.
الأديان الرئيسية في العالم جميعها غنية بمثل هذه المبادئ التوجيهية، وعندما تغرس هذه القواعد في سن مبكرة، فإنها تصبح جزءا من نظام القيم الداخلية للشخص. على سبيل المثال، في المجتمع التبتي التقليدي، كان المبدأ البوذي المتمثل في تفادي إلحاق الضرر بالحيوانات قيمة اكتسبها الناس من البيئة الثقافية. فقد تعلم الأطفال منذ الصغر أن يتجنبوا القتل حتى قتل الحشرات؛ ومن ثم أصبح هذا التجنب داخليا وتلقائيا. وإذا داسوا بالخطأ على حشرة، يقولون: «أخا، نينجي» (آه، يا له من أمر مثير للشفقة!). لقد عرفت التبت في الماضي تشريعات تحظر بالفعل الصيد البري وصيد الأسماك، إلا في بعض المناطق القليلة حيث تعتمد معيشة السكان على هذه الأنشطة. كان هناك أيضا المزيد من القوانين الخاصة بحماية الحياة البرية، مثل اللوائح المتعلقة بالطيور المهاجرة التي تعشش حول ماناساروفار وغيرها من البحيرات. وكان الحراس الموظفون يضمنون عدم المساس ببيضها. إن هذه اللوائح من أمثلة الإجراءات التي تساعد بها الثقافة السائدة في تشكيل الأولويات الأخلاقية للأشخاص.
على العكس من ذلك، ففي سياق علماني بحت، على الرغم من أن الناس لا يزالون بالطبع يتمتعون بقيم متأصلة، فإن ماهية هذه القيم لا يمكن أن تعد من المسلمات على الدوام. بعض الأفعال كالقتل والسرقة والكذب وتشويه السمعة والاستغلال الجنسي، التي هي بأكملها من أشكال العنف، وضارة بطبيعتها بالآخرين؛ لذلك يشعر معظم الناس غريزيا بقيمة تجنبها. غير أننا بحاجة إلى التوسع أكثر من هذا في عالم معولم لا تقبل فيه التعاليم الأخلاقية الدينية على نطاق شامل. إننا بحاجة إلى استخدام فطنتنا لفهم فوائد أنواع معينة من السلوك والعواقب السلبية للأنواع الأخرى. بهذه الطريقة، يمكننا تطوير نظام داخلي للقيم كي يرشدنا في استجاباتنا في حياتنا اليومية.
إذن، فالمطلوب منا أن نتفكر في سلوكنا، باستخدام فطنتنا في تقييم أي من أفعالنا هو الأكثر ضررا بأنفسنا وبالآخرين وأيها الأكثر فائدة. ومن خلال ذلك، يمكننا أن نتعلم تدريجيا كيفية تحديد جوانب سلوكنا التي ينبغي كبحها وتلك التي ينبغي تنميتها.
فعلى سبيل المثال، باستخدام فطنتنا للنظر في عواقب العنف، يمكننا أن نتوصل بالتدريج إلى فهم واضح واقتناع بضرره وعدم جدواه. ينطبق الأمر نفسه عند استخدام فطنتنا للتأمل في عواقب الصبر أو الكرم؛ إذ يمكننا أن ندرك آثارها الإيجابية، ويمكننا تعزيز هذا الفهم بحيث يصبح جزءا متأصلا بعمق في وعينا. عندما يحدث هذا، سنجد أن سلوكنا أصبح يميل عفويا إلى رفاهية الآخرين. وهذا النوع من التدريب الذهني هو موضوع سأعود إليه في الجزء الثاني من الكتاب. (2) التعامل مع المعضلات
بالرغم من أن القيم الداخلية ضرورية للغاية بصفتها أدوات عملية للحياة على نحو أخلاقي، فثمة ظروف استثنائية مع الأسف، لا تكفي فيها مثل هذه المبادئ العامة. فقد تظهر مواقف معينة تضطرنا إلى الاختيار بين المبادئ التي نعتز بها. وفي مثل هذه الحالات، يصبح استخدام الفطنة، لصالح دوافعنا الرحيمة، أمرا مصيريا. ذلك أننا لن نستطيع التوصل إلى نتيجة متوازنة بشأن المسار الأكثر نفعا إلا من خلال تقييم العواقب المحتملة، والموازنة بين إيجابيات المسارات المختلفة وسلبيات كل منها.
في حالتي شخصيا، حين يستلزم الأمر اتخاذ قرار صعب، أبدأ دائما بمراجعة حافزي. هل أضع بالفعل رفاهية الآخرين في المقدمة؟ هل أخضع لتأثير أي مشاعر مشتتة كالغضب، أو نفاد الصبر، أو العداء؟ وإذا استقر لي أن دافعي سليم، فإنني أتأمل الموقف بعناية في سياقه. ما الأسباب والظروف الأساسية التي أدت إلى ذلك؟ ما الخيارات المتاحة لدي؟ ما نتائجها المحتملة؟ وما المسار الذي سيحقق على الأرجح أكبر فائدة على المدى الطويل للآخرين، مع مراعاة جميع العوامل؟ وأنا أجد أن اتخاذ القرارات بهذه الطريقة يعني أنها لن تكون سببا في أي ندم فيما بعد.
ولذا، فبينما أشجع القارئ على تشكيل نظام قيم شخصي، سيكون من غير الواقعي افتراض أن المسائل الأخلاقية يمكن أن تتحدد بناء على القواعد والمبادئ فحسب. فالمسائل الأخلاقية لا تكون في الغالب بيضاء أو سوداء. بعد التحقق للتأكد من أن دافعنا هو الاهتمام بصالح الإنسانية، يجب أن نزن إيجابيات المسارات المختلفة المتاحة لنا وسلبياتها، ثم نسمح لأنفسنا بالاسترشاد بإحساس طبيعي بالمسئولية. وهذا، في الأساس، هو معنى التحلي بالحكمة. (3) تبني نظرة شمولية
تعد الفطنة أمرا جوهريا إذا أردنا تكوين فهم واقعي عن العالم الذي نعيش فيه. وفي هذه المرحلة، يكون المبدأ الأساسي الذي نحتاج إلى استيعابه هو «الاعتماد المتبادل». يمكن معالجة هذا المبدأ العام والعميق في الوقت ذاته على مستويات مختلفة وفي سياقات مختلفة. فهو جدير بالدراسة المتأملة. لقد ناقشنا بالفعل الاعتماد المتبادل بين رفاهيتنا ورفاهية الآخرين، إضافة إلى ذلك، فإن الاعتماد المتبادل هو إحدى سمات العالم التي تظهر في العديد من المجالات. يظهر الاعتماد المتبادل، على سبيل المثال، في المجال المالي العالمي أو الاقتصاد العالمي، والاعتماد المتبادل للبشرية نفسها في عصر العولمة، والاعتماد المتبادل في العالم الطبيعي، الذي يناقشه علماء الأحياء تحت مسميات «السلاسل الغذائية» و«التكافل» بين الكائنات الحية. يوجد الاعتماد المتبادل أيضا في مجال فيزياء الكم المثير للاهتمام، بمفاهيمه عن «النسبية العامة» و«التشابك الكمي»، وحتى في النظريات التي تناقش أصل الكون. إن الاعتراف بأن الكثير من جوانب عالمنا يتميز بالاعتماد المتبادل، يساعدنا في تكوين فهم أكثر واقعية للعالم؛ فهم أكثر تماشيا مع ماهية الأمور وحقيقتها في الواقع.
إن كل موقف نواجهه في الحياة ينشأ من التقاء عدد كبير من العوامل المساهمة؛ ولذا فلا بد من اتخاذ منظور واسع إذا أردنا لاستجاباتنا أن تكون واقعية. لا يكفي أن ننظر إلى أي موقف أو مشكلة معينة من منظور واحد فقط. وإنما نحتاج إلى النظر من هذا الاتجاه وذاك، ومن جميع الجوانب. مثلما أقول في كثير من الأحيان، يجب أن ننظر من الأمام والخلف فنحصل بذلك على بعدين للنظر، ومن الجانب الأيمن والجانب الأيسر فنحصل على أربعة أبعاد، ومن الأعلى والأسفل فنحصل على ستة أبعاد. عندما نفعل هذا؛ أي عندما نتبنى هذا النوع الأوسع أو الأكثر شمولية من وجهات النظر، ستكون استجاباتنا بالتأكيد أكثر تناغما مع الواقع. وبهذا، نصبح أوفر حظا في تحقيق أهدافنا.
عندما تنشأ المشكلات، غالبا ما ينظر الناس إليها من منظور شديد الضيق مع الأسف. على سبيل المثال، تخيل أنك تشغل سيارتك لكنها لا تعمل. وإذا ظللت تدير المفتاح مرارا وتكرارا، فسوف يصيبك الإحباط وتستنزف البطارية، وسيكون ذلك من الحماقة. والخيار الأكثر واقعية هو أن تتوقف وتفكر في السبب المحتمل لهذه المشكلة. هل يمكن أن يكون نقص الوقود، أو شيئا له علاقة بالطقس الممطر؟ إن مجرد التراجع وتأمل الموقف من منظور أوسع سيمكننا من التعامل مع المشكلة بمزيد من الهدوء. وغني عن القول أن هذا سيمنحك أيضا فرصة أفضل في القدرة على التعامل مع المشكلة بكفاءة.
إضافة إلى ذلك، عندما تحل علينا المحن، فإننا نميل إلى رؤيتها كنتيجة لسبب واحد ونتسرع في إلقاء اللوم على الآخرين. لكن هذا النوع من الاستجابة الوجدانية المفرطة هو في الواقع غير واقعي تماما. فأي نفع نجنيه من صب جام غضبنا من السائق عندما تتأخر الحافلة؟ في كثير من الأحيان، لا تؤدي تصرفات أي فرد سوى دور ثانوي في الكيفية التي تتكشف بها الأحداث. ولهذا؛ فإن الاستجابة للعقبات بالاتهامات وإلقاء اللائمة، سواء أكانت موجهة إلى الآخرين أم موجهة إلى أنفسنا، عادة ما تكون مضللة، ولا تؤدي على الأرجح إلا لتفاقم الموقف. حقيقة الأمر أن كل حادثة نواجهها تأتي نتيجة لأسباب وظروف مختلفة لا حصر لها، وكثير منها يتجاوز قدرة أي شخص على السيطرة، وربما يظل بعضها حتى مجهولا تماما.
ومن ثم، فعند مواجهة تحد كبير كفقدان وظيفة مثلا، قد يشلنا القلق، وينصب كامل تركيزنا على الجوانب السلبية لما حدث، ونحدث أنفسنا قائلين: «الآن لن أكون قادرا على دعم عائلتي» و«يا لي من مسكين! لن أحصل على وظيفة أخرى». خطر هذا الموقف أن التركيز على ورطتنا المباشرة من منظور ضيق للغاية، سيتركنا غير قادرين على أن نحرك ساكنا حيالها. وعلى العكس من ذلك، سنجد أن استخدام فطنتنا للنظر في المواقف في سياقها الأوسع ومن وجهات نظر مختلفة يساعدنا في التوصل إلى حلول. (4) عدم اليقين الحتمي
من المؤكد أننا مهما حاولنا بجد، فستظل الفطنة البشرية دائما غير مكتملة. وما لم نكن مستبصرين أو كليي المعرفة، مثل بوذا أو مثل الإله، فلن نرى الصورة كاملة أبدا، ولن نعرف جميع الأسباب التي أدت إلى أي موقف. ونحن لا نستطيع أيضا توقع جميع عواقب أفعالنا. سيظل عنصر عدم اليقين حاضرا على الدوام. من المهم أن نعترف بهذا، لكنه ينبغي ألا يقلقنا. وينبغي أيضا ألا يجعلنا نيئس من قيمة التقييم العقلاني. وإنما ينبغي أن يلطف من حدة أفعالنا بدرجة مناسبة من الحذر والتواضع. ففي بعض الأحيان، يكون الاعتراف بأننا لا نعرف الإجابة مفيدا في حد ذاته. إذا كنا لا نعرف شيئا، فالاعتراف بذلك صراحة أفضل من التظاهر باليقين النابع من كبرياء في غير محلها أو غرور.
إن عدم اليقين هو سبب آخر لضرورة ارتكاز الأخلاق على مستوى الدافع كما قلت، بدلا من التفكير في العواقب فحسب. الحقيقة هي أن عواقب أفعالنا غالبا ما تكون خارج نطاق سيطرتنا. لكن ما نتمتع بالسيطرة عليه هو مستوى الدافع، إضافة إلى استخدام قدراتنا النقدية وفطنتنا. وعندما نجمع بين هذين العنصرين، فإننا نضمن بذلك أننا نبذل قصارى جهدنا. (5) ثمار الفطنة
إن جميع تطبيقات حسن التمييز التي ناقشتها فيما سبق، تمنحنا فهما، ويمنحنا التأمل في هذا الفهم وعيا أعمق وأكثر استدامة. فعندما تقترن الفطنة بدافع من دوافع الرأفة، يصبح لدينا المكونان الرئيسيان لنهج شامل للأخلاق والرفاهية الروحية في سياق علماني. وهذان المكونان: الرأفة والفطنة يعزز كل منهما الآخر. فعن طريق الحد من الخوف وانعدام الثقة تخلق الرأفة مساحة هادئة ومستقرة في قلوبنا وعقولنا، وهذه المساحة تسهل علينا كثيرا فيما يتعلق بممارسة الفطنة أو الذكاء. وبالمثل، فإن ممارسة الفطنة يمكنها أن تعزز اقتناعنا بضرورة الرأفة ومزاياها. ولذا، فكل منهما يكمل الآخر على نحو عميق.
الفصل السابع
الأخلاق في عالمنا المشترك
(1) تحدياتنا العالمية
في مسكني في دارامسالا، تلك المدينة الواقعة على التلال في شمال الهند، التي ظلت موطني منذ أوائل ستينيات القرن العشرين، أمارس عادتي اليومية في الاستيقاظ مبكرا، عادة في حوالي الساعة 3:30 صباحا. وبعد بعض ساعات من التمارين الذهنية والتأمل، أستمع عادة إلى أخبار العالم عبر الإذاعة. في أغلب الأحيان، أستمع إلى محطة «بي بي سي وورلد سيرفيس» الإذاعية. وتلك عادة يومية أمارسها منذ سنوات عديدة، كوسيلة للاطلاع على الأحداث حول العالم.
وبينما أستمع إلى التيار المتدفق من التقارير التي تناقش النقود والأمور المالية والأزمات والصراعات والحرب، يخطر على ذهني عادة أن المشكلات المعقدة التي نواجهها في العالم: مشكلات الفساد والبيئة والسياسة وما إلى ذلك، تشير في معظم الأحيان إلى غياب القيم الأخلاقية والداخلية. فعلى جميع المستويات، نرى نقصا في الانضباط الذاتي. كما أن العديد من المشكلات تعزى أيضا إلى غياب الفطنة، وقصر النظر أو ضيق الأفق.
لا شك في أن الأسباب والظروف المحيطة ببعض المشكلات تكون شديدة التعقيد. فعلى سبيل المثال، يعود تاريخ بذور العنف العرقي، والتمرد والحرب في الغالبية العظمى من الحالات إلى عقود أو حتى قرون ماضية. بالرغم من ذلك، إذا كنا مهتمين حقا بمعالجة مشكلاتنا من جذورها، سواء أكنا نتحدث عن الصراع الإنساني أو الفقر أو تدمير البيئة، فعلينا أن ندرك أنها ترتبط في نهاية المطاف بقضايا أخلاقية. إن مشكلاتنا المشتركة لا تسقط من السماء، ولم تخلقها أيضا قوة أعلى. وإنما هي في الغالب نتاج الفعل البشري والخطأ البشري. وإذا تمكن الفعل البشري من خلق هذه المشكلات في المقام الأول، فلا شك بأننا نتمتع - نحن البشر - بالقدرة على إيجاد حلولها وبالمسئولية تجاه ذلك أيضا. الطريقة الوحيدة التي يمكننا من خلالها تصحيح هذه الأوضاع هي تغيير نظرتنا إليها وطرقنا في حلها، إضافة إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة. (2) المسئولية العالمية
في بعض الأحيان، ألاحظ أن الناس يميزون تمييزا مريحا لهم بين الأخلاق على المستوى الشخصي وبين الأخلاق على المستوى الاجتماعي الأوسع. بالنسبة إلي، أرى أن مثل هذه المواقف معيبة في الأساس؛ لأنها تغفل الاعتماد المتبادل في عالمنا.
فتلك الأخلاق الفردية، أو بالأحرى غيابها، يمكن أن تترك تأثيرا على حياة الكثيرين، وقد اتضح ذلك بقوة في الأزمة المالية العالمية التي بدأت عام 2008، والتي لا يزال أثر تداعياتها حاضرا في جميع أنحاء العالم. لقد كشفت هذه الأزمة كيف أن الجشع الجامح من جانب بضعة من البشر يمكن أن يؤثر بالسلب على حياة الملايين. ولهذا؛ فمثلما بدأنا في أخذ مخاطر التطرف وعدم التسامح الديني بجدية في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ينبغي أيضا أن نأخذ مخاطر الجشع وعدم الأمانة بجدية في أعقاب الأزمة المالية. فعندما يكون الجشع مقبولا، بل جديرا بالثناء، لا شك في أن نظام قيمنا الجماعي معيب.
في عصر العولمة هذا، حان الوقت لأن نعترف بأن حياتنا مترابطة بعمق، وأن ندرك أن لسلوكنا بعدا عالميا. وحينها سنرى أن أفضل ما يخدم مصالحنا الخاصة هو ما يخدم مصلحة المجتمع البشري الأوسع. على النقيض من ذلك، إذا اكتفينا بالتركيز على تنميتنا الداخلية وأهملنا المشكلات الأوسع للعالم، أو إذا لم نكترث بمحاولة حلها بعد أن أدركناها، فسنكون إذن قد تجاهلنا شيئا أساسيا. إن اللامبالاة، في رأيي، هي في حد ذاتها شكل من أشكال الأنانية. ولكي يكون نهجنا للأخلاق ذا مغزى بحق، علينا بالطبع أن نهتم بالعالم. هذا ما أعنيه بمبدأ المسئولية العالمية، وهو جزء أساسي من النهج الذي أقترحه لأخلاق علمانية. (3) تحدي التقدم التكنولوجي
مع التطورات العلمية والتكنولوجية الهائلة، في المجالات العسكرية والطبية والزراعية خلال القرنين الماضيين، أصبح لدى البشر الآن درجة غير مسبوقة من المعرفة بالعالم والسيطرة عليه. لم يحدث في أي وقت مضى أن عرفنا هذا القدر الكبير أو تمتعنا بمثل هذه القدرة على التحكم في العديد من جوانب كوكبنا. والحق أن هذا الوضع يثير مخاوف خطيرة للغاية: هل تتزايد مسئولياتنا الآن بسرعة كبيرة مقارنة بالوتيرة التي يمكن لقدرتنا الطبيعية على الفطنة الأخلاقية مواكبتها؟ هل يمكننا أن نثق في أنفسنا مع القوة التي جلبها لنا كل من العلم والتكنولوجيا؟ فبينما لم تتغير عقولنا تغيرا ملحوظا في خمسة الآلاف عام الماضية، تغير العالم من حولنا بدرجة استثنائية.
بالرغم من التحديات العالمية التي نواجهها اليوم، لم أزل متفائلا في العموم. فقد ارتقينا - نحن البشر - إلى مستوى التحديات التي واجهناها في الكثير من المرات. لقد نجحنا في اجتياز العديد من التحولات في مسار تطورنا من مجتمعات الصيد وجمع الثمار إلى المجتمعات الحضرية العالية التقنية. هذا في حد ذاته دليل قوي على مرونتنا وسعة حيلتنا كمخلوقات اجتماعية وأخلاقية. حقيقة الأمر أن الجنس البشري لم ينج بالرغم من كل الحروب والكوارث والأمراض التي واجهها فحسب، وإنما ازدهر أيضا. لقد ابتعدنا كل البعد عن تدمير أنفسنا، وخلقنا في الواقع مشكلة معاكسة، وهي ارتفاع عدد السكان بمعدل غير مسبوق وينذر بالخطر.
إن نجاحنا كنوع أصبح ممكنا بفضل قدرتنا على التعاون، ولا سيما عندما تكون مصالحنا الحيوية في خطر. وفي صميم التعاون، يكمن مبدأ مراعاة منفعة الآخرين وصالحهم. لذلك، فأنا على ثقة من أننا، نحن البشر، سنتمكن مرة أخرى من خلال التعاون من التغلب على تحدياتنا البيئية والتكنولوجية الحالية. وبالرغم من ذلك، فلا مجال أمامنا لعدم الاكتراث. (4) عبثية الحروب
شهد القرن العشرون أحد أشد الصراعات الإنسانية على نطاق غير مسبوق من قبل. تشير التقديرات إلى أن أكثر من مائتي مليون شخص قتلوا في الحروب، والثورات، والإبادات الجماعية. من المحرقة النازية إلى القتل الجماعي على يد طغاة مثل ستالين وماو (في الجزء الأخير من حياته المهنية)، ومن حقول قتل الخمير الحمر إلى محاولات التطهير العرقي في البلقان، والإبادة الجماعية في رواندا، فإن تلك المعاناة التي كبدتها الإنسانية لنفسها شديدة الوطأة حقا. لقد اعترضت الحرب مسار التاريخ البشري دائما بالطبع. فما دام البشر موجودين، أعتقد أن الصراع سيظل موجودا أيضا، لكن حجم الدمار في المائة عام الماضية لم يكن مسبوقا.
حتى في أوقات السلم، تطورت تقنيات الدمار البشرية، وتحسنت، وجرى تداولها دون توقف. اليوم لا يوجد مكان على وجه الأرض لا تهدده ترسانات الدمار هذه. عند معالجة مشكلة العنف في العالم والتفكير في الكيفية التي يمكننا بها خلق عالم أكثر أمانا للأجيال القادمة، يجب أن نفعل أكثر من مجرد مناشدة السياسيين وخصومهم لممارسة ضبط النفس. تنبع التهديدات التي نعيشها أيضا من صناعة الأسلحة نفسها، ومن تجارة الأسلحة، وبالطبع من ثقافة العنف التي غالبا ما تعمل وسائل الإعلام على إدامتها؛ مما يشجع على الوهم القائل بأن العنف نهج عملي لحل النزاع الإنساني. ما نحتاج إليه حقا هو تحول جذري في الوعي الإنساني. ذلك أنه في جميع الظروف عدا الحالات الأكثر استثنائية، لا يولد العنف إلا مزيدا من العنف. ومن ثم؛ فإن الافتراض القائل بإمكانية تحقيق السلام من خلال العنف مضلل تماما.
في العالم المعاصر الذي يتسم بالاعتماد المتبادل على نحو عميق، باتت الحرب فكرة غير منطقية وعفاها الزمن. ففي الماضي البعيد، عندما كانت مصالح مجموعة ما مستقلة تماما عن مصالح مجموعة أخرى، ربما كان اللجوء إلى العنف كحل أخير مبررا بعض الشيء. لكن هذا لم يعد ينطبق اليوم. فجميع المناطق وجميع الشعوب مرتبطة بيئيا، واقتصاديا، وسياسيا. ومن الحتمي أن تؤثر الحروب أو الاضطهاد أو النزاع الأهلي في إحدى المناطق على البشر في أجزاء أخرى من العالم. وتعد مشكلة الإرهاب خير مثال على ذلك. عندما يكون للناس دافع قوي يشجعهم على الدمار، فما من نظام شرطي أو أمني سيكون كافيا لمنعهم على الإطلاق.
من العوامل الأخرى التي تجعل العنف وسيلة غير واقعية لحل النزاع، عدم القدرة على التنبؤ بنتائجه. والحرب الأخيرة في العراق مثال جيد على هذا. فبالرغم من أن النية كانت في البداية شن حملة محدودة، فقد نتج عنها نزاع طويل الأمد لم يحل حتى الآن، ودمر حياة الملايين من الأبرياء.
في السنوات المتبقية من القرن الحادي والعشرين، يجب أن نحرص على عدم تكرار أخطاء الماضي. والطريق الوحيد للحد من مستوى العنف في عالمنا هو أن يتخذ المزيد والمزيد من الناس في جميع أنحاء العالم موقفا واعيا من نزع السلاح. إن نزع السلاح هو ممارسة فعلية للرأفة. ما يلزمنا إذن، هو نزع السلاح الداخلي، على مستوى كراهيتنا الفردية وتحيزنا وتعصبنا، ونزع السلاح الخارجي، على مستوى الشعوب والدول. بدلا من عادة صب الملح على الجراح التي ورثناها عن الأجيال السابقة، يجب أن نبدأ في معالجة انقساماتنا من خلال إلزام أنفسنا بالحوار والتعاون والتفاهم. فمع استمرار زيادة عدد سكان العالم، وتسابق دول كبيرة مثل الصين، والهند، والبرازيل في التسابق نحو توسع اقتصادي سريع، سيزداد التنافس العالمي على الموارد الطبيعية حتما، ولن يكون هذا التنافس على الوقود الأحفوري فحسب، بل على الضروريات الأساسية كالماء والغذاء والأرض أيضا . ومن ثم، فمن الضروري أن يتشكل لدى أجيالنا الشابة: حراس مستقبلنا، وعي قوي بعدم جدوى الحرب. يمكننا التعلم من الإنجازات العظيمة التي حققها المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينج الابن لإدراك أن اللاعنف هو أفضل نهج طويل الأمد لرفع الظلم. إذا كان القرن العشرون قرنا من العنف، فلنجعل القرن الحادي والعشرين قرنا للحوار. (5) البيئة
منذ عقود طويلة وأنا أؤكد على أهمية الوعي البيئي لرفاهيتنا في المستقبل. من المشجع للغاية أن هذا الوعي قد بدأ يزداد في السنوات الأخيرة ولا سيما بين الشباب، وأن السياسيين قد صاروا الآن يأخذون هذه القضايا على محمل الجد.
في الماضي، عندما بدأ التصنيع في أوروبا وانتشر تدريجيا إلى أجزاء أخرى من العالم، لم تكن العلاقات المتداخلة المعقدة للعالم الطبيعي مفهومة جيدا. فباسم التقدم، صيدت الحيوانات إلى حد الانقراض، وقطعت الغابات، ولوثت المجاري المائية بفعل المصانع والمنشآت الصناعية. لكن مع تقدم العلم وزيادة فهمنا للتوازن الدقيق في العالم الطبيعي، لم يعد عذر الجهل متاحا.
اليوم، يجب أن نواجه حقيقة أن أنماط حياتنا المفرطة في المادية هي أنماط إسرافية وذات آثار بيئية وخيمة. من الطبيعي جدا للأشخاص في العالم النامي أن يطمحوا إلى مستوى الراحة نفسه الذي يتمتع به سكان العالم المتقدم. لكن مع ارتفاع عدد سكان العالم بسرعة، فمن الواضح أننا إذا لم نغير أنماط الاستهلاك التي نعتبرها «متقدمة»، فسيصبح تعطش البشرية إلى الموارد الطبيعية أمرا لا يمكن تحمله. لقد بدأنا بالفعل في رؤية النتائج؛ إذ يولد الاستغلال المفرط وما يقابله من تدهور للبيئة الطبيعية أزمات بيئية على المستويين المحلي والعالمي. ولذا، فمن المهم للغاية للشعوب التي تسعى إلى مثل هذا النمو الاقتصادي السريع ألا تتبع نماذج التنمية التي تراها في البلدان الأكثر ثراء اتباعا أعمى. وإنما يجب أن تأخذ دول كالصين والهند والبرازيل دور الريادة في إيجاد طرق جديدة وأكثر استدامة للتنمية. في هذا الصدد، أرى أن نموذج الاقتصاد القائم على التمويل الصغير، الذي من شأنه أن يكون مرنا ومراعيا للقضايا المحلية والبيئية، يتسم بتفكير شديد التطلع نحو المستقبل.
إن التحديات التي تفرضها البيئة تستلزم التعاون على المستوى العالمي. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك، تغير المناخ. في التبت، الذي يسميه بعض مناصري حماية البيئة «القطب الثالث» بسبب الأهمية الكبيرة لأنهاره الجليدية في أنظمة الطقس في آسيا، يلاحظ حدوث ذوبان جليدي بالفعل، وتفيد التقارير بازدياد درجة الحرارة على هضبة التبت بمعدل أسرع كثيرا من معدل ازديادها في مناطق الأراضي المنخفضة المجاورة. إن العديد من أهم أنهار آسيا، مثل اليانجتسي، والنهر الأصفر، والميكونج، والسالوين، والبراهمابوترا، والسند، تنبع من التبت. ومع انحسار الأنهار الجليدية، ستصبح جميع المناطق الواقعة في اتجاه مجرى النهر أكثر عرضة للجفاف. سيحدث هذا إلى جانب آثار إزالة الغابات، التي نشهد خسائرها بالفعل في صورة ارتفاع مستويات الفيضانات. على المدى الطويل، يمكن لذوبان الجليد في التبت أن يسهم في إحداث تغير مناخي شديد ونقص حاد في المياه وتصحر في الصين، والهند، وباكستان، وجنوب شرق آسيا. سيكون هذا كارثيا للعالم بأسره.
لم يعد من الواقعي أن تفكر الدول في مصلحتها الذاتية القومية الضيقة النطاق فحسب. يجب أن تعمل الدول المتقدمة، التي تتمتع بالعديد من المنافع، بالتعاون مع الدول النامية، التي تريد بطبيعة الحال المشاركة في تلك المنافع. بالرغم من ذلك، فلا يمكن فرض التعاون الحقيقي بالقوة؛ فهو لا ينشأ إلا من الثقة والاحترام المتبادلين بين الأطراف المعنية، والثقة لا تأتي إلا مع الشفافية. كان فشل قمة كوبنهاجن للبيئة العالمية عام 2009، للأسف، مثالا على استحالة التعاون عندما تعجز الأطراف المعنية عن النظر إلى ما هو أبعد من مصلحتها الذاتية الضيقة. (6) إشكالية الجشع في مقابل بهجة الإحسان
في عالم اليوم المادي، ثمة توجه لأن يصبح الناس عبيدا للمال، وكأنهم جزء من آلة صنع أموال ضخمة. وهذا لا يفيد كرامة الإنسان، وحريته، ورفاهيته الحقيقية. إن الثروة هي ما ينبغي أن يخدم البشرية، وليس العكس. وهذه الفوارق الهائلة في الثروة، والتي تتضح جلية في العالم اليوم، تلك الفوارق الأكثر تطرفا من أي وقت مضى والتي لا تزال تنمو، أمر محزن للغاية . إن عدم المساواة الاقتصادية الصارخة في عالم اليوم، ليس بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب فحسب، بل بين الأغنياء والفقراء داخل كل بلد على حدة أيضا، ليست أمرا خاطئا من الناحية الأخلاقية فحسب، بل إنه مصدر للعديد من المشكلات العملية أيضا، بما فيها الحرب والعنف الطائفي، والتوترات الاجتماعية الناتجة عن الهجرة الاقتصادية على نطاق واسع. وفيما يخص مسألة عدم المساواة الاقتصادية، فإنني أعتبر نفسي نصف ماركسي على الأقل. أما فيما يتعلق بتكوين الثروة ومن ثم تحسين الظروف المادية للناس، فإن الرأسمالية تصبح فعالة للغاية بلا شك، لكن من الواضح أن الرأسمالية لا تكفي، مثلها في ذلك مثل أي شكل من أشكال المثالية الاجتماعية؛ لأن ما يدفعها هو الربح فقط، دون أي مبدأ أخلاقي يوجهها. ويمكن أن تنطوي الرأسمالية الجامحة على استغلال رهيب للضعفاء. ومن ثم، فنحن نحتاج إلى تبني نهج للعدالة الاقتصادية يراعي ديناميكية الرأسمالية مع دمجها بالاهتمام بالأشخاص الأقل حظا. مرة أخرى، أعتقد أن التمويل الصغير يقدم طريقة مستدامة ومتجاوبة لمعالجة قضايا التخفيف من حدة الفقر والتنمية، وهو نهج يمكن أن يجنبنا إفراط الرأسمالية من ناحية، وعدم الكفاءة الناتجة عن سيطرة الدولة المفرطة من ناحية أخرى.
منذ وقت مضى، جاء لرؤيتي زوجان هنديان ثريان للغاية من مومباي. جاءا طلبا لبركاتي. أخبرتهما، كما أخبر الكثيرين غيرهما، أن البركات الحقيقية الوحيدة ستأتي من نفسيهما. واقترحت طريقة لإيجاد البركات في حياتهما، وهي أن يستخدما ثرواتهما لإفادة الفقراء. فبالرغم من كل شيء، لا تزال مومباي تضم العديد من الأحياء الفقيرة حيث يصعب الحصول على الضروريات الأساسية كالمياه النظيفة. ولذا، أخبرتهما أنهما بعد أن صنعا أموالهما من الرأسمالية، يجب أن ينفقاها على الطريقة الاشتراكية!
في هذا الصدد، ينبغي أن أعبر عن إعجابي الشديد بفاعلي الخير أمثال بيل جيتس وميليندا جيتس وأعداد متزايدة من الآخرين الذين يشاركون مواردهم مع المجتمع العالمي على نطاق واسع. هذا رائع، وأنا أناشد الآخرين الذين حققوا درجة عالية من النجاح المادي بأن يصبحوا جزءا من هذا الاتجاه النبيل. (7) تحديات جديدة يفرضها العلم
شهدت السنوات الأخيرة تطورات سريعة في مجالات كعلم الوراثة والتكنولوجيا الحيوية. وفي مجالات الاستنساخ لأغراض العلاج والتكاثر، نكتسب الآن سيطرة غير مسبوقة على خلق الحياة نفسها والتلاعب بها. وقد قيل لي إن تسلسل الجينوم البشري يحدث ثورة في العلوم الطبية، ويحولها من نموذج العلاج الكيميائي الحيوي إلى نموذج العلاج القائم على الجينات. إضافة إلى ذلك، تزداد قدرة العلماء باستمرار على القيام بتنبؤات جينية تمكنهم من توقع المسار المحتمل لصحة المرء. تثير هذه التطورات العديد من الخيارات الصعبة، ليس لدى الأطباء والآباء فحسب، بل لدى أصحاب العمل والمؤسسات أيضا. إن بعض الأشخاص يستجيبون للتحديات التي تطرحها هذه التقنيات الجديدة بإدانات شاملة؛ إذ يقولون، على سبيل المثال، إن جميع التعديلات الجينية أمر خاطئ، لكني لا أعتقد أن رفض هذه القضايا يكون بهذه السهولة. فمن المهم أن نفي بمهام مجالات مسئوليتنا الجديدة بدافع سليم وبصيرة ناقدة. وقد ناقشت بعض القضايا ذات الصلة بالتطورات الجديدة في علم الوراثة الحيوية في كتاب سابق بعنوان «الكون في ذرة واحدة».
إن جميع التحديات الرئيسية التي نواجهها في العالم تستلزم اتباع نهج قائم على الوعي الأخلاقي والقيم الداخلية. فصيانة المستقبل لا تقتصر على القوانين والأنظمة الحكومية؛ بل تتطلب المبادرة الفردية أيضا. نحن بحاجة إلى تغيير طريقتنا في التفكير وسد الفجوة بين الإدراك والواقع. لهذا السبب، ومن أجل مواجهة هذه التحديات، فإن التعليم أمر جوهري. (8) تعليم الأجيال القادمة
عندما بدأ التعليم الحديث، كان الدين لا يزال قوة مؤثرة في المجتمع، ومن ثم كان غرس فضائل من قبيل ضبط النفس، والتواضع، والخدمة؛ جزءا من التنشئة الأسرية والمشاركة في مجتمع ديني، ومن ثم فقد كان من الممكن إهمالها إلى حد كبير في السياقات التعليمية. وكان نقل المعرفة الأدبية والتقنية هو ما يعد الأولوية الرئيسية للتعليم العالمي الحديث. أما اليوم، فإن الافتراض القائل بأن الأطفال سيتلقون التعليم الأخلاقي تلقائيا لم يعد يبدو واقعيا. لم يعد للدين ذلك التأثير الذي كان يحدثه في المجتمع من قبل، وتآكلت القيم الأسرية القوية، التي غالبا ما كانت ترتكز في الماضي على الإيمان الديني وتتغذى داخل هويات مجتمع قوي، وذلك بسبب القيم المادية والضغوط الاقتصادية في معظم الأحيان. نتيجة لذلك، لم يعد غرس القيم الداخلية في الشباب شيئا يمكننا اعتباره أمرا مسلما به. إذا كنا لا نستطيع افتراض أن الناس يتعلمون القيم الأخلاقية والروحية في المنزل أو من خلال المؤسسات الدينية، إذن يبدو من الواضح أن مسئولية المدارس في هذا المجال: التعليم الروحي والأخلاقي، قد زادت إلى حد كبير.
بالرغم من هذا، فإن الوفاء بهذه المسئولية ليس بالأمر السهل في عصر العولمة والمجتمعات المتنوعة. فعلى سبيل المثال، إذا كان الأطفال في مدرسة ما ينتمون إلى ديانات أو خلفيات ثقافية متنوعة، فما الأساس الذي ينبغي للمدرسة أن تدير التربية الأخلاقية وفقا له؟ ذلك أن تطبيق منظور ديني واحد لن يكون كافيا. في بعض أنحاء العالم، يستبعد الدين تماما من المناهج المدرسية. فكيف يمكن للمدارس أن تقدم لتلاميذها تعليما أخلاقيا غير متحيز وشامل؟
كلما تحدثت في المدارس والجامعات عن الحاجة إلى مزيد من الاهتمام بالأخلاق والقيم الداخلية، وجدت استجابة إيجابية للغاية. وهذا يشير إلى أن المعلمين والطلاب أيضا يشاركونني اهتمامي. المطلوب إذن هو وسيلة لتعزيز القيم الداخلية العالمية حقا، تلك القيم التي يمكن أن تستوعب وجهات النظر الإنسانية الملحدة والدينية بمختلف أنواعها، على حد سواء ودون تحيز.
في خريف عام 2009 في كندا، شاركت في حوار مثير للاهتمام عن هذا الموضوع والتقيت بالعديد من المعلمين المتدربين من جميع أنحاء مقاطعة كيبيك. حتى وقت قريب، كان المجتمع في كيبيك تقليديا إلى حد ما ومعظم أفراده من الرومان الكاثوليك. لكنه أصبح في العقود الأخيرة مثلما هو الحال في العديد من الأجزاء الأخرى من العالم، علمانيا على نحو متزايد، ومع الهجرة، أصبح أيضا متعدد الثقافات ومتعدد الأديان. استجابة لهذه التغييرات، تبحث السلطات المحلية عن طرق جديدة لتدريس الأخلاق في المدارس، طرق أقل اعتمادا على المناهج الدينية التقليدية.
في مسائل محددة، مثل كيفية تطوير خطة دراسية وكيفية تعليم فئات عمرية مختلفة، لم يكن لدي الكثير لأقدمه؛ فهذه أمور متروكة للمختصين في التعليم وعلم النفس التنموي، والمجالات ذات الصلة. أما فيما يتعلق بالنهج العام، فقد شاركت وجهة نظري المتمثلة في أن النهج العلماني للأخلاق يستوجب أن تكون المبادئ الأساسية عالمية حقا.
شاركت أيضا وجهة نظري القائلة بأن التدريبات المنهجية على الاهتمام بالقيم الداخلية وتنميتها يمكن أن يفيد العديد من الأشخاص. ومن هذا المنطلق، شرحت بعضا منها في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
وفيما يتعلق بمسائل علم التربية، كان اقتراحي الوحيد الذي لا يزال قائما، هو أن نتذكر أنه عند تدريس الوعي الأخلاقي والقيم الداخلية، فإن توفير المعلومات لا يكفي أبدا، وأن التعليم بالقدوة يتخذ أهمية قصوى. إذا تحدث المعلمون عن قيمة الطيبة واستفاضوا في فوائدها دون توضيح ما يقولونه من خلال القدوة الشخصية، فمن غير المرجح أن يجد الطلاب كلماتهم مقنعة. لكن إذا جسد المعلمون الطيبة في سلوكهم من خلال التعبير لطلابهم عن اهتمام حقيقي، فإنهم بذلك سيزيدون من فاعلية طرحهم.
بالطبع، لا أقصد باقتراحي أن يكون المعلمون شديدي اللين! على العكس من ذلك، فعادة ما يكون أفضل المعلمين صارمين بعض الشيء. لكن لكي تكون الصرامة فعالة، يجب أن ترتكز على الاهتمام بصالح الطلاب. يذكرني قولي هذا بمعلمي الكبير الراحل، الذي كان عزيزا جدا علي. في مظهره الخارجي، كان لينج رينبوتشي شديد الصرامة. عندما كنت راهبا شابا أدرس في التبت، كان يحتفظ بسوطين بجانبه في أثناء الدروس. كان أحدهما سوطا عاديا من الجلد البني، مخصصا للاستخدام مع أخي الأكبر، والآخر كان سوطا بلون أصفر مميز، مخصصا لي. الحق أن السوط الأصفر لم يستخدم قط، لكنه لو كان قد استخدم، فأنا متأكد من أنه ما كان ليغدو أقل إيلاما من ذلك الذي استخدم مرة أو مرتين مع أخي البائس! بصرف النظر عن المزاح، فإن تأثير المعلمين على تطور الأطفال كبير للغاية، وليس ذلك في الأمور الأكاديمية فحسب، بل فيهم كأفراد أيضا. لمختلف الطلاب احتياجات مختلفة، ويجب أن ينتبه المعلمون إلى ذلك. قد يكون النظام الحازم جيدا لبعض الطلاب بينما يكون النهج اللطيف أكثر ملاءمة لآخرين. أنا عن نفسي أشعر في هذا اليوم بامتنان عميق تجاه معلمي. فعلى الرغم من المظهر الخارجي الصارم الذي كان يبديه لينج رينبوتشي، أصبحت أقدر عمق طيبته بمرور الوقت. في التعليم الرهباني التبتي التقليدي، يوجد العديد من الصفات التي تثير الإعجاب لدى المعلمين، مثل الصبر والحماس والقدرة على الإلهام والحيوية والمهارة في شرح الدروس بوضوح. لكن قبل كل شيء، توجد صفات ثلاث هي ما يميز المعلم العظيم: التفوق الأكاديمي (خي)، والنزاهة الأخلاقية (تسون)، والطيبة (سانج).
أدرك أن المعلمين في المجتمعات الحديثة غالبا ما يواجهون تحديات هائلة. قد تكون الفصول الدراسية كبيرة جدا ومكدسة، وقد تكون المواد التي يدرسونها معقدة للغاية، وقد يكون الحفاظ على النظام صعبا. وعلى ذكر أهمية مهنة التدريس وصعوبتها، فقد فوجئت عندما سمعت أن التدريس صار اليوم ينظر إليه في بعض المجتمعات الغربية على أنه مهنة متدنية إلى حد ما. هذا بالتأكيد وضع مضطرب للغاية. يجب الثناء على المعلمين لاختيارهم هذه المهنة. وينبغي لهم أن يهنئوا أنفسهم، لا سيما في الأيام التي يكونون فيها مرهقين ومحبطين. إنهم يشاركون في عمل لن يقتصر تأثيره على مستوى المعرفة الفوري للطلاب، بل سيمتد أيضا ليشمل حياتهم ككل، ومن ثم فإنهم يتمتعون بالقدرة على المساهمة في مستقبل البشرية نفسه. (9) الحاجة إلى المثابرة
في ظل جميع تحديات عالم اليوم المترابط، هل يعد تفاؤلي بمستقبل الإنسانية مثاليا؟ ربما هو كذلك. هل هذا غير واقعي؟ بالتأكيد لا. إن عدم الاكتراث بالتحديات التي نواجهها هو أمر يتعذر تبريره. إذا كان الهدف نبيلا، فلا يهم كثيرا إن كان سيتحقق خلال حياتنا أم لا. ما يجب أن نفعله إذن هو أن نجاهد ونثابر وألا نستسلم أبدا.
الجزء
تربية القلب عن طريق تدريب العقل
مقدمة: البدء بالنفس
في النصف الأول من هذا الكتاب، قدمت أساسا علمانيا تماما لفهم أهمية الرأفة والقيم الداخلية. لكن فهم الحاجة إلى هذه الصفات لا يكفي. وإنما يجب علينا أيضا أن نتصرف على أساس من هذا الفهم. فكيف إذن نحقق هذا الفهم ونترجمه في حياتنا اليومية؟ كيف لنا أن نصبح أكثر رأفة، وأكثر طيبة، وأكثر تسامحا، وأكثر فطنة في سلوكنا؟
ردا على مثل هذه الأسئلة، أقدم في الفصول المتبقية من هذا الكتاب بعض الأفكار بشأن الطرق التي يمكننا من خلالها البدء في تربية قلوبنا. والكثير من جوانب هذه الاقتراحات المتعلقة بكيفية كبح جماح سلوكنا السلبي، وكيفية محاربة ميولنا الوجدانية الهدامة، وكيفية تنمية القيم الداخلية كالرأفة والصبر والرضا والانضباط والكرم، وكيفية تطوير عقل هادئ ومنضبط من خلال تدريب العقل، هي أمور مستمدة من التعاليم البوذية الكلاسيكية التي هي جزء من خلفيتي، لا سيما الاقتراحات المتعلقة ب «تدريب العقل»، المعروف باسم «لوجونج» في لغة التبت. ومع ذلك، فأنا أرى أن الممارسات التي أطرحها هنا لا تتطلب اعتقادا دينيا أو التزاما. وإنما هي تشكل نهجا للعيش بشكل أخلاقي وفي وئام مع الآخرين، مع إحساس أعمق بالرفاهية، وهو ما يمكن ممارسته بطريقة مستقلة عن أي منظور ديني أو ثقافي محدد.
أقدم اقتراحاتي في هذا الجزء الثاني بأمل صادق في أن تستطيع توفير المساعدة والإرشاد لأولئك الذين يرغبون في تعلم كيفية التغلب على صعوباتهم وعيش حياة أخلاقية مرضية وموجهة نحو المنفعة الطويلة المدى لكل من الذات والآخرين.
مرة أخرى، يجب أن أؤكد أن هذه الاقتراحات ليست علاجا فوريا لجميع مشكلاتنا. وأؤكد أيضا أن تربية القلب تستغرق وقتا وجهدا متواصلين، لكنني أثق في أننا بالدافع الصادق يمكننا جميعا أن نتعلم الطيبة، ويمكننا جميعا الاستفادة منها.
الفصل الثامن
اليقظة الأخلاقية في الحياة اليومية
ليست الأخلاق مسألة تتعلق بالمعرفة فحسب. فالأهم أنها تتعلق بالممارسة. لهذا السبب، فحتى الفهم الأخلاقي الأكثر تعقيدا يصبح بلا جدوى من ناحية ما، إن لم يطبق في الحياة اليومية. إن العيش وفقا للأخلاق لا يقتصر على التبني الواعي لمنظور أخلاقي، بل يقتضي أيضا الالتزام بتنمية القيم الداخلية في حياتنا اليومية وممارستها.
والآن، فيما يتعلق بمسألة كيفية ممارسة الأخلاق في الحياة اليومية، قد يفيدنا تصور هذه العملية على أنها تتضمن ثلاثة جوانب أو مستويات، كل منها أكثر تقدما بشكل تدريجي ويعتمد نجاح كل منها على الجانب أو المستوى السابق لها. ومثلما يرد في بعض النصوص البوذية الكلاسيكية، هذه المستويات هي: خلق ضبط النفس؛ أي تحري الامتناع عن إلحاق الضرر الفعلي أو المحتمل بالآخرين، ثم خلق الفضيلة؛ أي التنمية والتعزيز النشطين لسلوكنا الإيجابي وقيمنا الداخلية، ثم خلق الإيثار؛ أي تكريس حياتنا بصدق ودون أنانية لصالح الآخرين.
ولكي تكون هذه المراحل الثلاث فعالة، يجب مراعاتها فيما يتعلق بجميع سلوكنا. معنى هذا أنها لا تؤخذ في الاعتبار فيما يتعلق بأفعالنا الجسدية الخارجية فحسب، بل يجب مراعاتها فيما نقول أيضا، ثم في أفكارنا ونوايانا في نهاية المطاف. والأهم من بين مستويات السلوك هذه: الجسد والكلام والعقل، تعود الأهمية القصوى إلى العقل باعتباره مصدر كل ما نفعله ونقوله.
إن تركيز انتباهنا على أفعال الجسد والكلام فحسب سيكون مثل طبيب يعالج أعراض المرض فقط وليس السبب الكامن وراءه. ولكي يكون العلاج فعالا، يجب أن يستهدف مصدر المشكلة أيضا. وفي ضوء هذا، فإن الفصول الثلاثة الأخيرة معنية كلها على نحو أساسي بتدريب العقل. لكن قبل الانتقال إلى موضوع تربية القلب من خلال تدريب العقل، يجب أن أقول أولا بضع كلمات عن أهمية التخلي عن العادات الهدامة فيما يتعلق بالجسد والقول؛ لأن هذا هو ما يشكل المرحلة الأولى في ممارسة الأخلاق. (1) خلق ضبط النفس
فيما يتعلق بأنواع معينة من السلوك الضار الواضح، تتقارب جميع الأديان الرئيسية في العالم والتقاليد الإنسانية. فالقتل والسرقة والسلوك الجنسي غير اللائق كالاستغلال الجنسي، هي أفعال ضارة بالآخرين بطبيعة الحال. ومن ثم فلا بد من التخلي عنها بالطبع.
لكن خلق ضبط النفس يستلزم ما هو أكثر من هذا. قبل أن نتمكن من التفكير في إفادة الآخرين بفاعلية، يجب علينا أولا وقبل كل شيء التأكد من أننا لا نؤذيهم، حتى من خلال أفعالنا التي لا تنطوي على عنف مباشر.
فيما يتعلق بمبدأ عدم التسبب في أي ضرر هذا، فأنا شديد الإعجاب بإخواني وأخواتي في تقليد الجاينية، وأشعر بالتواضع أمامهم. فالجاينية، التي هي أشبه بديانة توءم للبوذية، تركز بشكل كبير على فضيلة اللاعنف «أهيمسا» تجاه جميع الكائنات. على سبيل المثال، يبذل رهبان الجاينية قصارى جهدهم للتأكد من أنهم لا يطئون الحشرات عن طريق الخطأ أو يؤذون الكائنات الحية الأخرى في أنشطتهم اليومية.
غير أن محاكاة السلوك المثالي لرهبان الجاينية وراهباتها صعب علينا جميعا. حتى أولئك الذين تقتصر دائرة اهتمامهم الأولية على الإنسانية لا جميع الكائنات الحية، قد يكون من الصعب عليهم للغاية عدم المساهمة في إيذاء الآخرين بطرق غير مباشرة من خلال أفعالنا. فكر على سبيل المثال في كيفية تلوث الأنهار: ربما عن طريق شركات التعدين التي تستخرج المعادن، أو المنشآت الصناعية المنتجة للمكونات التي تعتبر أساسية في التقنيات التي نستخدمها بصفة يومية. وبذلك يكون كل مستخدم لهذه التقنيات مسئولا بصفة جزئية عن التلوث، ومن ثم يسهم بالسلب في حياة الآخرين. ومع الأسف، من الوارد جدا أن نؤذي الآخرين بأفعالنا على نحو غير مباشر دون أي نية لذلك.
ولذا، فمن الناحية الواقعية، أعتقد أن أهم شيء يمكننا جميعا فعله لتقليل الضرر الذي نسببه في حياتنا اليومية هو التحلي بالفطنة في سلوكنا، واتباع ذلك الحس الطبيعي بالضمير الذي ينشأ من زيادة الوعي الذي تمنحنا إياه الفطنة. (2) الضرر الناجم عن الوسائل غير العنيفة
بالرغم من أننا عادة ما نستطيع تمييز الضرر الناجم عن الأفعال الخارجية، فإن المعاناة التي نلحقها بالآخرين بالكلمات قد تكون أكثر خفاء لكنها في كثير من الأحيان ليست أقل ضررا. هذا هو الحال لا سيما في علاقاتنا الأكثر قربا وحميمية. نحن البشر حساسون للغاية، ومن السهل إلحاق المعاناة بمن حولنا من خلال استخدامنا غير المبالي للكلمات القاسية.
قد نلحق الضرر أيضا عن طريق الغش والافتراء والنميمة المسببة للشقاق. لا شك أننا جميعا شعرنا، في وقت أو آخر، بالعواقب السلبية لمثل هذا الكلام التافه. ذلك أنه يقوض الثقة والمودة، ويمكنه أن يخلق جميع أنواع سوء الفهم المؤسف والعداوات بين الناس. وفي هذا الجانب، مثلما هو الحال في جوانب أخرى، نحتاج إلى مراعاة «القاعدة الذهبية» التي ترد في جميع النظم الأخلاقية بالعالم: «عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك» أو «افعل مع الآخرين ما تريد منهم أن يفعلوه معك.»
فيما يتعلق بتجنب الأفعال الضارة التي نتسبب فيها عن طريق الجسد والكلام، فإنني إلى جانب هذه القاعدة الأساسية أجد فائدة كبيرة في قائمة من ستة مبادئ وردت في نص من القرن الثاني للمفكر الهندي ناجارجونا. في هذا النص، يقدم ناجارجونا نصيحة لملك هندي في ذلك الوقت. وهذه المبادئ الستة هي كما يلي:
تجنب الإفراط في تناول المسكرات.
تمسك بمبدأ سبل العيش الشريفة.
احرص على ألا يعتري العنف جسدك وكلامك وعقلك.
عامل الآخرين باحترام.
قدر أولئك الذين يستحقون التقدير، كالآباء والأمهات والمعلمين ومن يتسمون بالطيبة.
كن طيبا مع الآخرين.
وتوضيحا لعبارة «سبل العيش الشريفة»، يسرد ناجارجونا الأمثلة التالية على النهج غير القويم لكسب العيش: محاولة الحصول على فوائد مادية من الآخرين بالتظاهر، واستخدام كلمات جذابة لكسب الأشياء من الآخرين بالخداع، وإشادة المرء بممتلكات الغير بنية المحاولة للحصول عليها لنفسه، وسلب ما ينتمي إلى شخص آخر بالقوة، والإشادة بالصفات التي كانت للمرء في الماضي على أمل الحصول على المزيد.
تتعلق معظم هذه الأمور، من ناحية أو أخرى، بعدم الأمانة. فانعدام الأمانة يهدم أسس الثقة لدى الآخرين ويتسبب في ضرر عميق. لذلك، فالشفافية في تعاملاتنا مع الآخرين مهمة للغاية. إن العديد من الفضائح التي نسمع بها اليوم، ولا سيما الفساد الملحوظ على العديد من المستويات وفي العديد من المجالات: في الحكومة، والقضاء، والتمويل الدولي، والسياسة، والإعلام، وحتى الألعاب الرياضية الدولية، يرتبط بمسألة سبل العيش الشريفة. (3) الانتباه واليقظة والوعي
مثلما أن النجار لن يفكر حتى في إصلاح كرسي من دون إزميل ومطرقة ومنشار في متناول يده، نحتاج نحن أيضا إلى مجموعة من الأدوات الأساسية لمساعدتنا في جهودنا اليومية من أجل العيش بأسلوب أخلاقي. في التقليد البوذي، توصف مجموعة الأدوات هذه بثلاثة عوامل مترابطة هي «الانتباه» و«اليقظة» و«الوعي الاستبطاني». ويمكن لهذه الأفكار الثلاثة أن تكون مفيدة أيضا في سياق علماني. فهذه الأفكار معا يمكن أن تساعدنا في الحفاظ على قيمنا الأساسية في الحياة اليومية، وتوجيه سلوكنا اليومي حتى يصبح أكثر انسجاما مع هدف تحقيق المنفعة للذات وللآخرين.
تشير أولى هذه الأفكار، وهي «الانتباه»، إلى تبني موقف شامل من الحيطة. فالمصطلح التبتي لهذه الفكرة: «بهاكيو»، الذي يترجم غالبا إلى «اليقظة» أو «الضمير»، يحمل معنى الحذر أو الانتباه. على سبيل المثال، إذا شخص المرء بمرض السكري، فسينصحه الطبيب بالانتباه الشديد فيما يتعلق بحميته الغذائية. وسوف يتوجب عليه تجنب السكر، والملح، والأطعمة الدهنية للحفاظ على مستويات ضغط الدم والأنسولين تحت السيطرة. وسيحذره الطبيب من أنه إذا لم يلتزم بهذا النظام الغذائي، فقد تكون هناك عواقب وخيمة على صحته. عندما يكون المرضى مهتمين بأمر صحتهم، فإنهم يتبعون هذه النصيحة ويتحلون بالحذر فيما يتعلق بحميتهم الغذائية. وإذا اشتهوا تناول شيء يجب تجنبه، فإن هذا السلوك أو الموقف الحذر سيساعدهم في ممارسة ضبط النفس.
يوضح مفهوم الانتباه في أحد النصوص البوذية الكلاسيكية من خلال قصة رجل مدان في جريمة وحكم عليه الملك بحمل وعاء ممتلئ حتى حافته بزيت السمسم، بينما يسير حارس بجانبه وهو يحمل سيفا مستلا. حذر المحكوم عليه من أنه إذا سكب قطرة واحدة من الزيت، فسيضرب بالسيف. يمكننا أن نتخيل مدى حذر المحكوم عليه ويقظته! سيكون حاضر الذهن بالكامل ومنتبها تماما. توضح القصة الارتباط الوثيق بين الانتباه وصفتي اليقظة والوعي اللتين نوضحهما فيما يلي.
يوجد اليوم العديد من التقنيات العلمانية لتطوير اليقظة، وقد ثبتت فعاليتها في الحد من التوتر وعلاج الاكتئاب. وفقا لما أفهمه، فإن اليقظة في هذا السياق تشير عادة إلى اكتساب الوعي بأنماط سلوكنا، بما في ذلك الأفكار والمشاعر، وتعلم التخلي عن تلك العادات والأفكار والمشاعر غير المفيدة. يبدو لي أن هذا المسعى جدير بالاهتمام الشديد. وسوف أناقش كيفية تطوير هذا النوع من الوعي بدرجة أكبر في الفصل التاسع.
بالرغم من هذا، ففي سياق العيش بأسلوب أخلاقي في الحياة اليومية، أرى أن المعنى الأهم لليقظة هو «التذكر». أعني بهذا أن اليقظة هي القدرة على جمع شتات النفس ذهنيا ومن ثم تذكر قيم المرء ودوافعه الأساسية. في اللغة التبتية، تعد «الذاكرة» أيضا من مرادفات كلمة اليقظة «درينبا»؛ ولذا فهو مصطلح يشير إلى تنمية حضور الذهن في الأنشطة اليومية. في ظل ذلك التذكر، تقل احتمالية انغماسنا في عاداتنا السيئة وتزيد احتمالية أن نمتنع عن الأفعال الضارة. وتعد سلوكيات مثل رمي القمامة والإسراف والإفراط في الترف جميعها أمثلة بسيطة على السلوك الذي يمكن تحسينه من خلال ممارسة اليقظة.
أما الوعي أو «شيشين» في لغة التبت، فيعني الانتباه إلى سلوكنا الشخصي. فهو يعني مراقبة سلوكنا بصدق أثناء وقوعه، ومن ثم إخضاعه للسيطرة. من خلال الوعي بأقوالنا وأفعالنا، نحمي أنفسنا من الإتيان بأفعال وأقوال من شأنها أن نندم عليها فيما بعد. إذا غضبنا على سبيل المثال، وعجزنا عن إدراك أن الغضب يشوه فهمنا، فقد نقول أشياء لا نعنيها. ولذلك، فإن امتلاك القدرة على مراقبة الذات؛ أي أن نتمتع بمستوى ثان من الانتباه، إن جاز هذا التعبير، له فائدة عملية كبيرة في الحياة اليومية؛ إذ يمنحنا سيطرة أكبر على سلوكنا السلبي ويمكننا من الالتزام بدوافعنا وقناعاتنا الأكثر عمقا.
إن مثل هذا الوعي بسلوكنا، على مستوى الأفعال والأفكار والكلمات، ليس أمرا يمكننا تعلمه بين عشية وضحاها. وإنما يتطور تدريجيا، وكلما أصبحنا أكثر وعيا، ازداد إتقاننا له ببطء.
ربما يرى بعض القراء أن مجموعة الأدوات الذهنية هذه أشبه بنصيحة من نوعية «أصغ إلى ضميرك»، وهي فكرة لها دور مهم في العديد من المناهج الدينية لممارسة الأخلاق. وبالفعل توجد تشابهات كثيرة بين الأمرين. ففي بعض الأديان، يعتبر الضمير هبة ثمينة من الإله تجعل البشر مخلوقات أخلاقية فريدة. ومن منظور علماني، يمكن فهم الضمير باعتباره نتاج طبيعتنا البيولوجية بصفتنا حيوانات اجتماعية، أو شيئا نكتسبه من المجتمع بحكم تنشئتنا وبيئتنا. في كلتا الحالتين، فإن جميع العقلاء والمسئولين سيوافقون بالتأكيد على أن هذه الصفة ذات دلالة كبيرة فيما يتعلق بإدراكنا الأخلاقي. مهما كانت آراؤنا بشأن الدين، فإن فكرة تجرد الشخص من الضمير؛ أي ألا يتمتع بأي صوت داخلي لضبط النفس أو المسئولية الأخلاقية، أمر مخيف بحق.
ومع ذلك، فممارسة الوعي ليست مرادفا دقيقا للإصغاء إلى الضمير. ففي النظرية الأخلاقية البوذية لا توجد فكرة الضمير بصفتها قدرة ذهنية مميزة. لكن فكرة يقظة الضمير أمر شديد الأهمية. وتوصف يقظة الضمير من خلال ملكتين ذهنيتين رئيسيتين، وهما «احترام الذات» و«مراعاة الآخرين».
تتعلق الملكة الأولى، وهي احترام الذات، بامتلاك حس النزاهة الشخصية؛ أي صورة المرء عن ذاته بصفته شخصا يدعم قيما معينة. وبذلك، عندما يغرينا الانغماس في سلوك ضار، تعمل صورتنا الذاتية كقيد؛ إذ نفكر أن «هذا لا يليق بأن يصدر مني». وتتعلق الملكة الذهنية الثانية، مراعاة الآخرين، بالاحترام الصحي لآراء الآخرين، لا سيما لرفضهم المحتمل. إن هذين العاملين معا، يشكلان مستوى إضافيا من الحذر بشأن ارتكاب الخطأ، وهو ما يعزز بوصلتنا الأخلاقية. (4) خلق الفضيلة
إذا استطعنا، من خلال اليقظة والوعي والانتباه، الامتناع عن إيذاء الآخرين بأفعالنا وأقوالنا في الحياة اليومية، فسيمكننا البدء في إيلاء المزيد من الاهتمام الجاد لفعل الخير بنشاط، وهذا من شأنه أن يكون مصدرا لسعادة غامرة وثقة داخلية كبيرة. يمكننا أن نفيد الآخرين من خلال أفعالنا بأن نكون ودودين وكرماء تجاههم، ومن خلال فعل الخير أيضا ومساعدة المحتاجين. ولهذا، عندما يتعرض الآخرون للمحن أو يخطئون، يجب أن نتواصل معهم ونساعدهم لا أن نرد بالسخرية أو بإلقاء اللوم. ومن الأمور التي نستطيع إفادة الآخرين بها من خلال القول، الإطراء لهم والإصغاء إلى مشكلاتهم، وتقديم النصح والتشجيع.
لمساعدتنا على تحقيق المنفعة للآخرين من خلال أقوالنا وأفعالنا، سيكون من المفيد تنمية سلوك السعادة المتعاطفة بإنجازات الآخرين وحظهم السعيد. يعد هذا السلوك ترياقا فعالا ضد الحسد الذي لا يقتصر تأثيره السيئ على المعاناة غير الضرورية التي يلحقها بنا على المستوى الفردي، بل يصبح أيضا عقبة أمام قدرتنا على التواصل مع الآخرين والتفاعل معهم. كثيرا ما يقول المعلمون التبتيون إن مثل هذه السعادة المتعاطفة هي أقل الطرق تكلفة لتعزيز فضائل المرء. (5) خلق الإيثار
الإيثار هو تكريس الفرد لأفعاله وأقواله على نحو غير أناني وصادق من أجل منفعة الآخرين. تعترف جميع التقاليد الدينية في العالم بأن الإيثار هو أعلى شكل من أشكال الممارسة الأخلاقية، وهو يعد في كثير منها السبيل الرئيسي إلى التحرر أو التوحد مع الإله.
وبالرغم من أن التكريس الكامل وغير الأناني للآخرين هو أعلى شكل من أشكال الممارسة الأخلاقية، فهذا لا يعني أنه لا يمكن لأي شخص أن يمارسه. الواقع أن كثيرا من الأشخاص الذين يعملون في مهن الرعاية مثل العمل الاجتماعي والرعاية الصحية، ومن يعملون في التدريس أيضا، يشاركون في السعي إلى تحقيق هذا المستوى الثالث من الأخلاق. مثل هذه المهن، التي تعود بالنفع المباشر على حياة الكثيرين، هي مهن نبيلة حقا. ومع ذلك، فثمة طرق أخرى لا تحصى يمكن للأشخاص العاديين انتهاجها كي يفيدوا غيرهم، وكثيرون ينتهجونها بالفعل. المطلوب ببساطة هو أن نجعل خدمة الآخرين ضمن أولوياتنا.
يتمثل جزء مهم من خدمة الآخرين في استخدام الفطنة لتقييم العواقب المحتملة لأفعالنا. بعد ذلك، سنبدأ في اكتساب مهارة التحكم في أفعالنا وأقوالنا، من خلال التحلي بالانتباه واليقظة والوعي في حياتنا اليومية. هذا هو الأساس الجوهري للحرية، واكتساب مثل هذه القدرة على التحكم في الذات وممارستها لضمان خلو أفعالنا من الضرر على كل المستويات، هو ما يمكننا من البدء في العمل بنشاط من أجل إفادة الآخرين.
الفصل التاسع
التعامل مع المشاعر الهدامة
إذا كان أساس السعادة البشرية يكمن في حالتنا الذهنية كما اقترحت، فإن ذلك ينطبق أيضا على العقبات الأساسية التي تحول دون تحقيق تلك السعادة. لا شك أن أكبر العوائق أمام رفاهيتنا كأفراد، وأمام قدرتنا على عيش حياة مرضية من الناحية الروحية، هي نزعاتنا المستمرة نحو المشاعر الهدامة أو المؤذية. هذه المشاعر هي العدو الحقيقي لسعادة الإنسان والمصدر الأساسي لكل السلوكيات البشرية الهدامة. ويعد التعامل مع هذه المشاعر السلبية هدفا مهما من أهداف الممارسة الأخلاقية والروحية.
لكن قبل تقديم بعض الاقتراحات العملية لكيفية تعاملنا مع هذه الميول الهدامة والحد من تأثيرها على عاداتنا اليومية وسلوكياتنا، لا بد لي أولا من تناول مسألة ما إذا كان هذا هدفا واقعيا أم لا. هل نتمتع، نحن البشر، حقا بالقدرة على تغيير أنفسنا من الداخل؟ (1) إمكانية تحسين الذات
لقد أقرت أديان العالم منذ زمن طويل أن لدينا، نحن البشر، القدرة على التغيير من الداخل. لكن توضيح حقيقة هذه القدرة قد يكون صعبا في سياق علماني بحت. فقد يجادل المادي الشديد التمسك بالمادية، على سبيل المثال، بأن ما يحدد سلوكنا بالكامل هو طبيعتنا البيولوجية، أو أننا - بعبارة معاصرة - «مبرمجون» بطرق معينة. وفقا لهذا الرأي، قضت الطبيعة بأن يكون بعض الأشخاص غاضبين، وقضت بأن تغلب الطيبة على آخرين، ويقول هذا المنظور أيضا بأن تركيبنا الوراثي جعل بعضنا أكثر تفاؤلا، بينما جعل البعض الآخر يميل فطريا إلى الاكتئاب. لما كان العديد من صفاتنا الشخصية يبدو موروثا بالفعل، وكانت تلك المشاعر المؤذية كالغضب والكراهية والغيرة، جزءا من طبيعتنا، فقد يكون الصواب أيضا أننا لا نستطيع فعل شيء لتغييرها. ولهذا ربما نشعر أنه قد يكون من المحال حقا تغيير النزعة الذهنية التي نولد بها.
إذا كنا لا نستطيع بالفعل القيام بأي شيء فيما يتعلق بمشاعرنا، فإن هذا يعني أننا عبيد لها في الواقع. بالرغم من ذلك، تظهر تدريجيا أدلة علمية، ولا سيما من علم النفس وعلم الأعصاب، تشير إلى أنه من الممكن بالفعل تحقيق تغيير جاد في أنماطنا العاطفية والسلوكية من خلال الجهد الواعي. أنا لست عالما بالطبع كما قلت من قبل. لكني ظللت أناقش هذه القضايا على مدار سنوات عديدة مع الخبراء. ويبدو لي من هذه الأحاديث أن الاكتشاف الحديث لما يسمى ب «مرونة الدماغ» قد يقدم تفسيرا علميا جيدا لإمكانية التغيير الجاد. فقد لاحظ الباحثون أن أنماط الدماغ وبنياته يمكنها أن تتغير، وأنها تتغير بالفعل بمرور الوقت استجابة لأفكارنا وخبراتنا. علاوة على ذلك، صار العلماء الآن قادرين على ملاحظة التفاعل بين أجزاء الدماغ المرتبطة بالأنشطة المعرفية العليا مثل التفكير العقلاني (في القشرة الجبهية الأمامية) وتلك الأجزاء المعروفة باسم الجهاز الحوفي، بما في ذلك اللوزة الدماغية التي تتخذ شكل اللوزة بالفعل، والتي ترتبط بانعكاساتنا الغريزية والعاطفية الأكثر بدائية. وقد دفعت هذه التطورات التي توصل إليها علم الأعصاب العديد من العلماء إلى الاهتمام الجاد بفكرة أن جهودنا الواعية قد تمكننا من تدريب غرائزنا العاطفية عن طريق تغيير الأنماط المادية في دماغنا بالفعل. لا يزال البحث في هذا المجال جديدا بعض الشيء، لكن يبدو لي أنه يمكن أن يمنح شديدي التمسك بالمادية أسسا لأمل لا يقل قوة عن إيمان المؤمن بالدين. (2) عالمنا العاطفي
من المثير للاهتمام أن علم العقل البوذي الكلاسيكي الذي تلقيت التدريب فيه، لا يضم مفهوما للشعور بصفته فئة واحدة، بحيث يتطابق بدقة مع مفهوم الشعور في علم النفس الغربي المعاصر. الحق أنه لا توجد كلمة، سواء في السنسكريتية أو التبتية الكلاسيكية، يمكن ترجمتها بدقة إلى كلمة «عاطفة». بدلا من ذلك، تفهم جميع الحالات الذهنية على أنها تتضمن البعدين؛ الإدراكي والعاطفي كليهما بدرجة ما، وأنها تضم خمسة عوامل ذهنية حاضرة في كل مكان، ومن بينها «الشعور». أما العوامل الأربعة الأخرى، فهي التمييز والإرادة والانتباه والتواصل. ولذلك، فحتى عملية ذهنية معرفية ببساطة العد من واحد إلى عشرة تعد نوعا من «الشعور» أو «نمط شعوري» يرتبط بطبيعة الحال بالسياق.
توجد أيضا طرق مختلفة لتصنيف حالاتنا العاطفية. فعلى سبيل المثال، غالبا ما يميز علم النفس المعاصر تمييزا رئيسيا بين الحالات العاطفية التي تتسم بالمتعة أو البهجة من ناحية، وتوصف بأنها إيجابية، وبين تلك التي تتسم بأنها غير سارة أو مؤذية من ناحية أخرى وتوصف بأنها سلبية.
لكن التمييز في علم النفس البوذي الكلاسيكي، يختلف نوعا ما. فبدلا من ذلك، لا يكون التمييز الأساسي بين الحالات الممتعة والحالات المؤذية، بل بين الحالات المفيدة والمضرة. الحالات الذهنية «المؤذية»، والمعروفة باسم «نيونمونج» في لغة التبت أو «كليشا» باللغة السنسكريتية، هي الحالات التي تقوض الرفاهية على المدى الطويل، بينما الحالات الذهنية «غير المؤذية»، هي تلك التي ليس لها مثل هذا التأثير المدمر.
بالنظر إلى هذه الطرق المختلفة لتصنيف التجربة الوجدانية أو العاطفية، من المهم للقراء ألا يخلطوا بين تلك المشاعر المؤذية التي يقصد بها الضارة للرفاهية على المدى البعيد، وبين تلك المشاعر غير السارة فحسب. تتداخل هذه المشاعر في بعض الأحيان بالطبع. فاختبار مشاعر الكراهية على سبيل المثال، مدمر وغير سار في الوقت نفسه، لكن بعض التجارب الشعورية قد تكون غير سارة لكنها مفيدة مع ذلك، ويمكن بالمثل أيضا أن تكون بعض المشاعر سارة لكنها هدامة. مشاعر الحزن والأسى والندم على سبيل المثال، ليست سارة بالتأكيد، لكنها ليست مؤذية في حد ذاتها بالضرورة. فعند مواجهة فجيعة موت أحد الأحباء على سبيل المثال، قد تكون مشاعر الحزن والأسى بناءة جدا في مساعدتنا على تقبل الفقد والاستمرار في حياتنا. وينطبق الأمر نفسه على المشاعر التي قد تبدو سارة في البداية، لكنها قد تكون هدامة على مستوى أعمق مع ذلك؛ إذ تقوض سلامنا النفسي واستقرارنا. ومن أمثلة ذلك الشهوة أو الاشتياق المفرط إلى شيء معين. قد يكون هذا الشوق ممتعا من ناحية ما. لكن رغبتنا الملحة سوف تلتهم قدرتنا على الرضا الحقيقي في نهاية المطاف وتقوض توازننا العقلي؛ ولذلك يجب اعتبارها من المشاعر الهدامة.
في سياق الأخلاق العلمانية، فإن هذا التمييز بين تلك الحالات العقلية التي تقوض الرفاهية لنا وللآخرين، وتلك التي تعزز البقاء والرفاهية يمكن أن يكون مفيدا للغاية؛ لأنه وثيق الصلة بسعينا وراء تحقيق السعادة وعيش حياة سليمة أخلاقيا. نظرا لأن الناس ينتمون إلى العديد من الخلفيات والثقافات المتنوعة، فقد تختلف الحالات التي تعتبر هدامة والتي تعتبر مفيدة في حالات معينة. بصفة عامة، يمكن تعريف المشاعر الهدامة بأنها الحالات التي تقوض رفاهيتنا إذ تولد فينا اضطرابات داخلية، ومن ثم تحول دون ضبط النفس وتسلبنا الحرية الذهنية. في هذا السياق أيضا، يمكن التمييز بين فئتين فرعيتين: الحالات العاطفية الهدامة في حد ذاتها، مثل الجشع والكراهية والحقد؛ والحالات الأخرى التي لا تصبح هدامة إلا حين لا تتناسب شدتها مع الموقف الذي تنشأ فيه، مثل التعلق والغضب والخوف.
من منظور بيولوجي، فإن جميع مشاعرنا الأساسية لها في نهاية المطاف أغراض تطورية واضحة. فالتعلق على سبيل المثال، يساعدنا على التقارب بعضنا من بعض ويمكننا من بناء الروابط فيما بيننا، ويساعدنا الغضب على مقاومة القوى التي تضر ببقائنا ورفاهيتنا، ويمكننا الخوف من الاستجابة للتهديد بيقظة، أما الحسد فيدفعنا إلى التنافس مع الآخرين كي لا نهمل احتياجاتنا الخاصة. وقد أثبت العلماء أن هذه المشاعر الأساسية لها أبعاد بيولوجية واضحة. عندما نواجه خطرا وشيكا على سبيل المثال ونشعر بالخوف، يزداد اندفاع الدم إلى الساقين، ومن خلال زيادة الأدرينالين وتسارع نبضات القلب، يعدنا شعور الخوف بالفعل للفرار. في المقابل، عندما ينشأ الغضب، يتدفق المزيد من الدم إلى ذراعينا، وهو ما يعدنا لمواجهة التهديد. ولذا، فإن الأمر المهم الذي ينبغي لنا تذكره هو أن هذه المشاعر ليست هدامة في حد ذاتها، بل تصبح هدامة فقط عندما لا تتناسب شدتها مع الموقف، أو تنشأ في موقف لا يستدعيها.
أما بالنسبة إلى التعلق الذي هو في نهاية المطاف شعور يربط العائلات والمجتمعات معا، فلا نفكر فيه عادة باعتباره شعورا مدمرا. ومع ذلك، عندما يتسم هذا الشعور الأساسي بالمغالاة ويريد التحكم فيمن يخضع له، فإنه يصبح هداما. هذا ينطبق أيضا على الرغبة. فالرغبة في حد ذاتها ليست هدامة. ومن دون رغبة، سينمحي الجنس البشري عن الوجود تماما! حقيقة الأمر أن الرغبة هي الشعور الذي يسير الكثير من أنشطتنا اليومية، من الاستيقاظ في الصباح إلى تناول الطعام، والعمل، وحتى السعي إلى تحقيق أهدافنا الفورية والطويلة الأمد في الحياة.
وبالمثل، فإن الغضب نفسه ليس مدمرا على الدوام. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تؤدي الرأفة الشديدة في بعض المواقف إلى توليد شعور شديد بالغضب بالقوة نفسها، تجاه الظلم. مرة أخرى، يمكن للشعور بالغضب أن يجعل عقولنا أكثر تركيزا على المدى القصير ويعطينا دفعة إضافية من الطاقة والعزم. بهذه الطرق، يمكن للغضب في مواقف معينة أن يجعلنا أكثر فاعلية في إنجاز الأمور التي نباشرها والحصول على تلك التي نسعى إليها عن حق. ومع ذلك، عندما يمتد الغضب إلى ما هو أبعد من هذه الوظيفة العملية، فمعظم الطاقة التي يمنحنا إياها لا تكون مفيدة على الإطلاق. نظرا لأننا جميعا على الأرجح، كنا في وقت أو آخر ذلك الطرف المتلقي لغضب الآخرين، فقد اختبرنا جميعا عواقبه غير السارة.
وعلى أية حال، فبينما يتسم الغضب بجانب بناء في بعض الأحيان، لا تتسم الكراهية بذلك أبدا. فالكراهية هدامة دائما.
ومثل الغضب، لا يكون الخوف أيضا مدمرا في كل المواقف. ذلك أن الخوف يجعلنا أكثر انتباها ويحمينا من الخطر. وهو أيضا عامل تحفيز قوي؛ إذ يجبرنا على توخي الحذر والاهتمام برفاهيتنا. لكن عندما يستحوذ الخوف علينا، فقد يشلنا عن التصرف ويصبح حالة ذهنية هدامة للغاية. ثم إن الخوف المفرط يخلق حالة مستمرة من القلق؛ مما يضر بصحتنا. ولهذا أميز غالبا بين الخوف المنطقي والخوف غير المنطقي. وهذا النوع الأول من الخوف ليس جائزا فحسب، بل ضروري لبقائنا على قيد الحياة. إذا أتى كلب مجنون يركض نحونا، فنحن بحاجة إلى الاستجابة لهذا الخطر بالخوف. وهذا واضح. في المقابل، يحدث الخوف غير المنطقي عندما يكون مصدر التهديد نابعا إلى حد كبير مما نمارسه من إسقاط ذهني. نحن بحاجة إلى إبقاء هذا النوع من الخوف تحت السيطرة؛ لأنه غير مجد على الإطلاق ومدمر في كثير من الأحيان. وما نحتاج إليه لمواجهة الخوف غير المنطقي هو فهم أفضل للموقف الذي نحن بصدده.
هذه الطبيعة الازدواجية للمشاعر والعواطف، التي تجعل لكل منها جانبا مدمرا وآخر غير مدمر، تتضح أيضا في حالات ذهنية أخرى، مثل الشك والخزي والحزن والتنافسية، وحتى في إحساسنا بالأنا في حد ذاته. الشك هو العامل الذهني الذي يمكننا من التساؤل والسعي للفهم. ولذا، دائما ما أقول بالفعل إن جرعة من الشك أمر صحي تماما من حيث إنها تفتح عقولنا للتساؤل والمعرفة الجديدة. ومع ذلك، عندما يصبح الشك مرضيا، فقد يعيقنا ويمنعنا من اتخاذ أي إجراء حاسم. وينطبق الأمر نفسه على الخزي. على المستوى الأساسي، يعد الخزي شعورا اجتماعيا مهما له وظيفة بناءة، ولكن عندما يصبح الشعور بالخزي شديدا فقد يؤدي إلى تدني احترام الذات والحكم عليها سلبيا، وهو ليس بالأمر البناء بالطبع. أما فيما يتعلق بالأسى أو الحزن، فإن هذا الشعور يكون بناء في بعض المواقف وله تأثير إيجابي. لكنه حين يصبح أشبه بعادة ذهنية دون أي سبب واقعي، فقد يكون مدمرا، مثلما يحدث عندما يظهر في حالات الحزن المستحوذ على الذات أو الاكتئاب.
التنافسية أيضا يمكنها أن تكون بناءة، كما هو الحال عندما يدفعنا حافزنا التنافسي إلى السعي وراء تحقيق شيء أفضل أو أعلى. لكن حين تتسم التنافسية بجانب من الرغبة في إضعاف الآخرين أو إعاقتهم حتى نتمكن من التفوق عليهم، فإنها تصبح إذن هدامة.
وفيما يتعلق بالأثرة وحب الذات، فيمكننا التمييز أيضا بين نوعين منها. ذلك أن الإحساس القوي بالذات يمكن أن يكون بناء، وهو الأساس الذي يولد الثقة بالنفس، وهي تلك الحالة الذهنية التي تسمح لنا بالشعور بأنه «أجل، أستطيع القيام بهذا.» غير أن شكلا آخر من الأثرة يتجلى عندما نهمل صالح الآخرين تماما، بل ونصبح على استعداد لاستغلال الآخرين من أجل تحقيق النفع لأنفسنا؛ سعيا وراء مصلحتنا الذاتية. هذا النوع من الأثرة مدمر بلا شك.
ولهذا السبب؛ عندما نتعامل مع أمور دقيقة كالعمليات الذهنية للإنسان، من المهم ألا نبالغ في الدوجمائية. فمن الصعب تحديد ما إذا كانت حالة ذهنية معينة هدامة أم لا دون معرفة سياقها، بل ربما يكون ذلك محالا. في كثير من الأحيان، يمكننا اتخاذ هذا القرار من خلال النظر في الدافع الأساسي للعاطفة، والهدف المحدد منها، وعواقبها، وما إلى ذلك. في مجال العقل البشري إذن يجب أن نحافظ دائما على موقف من الانفتاح، والبراجماتية، والمرونة. (3) السمات المشتركة للمشاعر الهدامة
إحدى السمات التي تميز جميع المشاعر الهدامة هي أنها غالبا ما تشوه إدراكنا للواقع. إنها تؤدي إلى تضييق منظورنا، فنفشل في رؤية موقف معين في سياقه الأوسع. على سبيل المثال، عندما نشعر بشكل متطرف من أشكال التعلق، كالرغبة الشديدة أو الشهوة أو الجشع، فإننا في كثير من الأحيان نسقط على ما نرغب فيه مستوى من الجاذبية يفوق كثيرا ما يتمتع به في الواقع. نصبح عميانا حتى عن أوجه القصور الشديدة الوضوح، وبتشبثنا المفرط نخلق نوعا من عدم الأمان في أنفسنا؛ إذ نشعر بأننا في حاجة إلى الحصول على ما نستهدفه برغبتنا وأننا غير مكتملين من دونه. غالبا ما ينطوي التعلق المفرط أيضا على رغبة في السيطرة، مما قد يكون خانقا للغاية إذا كان المستهدف بتلك الرغبة شخصا آخر. ولذلك، فإن التعلق الشديد غير مستقر بطبيعته على الإطلاق. فقد نشعر للحظة بعاطفة كبيرة تجاه شيء ما أو شخص ما، لكن حين تحبط رغبتنا في السيطرة على سبيل المثال، يمكن لهذا الشعور أن يتحول بسهولة إلى الاستياء أو الكراهية.
يضيق منظورنا على نحو مماثل أيضا عندما نختبر درجة مفرطة من مشاعر النفور، مثل الغضب والكراهية والازدراء والاستياء. عندما يسيطر علينا الغضب الشديد على سبيل المثال، نتبنى نظرة سلبية تماما لما نستهدفه بغضبنا، على الرغم من أننا في لحظات الهدوء قد ندرك أن الشخص نفسه أو الشيء نفسه يتمتع بالعديد من الصفات الرائعة. إن العاطفة المفرطة القوة تفقدنا القدرة على التمييز. نعجز عن رؤية العواقب الطويلة الأجل والقصيرة الأجل لأفعالنا، فلا نستطيع التمييز بين الصواب والخطأ. ذلك أننا نصبح حرفيا، للحظة، على شفا الجنون ولا نستطيع القيام بما يخدم مصلحتنا. وبعد أن ينتهي الحدث وتهدأ العاطفة، كثيرا ما نأسف على ما فعلناه أو قلناه ونحن غاضبون!
في رحلة قصيرة إلى السويد منذ بضع سنوات، أجريت محادثة مطولة مع الدكتور آرون بيك، أحد الرواد المؤسسين للعلاج المعرفي السلوكي، وهو فرع رئيسي في العلاج النفسي الحديث أثبت فاعلية كبيرة في علاج المشكلات السلوكية والاكتئاب. عندما التقينا، كان الدكتور بيك في أوائل الثمانينيات من عمره. وكان من المثير للغاية بالنسبة إلي ما وجدته من تقارب كبير بين العديد من ملاحظاته وبين أفكار علم النفس البوذي الكلاسيكي. فقد قال على سبيل المثال، إنه في حالة الغضب الشديد، يكون تسعون بالمائة من نوعية النفور التي نراها فيما نستهدفه بغضبنا، مبالغة وإسقاطا. وهذا يتوافق توافقا وثيقا مع الفهم الوارد في النصوص البوذية الكلاسيكية.
إن جوهر كل هذه الحالات الذهنية المؤذية، هو أنها بطريقة أو بأخرى، تحجب عنا الرؤية بتعتيم قدرتنا على التمييز. فهي تجعلنا غير قادرين على الحكم بعقلانية، ومن ثم يمكننا القول إنها تسلبنا عقولنا. (4) عائلات المشاعر
أحد النهج المفيدة لفهم مشاعرنا الهدامة هو النظر إليها على أنها عائلات مرتبطة يميزها نوع الحالة الذهنية الأساسية التي تنطوي عليها. على سبيل المثال، كما قلت على سبيل المثال، المشاعر التي تنتمي إلى عائلة الغضب، كالكراهية والعداوة والحقد، تتسم بالنفور المبالغ فيه، بينما المشاعر التي تنتمي إلى عائلة التعلق، كالجشع والشهوة والاشتياق، تتسم بإحساس بالجاذبية على الدرجة نفسها من المبالغة. وفيما يتعلق بالعائلات الرئيسية الأخرى للمشاعر المؤذية: الحسد والكبرياء والشك، فهي تنطوي على خلائط من الانجذاب المفرط من جهة (مثل التعلق المفرط لدى المرء بصورة ذهنية مضللة عن ذاته في حالة الكبرياء) والنفور المفرط من جهة أخرى (مثل الشعور المفرط لدى المرء بالعداء تجاه غريم له في حالة الحسد). كما رأينا بالفعل، إضافة إلى هذا العنصر من النفور أو الانجذاب المفرط أو الخلائط غير الصحية من الاثنين، فإن جميع المشاعر المؤذية تتسم بأنها غير واقعية أو ذات منظور مضلل.
يعد الحسد عائلة معقدة نوعا ما من المشاعر المؤذية؛ ذلك أنه يكمن بالأساس في التعلق والانجذاب، لكنه ينطوي أيضا على عنصر قوي من الغضب والعداء والنفور. لقد وجدت الأبحاث العلمية الحديثة عن موضوع السعادة أن أحد المصادر الأساسية للسخط في عالم اليوم، لا سيما في المجتمعات الأكثر ثراء، هو نزعتنا البشرية لمقارنة أنفسنا بمن حولنا. ويتلخص هذا بالأساس في مسألة الحسد.
أما عائلة المشاعر المؤذية المتمثلة في الكبرياء أو الغرور، التي تنطوي على مواقف هدامة كالغطرسة والتحيز وحتى الإحراج المفرط أو غير الواقعي، فهي تتضمن أيضا مزيجا من الانجذاب والنفور: الانجذاب على سبيل المثال إلى صورة ذهنية غير واقعية أو مضللة عن الذات، والنفور من أي شخص أو أي شيء يهدد تلك الصورة الذاتية العزيزة، أو ازدرائه. هذا التعلق بصورة متغطرسة للذات، سواء أكانت قائمة على حالة اجتماعية أو إنجاز ما أو ظروف الميلاد، قد يدفعنا إلى القيام بأفعال تسيء إلى الآخرين، ومثل هذه الأفعال تدمر رفاهية الآخرين ورفاهيتنا أيضا.
وأخيرا، لدينا عائلة الشك المؤذي، التي تشمل مثل هذه المشاعر الهدامة كالقلق والشعور المفرط بالذنب. تنشأ هذه المشاعر من الخوف المعتاد والكراهية غير الواقعية للذات، والتي تضر للغاية بقدرتنا على التراحم. ومن ثم، يمكن للمشاعر التي تنتمي إلى عائلة الشك المؤذي أن تكون شديدة الضرر على شعورنا بالرفاهية.
تلك إذن هي المشاعر الهدامة التي أرى أنها العقبات الرئيسية أمام رفاهية الإنسان، لا رفاهيتنا الفردية فحسب بل رفاهية من حولنا أيضا، ورفاهية العالم الذي نتشارك فيه في النهاية. إن هذه المشاعر تقوض قدرتنا على ممارسة القيم الأخلاقية الإيجابية، مثل الرأفة، بصورة جوهرية. والحق أننا لن نتمكن من معالجتها بفعالية إلا عندما نصبح على وعي كامل بالتداعيات السلبية لمثل هذه المشاعر الهدامة ويتضح لنا عدم جدواها وانعدام فائدتها العملية كاستجابات.
إن تطورنا الداخلي فيما يتعلق بإدارة مشاعرنا الهدامة وضبطها يستلزم نهجا ذا شقين. فمن ناحية، يجب أن نسعى إلى الحد من التأثير المدمر للإمكانات المتأصلة فينا، ومن ناحية أخرى، يجب أن نسعى إلى تعزيز الصفات الإيجابية الموجودة أيضا فينا بشكل طبيعي. وهذا النهج ذو الشقين لتدريب العقل هو ما أعتبره قلب الممارسة الروحية الحقيقية. (5) اتخاذ موقف
من أجل البدء في معالجة هذه المشاعر الهدامة، ينبغي لنا أولا تبني موقف عام حيالها؛ موقف معارضة.
ينطوي مثل هذا الموقف على إدراك أن قانون المعارضة، الذي يتمثل في أن الإيجابيات تلغي السلبيات أو تحيدها، لا ينطبق على العالم المادي فحسب، بل ينطبق أيضا على عالمنا الداخلي أو النفسي. ونحن نجد في تقاليد الحكمة العظيمة دروسا واضحة عن الحالات الذهنية التي يجب معالجتها، وعن الحاجة إلى تنمية ترياقها واستخدامه. إذا لم تكن هناك قوى مضادة لمشاعرنا الهدامة ، فما من شيء يمكننا القيام به حيالها. لكن إذا وجدت قوى مضادة وإيجابية، فمن شأنها إذن أن تصبح ترياقا قويا. فعلى سبيل المثال، الترياق الرئيسي للغضب هو الصبر، وترياق الجشع هو الرضا، وترياق الخوف الشجاعة، وترياق الشك الفهم.
يتمثل أحد العناصر الأساسية في تكوين موقف فعال من معارضة المشاعر السلبية، في الإدراك العميق لطبيعتها الهدامة، والاقتناع بأننا نستطيع التغلب عليها، وأن علينا السعي جاهدين إلى تحقيق ذلك. حينئذ يمكن لهذه القناعة أن تكون بمثابة الأساس لقرار راسخ يقضي بمعالجتها. ويمكننا تطوير هذا العنصر من موقف المعارضة العام من خلال التفكير بانتباه ورأفة، في الآثار المدمرة التي تخلفها هذه المشاعر على حياتنا وحياة من حولنا. يمكننا التأمل في حقيقة أن مثل هذه المشاعر: الكراهية والجشع على سبيل المثال، لا تتسبب في العديد من المشكلات الشخصية فحسب، بل هي أيضا المصادر النهائية للعديد من مشكلاتنا الجمعية مثل الحرب والفقر والتدهور البيئي. وببساطة، فإن تبني موقف معارض تجاه المشاعر الهدامة، سيكون له تأثير فوري؛ إذ يمنحنا الشعور بالحذر، وهو ما يشكل عامل دفاع أساسيا عندما تعصف بنا مثل هذه المشاعر القوية. ولذا فمن المهم جدا أن نفكر بعناية في التأثير السلبي لكل نزعاتنا الهدامة الأكثر إلحاحا.
إذا فقدنا صوابنا، ولو فترة قصيرة، بسبب شعور هدام كالكراهية، فقد تصدر منا أفعال وأقوال فظيعة. وقد يكون الضرر الذي ينشأ في لحظة من الكراهية مدمرا تماما. في البوذية، غالبا ما يشبه العقل البشري بالفيل البري. فكما يعلم بعض المزارعين جيدا، عندما يهتاج الفيل يمكنه أن يحدث دمارا كبيرا. لكن العقل البشري الجامح والمعتاد على نوبات الغضب أو الحقد أو الرغبة المفرطة أو الغيرة أو الغطرسة، يمكنه أن يحدث دمارا أكبر حتى مما قد يحدثه فيل هائج، ويمكنه أن يدمر حيوات كثيرة.
لمواجهة هذه المشاعر الهدامة القوية للغاية التي تكمن بداخلنا جميعا، نحتاج إلى التحلي بقدر كبير للغاية من الحماس والإصرار إزاء هذه المهمة. وهذا الحماس سوف ينبع بدرجة كبيرة، من النظر في التأثير السلبي لتلك المشاعر . ذلك أن تأثير هذه المشاعر لا يقتصر على الدمار الكبير الناتج عنها في لحظات الاستحواذ الشديد لهذه المشاعر على الذات، بل يمكن أن تخلف أيضا تأثيرا خبيثا يفسد علينا رفاهيتنا الداخلية. فعلى نحو تدريجي مؤكد، تقوض هذه المشاعر سلامنا الداخلي، وتسلبنا الحرية الذهنية، وتعيق التعبير عن طبيعتنا المتعاطفة التي هي مصدر سعادتنا الكبرى. الحق أننا نستطيع حتى القول إن كل هذا العنف والدمار في العالم هو نتيجة للكراهية. فنحن نستطيع ملاحظة العواقب الهدامة للكراهية على مستوى الفرد والأسرة وعلى المستويات العالمية.
ولهذا؛ أحث الناس على التأمل المستمر في الطبيعة الهدامة لمثل هذه المشاعر. وسوف أعود إلى مناقشة هذا الموضوع في الفصل الحادي عشر الذي أصف فيه بعض ممارسات التدريب العقلي البسيطة التي يمكنها أن تكون مفيدة كوسيلة لتنمية الاقتناع بالحاجة إلى التغلب على مثل هذه المشاعر، ويمكنها أن تكون مفيدة في تدريب العقل أيضا. (6) فهم أسباب الأذى
بعد أن نتحلى بعزم قوي للتصدي لمشاعرنا الهدامة، يمكننا حينئذ التفكير في أسبابها. من أين تأتي هذه المشاعر المزعجة؟ حسنا، قد نجيب بأنها تأتي من العالم الذي نعيش فيه، ومن الآخرين الذين يسيئون إلينا! قد نعتقد أنه لولا الآخرون لما كان لدينا سبب للشعور بالعدوانية أو الاستياء أو القلق.
تعد هذه الإجابة المتمثلة في اعتبار الظروف الخارجية هي المصدر لمشكلاتنا، إجابة طبيعية، لا سيما عندما لا نكون معتادين على الانتباه إلى عملياتنا الذهنية الداخلية. فنحن نميل إلى رؤية العامل المعكر على أنه شيء يقع خارج أنفسنا. لكن إذا تأملنا بعمق، فسنكتشف أن المعكر الحقيقي لصفو حياتنا يكمن في داخلنا، وأن ميولنا التدميرية هي عدونا الحقيقي. ذلك أنه إذا كان الظرف الخارجي هو المصدر الحقيقي لمشكلتنا، فسنجد أنه إذا واجه عشرة أشخاص على سبيل المثال، الظرف الخارجي نفسه، فسيجد كل منهم الصعوبة نفسها عند مواجهة ذلك الظرف الخارجي. لكننا نعرف أن الوضع ليس كذلك. فالطريقة التي نستجيب بها عاطفيا لأي موقف تعتمد إلى حد كبير على منظورنا الخاص؛ أي موقفنا وعاداتنا العاطفية.
إذا أردنا تعلم اكتساب قدر من السيطرة على المشاعر كخطوة نحو تشكيل عقل هادئ، فمن المهم أن نتبع نهجا محسوبا، وواقعيا قبل كل شيء، للتعامل مع العالم والمشكلات التي نواجهها. لننظر إلى الغضب على سبيل المثال. هل يفيد الغضب حقا؟ إذا كان لدينا جار معاد يستفزنا باستمرار، فهل يفيد غضبنا بأي شيء في تصحيح هذا الوضع؟ أضف إلى ذلك أننا إذا سمحنا للغضب والاستياء بالتفاقم، فسوف يستنزفاننا تدريجيا، ويؤثران على مزاجنا ونومنا وحتى شهيتنا. وإذا حدث هذا، فسيكون الجار المعادي قد حقق في الواقع نوعا من الانتصار! من الحماقة أن نستجيب بهذه الطريقة؛ لأنها نوع من التعذيب الذاتي. على النقيض من ذلك، إذا استطعنا التحلي ببعض الهدوء الذهني، والحفاظ على رباطة جأشنا، والاستمرار في حياتنا الطبيعية، فسنكون على درجة أكبر كثيرا من الاستعداد لتحديد المسار الأقوى فاعلية للتعامل مع مثل هذه المواقف. الحق أننا عندما نكون محتدين فإننا لا نجيد أي شيء، فحتى تثبيت مسمار في وضع مستقيم قد يكون صعبا علينا!
عند التأمل إذن، نبدأ في إدراك الخطأ في فهم أسباب مشاعرنا المزعجة على أنها تتعلق فحسب بالأشياء أو الأشخاص الذين يثيرون تلك المشاعر فينا. إذا نظرنا من بعيد وفكرنا بعض الوقت، فسنجد أنه على الرغم من أن شكاياتنا قد تكون مشروعة إلى حد ما، فإن مشاعرنا من غضب وإحباط غير واقعية بعض الشيء بالفعل وغالبا ما تكون أضخم مما يستدعيه الموقف الفعلي. قد نجد أيضا أن مثل هذه المشاعر المزعجة تتكرر كثيرا، وليس ذلك بسبب عوامل خارجية فحسب، بل لأنها صارت أيضا عادة عاطفية لدينا.
عندما نبدأ في رؤية الأشياء من هذا المنظور، يمكننا البدء في إدراك أن هذه المشاعر الهدامة تزداد تلقائيا؛ أي إننا كلما انغمسنا فيها أصبحت أقوى. ومن ثم فلكي نعالج مثل هذه المشاعر الهدامة الذاتية الاستدامة، يتطلب الأمر منا أن نحول انتباهنا إلى عاداتنا الذهنية. فبدلا من إلقاء اللوم على الآخرين والعالم من حولنا، علينا أن ننظر في أنفسنا أولا.
لقد أوضح المفكر البوذي شانتيديفا الذي عاش في القرن الثامن، هذه النقطة على نحو رائع عندما ناقش مسألة الغضب. قال إننا إذا أردنا منع الأشواك من وخز أقدامنا، فسيكون من الحماقة أن نحاول تغطية العالم بأسره بالجلد. الأسهل كثيرا والأكثر فاعلية، أن نغطي نحن أقدامنا. وبالطريقة نفسها، من الخطأ الاعتقاد بأننا سنتخلص من الغضب بتغيير كل شيء يغضبنا في العالم. فبدلا من ذلك، يجب أن نتطلع إلى تغيير أنفسنا.
إن أكثر ما يسهم في استمرار الغضب هو عدم رضانا الداخلي؛ أي تلك الحالة من الغضب الكامن أو الافتقار إلى الرضا، التي نسميها في التبت «يي مي ديوا». إن هذه الحالة من عدم الارتياح الذهني العام الكامن هو ما يجعلنا عرضة لتحفيز المشاعر الهدامة، ولا سيما الغضب. وعدم الرضا الداخلي هو الوقود الذي تعتمد عليه المشاعر الهدامة كالغضب والعداء. ولهذا، فمثلما أن إخماد الشرارات الأولى أكثر فاعلية من الانتظار حتى تضطرم النيران لتجنب أضرار الحرائق، تعد معالجة الأسباب الكامنة وراء عدم الرضا طريقة أكثر فاعلية من الانتظار حتى تتفجر المشاعر بالكامل، في كبح المشاعر الهدامة من إلحاق الضرر. (7) الوعي العاطفي
إذا أردنا أن ننجح في معالجة نزعاتنا الهدامة بفعالية، فيجب علينا أولا وقبل كل شيء، أن نراقبها وندرسها عن كثب. فمعالجة الميول الهدامة لا تقتصر على قمعها فحسب. ذلك أن عاداتنا العاطفية والنفسية يمكن أن تكون عميقة الجذور ومتأصلة، وغالبا ما تكون قد تشكلت على مدار العديد من السنوات. ومن ثم، إذا لم نتعامل مع مثل هذه المشاعر بصدق وكبتناها عوضا عن ذلك، فقد يؤدي هذا إلى نتائج عكسية. حقيقة الأمر أن تجاهل المشاعر أو قمعها قد يجعلها تتفاقم بالفعل وتشتد حتى تنبثق إلى السطح كنهر ممتلئ يفيض على ضفافه، وربما تجد هذه المشاعر متنفسا تعبيريا في أفكار وسلوكيات سلبية غير متوقعة. ولهذا؛ فبدلا من قمع مشاعرنا الهدامة، يجب أن نكون منفتحين وصادقين مع أنفسنا وأن نستحضر وعينا ويقظتنا بما يثيرها وما تحفزه فينا، إضافة إلى السلوكيات التي تدفعنا لها. هذا النوع من الانتباه الاستبطاني إلى الطريقة التي تنشأ بها هذه المشاعر بداخلنا، وتتجلى في سلوكنا، هو ما أسميه بالوعي العاطفي. إن ممارسة مثل هذا الوعي من خلال التصدي المباشر لهذه المشاعر وإمعان النظر الدقيق فيها، هي الطريقة الوحيدة التي تمكننا تدريجيا من التحكم فيها.
مرة أخرى، يجدر بنا في هذا السياق أن نفكر في سلوكنا من حيث الأبعاد الثلاثة: على مستوى الجسم، والكلام، والأكثر أهمية؛ العقل. إذا استطعنا الحفاظ على انتباه استبطاني فيما يتعلق بهذه الجوانب الثلاثة لتجربتنا وسلوكنا، فسوف نتمكن تدريجيا من تنمية وعي عاطفي من شأنه أن يكون مفيدا للغاية في كبح دوافعنا السلبية. (8) الانتباه
إن الانتباه إلى التجربة العاطفية مفيد للغاية، لكن تحقيقه صعب للغاية في بادئ الأمر. الحق أن محاولة تمييز المشاعر في لحظة ظهورها قد تبدو مستحيلة في البداية. ويعزى ذلك بقدر كبير إلى أنها سريعة للغاية، وفي تلك اللحظة الخاطفة التي ينشأ فيها بداخلنا شعور قوي، فإن هذا الشعور يبدو وكأنه يشغل كامل وعينا. ونتيجة لهذا، فإن العملية التي تظهر من خلالها غامضة علينا. هذه الصعوبات طبيعية، وينبغي ألا تجعلنا نشعر بوهن العزيمة أو الإحباط. بل يجب أن نتذكر أن الوعي العاطفي لا يتطور إلا تدريجيا، مع التحلي بالمثابرة والصبر. ولهذا السبب، لا يمكننا البدء بمعالجة مشاعرنا مباشرة، بل ينبغي لنا التركيز على مظاهرها الخارجية في سلوكنا.
في هذا السياق، من المفيد تصور بداية الشعور الهدام على أنه سلسلة سببية تبدأ بمنبه خارجي وتنتهي باستجابتنا السلوكية. ويتمثل الهدف من الوعي العاطفي في جذب انتباهنا أو يقظتنا إلى هذه العملية التي تستغرق أجزاء من الثانية، ومن ثم اكتساب قدر من التحكم فيها.
تخيل، على سبيل المثال، بابا يصفق. يأتي بعد ذلك إدراكنا المادي لذلك المنبه من خلال حاستي السمع والبصر، وربما اللمس أيضا. في البداية، يكون هذا حدثا ماديا بحتا، لم يصطبغ بعد بأي تأويل. لكن بعد ذلك، بعد أقل من جزء من الثانية، يأتي التأويل. وغالبا ما تنطوي هذه المرحلة على عنصر من الإسقاط أو المبالغة: على سبيل المثال، إصدار حكم في جزء من الثانية بأن فلانا قد صفق الباب عمدا على سبيل الإهانة. وسرعان ما يتبع التأويل بالاستجابة العاطفية أو الانفعالية، التي قد تكون الغضب أو الانزعاج أو الهياج. وفي النهاية، وبسرعة كبيرة في كثير من الأحيان أيضا، تأتي استجابتنا السلوكية؛ إذ نقول شيئا أو نفعل شيئا بدافع الانتقام.
حالما نفهم هذه السلسلة السببية، يصبح الهدف هو اعتراض تدفقها عن طريق «كبح جماح أنفسنا»، إن جاز التعبير، واستحضار الوعي في العملية. وعموما، فإن الأسهل هو البدء بالقرب من النهاية؛ أي بين رد الفعل العاطفي والتعبير السلوكي عنه. وبعد ذلك، عندما نصبح أكثر دراية بالعملية ويتطور وعينا العاطفي بمرور الوقت، يمكننا العودة إلى الوراء على طول السلسلة السببية، رغبة في تحقيق الهدف النهائي المتمثل في قمع المشاعر المؤذية أو التخلص منها تماما. (9) كبح جماح النفس
إذن، ينبغي توجيه جهودنا الأولية نحو ضمان عدم تحول استجاباتنا العاطفية الهدامة إلى فعل بدني أو لفظي. الفكرة هي أن نكبح جماح أنفسنا قبل أن نبدأ في الانفجار، وأن نمارس ضبط النفس. يذكرني هذا بقصة تبتية معروفة عن بن جونجيال، الذي كان لصا ثم أصبح معلما روحيا. ذات يوم بينما كان بن جونجيال يزور منزل أحد الأشخاص، تركه مضيفه وحده. ولأنه كان قد اعتاد السرقة للغاية، امتدت يده اليمنى غريزيا لأخذ شيء ما. وفي اللحظة نفسها أمسك بنفسه حرفيا؛ إذ قبض بالفعل على ذراعه اليمنى بيده اليسرى وصرخ قائلا: «يوجد لص! يوجد لص هنا!»
لمساعدتنا على تعلم كيفية ضبط النفس وكبح جماحها، من المفيد أن نألف الطرق التي تؤثر بها تجاربنا العاطفية الهدامة على جسدنا. على سبيل المثال، ماذا يكون شعورك في اللحظة التي تصبح فيها منزعجا؟ هل تتغير ضربات قلبك؟ هل تشعر بأي شد في الوجه؟ هل يحدث أي وخز في ذراعيك أو كتفيك؟ بماذا تشعر عندما تواجه مشهدا يثير اشمئزازك لأول مرة؟ هل يوجد شد في العضلات؟ وما الأحاسيس المصاحبة لمشاعر الغيرة أو الحسد؟ هل تشعر بها في معدتك، أو ربما في صدرك ؟
إضافة إلى تعلم كيفية التعرف على المظاهر الجسدية لعواطفنا، يمكننا أن نحاول مراقبة استجاباتنا الجسدية والنفسية لهذه الأحاسيس. هل نتصرف بطريقة معينة، أو نقول أشياء معينة، أو تدور في أذهاننا أفكار معينة؟ هل نقطب جبيننا أو نحكم قبضة أيدينا؟ أيمكن أن نشعر بالحاجة إلى المشي أو الوقوف، أو ربما التململ فحسب؟ هل يتغير صوتنا عندما نكون مضطربين؟ أيصبح الصوت أعلى أو أكثر حدة؟ هل ترد الكلمات على الذهن بوتيرة أسرع؟ إذا كنا بصدد العمل أو الحديث عند ظهور مثل هذه العواطف، فكيف تؤثر العاطفة على عملنا أو مضمون ما نقوله؟
يساعدنا الانتباه إلى مثل هذه التفاصيل في التعرف على حالاتنا العاطفية، ومع المزيد من المعرفة نكتسب مزيدا من السيطرة. وغالبا ما تساعد الأعمال البسيطة المتمثلة في الانفصال بأنفسنا عن هذه الحالات العاطفية وفحصها في تهدئتها.
حالما تعتاد تماما على هذه العملية وتبدأ في وضع مقياس للنجاح في تقييد ردود أفعالك السلوكية، يمكنك بعد ذلك التراجع خطوة واحدة على طول سلسلة السببية ومحاولة منع الشعور نفسه من الوصول إلى مرحلة التفجر. بعبارة أخرى، يمكنك أن تتعلم تهدئة نفسك في اللحظة ذاتها التي تدرك فيها بداية نشوء الشعور القوي. قد يشمل القيام بذلك على سبيل المثال، أخذ عدة أنفاس عميقة، أو يتضمن ببساطة تحويل ذهنك عن العامل المثير. أو ربما تصبح قادرا على رؤية موقف معين بصورة أكثر إيجابية، كما في حالة الشباب الفلسطينيين الذين تعلموا رؤية صورة الإله في وجوه الجنود عند نقاط التفتيش الإسرائيلية. في بعض الأحيان، حتى إذا كان الموقف الراهن مأساويا، فإن النظر إليه في سياق أسبابه وظروفه المتعددة يمكن أن يساعد في نزع فتيل ردود الفعل العاطفية السلبية القوية. يفيد ذلك أيضا في رؤية الموقف من زوايا أو وجهات نظر مختلفة؛ فيصبح من الممكن رؤية بعض النتائج الثانوية في موقف يبدو مأساويا من إحدى الزوايا.
مع اكتساب المزيد والمزيد من الدراية بهذا النهج، ستصبح تدريجيا أكثر تمرسا وإتقانا، حتى تصل إلى النقطة التي قد تتمكن عندها من الإمساك بزمام نفسك حتى قبل نشوء السلوك الانفعالي. فحين تصبح واعيا بكيفية نشوء المشاعر الانفعالية كالغضب أو الحنق أو الانزعاج لديك، يمكنك أن تتعلم تمييز ما يحفزها ومن ثم يمكنك تسليح نفسك ضدها من خلال استحضار الوعي لممارسته في مرحلة مبكرة من العملية. في النهاية، من خلال الممارسة يمكنك إضعاف حساسيتك للمحفزات نفسها، من خلال عدم السماح لعنصر الإسقاط بتشويه تفسيرك للأحداث. يمكن أن تكون هذه المرحلة النهائية بالغة الصعوبة، لكن إذا تمكنت من تحقيقها، فستجدها أيضا تحريرية للغاية. فحتى عندما تتعرض لمحفز مثل كلمات عدائية من شخص آخر، سيحميك وعيك من التأويلات الغريزية التي تجعلها المبالغة والإسقاط ضبابية، ومن ثم فإنها تمكنك من الاستجابة بهدوء وفطنة. (10) مسألة الحالات المزاجية
استمتعت في الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة، بعدد من الحوارات مع الدكتور بول إيكمان، أحد رواد الدراسة العلمية للوجدان، أو ما يسمى ب «علم الأعصاب الوجداني». من وجهة نظر الدكتور إيكمان، ليست عواطفنا، التي يصفها بأنها سريعة الزوال، هي الأكثر ضررا على رفاهيتنا، بل حالاتنا المزاجية. فبينما تأتي العواطف وتختفي بسرعة، تكون الحالات المزاجية أكثر ديمومة، ونظرا لأنها كامنة إلى حد كبير وتحدد حالتنا الذهنية لكن دون أي تركيز خاص، فقد تكون خفية أيضا إلى حد ما عن إدراكنا الواعي ومن ثم تصعب معالجتها. يقول الدكتور إيكمان إن الحالات المزاجية هي التي تجعلنا أكثر عرضة لانفعالات معينة، وإنها ما يجب أن نحول انتباهنا إليه. وأنا أعتقد أن هذه الملاحظة مفيدة.
وفقا لفهمي، أرى أن العواطف، والحالات المزاجية، والسمات الشخصية يمكن التعامل معها جميعا على أنها ظواهر تجمع بينها صلة قرابة وتقع على تسلسل متصل، حيث تزيد قدرة كل منها على الاستدامة بدرجة أكبر من سابقتها. لهذا السبب، فإن الطرق الأساسية للتعامل معها تتماثل إلى حد كبير. لكن مسألة الحالات المزاجية تثير أيضا مسألة المستوى العام لطاقة الشخص، الجسدية والنفسية على حد سواء. ولذا؛ يركز التقليد البوذي تركيزا كبيرا، لا سيما في سياق تدريب العقل، على مواجهة المشكلتين المتقابلتين المتمثلتين في فرط التراخي أو البلادة أو الكسل من ناحية، والإثارة المفرطة من ناحية أخرى. وأنا أعتقد أن لهذا النوع من النصائح، التي أناقشها بمزيد من التفصيل في الفصل الحادي عشر، بعض التأثير على مسألة التعامل مع حالاتنا المزاجية. علاوة على ذلك، بالرغم مما قد يبدو من صعوبة الخروج من إحدى الحالات المزاجية، أعتقد أننا جميعا شعرنا بتحسن في حالتنا المزاجية بسرعة كبيرة استجابة لبعض الأخبار الجيدة. يدل هذا على أن الحالات المزاجية لا تتسم بما قد تبدو عليه من استقرار واستمرارية. أحيانا تنشأ الحالة المزاجية نتيجة بعض المشاعر المكبوتة بداخلنا، وعندما تتحرر تلك المشاعر عن طريق التحدث إلى شخص ما، أو ربما الاعتذار عن شيء تندم عليه، أو حتى مشاركة مزحة ما، قد يتغير مزاجك سريعا. ربما يكون هذا الارتياح مؤقتا بالطبع؛ أي كالراحة التي نشعر بها عند تناول المسكنات. ومن ثم، نجد في النهاية أن الطريقة الأكثر فعالية للتعامل مع الحالات المزاجية هي التعامل مع المشاعر المسببة لها نفسها.
لا شك أن التعامل مع ميولنا إلى السلبية يمثل تحديا كبيرا. ففي مواجهة عقبات الحياة اليومية، يمكن أن نقع جميعا بسهولة كبيرة في العادات النفسية السلبية القديمة مثل الإحباط أو الغضب أو القنوط. ولذا؛ فما نحتاج إليه هو تجديد جهودنا باستمرار كي نعيش وفقا للقيم التي نريد دعمها.
الفصل العاشر
تنمية القيم الداخلية الأساسية
لنتذكر النهج ذا الشقين للممارسة الأخلاقية الحقيقية: العمل على كبح جماح مشاعرنا الهدامة من ناحية، والعمل بنشاط على تنمية صفاتنا الداخلية الإيجابية من ناحية أخرى. في الفصل السابق، ناقشت مسألة المشاعر الهدامة واستكشفت سبلا قد تمكننا من خلال الوعي بالمشاعر وتنظيمها، من التعامل بأسلوب بناء مع التحديات التي تطرحها. وفي هذا الفصل أعالج الشق الآخر لهذا النهج. من الصفات الإيجابية التي توجد بداخلنا طبيعيا، تلك الصفة الأكثر أهمية على الإطلاق؛ الرأفة، وقد تحدثت عنها بالفعل بشيء من التفصيل. ذكرت أيضا شيئا عن فضيلة العفو في سياق العدالة. وفيما يلي سأعرض مناقشة موجزة لبعض القيم الإنسانية الرئيسية الأخرى : الصبر أو التحمل، والرضا، والانضباط الذاتي، والكرم. (1) الصبر والتحمل
في سياق الأخلاق العلمانية، ربما يكمن الترياق للمشاعر الهدامة التي تتصل بحياتنا اليومية على نحو ملح للغاية ومباشر، فيما يسمى في اللغة التبتية «سوي با». على الرغم من أن مصطلح «سوي با» عادة ما يترجم إلى الصبر، فمعناه ينطوي أيضا على فضائل التسامح والتحمل والعفو. وما يعنيه حقا هو القدرة على تحمل المعاناة. إنه يشير إلى عدم الاستسلام لدافعنا الغريزي للاستجابة إلى الصعوبات التي تواجهنا على نحو سلبي. بالرغم من ذلك، فإن مفهوم «سوي با» لا يمت بأي صلة للسلبية أو الضعف. فهو ليس مرادفا للتسامح مع شيء ما لأنك لا تمتلك القدرة على المقاومة فحسب. ولا هو يعني تحمل الظلم على مضض وكراهية. إنما يستلزم الصبر الحقيقي قوة عظيمة. فهو في جوهره ممارسة لضبط النفس استنادا إلى الانضباط الذهني. وينطوي الصبر أو التحمل على جوانب ثلاثة علينا مراعاتها: التحمل تجاه من يتسببون لنا في الأذى، وتقبل المعاناة، وتقبل الواقع. (1-1) الصبر على مرتكبي الأذى
مثلما اقترحت بالفعل، فإن التفكير في حقيقة أن كل شيء يعتمد على عدد كبير من الأسباب والظروف يمكن أن يساعدنا كثيرا في تحمل الأخطاء التي يلحقها بنا الآخرون. عندما يجرحنا الناس بطريقة ما، سيكون من المفيد أن نتذكر وجود مجموعة كبيرة من العوامل قد أسهمت في سلوكهم. وعندما نواجه العداوة أو عدم الاحترام، يجدر بنا التفكير في السبب وراء تصرف الأشخاص العدوانيين أو غير المحترمين بتلك الطريقة. فالأرجح أن سلوكهم يعكس الصعوبات التي يواجهونها هم أنفسهم. وربما يخفف هذا الإدراك من غريزتنا للانتقام.
ومن المفيد أيضا أن نتذكر أن الغضب ليس شيئا يريده أي شخص في الواقع. عندما نغضب نحن على سبيل المثال، فهل نفعل هذا لأننا نريد ذلك؟ لا. إنما يحل علينا لا إراديا. فالغضب كالإصابة بالمرض، كلاهما ليس بالشيء الذي نفعله عمدا. علاوة على ذلك، نظرا إلى أن مرتكبي الأذى هم مثلي ومثلك تماما، بشر يتطلعون إلى السعادة ويرغبون في تجنب المعاناة، فهم أيضا يستحقون رأفتنا واهتمامنا. ولذلك، فإن الطيبة والعفو ملائمان أكثر من الغضب في الاستجابة للعداء.
كما هو الحال مع ممارسة العفو، فإننا بحاجة إلى التمييز بين الفعل والفاعل، بين الأذى والشخص الذي ارتكبه. فبينما نظل راسخين في معارضتنا للفعل الظالم نفسه، نستطيع الاحتفاظ أيضا بحس الاهتمام والرأفة لمرتكب ذلك الأذى. (1-2) الصبر عبر تقبل المعاناة
من الأبعاد المهمة في ممارسة الصبر أو التحمل، تنمية درجة أكبر من تقبل المعاناة والصعوبات التي هي في الواقع، أجزاء لا مفر منها في وجودنا. يأتي هذا التدريب على الصبر في شكل تكوين موقف من التقبل الأصيل لحقيقة أن الحياة تنطوي على المشقة. إن إنكار المعاناة أو توقع أن تكون الحياة سهلة، لا يعود على الإنسان إلا بمزيد من البؤس. لست أعني بقولي هذا أن المعاناة جيدة في حد ذاتها، إنما أعني أن التقبل سيسهل من تحملها.
في أسفاري حول العالم، لاحظت أن الناس في البلدان الأقل تطورا، حيث الحياة الصعبة من الناحية المادية، يبدون في كثير من الأحيان أكثر رضا من سكان البلدان الأكثر ثراء، الذين يعيشون حياة سهلة نسبيا. ذلك أنه تحت ذلك الثراء الخارجي في المجتمعات المتقدمة ماديا، يكمن قدر كبير من القلق الداخلي وعدم الرضا، أما في البلدان الأفقر فعادة ما يدهشني الفرح البسيط الذي يلاقيه المرء في معظم الأحيان. كيف نفسر هذا؟ يبدو أن المشقة إذ تضطرنا إلى التحلي بقدر أكبر من الصبر والتحمل في الحياة، تجعلنا في الواقع أقوى وأكثر صمودا. فمن اختبار المشقة بصفة يومية، تتولد لدينا قدرة أكبر على قبول الصعوبات دون فقدان شعورنا الداخلي بالهدوء. لقد لاحظت هذا أيضا في بعض أصدقائي الأوروبيين. فهؤلاء الذين ينتمون إلى جيلي، ممن عايشوا صعاب الحرب العالمية الثانية، يبدو أنهم يتحلون بقدر من التحمل وقوة الشخصية بدرجة أكبر من الأجيال الأصغر سنا الذين لم يسبق لهم أن واجهوا مثل هذه الصعوبات. إن تجربة فقد الأصدقاء والعائلة، والعيش في حالة من عدم اليقين، والاكتفاء بالقليل جدا من الغذاء، قد زادت هذا الجيل صلابة على ما يبدو. إنهم أكثر قدرة على التعامل مع الشدائد دون أن يفقدوا روح الدعابة. لا أريد بالطبع أن أدافع عن اتخاذ المشقة نهجا للحياة، بل أريد أن أبين فحسب أن التعامل مع المشقة على نحو بناء من خلال رؤية فوائدها، يمكن أن يعود علينا بالقوة الداخلية والجلد.
لكن كيف لنا أن نتعامل مع العقبات المعتادة في الحياة؟ مرة أخرى، أجد نصيحة شانتيديفا، المفكر الهندي الذي عاش في القرن الثامن، مفيدة للغاية.
إذا كان ثمة حل،
فما الحاجة إذن للبؤس؟
وإذا لم يكن ثمة حل،
فما المغزى إذن من البؤس؟
إنني أسمي هذه النصيحة بنهج «لا حاجة، لا مغزى» في التعامل مع المشكلات. إذا كان للمشكلة حل، فينبغي ألا تكون سببا للقلق المفرط. وبدلا من الشعور بالعجز، ما علينا سوى العمل بهمة للوصول إلى الحل. وإذا استنتجنا بعد دراسة متأنية أنه لا يوجد حل، فلن نجني شيئا من القلق. والحق أننا كلما أسرعنا في تقبل عدم وجود حل للمشكلة، كان من الأسهل علينا مواصلة حياتنا. ففي كلتا الحالتين، لا فائدة من القلق المفرط! ذلك أن الأمر لا يتوقف عند انعدام جدواه فحسب، بل يمكن أيضا أن يؤذينا بشدة؛ إذ يجعلنا أضعف، والأسوأ أنه قد يؤدي إلى الاكتئاب.
لا أعنى بهذا بالطبع أن علينا «الاستسلام» للمعاناة. على العكس من ذلك؛ إذ إن «تقبل» المعاناة لا يتضمن الاستسلام إطلاقا، بل هو الخطوة الأولى في مكافحة ضررها. فحين نتقبل المشقة، نبدأ في إدراك أنها ليست سلبية تماما. ذلك أنها قد تكون على سبيل المثال، قوة هائلة تجمعنا بالآخرين من خلال إحياء خصلتي التعاطف والرأفة فينا. والأهم من ذلك كله أن المعاناة تساعدنا في إدراك صلة القرابة التي تجمع بيننا. وبهذا الإدراك، لا نعود نشعر بالهزيمة أمام الصعوبات، بل نكتسب القوة التي نحتاج إليها لمواجهة التحديات التي نجدها في حياتنا.
يمكن أن تكون المعاناة الشخصية أيضا حافزا للنمو الروحاني الفردي. فإضافة إلى ما تعطينا إياه من قوة، يمكن أيضا أن تمنحنا شيئا من التواضع وأن تساعدنا على أن نكون أكثر انسجاما مع الواقع. إن جميع التقاليد الدينية الكبرى في العالم تقر بهذه الآثار للمعاناة. ثمة شيء آخر أيضا شعرت به في حياتي الخاصة. ذلك أنني لا أشك إطلاقا في أن تجربتي في المنفى قد منحتني فهما للحياة أعمق مما كنت سأكتسبه لو أنني ما زلت أعيش في التبت بصفتي حاكم البلاد الذي يتمتع بامتيازات. (1-3) الصبر من خلال تأمل الواقع
يتضمن البعد الثالث لممارسة الصبر التركيز على سمات الواقع التي يجد الأفراد في تقبلها صعوبة كبرى. ومن ذلك على سبيل المثال، الشيخوخة والموت. غالبا ما تعد هذه الموضوعات من المحرمات لأن كثيرا من الناس لا يريدون التفكير فيها. يبدو أن هذا يحدث بصفة خاصة في المجتمعات الأكثر ثراء، حيث تعزز النزعة الاستهلاكية ثقافة الشباب. غير أن التفكير في مثل هذه الموضوعات قد يعزز من رفاهيتنا. فالتأمل في حتمية التقدم في العمر والموت ودورهما كأجزاء من وجودنا يمكن أن يقودنا إلى قدر أكبر من التسامح تجاه هذه الجوانب من الواقع، والتي قد تسبب لنا اليأس والاكتئاب لو نظرنا إليها بطريقة أخرى.
كما سبق واقترحت عدة مرات، فإن كل شيء في العالم يأتي نتيجة لعدة عوامل. وفي أي حدث معين، لا تمثل أفعالنا سوى عامل واحد بين نطاق كبير من الأسباب والظروف. وبالمثل، فدائما ما يتسم أي موقف بالعديد من الجوانب. ولذا؛ عندما تحل علينا محنة ما، مثل عدم الحصول على الوظيفة التي كنا نأمل فيها، يجدر بنا التفكير في أن القرار نفسه الذي خيب آمالنا سيكون قد أفاد شخصا آخر، ربما شخص أكثر حاجة إليه منا. على الرغم من أن التفكير على هذا النحو ليس بالأمر السهل، فإن مثل هذه الاعتبارات قد تخفف من إحساسنا بالخسارة؛ إذ تشعرنا بشيء من الفرح تعاطفا مع حسن حظ الآخرين. وفي الوقت نفسه، سيكون للفعل البسيط المتمثل في تحويل تركيز انتباهنا بعيدا عن أنفسنا، ذلك التأثير الذي يجعل المشكلة تبدو أقل صعوبة في تحملها.
إن فوائد تنمية الصبر واضحة. ذلك أن ممارسة الصبر تحمينا من فقدان رباطة الجأش، وبذلك تمكننا من ممارسة الفطنة، حتى في أوج احتدام المواقف الصعبة. إنها تعطينا مساحة داخلية. وداخل تلك المساحة، نكتسب درجة من ضبط النفس، مما يمكننا من اختيار الاستجابة إلى المواقف بطريقة مناسبة تتسم بالرأفة بدلا من أن توجهنا في ذلك دوافعنا القهرية. ومن خلال التنمية المستمرة، فإن الصبر على النحو الذي وصفته به، يعدنا للتعامل مع تقلبات الحياة التي لا مفر منها. علاوة على ذلك، لا شك أن الصبر صفة يقدرها الآخرون كثيرا! فمن خلال التحلي بالصبر، نصبح بطبيعة الحال أكثر جاذبية للآخرين. ذلك أنه يساعد في تهدئة الناس حين يكونون معنا ويجعلهم يستمتعون بصحبتنا. لكن الأهم من هذا كله أن الصبر هو ترياق قوي للمشاعر الهدامة من غضب وإحباط. (2) القناعة
في رحلاتي الأولى إلى الدول الغربية، اعتدت زيارة مراكز التسوق أحيانا. في تلك الأيام، لم تكن مثل هذه المراكز التجارية موجودة في الهند، وكان من المثير للإعجاب بالنسبة إلينا - نحن التبتيين - أن نرى كل المحال التجارية الأنيقة بواجهاتها المضاءة بجميع أنواع المنتجات الاستهلاكية. وأنا أحب الأشياء الميكانيكية، مثل الساعات، منذ الطفولة؛ ولذا وجدت الأدوات الميكانيكية والإلكترونية الحديثة في هذه المتاجر هي الأكثر جاذبية. وعند النظر إليها، كنت أحدث نفسي أحيانا قائلا: «آه، أريد هذا»، «أرغب في ذلك!». لكني كنت أسأل نفسي بعدها: «هل أحتاج إلى هذا الشيء حقا؟» في معظم الأوقات بالطبع، كانت الإجابة بالنفي. إذن، كانت أفكاري الأولى تنبع من نوع من الطمع الغريزي، لكن حالما كنت أراجع نفسي وأنظر نظرة واقعية إلى الأمر، لا أعود أشعر بأي حاجة إلى الحصول على هذه الأشياء أو السيطرة عليها. وهذا ما فهمته من خلال ممارسة القناعة.
في بعض الأحيان، يؤدي وصف القناعة بأنها قيمة أخلاقية أساسية إلى قليل من الالتباس. فقد يقال إن القناعة ليست قيمة أخلاقية في حد ذاتها؛ لأنها تعنى برفاهية الفرد لا رفاهية الآخرين. أليست القناعة هي ما يشكل السعادة التي تأتي من الاهتمام بالآخرين والرأفة بهم في الحياة؟ إذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن اعتبارها قيمة أخلاقية يمكن تغذيتها في حد ذاتها؟ علاوة على ذلك، قد يقال إن القناعة لا يمكن ممارستها، بل ينبغي الوصول إليها.
عندما أتحدث عن القناعة بصفتها قيمة أخلاقية على هذا النحو، فلست أتحدث في حقيقة الأمر عن حالة عامة من الرفاهية أو السعادة، بل عن مفهوم أكثر تحديدا للقناعة نسميه في اللغة التبتية «شوجشي». وأنا لا أعرف أي ترجمة بسيطة لهذا المصطلح باللغة الإنجليزية أو أي لغة أخرى، وبما أنه يترجم عادة إلى «القناعة»، فأنا أستخدم هذا المصطلح أيضا. لكن ما يعنيه مصطلح «شوجشي» حقا هو «غياب الطمع». ومعناه الحرفي: «معرفة [ما هو] القدر الكافي» أو «معرفة الحد الذي ينبغي أن يقنع عنده المرء». إنه يعني القدرة على الشعور بالرضا دون البحث عن المزيد.
وعليه، فإن القناعة وفقا لهذا المنظور، شبيهة بفضيلة الاعتدال. ذلك أنها تنطوي على قدر معين من التواضع في الطموح، أو أن يكون للمرء رغبات محدودة. فمن خلال العيش بتواضع ووضع حدود مقبولة، نحرر أنفسنا من الشعور بانعدام الأمان والنقص اللذين يتولدان من الاشتهاء الملح المستمر. من خلال ممارسة القناعة، نسمح لأنفسنا بالاستراحة في حالة كامنة من الرضا، واثقين في معرفة أننا نعيش تبعا للمثل التي نسعى لدعمها. ومن خلال الحد من متطلباتنا ورغباتنا، نتجنب المعاناة من الاستياء والإحباط اللذين يولدهما الجشع.
ثمة عبارة مأثورة في التبت تقول: «على باب الغني البائس ينام المتسول الراضي». ليس المقصد أن الفقر فضيلة، لكن أن السعادة لا تأتي من الثروة، وإنما من وضع حدود لرغباتنا والعيش ضمن تلك الحدود برضا.
أشعر بأن تنمية الرضا أمر مهم للغاية في عالم اليوم المادي الذي تسود فيه النزعة الاستهلاكية العالمية. إن المجتمع المادي يضع الأشخاص تحت ضغط مستمر يجعلهم يرغبون في المزيد وينفقون أكثر بكثير مما يلبي حاجاتهم الأساسية. تصمم الإعلانات الأنيقة لإثارة الخيال وتوليد تصور بأن السلع المادية ستجعلنا سعداء، وأن لدينا نقصا بطريقة أو بأخرى ما لم نحصل على أحدث الكماليات أو الأدوات أو الأزياء . ومن ثم، فإن مادية المجتمع الحديث تجعل ممارسة الاعتدال والقناعة ضرورة يومية إذا أردنا مقاومة الاستسلام للشعور بعدم الرضا الشخصي المتولد من الرغبات الملحة غير الواقعية.
إن التحكم في رغبتنا للحصول على المزيد، وتعلم العيش ضمن حدود واقعية، لا يخدم مصلحتنا الفردية فحسب. وإنما هو ضروري أيضا إذا أردنا التغلب على تحديات الحياة على الأرض التي يولدها سعينا المتواصل للحصول على المزيد. فالموارد المادية لهذا الكوكب محدودة. أضف إلى ذلك أن عدد السكان العالمي يزداد بسرعة وأن سكان البلدان الأقل نموا يطمحون بطبيعة الحال إلى مستوى الراحة الذي يتمتع به سكان العالم المتقدم، وذلك حقهم بالطبع؛ فيبدو من الجلي أن المسار الذي نتخذه حاليا مسار غير مستدام. تسهم المساحات الطبيعية الرائعة في العالم بالكثير في الحفاظ على التوازن البيئي للكوكب. غير أن الغابات، والمحيطات، والبيئات الطبيعية الأخرى تتعرض للانتهاك والتدمير، وقد انقرضت خلال حياتي أنواع كثيرة من الحيوانات والنباتات. وبهذا؛ فإن أنماط الحياة العصرية المريحة التي يعدها الكثير منا من المسلمات، ويطمح آخرون كثر في الوصول إليها؛ تكلفنا الكثير في الواقع.
تتجلى الحاجة إلى القناعة على نحو مؤلم في الأزمة المالية الأخيرة، التي لا نزال نشعر بتداعياتها في أنحاء عالمنا العميق الترابط. من السهل إلقاء اللوم على السياسيين لفشلهم في تنظيم المؤسسات المالية تنظيما كافيا. مع ذلك، نشأت هذه الأزمة بصفة أساسية بسبب الجشع نفسه، وبسبب الفشل في ممارسة الاعتدال المناسب وضبط النفس في السعي الأعمى وراء تحقيق المزيد والمزيد من المكاسب. إضافة إلى ذلك، فقد أوضح لي رجل أعمال إيطالي أن العالم كان يشهد مضاربات مفرطة. تعني كلمة «مضاربة» في حد ذاتها، التصرف دون كامل معرفة. وفي هذه الحالة، من الواضح أن مستوى الحذر والتواضع الملائم للإجراءات المتخذة دون معرفة كاملة، لم يكن موجودا. وفي هذه الحالة، كانت المشكلة في الأساس هي الغطرسة وقصر النظر. أما المشكلة الثالثة فكانت الافتقار إلى الشفافية، مما سمح بزيادة عدم الأمانة والخداع دون رقابة. لم يكن هناك شيء حتمي بشأن أي من هذه العوامل. فجميعها ببساطة نقائص أخلاقية يأتي الجشع في مقدمتها. والترياق الوحيد الفعال للجشع هو الاعتدال والقناعة.
من المؤكد أنني لا أقترح أن الفقر أمر مقبول حين أحتفي بفوائد البساطة والتواضع. على العكس تماما، فالفقر مشقة رهيبة، علينا أن نفعل كل ما يسعنا فعله لإنهائها. فعلاوة على أنه يجعل البقاء صراعا، فإن الفقر غالبا ما يضعف البشر، ويؤدي إلى شعورهم بالروع أو وهن العزيمة. وقد يؤدي أيضا إلى كرب نفسي عميق ويسلب الناس أي فرصة في تحسين وضعهم الاقتصادي. وبهذه الطرق، يتسبب في معاناة الفقراء بشدة. لكن على المستوى الشخصي، كلما أسرعنا في تقبل أن الثروات وحدها لا تجلب السعادة، وكلما أسرعنا في تعلم العيش بحس من التواضع، أصبحنا أفضل حالا، لا سيما فيما يتعلق بسعادتنا.
سيفرض المكان والزمان دائما قيودا على مقدار الثروة الذي يمكن لأي شخص أن ينجح في تجميعه في حياته. وعلى ضوء هذا الحد الطبيعي، يبدو من الحكمة أن يضع المرء حدوده الخاصة من خلال ممارسة القناعة. ولكن على النقيض من ذلك، عندما يتعلق الأمر باكتساب الثروات العقلية، فلا حدود للإمكانات. وفي ذلك الجانب حيث لا يوجد حد طبيعي، من الملائم «ألا» تقنع بما لديك وتظل تسعى باستمرار من أجل المزيد. غير أن معظمنا للأسف يفعل العكس تماما. فنحن لا نرضى أبدا بما لدينا ماديا، لكننا نميل إلى الرضا التام بثرواتنا العقلية. (3) الانضباط الذاتي
يعد الانضباط الذاتي من الأمور الوثيقة الصلة بقيمة القناعة. حقيقة الأمر أن قيمة القناعة تستلزم ممارسة درجة معينة من الانضباط الذاتي، وينطبق ذلك بالطبع على جميع القيم الداخلية التي يناقشها هذا الكتاب.
إن أهم ما يتعلق بفضيلة الانضباط الذاتي، هو أنها يجب تبنيها طواعية. فعندما يفرض الانضباط من الخارج، نادرا ما يكون فعالا، بل يؤدي أحيانا إلى نتيجة عكسية. وعندما يفرض الانضباط بالخوف، سواء أكان الخوف من سلطة خارجية أم الخوف النابع من تهيئتنا الثقافية أو الدينية، فغالبا ما يمارسه الفرد بحماس شديد الضآلة. ونتيجة لذلك، نادرا ما يأتي الانضباط المفروض من الخارج بتحول داخلي.
من الناحية الأخرى، إذا مارسنا الانضباط الذاتي طواعية، تقديرا لقيمته وفوائده في الامتناع عن العادات السيئة، فمن الطبيعي أن نتعهده بعزم أكبر. وهذا بدوره يجعل انضباطنا الذاتي أكثر استدامة.
من أجل تنمية مثل هذا الانضباط الذاتي الطوعي، علينا مرة أخرى أن نستغرق بعض الوقت في إدراك فوائده العديدة والتعمق فيها، وليس ذلك فيما يتعلق بالفوائد التي تعود علينا فحسب، بل تلك التي تعود على الآخرين أيضا وحتى البشرية ككل. من خلال القيام بذلك، يمكننا توليد الحماس المطلوب للحفاظ على تحفيزنا وتصميمنا.
من المفيد أن نبدأ بالتفكير في الضرر الذي نلحقه بأنفسنا، حتى على المستوى الجسدي، عندما ننصاع وراء الإغراء والعادات السيئة. كما يمكننا النظر بعد ذلك في الضرر الذي تلحقه عاداتنا السيئة بالآخرين. من السهل أن نفترض أن سلوكنا الشخصي وعاداتنا أمور لا تترك تأثيرا حقيقيا لدى الآخرين، لكن ذلك نادرا ما يكون صحيحا. فلنفترض على سبيل المثال، أن فردا في إحدى العائلات مدمن للمخدرات. رغم أن أفراد العائلة الآخرين لن يعانوا بالطبع الآثار السلبية المباشرة للمخدرات، الجسدية منها والنفسية، فهذا لا يعني أنهم لن يصابوا بالأذى. فمن المرجح جدا أنهم يكونون في غاية القلق والهم، وسيعانون أيضا ما قد يصاحب الموقف من آلام شديدة ومضاعفات. ولذا، عند النظر في الضرر الذي نتسبب فيه عند الافتقار إلى الانضباط الذاتي في عاداتنا الشخصية، يجب أن نتذكر دائما أولئك الذين يهتمون بصالحنا، والذين يرتبط صالحهم بصالحنا ارتباطا وثيقا.
قد يكون من المفيد أيضا تذكر الآثار الضارة لافتقار الانضباط الذاتي على مستوى اجتماعي أوسع. فأنا أعتقد أن مشكلة الفساد التي تسود في مناطق كثيرة من العالم ليست في الواقع سوى انعدام الانضباط الذاتي. فدائما ما يكون الفساد استسلاما للسلوكيات التي تخدم المصالح الشخصية من جشع، وتحيز، وغش. وحتى وجود نظام قانوني عادل ومنصف لا يفيد كثيرا عندما يشله الفساد.
من خلال الوعي الذي يتشكل من التفكير في عواقب الافتقار إلى الانضباط الذاتي، يمكننا أن ننمي تدريجيا قدرة أكبر على مقاومة الإغراءات في حياتنا. وفي النهاية، سنبدأ من خلال الممارسة المستمرة في التحلي بالانضباط الذاتي تلقائيا ولن يعود يتطلب جهدا واعيا وقوة إرادة. وفي تلك المرحلة، عندما يتحقق ضبط النفس والاعتدال على نحو طبيعي، نبدأ في الشعور بالحرية الكبيرة التي تنبع من التحكم في النفس. تمتدح جميع التقاليد الدينية الرئيسية حول العالم فضيلة الانضباط الذاتي. ففي الإسلام على سبيل المثال، ثمة تركيز قوي على فضيلة «الصبر»؛ أي الرسوخ أو التحكم في النفس، أو الحلم، أو الثبات، وأولئك الذين يتمتعون بهذه الصفة؛ الصابرين، قيل عنهم إن الله يحبهم.
إن اكتساب السيطرة على نزعاتنا الهدامة من خلال ممارسة الوعي والانضباط الذاتي على مستويات الجسم والكلام والعقل، يحررنا من الاضطراب الداخلي الذي ينشأ طبيعيا عندما يتعارض سلوكنا مع مثلنا. وبدلا من هذا الاضطراب، تأتي الثقة والنزاهة والكرامة، وكلها صفات بطولية يتطلع إليها جميع البشر بطبيعتهم. (4) الكرم
يبدو لي أن قيمة الكرم جديرة بأن نتحدث عنها بعض الشيء. الكرم هو التعبير الخارجي الطبيعي عن التوجه الداخلي المتمثل في الرأفة والحنان الناشئ عن الحب. عندما يرغب المرء في التخفيف من معاناة الآخرين وتعزيز رفاهيتهم، فحينئذ يكون الكرم في الفعل والقول والفكر، هو الممارسة الفعلية لهذه الرغبة.
من المهم أن ندرك أن «الكرم» في هذا السياق لا يشير إلى العطاء بالمعنى المادي فحسب، وإنما إلى كرم القلب أيضا. وهو على هذا النحو يرتبط ارتباطا وثيقا بفضيلة العفو. فمن دون كرم القلب، يكون العفو الحقيقي مستحيلا.
إن النصوص البوذية الكلاسيكية تصف الكرم من خلال أربعة أنواع للعطاء؛ فلدينا أولا عطاء السلع المادية، وعطاء التحرر من الخوف الذي يعني توفير السلامة والأمن للآخرين والتعامل معهم بصدق ثانيا، ولدينا ثالثا عطاء المشورة الروحية الذي ينطوي على تقديم العون والاهتمام والنصيحة لدعم رفاهية الآخرين النفسية والشعورية، ولدينا رابعا عطاء الحب.
من المهم أن ندرك في البداية أن الهدف من أي من هذه الأنواع الأربعة للعطاء ينبغي ألا يكون أبدا هو نيل الحظوة لدى الآخرين، بل ينبغي أن يكون الهدف دائما هو إفادة المتلقي. إذا كان الدافع مرتبطا بالسعي وراء المنفعة الشخصية بأي حال من الأحوال، فليس هذا كرما حقيقيا.
تشير النصوص البوذية الكلاسيكية أيضا إلى الحاجة إلى الفطنة عند الانخراط في أعمال الكرم. فإضافة إلى التأكد من سلامة دافع المرء على سبيل المثال، تناقش هذه النصوص الحاجة لأن يكون الفرد على دراية بالسياقات الخاصة التي قد يكون العطاء فيها غير مناسب. فالعطاء غير المتناسب أو العطاء لأحد الأشخاص في وقت غير مناسب قد يضر المتلقي أكثر مما ينفعه. ومن الجلي بالطبع أن هناك أشياء معينة، مثل السموم والأسلحة، هي بطبيعتها غير مناسبة للعطاء. إذا كان ما نعطيه سيستخدم على الأرجح لإيذاء الآخرين، فإن مبدأ الرأفة يقضي بالإعراض عن العطاء في هذا السياق. علاوة على ذلك، تؤكد هذه النصوص ضرورة التأكد من أننا نعطي للمتلقي احتراما له، وليس من منطلق الشعور بالتفوق. ففعل الكرم الحقيقي يحترم كرامة المتلقي. أعتقد أن هذه كلها تعليمات مفيدة يجب أن نأخذها في الاعتبار. (5) العطاء الخيري والعمل الخيري
قبل بضع سنوات، شاركت في حلقة نقاش شائقة في نيويورك عن موضوع العمل الخيري. فيما يتعلق بالعطاء الخيري، فأنا أجد أن أكثر المجالات إلحاحا هي الصحة والتعليم. فالصحة ضرورية لكرامة الإنسان ورفاهيته، لكن الموارد اللازمة للرعاية الصحية الحديثة لا تتوافر في واقع الأمر للكثيرين في العالم. أما التعليم فهو يوفر الوسائل التي تمكن الناس من اكتساب ما يلزم من المهارات وسعة الحيلة للفرار من الفقر.
تركز الديانات الإبراهيمية بصفة خاصة على العطاء الخيري؛ إذ يعد العطاء للمحتاجين واجبا دينيا مهما. لطالما أعجبت بالعمل الخيري في العالم النامي، الذي تباشره في الغالب الجمعيات الخيرية المسيحية. وقد كنا نحن التبتيين أنفسنا، لا سيما في أثناء سنوات المنفى الأولى الصعبة، متلقين لهذا الكرم وشعرنا بفائدته مباشرة. وفي الإسلام، يمثل التصدق أو «الزكاة» أحد الأركان الخمسة التي يجب على كل مؤمن أن يمارسها، وفي اليهودية أيضا، يعد العطاء الخيري عنصرا رئيسيا في ممارسة الشعائر الدينية.
لكن العطاء الخيري لا يفيد المتلقين فقط. فبالنسبة إلى مقدمي العطاء، ماذا عساه أن يكون أكثر إرضاء من معرفة أن كثيرين ممن هم أشخاص حقيقيون لهم احتياجات حقيقية، يستفيدون من مساعدتهم؟
إن الثروة الإضافية لا تجلب للأغنياء أي قيمة حقيقية بعد مستوى معين، إلا إذا استخدموها في النفع. فحتى الملياردير تظل معدته بالحجم نفسه مثل جميع الأشخاص الآخرين، وعدد البيوت التي يمكن أن يعيش فيها المرء محدود. بعد حد معين، لا يكون للمزيد من الرفاهية والبذخ تأثير فعلي على مستوى راحة المرء. ففي النهاية، تصبح الثروة مجرد سلسلة من الأرقام على الورق أو على شاشة الكمبيوتر. علاوة على ذلك، إذا كان المرء يهتم بالمبادئ الأخلاقية أو بالحفاظ على حس أساسي من اللياقة، فإن الإفراط في الترف على المستوى الشخصي، بينما كل هذا الفقر موجود في العالم، يمكن أن يشكل مشكلة. فالأمر يشبه إلى حد ما شخصا يأكل وجبة بنهم أمام متسول يتضور جوعا!
من حسن الحظ أنه يوجد اليوم بعض الأشخاص المميزين الذين يشاركون، من خلال نشاطهم الخيري، ثروتهم الضخمة مع المحتاجين والفقراء في كثير من بقاع العالم، ولا سيما في مجالي الصحة والتعليم. فقد ذكرت مسبقا بيل جيتس وميليندا جيتس اللذين يبذلان الكثير للآخرين من خلال عملهما الخيري. أعرف أيضا بصفة شخصية العمل الخيري الرائع الذي يقوم به بيير وباميلا أميديار اللذان يسهمان بجزء كبير من ثروتهما لمساعدة الآخرين. عندما أقابل مثل هؤلاء الأفراد، أعرب دائما عن تقديري لكرمهم تجاه المحتاجين حول العالم. ولذلك فإنني أناشد مرة أخرى جميع من يتمتعون بالمستويات نفسها من الثروة إلى التفكير بجدية في مشاركة مواردهم مع الآخرين من خلال العمل الخيري.
ومع ذلك، فليس شديدو الثراء فحسب هم من يجب عليهم التفكير بجدية في العطاء. فحتى ذوو الموارد المحدودة يجنون فوائد كبيرة من الكرم؛ إذ يفتح قلب المرء ويمنحه الشعور ببهجة التعاطف تجاه الآخرين وتوطيد أواصر الصلة بهم. إن إعطاء السلع المادية هو أحد أشكال الكرم، لكننا نستطيع التوسع في موقف الكرم ليشمل سلوكنا كله. إن الطيبة، والانتباه، والصدق في التعامل مع الآخرين، وتقديم الثناء عند استحقاقه، وتوفير الراحة والنصيحة أينما تجلت الحاجة إليهما، وحتى مجرد مشاركة وقت المرء مع شخص ما، كل ذلك من أشكال الكرم، ولا تتطلب أي مستوى خاص من الثروة المادية. (6) الفرح في العطاء
من الجوانب المهمة لممارسة الكرم في رأيي الاستمتاع به. في التقليد الهندي الكلاسيكي، توجد عادة لتكريس أعمال الكرم من أجل هدف إيثاري أسمى. يساعد هذا في ضمان ألا يكون الكرم أعمى أو مدفوعا بمحاباة أو تحيز، بل موجها نحو الصالح الأعم للبشرية بأسرها. تتيح أيضا عادة التكريس لمقدم العطاء أن يفرح بعطائه. إن الاستمتاع بالعطاء مفيد للغاية؛ لأنه يجعلنا أكثر ميلا إلى الانخراط في أعمال الطيبة والإحسان المماثلة في المستقبل.
الرائع في العطاء أنه لا يفيد المتلقي فحسب، بل يجلب على مقدم العطاء أيضا فوائد بالغة. وكلما مارسنا العطاء، ازداد استمتاعنا به.
الفصل الحادي عشر
التأمل كتنمية للعقول
لقد استكشفنا الآن بشيء من التفصيل ما تستلزمه الحياة الروحانية والأخلاقية على مستوى الممارسة الشخصية. فناقشنا بعض الطرق لتنمية الوعي واليقظة في الحياة اليومية، وبعض الطرق التي تمكننا من زيادة الوعي حتى نستطيع تعلم إدارة مشاعرنا وضبطها، وأخيرا عرضنا بعض الطرق لتنمية قيمنا الداخلية. ولما كانت جميع هذه الممارسات، لا سيما الأخيرتين، تنطوي على درجة معينة من الاستخدام المنضبط للعقل؛ ففي هذا الفصل الأخير أود أن أقول بضع كلمات عن تنمية الانضباط العقلي. بالنسبة إلي، تمثل هذه التنمية أمرا لا غنى عنه في الحياة اليومية. فهي من ناحية تساعدني دوما في تقوية عزمي على مراعاة الرأفة في تصرفاتي لتعزيز رفاهية الآخرين. ومن ناحية أخرى، تساعدني في كبح تلك الأفكار والمشاعر المؤذية، التي تهاجمنا جميعا من حين لآخر، وفي الحفاظ على هدوئي الذهني.
ما أعنيه بالتنمية العقلية هو استخدام منضبط للعقل ينطوي على تعميق معرفتنا بشيء أو موضوع معين. في هذا السياق، أفكر في المصطلح السنسكريتي «بهافانا» الذي يعني ضمنيا «التنمية»، ومعادله التبتي «جوم» الذي يشير إلى «التعود». وهذان المصطلحان اللذان غالبا ما يترجمان بمصطلح «التأمل»، يشيران إلى مجموعة كاملة من الممارسات الذهنية وليس إلى الطرق البسيطة للاسترخاء فحسب مثلما يفترض الكثيرون. ذلك أن المصطلحين الأصليين يشيران إلى عملية تنمية الألفة بشيء ما، سواء أكان ذلك الشيء عادة، أم طريقة للنظر في الأمور، أم طريقة للوجود. (1) عملية التحول
كيف إذن تؤدي عملية التنمية العقلية هذه إلى التحول الروحاني والداخلي؟ قد يكون من المفيد هنا أن نستدعي فكرة «المستويات الثلاثة للفهم»، التي نجدها في النظرية البوذية الكلاسيكية للتحول العقلي. تتمثل هذه المستويات فيما يلي: الفهم المستمد من السمع (أو التعلم)، والفهم المستمد من التفكر، والفهم المستمد من التجربة التأملية. على سبيل المثال، فكر في الأشخاص الذين يسعون إلى فهم طبيعة عالم اليوم الذي يتسم بالاعتماد المتبادل. ربما يعرفون بشأنها أولا من خلال الاستماع إلى شخص يتحدث عن هذه المسألة أو عن طريق القراءة عنها. لكن إذا لم يتفكروا بعمق فيما يسمعونه أو يقرءونه، فسيظل فهمهم سطحيا وقريبا للغاية من مستوى معرفتهم بمعنى الكلمات. على هذا المستوى، سيكون فهمهم لحقيقة معينة هو محض افتراض مستنير. أما حين يتفكرون بعد ذلك على نحو أعمق في معنى الأشياء، ويستخدمون التحليل مع التمعن بانتباه في الاستنتاج الذي توصلوا إليه، ينشأ شعور عميق بالاقتناع بصحة الحقيقة. هذا هو المستوى الثاني في عملية الفهم. وأخيرا، مع استمرارهم في تنمية معرفة عميقة بالحقيقة، يصبح استبصارهم لها باطنيا، حتى تكاد أن تصبح جزءا من طبيعتهم هم أنفسهم. يصلون بعد ذلك إلى المستوى الثالث من الفهم، الذي تصفه النصوص الكلاسيكية بأنه تجريبي وتلقائي وعفوي.
ما من شيء غامض في عملية التحول هذه. الواقع أنها تحدث في حياتنا اليومية. وهي تتضح جيدا في عملية اكتساب مهارة ما كالسباحة أو ركوب الدراجة؛ إذ يكون العامل الرئيسي هو الممارسة الفعلية. في سياق التعليم على سبيل المثال، يكون هذا التقدم الذي يبدأ بالسمع أو التعلم ويليه تعمق الفهم من خلال التفكير النقدي ثم التوصل إلى قناعة، أمرا معتادا للغاية. فمن المعروف جيدا على سبيل المثال، أن المعرفة المستندة إلى الاستماع أو القراءة فحسب دون معالجة من خلال التفكير، لا تؤدي إلى قناعة قوية. ولهذا السبب، فلا يمكن أن تؤدي إلى أي تغيير حقيقي. لكن إذا اكتسبنا من خلال التفكير النقدي، قناعة عميقة بما تعلمناه، فسيؤدي ذلك إلى التزام جاد من جانبنا لكي نجعل هذه المعرفة جزءا من منظورنا الشخصي.
لا تنطبق هذه العملية على تنمية القدرات الفكرية فحسب، وإنما تنطبق أيضا على تنمية صفاتنا الوجدانية، مثل الرأفة. فمن خلال التفكير النقدي ندرك قيمة الرأفة. ويمكن لهذا أن يؤدي بدوره إلى تقدير عميق للفضيلة نفسها. ويؤدي هذا التقدير للفضيلة بعد ذلك إلى الالتزام بتنمية الرأفة داخل أنفسنا، فيؤدي ذلك إلى الممارسة الفعلية. بعبارة أخرى، فإن الوعي بالفوائد يؤدي إلى الاقتناع بأن الفضيلة أو الصفة تستحق عناء ممارستها، وتقودنا الممارسة إلى تحقيق هذه الفضيلة التي بدأنا بالتفكر فيها، أو تجسيدها. (2) أشكال التنمية العقلية
تؤكد جميع التقاليد الدينية الكبرى أهمية تنمية الحياة الداخلية للفرد، والعديد من التقنيات التي تذكرها تقاليدي الدينية موجودة كذلك بشكل أو بآخر في تقاليد أديان أخرى. فعلى وجه الخصوص، هناك العديد من أوجه التشابه بين ممارسات التدريب الذهني المختلفة المستخدمة في مختلف التقاليد التأملية الهندية. وتوجد مساحات كبيرة مشتركة مع التقاليد الروحية الأخرى كذلك. مؤخرا على سبيل المثال، حضرت خطابا غنيا بالمعلومات وممتعا للغاية عن الصلاة التأملية قدمه راهب كرملي مسيحي أشار إلى بعض أوجه التشابه المدهشة بين كل من الأساليب المسيحية والبوذية.
بالرغم من هذا، ومع أوجه الصلة الكثيرة التي تجمع بين التأمل أو التنمية العقلية والدين، فما من سبب يحول دون ممارستها في سياق علماني بالكامل. فبالرغم من كل شيء، لا يستلزم الانضباط العقلي نفسه أي التزام ديني. كل ما يتطلبه الأمر هو إدراك أن تنمية عقل أهدأ وأصفى هو مسعى جدير بالجهد، وتفهم أن القيام بذلك سيعود بالنفع علينا وعلى الآخرين. فيما يتعلق بممارستي اليومية، فإنني إضافة إلى بعض الممارسات الدينية والتعبدية المحددة، أمارس نوعين رئيسيين من التنمية العقلية: التأمل «الاستطرادي» أو «التحليلي»، والتأمل «الاستيعابي». يعد الأول نوعا من العمليات التحليلية التي ينخرط المتأمل من خلالها في سلسلة من التأملات، بينما يتضمن الثاني التركيز على موضوع أو هدف محدد وانشغال العقل به، مثل التأمل بعمق في استنتاج ما. وأنا أجد أن الجمع بين الأسلوبين مفيد للغاية.
من الطرق التي تساعد على فهم الأشكال المختلفة للتنمية العقلية، تناول كل ممارسة من منظور هدفها. يوجد على سبيل المثال، الممارسة التي تتمثل في «تحديد هدف»، كما هو الحال عندما يتخذ المرء، مثلا، المساواة الأساسية بين جميع الكائنات هدفا لتأمل عميق. وتوجد أيضا الممارسة التأملية التي تتمثل في «تنمية الصفات الذهنية الإيجابية». في هذا النوع من التأمل، لا تعد الصفات على غرار الرأفة والحنان الناشئ عن الحب، أهدافا للممارسة. بدلا من ذلك، يسعى الشخص إلى تنمية هذه الصفات داخل قلبه. يتوافق أول هذين النهجين مع تنمية الحالات الذهنية التي تميل بدرجة أكبر إلى الإدراك، مثل الفهم، بينما يتوافق الثاني مع تطوير الحالات الذهنية التي تميل بدرجة أكبر إلى الوجدان، مثل الرأفة. يمكننا الإشارة إلى العملية الأولى باعتبارها «تربية لعقولنا»، والإشارة إلى الثانية باعتبارها «تربية لقلوبنا».
ولأننا نعيش في عصر يمكن القيام فيه بالكثير بضغطة زر، فقد يتوقع بعض منا أن يرى تغيرا فوريا في مجال تنمية العقل كذلك. قد نفترض أن التحول الداخلي ليس سوى مسألة الحصول على الصيغة الصحيحة أو تلاوة الترانيم الصحيحة. وهذا خطأ بالطبع. ذلك أن تنمية العقل تستغرق وقتا وجهدا، وتستلزم العمل الجاد والتفاني المستمر. (3) التعامل مع التسويف
بالنسبة إلى المبتدئين، فإن الشرط الأول لتنمية العقل هو الالتزام الجاد بالممارسة. فمن دون هذا الالتزام، من غير المحتمل أن يشرع الشخص في الأمر على الإطلاق! أحيانا أحكي قصة تتعلق بمشكلة التسويف. ذات مرة، وعد لاما طلابه، تشجيعا لهم، بأنه سيأخذهم في نزهة في يوم من الأيام. كان لهذا الحافز الأثر المأمول، واجتهد الرهبان الشباب في دراساتهم بكل حماس. لكن النزهة الموعودة لم تتحقق. بعد مرور بعض الوقت، ذكر الطالب الأصغر المعلم بوعده؛ إذ أبى التخلي عن احتمالية أخذ يوم عطلة. رد اللاما قائلا إنه مشغول للغاية في الوقت الحالي، ولذلك سيتعين تأجيل العطلة بعض الوقت. مر وقت طويل، وأفسح الصيف الطريق للخريف. مرة أخرى، ذكر الطالب اللاما قائلا: «متى سنذهب في هذه النزهة المزعومة؟» أجاب اللاما مرة أخرى، قائلا: «ليس الآن، أنا مشغول جدا بالفعل.» لاحظ اللاما ذات يوم اضطرابا بين الطلاب. فسأل: «ماذا يجري؟» كانت هناك جثة تنقل خارج الدير. وأجاب الطالب الأصغر: «حسنا، ذلك الرجل المسكين هناك ذاهب في نزهة!»
المغزى من هذه القصة أننا إذا لم نخصص للأشياء التي نقول لأنفسنا والآخرين إننا سنقوم بها، ما يلائمها من وقت والتزام، فستكون لدينا دائما التزامات أخرى واهتمامات أكثر إلحاحا، بينما قد يحل الموت في أي وقت. (4) التخطيط لممارستنا
في البداية، يجب أن أدق ناقوس الإنذار. فمثلما سيلاحظ المتأمل المبتدئ، العقل كالحصان البري الجامح. فعلى غرار الحصان البري، يستغرق العقل وقتا طويلا قبل أن يهدأ ويطيع الأوامر، إضافة إلى عامل التعود على الشخص الذي يرغب في ترويضه. وبالمثل، فإن الفوائد الحقيقية للتأمل لن تظهر إلا مع المثابرة اللطيفة على مدار فترة ممتدة. لا بأس بالطبع في تخصيص بضعة أيام فقط لتجربة برنامج قصير للتدريب العقلي، لكن من الخطأ الحكم على النتائج قبل أن تعطي للأمر فرصة حقيقية. قد يستغرق الأمر شهورا، وحتى سنوات، لتحقيق فوائده الكاملة.
فيما يتعلق بمواصفات الممارسة، فالصباح الباكر هو أفضل وقت في اليوم بصفة عامة. في ذلك الوقت، يكون العقل في أوج نشاطه وصفائه. ومع ذلك، من المهم أن تتذكر أنك إذا أردت الممارسة جيدا في الصباح الباكر، فإنك تحتاج أن تنال قسطا وافرا من النوم الجيد في الليلة السابقة. بالنسبة إلي، علي الاعتراف بأنني محظوظ للغاية فيما يتعلق بالنوم. على الرغم من استيقاظي كل صباح في حوالي الساعة الثالثة والنصف صباحا، فأنا أحرص على نيل ثماني ساعات أو تسع من النوم العميق. قد يكون القيام بهذا صعبا على كثير من الناس. إذا كان هناك أطفال صغار في المنزل مثلا، فقد لا يكون من الممكن التأمل في الساعات المبكرة من اليوم. إذا كان هذا هو الحال، فمن الأفضل إيجاد وقت آخر للممارسة، ويفضل أن يكون ذلك بعد غفوة قصيرة أو عندما يكون الأطفال خارج المنزل. يجب أن أشير أيضا إلى أن العقل سيميل إلى التكاسل بعض الشيء إذا أكلت كثيرا قبل الممارسة. فالخيار الأمثل ألا تأكل كثيرا في المساء إذا كنت ترجو ممارسة جيدة في صباح اليوم التالي.
أما عن مقدار الوقت الواجب تخصيصه للتأمل؛ ففي المراحل الأولى يكون من عشر دقائق إلى خمس عشرة دقيقة في كل جلسة كافيا تماما. حقيقة الأمر أن وضع طموحات متواضعة أفضل من البدء في برنامج غير مستدام سيحبطك على الأرجح ولن يساعدك على ترسيخ عادة ما. من المفيد أيضا أن تخطط للممارسة لبضع دقائق على مدار عدة مرات في اليوم إضافة إلى الجلسة الرئيسية. فمثلما تحافظ على اشتعال النيران بتأجيجها بين الحين والآخر، يمكنك الحفاظ على استمرارية تأملك من خلال «الإضافة إليه» بين الحين والآخر كي لا يتلاشى ما اكتسبته سابقا بالكامل بحلول الوقت الذي تبدأ فيه الجلسة الكاملة التالية.
فيما يتعلق بمكان الممارسة، تذكر كتيبات التدريب الكلاسيكية أن الصوت مثل شوكة في العقل. ولذلك، فمن المفيد لغالبية الناس إيجاد مكان للجلوس يخلو من إزعاج الضوضاء. من الواضح أيضا أن إغلاق الهاتف قبل البدء، من الأفكار الجيدة. بالرغم من هذا، فلست أعني بذلك كله القول إن التأمل لا يمكن ممارسته بشكل أو بآخر في أي مكان، أو في أي لحظة من اليوم. وإنما أتحدث هنا عن الوضع المثالي. أنا عن نفسي أجد أن التأمل خلال السفر استغلال جيد للوقت.
وفيما يتعلق بالوضع الجسدي المناسب للتأمل، فأي وضع مريح سيفي بالغرض، لكن إذا أصبحت مرتاحا «للغاية»، فقد تنجرف إلى النعاس. ومع ذلك، قد يكون من المفيد الجلوس بالطريقة التي تسمى وضعية اللوتس؛ إذ تضع ساقيك متقاطعتين مع إراحة كل قدم على فخذ الساق المقابلة. من مزايا هذا الوضع أنه يبقيك دافئا ويحافظ على استقامة ظهرك أيضا. قد يكون الوضع غير مريح في البداية، ولا بأس في هذه الحالة من الجلوس بساقيك متقاطعتين لبعض الوقت، ولا بأس أيضا من الجلوس على كرسي إذا كان هذا الوضع صعبا أيضا. وبالمثل، فأولئك الذين يفضلون التأمل أثناء الركوع بسبب تقاليدهم الدينية، يمكنهم فعل ذلك أيضا. الأهم أن تختار الوضعية التي تجدها أقل تشتيتا للانتباه.
إذا اخترت وضعية اللوتس، يمكنك إراحة يديك عن طريق وضع ظهر اليد اليمنى على كف اليد اليسرى. دع المرفقين يستريحان دون إحكامهما، مع دفعهما قليلا أمام الجسم بحيث توجد فجوة يمكن للهواء أن يمر من خلالها. وغالبا ما يكون من المفيد الجلوس على وسادة مرفوعة قليلا من الخلف. هذا يساعد على استقامة العمود الفقري الذي يجب من الناحية المثالية، أن يظل مستقيما كالسهم، مع انحناء العنق قليلا للأسفل. إضافة إلى ذلك، فإن إبقاء طرف اللسان ملامسا لسقف الحلق يساعد على منع العطش، الذي قد ينتج عن بعض تمارين التنفس. أما الشفتان والأسنان فيمكن تركها في الوضع المعتاد. وفيما يتعلق بالعينين، يمكنك أن تكتشف بنفسك الوضع الأفضل لك. بعض الناس يجدون أن التأمل وأعينهم مفتوحة أكثر فعالية. ويجد آخرون ذلك مشتتا للغاية. بالنسبة إلى معظم الناس، عادة ما يكون إغلاق العينين بعض الشيء هو الأفضل، لكن البعض يجد أن إغلاقهما تماما مفيد بدرجة أكبر. (5) الاسترخاء وتهدئة العقل
فور أن تستقر في وضعيتك، فإن أول شيء عليك فعله هو استنشاق بعض الأنفاس العميقة. بعد ذلك، تنفس بشكل طبيعي مرة أخرى، وحاول التركيز على نفسك، مع ملاحظة الهواء وهو يدخل ويخرج من فتحتي الأنف. إن ما تحاول الوصول إليه، هو عقل في حالة حيادية، ليس إيجابيا ولا سلبيا. وبدلا من ذلك، يمكنك أن تأخذ شهيقا واحدا وزفيرا واحدا بينما تعد بصمت من واحد إلى خمسة أو سبعة، ثم تكرر العملية عدة مرات. المفيد في هذا العد الصامت هو أن تكليف العقل بأداء مهمة يقلل من احتمالية انجرافنا مع أفكار دخيلة. في كلتا الحالتين، عادة ما يكون قضاء بضع دقائق في مراقبة التنفس طريقة جيدة للوصول إلى حالة ذهنية أكثر هدوءا.
يمكننا تشبيه عملية تهدئة العقل هذه بصباغة قطعة من القماش. يمكن صبغ القماش الأبيض بلون مختلف بسهولة، ولكن من الصعب صبغ قطعة قماش ملونة بالفعل، إذا لم نكن نرغب في جعلها سوداء. بالطريقة نفسها، عندما يكون العقل مضطربا، من الصعب الحصول على نتيجة إيجابية.
في بعض الأحيان قد تجد صعوبة في التركيز على الإطلاق لأن عقلك أسير لبعض المشاعر القوية، مثل الغضب. في مثل هذه الأوقات، قد يكون من المفيد ترديد بعض الكلمات القليلة بهدوء. فيمكن لصيغة مثل «أدع عني مشاعري المؤذية»، وبالنسبة إلى المؤمنين المتدينين، يمكن لتكرار صلاة تعبدية قصيرة أو ترنيمة لعدة مرات أن يخفف من سطوة العاطفة. إذا لم ينجح هذا الأسلوب، فربما تحتاج إلى النهوض والذهاب في نزهة قصيرة قبل المحاولة مرة أخرى.
قد يحدث أحيانا لا سيما في المراحل الأولى، أن تستمر الأفكار السلبية في الرجوع إليك بعد وقت قصير. في مثل هذه الحالات، قد تجد أنك تستغرق جلسة كاملة في ممارسة تمارين لتهدئة العقل أو سكونه. ولا بأس في هذا؛ فهو فلا يزال تدريبا عقليا. ومع اكتسابك بعض الخبرة في آلية عمل العقل، ومعرفة الأساليب التي تنجح معك بشكل أفضل، ستعتاد تدريجيا على حالة ذهنية أكثر حيادية. هذا وحده تقدم جيد.
عندما تنجح في الوصول إلى حالة هادئة، ربما في غضون بضع دقائق من جلستك، يمكنك بعد ذلك البدء في العمل الفعلي لتنمية العقل.
في المراحل الأولى من تدريبك، من الأفضل أن تمارس عدة تمارين مختلفة على التوالي. في البداية، قد تجد أنه من المحال أن تحافظ على تركيز عقلك لأكثر من بضع دقائق في المرة قبل أن يبدأ في التشتت، بل ربما حتى بضع ثوان. هذا طبيعي للغاية. وحالما تدرك أنك قد أصبحت مشتتا، ما عليك سوى الرجوع بلطف إلى ما كنت تفعله قبل بدء التشتت. يجب ألا تغضب أو توبخ ذاتك عندما يحدث هذا، بل عليك أن تتحلى بالصبر وتدرك ما يفعله العقل، وبهدوء توجهه إلى الانتباه من جديد. المهم ألا تشعر بالإحباط. (6) التفكير في فوائد التدريب العقلي
من التمارين المفيدة جدا في بداية الجلسة، التفكير في فوائد الممارسة. ومن الفوائد الفورية للتدريب العقلي أن الممارسة تمنحنا فترة راحة قصيرة من مظاهر القلق والحساب والخيال التي غالبا ما تتسم بالإفراط وعادة ما تسكن عقولنا. هذا في حد ذاته هبة عظيمة. ومن الفوائد الأخرى التي يمكننا التفكير فيها، أن الممارسة طريق أكيد للوصول إلى أعلى مراتب الحكمة، حتى وإن كان هذا الطريق طويلا وبه العديد من العقبات التي يجب التغلب عليها طوال الطريق.
من الجيد أيضا قضاء بعض الوقت في التفكير فيما قد يحدث إذا أهملنا الممارسة. ثمة خطر في أن ينتهي بنا الحال كما انتهى بالراهب في قصة النزهة؛ فنصير جثة محمولة قبل أن نعرف حتى فوائد المسعى. ثمة احتمال ضعيف للغاية بأن يتمكن من لم يشارك من قبل في هذا النوع من العمل، من التعامل بفاعلية مع الأفكار والمشاعر الهدامة التي تدمر كل أمل في راحة البال إن هي استحوذت علينا.
عند التفكير بعمق في هذين الاحتمالين المتعارضين وفي مزايا أحدهما مقارنة بعيوب الآخر، فإننا نتأرجح بينهما ذهابا وإيابا. وحين نفعل ذلك، سنجد أن الفوائد تتفوق كثيرا على أي حجج تدعم عدم الممارسة. وحينذاك نتوقف بعقولنا عند هذا الاستنتاج فترة قصيرة قبل الانتقال إلى المرحلة التالية من الجلسة. (7) بعض الممارسات المنهجية (7-1) تركيز الاهتمام
من ممارسات التأمل المتعارف عليها على نحو كبير تنمية الانتباه المستدام من خلال التركيز الأحادي. في هذه الممارسة، تختار شيئا ليكون محط انتباهك. يمكن أن تختار زهرة أو لوحة أو مدارا من الضوء، ويمكن لممارسي التأمل من المتدينين اختيار شيء مقدس مثل الصليب أو صورة بوذا. على الرغم من أن وجود الشيء الفعلي أمامك قد يكون مفيدا في البداية كأداة مساعدة، فهو ليس بمحور انتباهك في نهاية المطاف. وإنما عليك أن تحاول تنمية صورة ذهنية عن الشيء فور أن تختاره، وعندما تألف الصورة جيدا، ثبتها في عين عقلك . هذه الصورة الذهنية للشيء هي ما يمثل مرساة تأملك.
بعد أن تكون قد استرخيت وهدأ عقلك، حاول أن تحافظ على تركيزك على الشيء. تخيله على بعد أربعة أقدام أمامك وفي مستوى حاجبيك. تخيل أن الشيء بارتفاع بوصتين تقريبا وأنه يشع ضوءا، فتكون صورته مشرقة وواضحة. حاول أيضا أن تتخيل أنه ثقيل. يؤدي هذا الثقل إلى منع الإثارة، بينما يمنع سطوع الشيء بدء الارتخاء.
من الأفضل عدم إغلاق العينين عند الانخراط في هذا النوع من التأمل، وإبقاؤهما مفتوحتين قليلا، والنظر إلى الأسفل. في بعض الأحيان، قد تنغلقان من تلقاء نفسيهما، ولا بأس في ذلك. لكن المهم هو ألا تكونا مغلقتين تماما أو مفتوحتين على مصراعيهما. يمكنني الإشارة هنا أيضا إلى أن الأشخاص الذين يرتدون النظارات عادة مثلي، لن يستفيدوا دائما من خلعها. فعلى الرغم من أن عدم ارتداء النظارات يقلل من احتمالية التشتت البصري، قد يساعد فقدان الوضوح البصري على التراخي أو الخمول. ويمكن لهذا أن يؤدي إلى أن تصبح ممارستنا أشبه بحلم يقظة غير موجه. إذا حدث هذا، فثمة إجراء مضاد مفيد يمكن القيام به، وهو التفكير في شيء مقبول، شيء يجعلك تشعر بالسعادة. وثمة إجراء آخر وهو التفكير في شيء منبه، حتى وإن كان يجعلك تشعر بالحزن قليلا. يمكن أيضا أن تتخيل النظر إلى الأسفل من قمة جبل حيث يمكنك الرؤية من جميع الاتجاهات دون عائق.
إذا بدأت تعاني المشكلة المعاكسة؛ التشتت بشيء تراه، فعليك بمحاولة الانسحاب بالتركيز العقلي من العينين. يمكن للجلوس أمام حائط فارغ أن يكون مفيدا في مثل هذه الحالات.
عندما يكون الشيء الذي تتخيله مستقرا في عين عقلك، ربما بعد عدة أسابيع أو شهور من الممارسة المستمرة، حاول حينئذ فحص العقل نفسه أثناء تركيزه على الشيء موضع الرؤية. في هذه الحالة، تحاول تركيز العقل مع فحصه في الوقت نفسه، وكأنك تراقبه من إحدى الزوايا، كي تضمن عدم السماح له بالاسترخاء سهوا. عندما يصبح عقلك مسترخيا للغاية، قد يصبح النوم غير بعيد عنك! لكن عندما تنجح في تكوين صورة ذهنية قوية وواضحة، يمكنك أن تبدأ في تعويد نفسك على نوع التركيز الذي لا تختبره في الحياة العادية إلا عندما تحاول حل مشكلة ذهنية شديدة الصعوبة. الفكرة هنا هي أننا عندما نتعلم التركيز بعقلنا حقا، يغدو ما يحدث شبيها بتدفق المياه عبر محطة الطاقة الكهرومائية لتوليد الطاقة الهائلة المطلوبة لتشغيل التوربينات، وحينها تستطيع استخدام القوة الكاملة لعقلك للتركيز على صفات مثل الرأفة، والصبر، والتسامح، والعفو.
حتى بعد تحقيق بعض القدرة في الحفاظ على التركيز، فمن الحتمي أن تجد أنك تفقد الانتباه من وقت لآخر؛ إذ يبتعد عقلك عن الشيء، إما بسبب أحداث خارجية أو بسبب عمليات التفكير الداخلي. عندما تلاحظ أن عقلك قد ضل بعيدا، فلتدرك هذا بوعي وتعد تركيزه على الشيء برفق مرة أخرى. وإذا لزم الأمر، فلتنعش تصورك للشيء بين الحين والآخر؛ كي تستعيد صورتك وضوحها. ثمة صفتان أساسيتان في هذا النوع من التأمل؛ الوضوح الذهني والاستقرار. يساعد الوضوح الذهني في الحفاظ على تركيزك. ويساعد الاستقرار في ضمان الوضوح من خلال مراقبة ما إذا كان انتباهك لا يزال نابضا بالحياة أم لا. وللمساعدة في ضمان وجود هاتين الصفتين باستمرار، تحتاج إلى تطوير قدرتين مهمتين ثم ممارستهما، وتتمثل هاتان الصفتان في اليقظة والوعي الاستبطاني. من خلال الممارسة المستمرة لهاتين القدرتين، يمكنك أن تتعلم تدريجيا كيفية تدريب تركيزك حتى تستطيع الحفاظ على انتباهك فترة زمنية طويلة.
يمكن تلخيص ما سبق إذن فيما يلي: في جلسة تأمل منهجية نموذجية، نبدأ بتهدئة عقلنا بالتنفس. بعد ذلك نختار شيئا للتأمل فيه وتركيز انتباهنا عليه، وبين الحين والآخر نراقب ما إذا كان انتباهنا قد تشتت أم لا. وعندما نلاحظ شرود عقلنا، نعيده بلطف إلى التركيز على الشيء موضع التأمل ونستمر في العملية. وأخيرا، عندما نرغب في إنهاء الجلسة، يمكننا القيام ببعض تمارين التنفس العميق مرة أخرى حتى ننهيها في حالة استرخاء ذهني. (7-2) الوعي باللحظة الراهنة
بعد استرخاء عقلك بدرجة كبيرة من خلال بعض أشكال تمارين التنفس، يكون من الممارسات المفيدة الأخرى أن تحاول إبقاء عقلك في حالته الطبيعية المتمثلة في الوعي الأساسي، إن جاز التعبير، أو ما يمكننا أن نطلق عليه «وعي اللحظة الراهنة». عندما تبدأ، من المهم أن تستحضر نية قوية لعدم السماح لعقلك بالانجراف بالأفكار إلى ما قد يحدث في المستقبل أو إلى ذكريات حدثت في الماضي. بدلا من ذلك، اجعل نيتك هي تركيز عقلك على اللحظة الراهنة فحسب، والحفاظ على هذا التركيز أطول فترة ممكنة. من الجيد عند القيام بهذه الممارسة، الجلوس إذا أمكن أمام جدار ليس به لون أو نقش لافت للنظر. وبعد عدة أنفاس عميقة، تريح العقل وتبدأ في الملاحظة.
إن القيام بهذا صعب في البداية في واقع الأمر. ففي حياتنا اليومية، تهيمن على عالمنا الذهني الحالات الموجهة بالأهداف سواء أكانت في شكل تجارب حسية أو في شكل أفكار وذكريات. نادرا ما نختبر حالة لا ترتبط بمحتوى محدد وتنتمي إلى حالة الوعي الطبيعية للعقل فحسب. ولذا، عندما تنخرط في البداية في هذا التأمل، ستجد أن عقلك ينجرف، وتجد الأفكار والصور تتدفق عبر وعيك المدرك، أو تجد أن ثمة ذكرى تنبثق من دون سبب واضح. عندما يحدث هذا، لا تنهمك في طاقة هذه الأفكار والصور بمحاولة قمعها أو تعزيزها. فقط راقبها ودعها تمر كأنها غيوم تظهر في السماء ثم تتوارى عن البصر، أو فقاعات تتكون في المياه وتتلاشى مرة أخرى. بمرور الوقت، ستبدأ في إدراك ومضات من الحالة الأساسية للوعي في عقلك، أو لما يمكن تسميته «إشراقة مجردة». وبينما تتقدم على هذا الطريق، ستشعر بين الحين والآخر في فترات قصيرة بما يشبه الغياب أو الفراغ لا يكون لعقلك فيها محتوى معين. وستكون نجاحاتك الأولى في هذا سريعة الزوال. ولكن مع المثابرة على مدى فترة طويلة، يمكن لما بدأ ومضة فحسب أن يزيد تدريجيا، ويمكنك أن تبدأ في فهم أن العقل مثل المرآة، أو الماء الصافي، حيث تظهر الصور وتختفي دون التأثير على الوسط الذي تظهر فيه.
من الفوائد المهمة لهذه الممارسة تلك المهارة التي تكتسبها؛ إذ تصبح قادرا على ملاحظة أفكارك دون الانهماك فيها. سوف تتعلم رؤية أفكارك على حقيقتها بصفتها بنى افتراضية في عقلك، وكأنك متفرج منفصل عنها. إن الكثير من مشكلاتنا ينشأ لأننا، في حالتنا البسيطة غير المدربة، نخلط بين أفكارنا وبين الواقع الفعلي. إننا نتمسك بمحتوى أفكارنا كما لو كانت حقيقية ونبني إدراكنا للواقع بالكامل واستجابتنا له بناء عليها. ونحن إذ نقوم بذلك نربط أنفسنا بقوة بعالم هو في الأساس من ابتكارنا الخاص ونصبح محاصرين فيه، كقطعة حبل تشابكت وصارت مليئة بالعقد. (7-3) التدريب على الرأفة والحنان الناشئ عن الحب
تتمثل إحدى الفئات الأخرى من الممارسات المفيدة للغاية في تنمية الصفات الذهنية الإيجابية، مثل الرأفة والحنان الناشئ عن الحب. وهذه الأنواع من التمارين تستخدم عمليات التفكير المتعمد. مرة أخرى، نبدأ بتمرين تنفس أولي لإراحة العقل وتهدئته. ولا نبدأ في الممارسة الفعلية إلا بعد هذا التحضير.
تفيد هذه التمارين أيضا بصورة خاصة في المواقف التي تجد فيها صعوبة بشأن توجهك أو مشاعرك تجاه شخص يمثل لك بعض المشكلات. أولا، استحضر هذا الشخص في ذهنك، واستدع له صورة حية حتى تكاد أن تشعر بوجوده. بعد ذلك، ابدأ في تأمل حقيقة أنه هو أيضا لديه آمال وأحلام، وأنه يشعر بالسعادة عندما تسير الأمور على ما يرام، وبالحزن عندما لا يحدث ذلك. في هذا السياق، لا يختلف هذا الشخص الآخر عنك مثقال ذرة. إنه مثلك تماما، يرغب في تحقيق السعادة ولا يريد أن يشعر بالمعاناة.
بعد إدراك هذا المسعى الأساسي المشترك بينكما، حاول أن تشعر بالتواصل مع الشخص وتنمي الرغبة في أن يحقق السعادة. قد يكون من المفيد أن تردد رغبتك بالكلمات في صمت، بأن تقول شيئا مثل «أتمنى ألا تتجرع شيئا من المعاناة وأسبابها. أتمنى أن تنعم بالسعادة والسلام.» بعد ذلك، استقر بعقلك في هذه الحالة من الرأفة. من بين نوعي ممارسة التنمية العقلية المذكورتين سابقا؛ الاستطرادية والاستيعابية، فإن هذه الطريقة في تنمية الرأفة تتضمن في المقام الأول عملية استطرادية، لكن من الجيد أيضا أن نستقر بالعقل بين الحين والآخر في حالة من الاستيعاب، وذلك شبيه إلى حد ما بإيضاح نقطة حاسمة في سياق نقاش ما.
ونظرا لأنني ناقشت موضوع الرأفة بالفعل بشيء من التفصيل، فلن أناقشه هنا مجددا. ذلك أن الكثير من النقاط الموضحة سابقا يمكن إدخالها في عملية التنمية المتعمدة للرأفة. وهذا الجمع بين الطرق؛ أي بين التدريب العقلي الاستطرادي والتدريب العقلي الاستيعابي، مفيد بالقدر نفسه أيضا في تنمية الصفات الداخلية الأخرى، مثل الصبر أو التحمل. (7-4) تنمية الاتزان
عند الإشارة إلى حالة الاتزان، من المهم ألا نخلط بينها وبين اللامبالاة. إنما يمثل الاتزان حالة ذهنية يتمكن المرء فيها من تفهم الآخرين وتقديرهم على نحو خال من التحيز المتجذر في المشاعر المؤذية المتمثلة في فرط الانجذاب أو النفور.
تتخذ ممارسة الاتزان شكلين أساسيين. يمكن تشبيه أحدهما بتسوية تربة الحديقة كي تنمو الأزهار التي نزرعها متساوية وبصحة جيدة. يتمثل هدف هذا الشكل من الممارسة في كبح نزعتنا المعتادة لتحديد تفاعلاتنا مع الآخرين بناء على فئات ذات مرجعية ذاتية، مثل الأصدقاء والأعداء والغرباء. أما الممارسة الثانية، فتعنى بتطوير إدراك حدسي، إن جاز التعبير، للمساواة الأساسية بين الذات والآخرين بصفتهم بشرا يطمحون إلى تحقيق السعادة ويرغبون في تجنب المعاناة.
في أولى هاتين الممارستين، نستخدم عمليات التفكير الاستطرادي. فعلى الرغم من أنه من الطبيعي أن نشعر بالقرب من أحبائنا، وبالمشاعر السلبية تجاه أولئك الذين يتمنون لنا الأذى، وباللامبالاة تجاه الغرباء، غالبا ما نفتعل المشكلات والمعاناة غير الضرورية، لأنفسنا وللآخرين، من خلال التشبث المفرط بهذه الفئات لأسباب ذاتية فحسب. ومثلما ناقشنا سابقا، هذا هو أساس نزعتنا لفهم الآخرين من منطلق «نحن» و«هم». ولهذا فإن تنمية الاتزان فيما يتعلق بالآخرين مفيد للغاية، لا سيما كوسيلة لمساعدتنا على أن نعيش حياة أخلاقية.
للقيام بهذا، مرة أخرى تبدأ بالاسترخاء وتهدئة العقل من خلال تمرين التنفس ثم تواصل على النحو التالي. استحضر صورة ذهنية لمجموعة صغيرة من الأشخاص الذين تحبهم، مثل أصدقائك المقربين وأقاربك. تخيل هذه الصورة بأكبر قدر ممكن من التفاصيل وبأكبر درجة تقارب الحقيقة. بعد ذلك تخيل بجانبها صورة لمجموعة من الأشخاص الذين تشعر تجاههم باللامبالاة، مثل الأشخاص الذين تراهم في العمل أو التسوق بالخارج لكنك لا تعرفهم جيدا. ومرة أخرى، حاول أن تجعل هذه الصورة على أكبر درجة ممكنة من الواقعية والتفصيل. وأخيرا، استحضر صورة ثالثة ستكون هذه المرة لمجموعة من الأشخاص الذين لا تحبهم، أو الذين تكون في صراع معهم، أو الذين تختلف مع آرائهم بشدة، ومرة أخرى تخيلها بأكبر قدر ممكن من الوضوح والتفصيل.
بعد بناء صور ذهنية لهذه المجموعات الثلاث من الأشخاص في عقلك، اسمح لردود أفعالك العادية تجاههم بالظهور. لاحظ أفكارك ومشاعرك تجاه كل مجموعة تلو الأخرى. ستجد أن نزعتك التلقائية هي أن تشعر تجاه المجموعة الأولى بالتعلق، وتجاه المجموعة الثانية باللامبالاة، وتجاه المجموعة الثالثة بالعداء. حين تدرك هذا، تنتقل بعد ذلك إلى استجواب عقلك والنظر في كيفية تأثير كل من هذه الاستجابات الثلاث عليك. سوف تجد أن مشاعرك تجاه أعضاء المجموعة الأولى سارة، وتلهمك ثقة معينة وقوة تقترن بالرغبة في تخفيف معاناتهم أو منعها. وستلاحظ أن مشاعرك تجاه المجموعة الثانية لا تثيرك ولا تلهمك بأفكار معينة للاهتمام بهم على الإطلاق. أما المجموعة الثالثة، فستجد أن مشاعرك تجاهها تحفز عقلك في اتجاهات سلبية.
الخطوة التالية هي الانخراط في التأمل باستخدام قدرتك النقدية. فالأشخاص الذين نعتبرهم اليوم من أعدائنا ربما لا يظلون كذلك، وهذا ينطبق أيضا على أصدقائنا. ثم إن مشاعرنا تجاه الأصدقاء، مثل التعلق، قد تسبب لنا أحيانا المشكلات، وقد تفيدنا تفاعلاتنا مع الأعداء في أحيان أخرى؛ إذ يمكن أن تجعلنا أقوى وأكثر انتباها. ربما يقودك التأمل في مثل هذه التعقيدات إلى التفكير في عدم جدوى المغالاة في الارتباط بالآخرين، سواء أكانوا أعضاء في المجموعة الثالثة أم حتى في الأولى. فور أن ترى أن هذه الطريقة في الارتباط بالآخرين تعيق قدرتك على تنمية حسن النية تجاههم، وتدرك تأثيرها السلبي على راحة بالك، تحاول بعد ذلك أن تخفف من حدة مشاعرك المتطرفة. مع مرور الوقت، يصبح الهدف أن تكون قادرا على التواصل مع الآخرين، وليس بصفتهم أصدقاء أو أعداء تبعا لتصنيفك التقسيمي لهم، بل بصفتهم إخوة لك في الإنسانية تدرك المساواة الأساسية بينك وبينهم.
أما بالنسبة إلى الشكل الثاني من ممارسة الاتزان، فقد ناقشت العديد من نقاطه بالفعل في الفصل الثاني الذي يتحدث عن إنسانيتنا المشتركة، ويمكن دمجها أيضا في سياق الحديث عن عملية التنمية العقلية هنا. تتمثل النقاط الرئيسية في حقيقتين بسيطتين هما؛ مثلما أنني شخصيا لدي رغبة غريزية ومشروعة في تحقيق السعادة وتجنب المعاناة فالآخرون أيضا كذلك، ومثلما أن لدي الحق في تحقيق جميع هذه التطلعات الفطرية فهم أيضا يتمتعون بالحق نفسه. عند التفكير في هاتين النقطتين، يمكننا بعد ذلك أن نسأل أنفسنا: على أي أساس نميز بقوة بيننا وبين الآخرين؟ إذا مارسنا هذا التمرين مرارا وتكرارا، لا في جلسة واحدة أو جلستين فحسب، بل على مدار أسابيع وشهور وحتى سنوات، فسنجد تدريجيا أننا قادرون على توليد اتزان داخلي حقيقي قائم على أساس الإدراك العميق للتطلع البشري المشترك والفطري إلى السعادة، وكراهية المعاناة. (7-5) الابتهاج بنماذج الآخرين
من التمارين الأخرى التي يمكن أن تكون مفيدة للغاية في تنمية الحالات الذهنية النافعة، ممارسة استطرادية تتخذ من النموذج الجيد لشخص نكن له إعجابا كبيرا موضوعا لها. وهذه الممارسة شبيهة في بعض النواحي باتخاذنا بعض الشخصيات قدوة نستلهم بها. بالنسبة إلى من ينتمون إلى خلفية علمانية، ربما تكون هذه القدوة شخصا من الماضي أو الحاضر ونعجب به لرحمته وإيثاره على وجه الخصوص؛ ربما طبيب أو ممرض أو مدرس أو عالم. أما المؤمنون بالأديان، فربما يكون القدوة هو مؤسس التقليد الديني أو قديسا من تاريخه. فمن خلال التفكير في حياة الشخص الذي نعجب به، والتأمل في الكيفية التي يعيش بها لنفسه أو للآخرين، وكيف أن سلوكه يتسم بالرأفة أو كان يتسم بها، نألف النموذج الذي يمثله.
أحد أهداف هذا النوع من التدريب الذهني التحليلي هو الإدراك المباشر لصفة معينة. في هذه الحالة، نحلل ما يحفز الناس على تكريس أنفسهم للآخرين. وبعد تحديد هذه الصفة، نركز عليها، ونتوقف بعقولنا عندها؛ إذ يعد ذلك طريقة للارتباط بالصفة من خلال التبصر الفطري المباشر في دافع الرأفة الذي هو الهدف النهائي لهذا التمرين. بعبارة أخرى، تتمثل فكرة هذا التمرين في تدريب أنفسنا على التصرف في حياتنا اليومية، على النحو الذي يتصرف به الشخص الذي نعجب به، ومن ثم فعندما ندرك على سبيل المثال، معاناة الآخرين، نشعر بالرغبة في الاستجابة على النحو الذي كان هذا الشخص سيستجيب به. وبهذا؛ فإننا نسعى أولا إلى تغيير موقفنا تجاه الآخرين ثم إلى تغيير سلوكنا. وهذا في نهاية المطاف، هو المقصد من ممارستنا؛ تشكيل أفعالنا بوعي والتأثير فيها. وإذا لم يحدث ذلك، فلا جدوى إذن من الممارسة. (7-6) التعامل مع المواقف والمشاعر المؤذية
من المجالات التي يمكن أن يكون للتدريب العقلي الاستطرادي أو التحليلي فيها فاعلية كبيرة، التعامل مع المشاعر والمواقف المؤذية. ومن أفضل المراحل التي يمكنك البدء بها، اختيار حالة ذهنية مؤذية هي السائدة لديك على المستوى الشخصي. فجميعنا يمتلك كل هذه الأنواع من المشاعر والمواقف المؤذية، لكن الأفراد يختلفون في الأنواع المحددة التي تهيمن عليهم على المستوى الشخصي. بعضنا أكثر عرضة للمشاعر المؤذية التي تنتمي إلى عائلة الغضب، مثل الانزعاج والاضطراب والعدائية وحدة المزاج. وبعضنا الآخر أكثر عرضة للحسد والغيرة وعدم التسامح مع نجاح الآخرين، أو للمشاعر المؤذية التي تنتمي إلى عائلة التعلق، مثل الرغبة والتوق الشديدين والجشع والشهوة. بينما يعاني بعض الأفراد مشكلة معاكسة، وهي اللامبالاة أو عدم القدرة على التواصل مع الآخرين.
بعد اختيار الشعور أو الموقف المؤذي الذي ستتعامل معه أولا، تبدأ كما هو موضح سابقا، في إراحة العقل والتهدئة من خلال تمارين التنفس. وحينها تصبح مستعدا لبدء الممارسة الفعلية.
أولا، تأمل التأثيرات الهدامة للحالة الذهنية التي اخترتها. عند التعامل مع الغضب على سبيل المثال، يمكنك التأمل في أنه يربك هدوءك الذهني على الفور، وأنه أيضا يخلق مزاجا سلبيا يفسد الأجواء من حولك. فكر أيضا في أنك في خضم الغضب تميل إلى قول أشياء قاسية حتى لمن تهتم بأمرهم حقا، وأن هذا بوجه عام يؤثر سلبا على تفاعلاتك مع الآخرين. يجب أن يكون تأمل الطبيعة الهدامة لهذه الحالات الذهنية عميقا بما يكفي كي يتسم موقفك الأساسي تجاه مثل هذه الحالات مع مرور الوقت بالحذر واليقظة. قال أحد المتأملين التبتيين المشهورين ذات مرة: «لدي مهمة واحدة فقط علي إنجازها؛ أن أقف حارسا عند مدخل عقلي. عندما تترقبني المشاعر المؤذية، أظل مترقبا لها، وعندما تسكن، أسكن.»
حالما تقتنع بالطبيعة الهدامة لهذه المشاعر المؤذية، تنتقل بعد ذلك إلى المرحلة التالية من التأمل. تنطوي هذه المرحلة على تطوير وعي أكبر بالحالات الذهنية نفسها، لا سيما بدايتها. وعندما تعي ما تشعر به عندما تظهر هذه المشاعر؛ مثل ما تجعلك تشعر به ماديا على مستوى جسدك، وما تجعلك تشعر به على المستوى الذاتي أو النفسي، يمكنك أن تتعلم التعرف عليها قبل أن يبدأ تأثيرها المدمر. كلما زادت دقتك في التعرف على الخصائص المحددة المرتبطة بظهور مشاعر بعينها، زادت فرصتك في استحضار الوعي واليقظة الذهنية إلى العملية، ومن ثم التدخل مبكرا في سلسلة السببية.
أما المرحلة الثالثة من هذه الممارسة للتنمية العقلية للتعامل مع الحالات الذهنية المؤذية، فهي استخدام الترياق المناسب لكل من الحالات: على سبيل المثال، التحمل لمواجهة الغضب، والحنان الناشئ عن الحب لمواجهة الكراهية، والتفكير في نواقص الشيء لمواجهة الجشع أو الرغبة الملحة في الحصول عليه. ويمكن لهذه الطريقة أن تكون فعالة إلى حد كبير في انحسار الحالات الذهنية المؤذية.
ومثلما أشرت سابقا، من المهم في جميع المراحل الثلاث لهذه الممارسة، أن ندمج العمليات الاستطرادية والتحليلية مع التوقف بالعقل لاستيعاب نقطة واحدة من النقاط الحاسمة. وهذا المزيج يسمح لتأثيرات الممارسة بالتغلغل إلى عقلك بعمق، حتى يبدأ في إحداث تأثير حقيقي في حياتك اليومية. (8) عقبات أمام ممارسة التنمية العقلية الجيدة
من المتوقع تماما في البداية أن يواجه ممارس هذه الأنواع من التهذيب العقلي العديد من المحن والصعوبات على طول الطريق. القليل فقط من المهارات المفيدة هي التي يمكن تحقيقها دون بذل قدر كبير من الجهد على مدار فترة طويلة من الزمن. لكن التحدي في عملية التنمية العقلية أكبر؛ فليس الهدف من مسعانا هو وحده العامل الذهني، بل إن الوسط الذي نمارس فيه والمجال الذي تحدث فيه الممارسة كلاهما ذهنيان أيضا. لذلك، فحتى الممارسون المتقدمون يواجهون العقبات.
إن جميع الممارسين المبتدئين منهم والخبراء يواجهون، إضافة إلى المشكلات العامة المتعلقة بالدافع، نوعين أساسيين من العقبات التي تحول دون الممارسة الجيدة. يتمثل أحد هذين النوعين في التشتت، بينما يتمثل النوع الآخر في التراخي أو ما يمكن أن نطلق عليه «الغرق العقلي». من المرجح أن يواجه المبتدئ التشتت أولا؛ تشتت العقل بينما يتتبع الأفكار أو الخواطر أو المشاعر؛ مما يجعله في حالة إثارة أو اضطراب ويمنعه من الوصول إلى الاستقرار. وقد يتخذ التشتت شكل الإثارة الواضحة التي يضيع فيها موضوع الممارسة تماما. وقد يتخذ شكلا ألطف؛ فلا نفقد موضوع الممارسة بالكامل، لكن أحد جوانب العقل يظل مشغولا بشيء آخر؛ مما يمنعنا من تحقيق التركيز المناسب.
تعتمد كيفية التغلب على هذه العقبات التي تحول دون الممارسة الجيدة على تجربتنا الفردية. في بعض الأحيان سيكون من الكافي أن نتذكر هدفنا من القيام بهذه التنمية العقلية. وفي أوقات أخرى، قد نضطر إلى التوقف عن كل ما نحاول القيام به وننتقل إلى تمرين آخر. ويمكن أيضا أن نقوم بتمرين تنفس قصير، أو نكرر بضع كلمات مناسبة للموقف. قد تكفي بضع كلمات بسيطة كأن نقول: «علي أن أترك ما يشتت انتباهي»، مع تكرار العبارة ببطء وتأن عدة مرات. وفي بعض الأحيان الأخرى، قد نضطر إلى قطع الجلسة والتجول في الغرفة بضع دقائق. والشيء المهم كالعادة، هو ألا تصاب بالإحباط.
تتمثل العقبة الأساسية الأخرى أمام الممارسة الناجحة في التراخي أو الغرق العقلي، وهي تحدث عندما يصبح العقل مسترخيا للغاية. ننجح في الانفصال عن انشغالاتنا المعتادة ونتمكن من تنحية المشتتات عن عقلنا، لكن لأن طاقتنا تصبح منخفضة بعد ذلك، أو لأننا لا نكون متيقظين بدرجة كافية، يغرق العقل ونصبح وكأننا «شاردون». يمكن أن تؤدي هذه التمارين العقلية إلى الاسترخاء، لكن الاسترخاء في حد ذاته ليس هو الهدف منها على الإطلاق. إنما نحتاج إلى تنمية حالة ذهنية هادئة تتسم باليقظة في الوقت ذاته، ثم الحفاظ على هذه الحالة. فالواقع أن التعود لفترات طويلة على حالة من الاسترخاء تفتقر إلى اليقظة قد يضعف حدة الذهن.
إن طريقة التغلب على التراخي تختلف من شخص لآخر، ومن جلسة إلى أخرى. قد يكون المشي السريع القصير علاجا فعالا، أو ربما قضاء بضع لحظات في تخيل ضوء ساطع. بالنسبة إلى ذوي الميول الدينية، قد يساعدهم التفكر قليلا في الصفات الفائقة لبعض الشخصيات في تقاليدهم الدينية. ثمة علاج آخر يتمثل في أن نتخيل أن وعينا ينبثق في الفضاء. ينبغي التأكيد مرة أخرى على أن العلاج الأفضل هو العلاج الذي ينجح بأكبر درجة مع الفرد. باختصار، إذا وجدت أن عقلك في حالة من الخمول، فهذا مؤشر على بدء ظهور عقبة التراخي. لمواجهة هذا، تحتاج إلى إيجاد طريقة لتحفيز حالتك الذهنية وتنشيطها. (9) مسألة التقدم
مثلما هو الحال في أي نشاط بشري، يتقدم مختلف الأفراد في ممارسة التنمية العقلية بمعدلات مختلفة ويصلون إلى مستويات مختلفة من الإنجاز في أوقات مختلفة، وفقا لسنهم، وحالتهم الجسدية، وفكرهم، وعوامل أخرى. بعض الذين يتمتعون بقدرة جيدة على الاستبطان سيتعلمون كيفية اكتشاف بداية التشتت أو التراخي بسرعة، وسيتخذون الإجراءات لمنع التطور الكامل لأي منهما. وسوف يستغرق الآخرون وقتا أطول للقيام بذلك. في كلتا الحالتين، ينبغي ألا يكون هذا سببا للفخر أو الأسى. بدلا من ذلك، متى ما ظهرت العقبات، علينا التحلي بالتواضع والسعي للتغلب عليها دون غضب. (10) البهجة في التدريب العقلي
عندما نحقق إنجازات أكبر في ممارستنا، يزداد إدراكنا تدريجيا لقابلية تدريب العقل. نتعلم أن نستبدل الأفكار والمشاعر الإيجابية بالأفكار والمشاعر السلبية، وأن نضعف من سيطرة الأفكار والمشاعر المؤذية على عقولنا. ومع ذلك، فمن المهم توضيح أن ما نناقشه هنا لا يعني «قمع» الأفكار والمشاعر السلبية. وإنما علينا أن نتعلم إدراكها على حقيقتها وأن نستبدل بها حالات ذهنية أكثر إيجابية. ونحن لا نفعل هذا لتحقيق السيادة الذاتية فحسب، بل لأن الوصول إلى هذا النوع من التحكم في عقولنا يجعلنا أكثر قدرة على إفادة الآخرين على نحو يتسم بالرأفة.
من المهم أيضا أن نراعي أنه يتعين علينا ألا نجبر أنفسنا أبدا على الممارسة. ومثلما أشرنا سابقا، سيواجه المبتدئون حتما الكثير من التشتت. ثم إن تعويد العقل على الممارسة المنهجية للتأمل يستغرق بعض الوقت. لذلك من الضروري التحلي بالصبر وعدم الشعور بالإحباط. إذا وجدنا أنفسنا مضطرين إلى المجاهدة، فقد تكون هذه إشارة إلى أنه قد حان الوقت لقطع الجلسة. ذلك أن محاولة الاستمرار في هذه الظروف لن تكون فعالة. فكلما جاهدنا، أصبح العقل أكثر إرهاقا. إذا واصلنا في ظل هذه الظروف، فسرعان ما سنبدأ في كره الممارسة. وفي النهاية، يمكن حتى لرؤية المكان الذي نجري فيه ممارستنا أن تؤدي إلى الشعور بالنفور. لذلك من المهم ألا نصل إلى هذه المرحلة. لا شك أن الانضباط العقلي هو محور التنمية العقلية وجوهرها، لكن هذا لا يعني أن تكون الممارسة عقابا. على العكس، فهي شيء يمكن الاستمتاع به. ولذا علينا أن نحاول الاستمتاع بممارستنا. وعندما ننجح في ذلك، ستساعدنا بهجتنا في التقدم بسرعة أكبر. (11) التأثير على الحياة اليومية
عندما نواجه المشكلات في حياتنا اليومية، كما يحدث لنا جميعا من وقت لآخر، يمكن لممارسة الوعي العقلي أن تساعدنا في التحلي بمنظور أكثر واقعية تجاه ما يسبب لنا المشكلات. إذا تبادلنا على سبيل المثال، كلمات قاسية مع شخص ما، كأحد أفراد العائلة أو زميل في العمل أو شخص غريب عنا تماما، فسيفيدنا تخصيص بضع دقائق من ممارستنا للتفكير في الحدث وتفحص ردود أفعالنا تجاهه. بعد ذلك، نتخيل خصمنا أمامنا، ونحاول توليد مشاعر من الامتنان تجاهه. قد يبدو هذا غريبا في البداية. لكن مثلما أشرت سابقا، فالحق أن أعداءنا هم أعظم معلمينا في جانب مهم للغاية؛ ولذا فمشاعر الامتنان هذه في الواقع ملائمة تماما. مع وضع هذه الفكرة في الاعتبار، نتخيل أننا ننحني لخصمنا. وعندما نفعل هذا مرارا وتكرارا، إذا كان موقفنا صحيحا ودافعنا نقيا، فإن الكره الذي نشعر به تجاه هذا الشخص سيتبدد تدريجيا، وسوف نتمكن من توليد مشاعر الحب والرأفة بدلا منه.
إن الغرض الأساسي من تمارين التدريب العقلي التي كنت أصفها، لا سيما من منظور الأخلاق العلمانية، هو أن نصبح بشرا أهدأ، ونتمتع بدرجة أكبر من الرأفة والفطنة. بالرغم من ذلك، يمكن لهذه التمارين أن تفيدنا في حياتنا اليومية بطرق أخرى أيضا. إحدى هذه الطرق على وجه التحديد أننا حين نحرز تقدما في الممارسة، تتشكل لدينا درجة من الاستقرار في أذهاننا فنصبح أقل عرضة للمغالاة في الإثارة أو الاكتئاب؛ ومن ثم تساعد في حمايتنا من إجهاد المرور بتقلبات الحياة على نحو حاد. هذا لا يعني أنها تخدر العقل. ما أقصده أنها تكبح جماح الإفراط. فالتدريب العقلي لا يمنعنا من اختبار الحياة بكل ما فيها، لكنه يساعدنا على أن نكون أكثر اعتدالا في ردود أفعالنا. قد يبدو هذا على أنه الطريق لحياة مملة، لكن إذا فكرنا للحظة فسنرى أن وجود عقل يتقلب في هذا الاتجاه وذاك كقارب صغير في بحر هائج الأمواج، ليس بالأمر المرضي للغاية. وليس من المفيد أيضا أن يكون الضوء في غرفتنا شديد السطوع للحظة حتى إننا لا نكاد نرى شيئا، وشديد الإظلام في اللحظة التالية حتى إننا لا نستطيع رؤية أي شيء على الإطلاق. ما نريده هو ضوء معتدل وثابت يمكننا من رؤية الأشياء من حولنا بوضوح. ولهذا؛ فعندما نطور درجة معينة من السيطرة على عقولنا نصبح أكثر قدرة على تحمل الأحداث التي تواجهنا، سواء أكانت إيجابية أم سلبية.
ومثلما أنني لا أتحدث عن تخدير العقل، فأنا لا أتحدث أيضا عن السيطرة التامة على المشاعر المؤذية. إن تحقيق هذا يستلزم قدرا كبيرا من الجهد فترة زمنية طويلة. إنما أتحدث عن هدف أكثر تواضعا يتمثل في تحقيق نوع من الاستقرار المعتاد. وتتسم مثل هذه الحالة بالتواضع الطبيعي وراحة البال الراسخة. هذه الصفات بدورها تجعل العقل أكثر طواعية في سعينا لتنمية الرأفة.
خلاصة الأمر أن الجهد المعتدل على مدى فترة طويلة من الوقت، هو أساس النجاح في ممارسة التنمية العقلية. فنحن نجلب الفشل على أنفسنا من خلال العمل المفرط في الجدية أو من خلال المحاولة فترات طويلة في البداية. إن القيام بهذا يزيد كثيرا من احتمالية أن نتوقف بعد فترة قصيرة فحسب. فما تستلزمه الممارسة الجيدة في حقيقة الأمر هو تيار مستمر من الجهد؛ نهج مستدام ومستمر قائم على التزام طويل الأجل. ولهذا؛ فإن أداء التدريبات على النحو الملائم وإن كان لفترة قصيرة، هو الطريقة الفضلى. يجب أن يكون التركيز على الجودة وليس المقدار. والأهم من ذلك كله، علينا أن نتذكر أن الغرض الأساسي من ممارسة التأمل هو أن نصبح بشرا أكثر رأفة.
خاتمة
لقد حاولت في هذا الكتاب، أن أقدم موجزا لما أرى أنه يمثل العناصر الأساسية لنهج علماني بحت للأخلاق وتعزيز القيم الإنسانية الأساسية. إنه مشروع تعهدت به منذ أن اكتشفت أنه لا يوجد دين وحيد يمكن أن يرضي الجميع. فالحق أنه يوجد الكثير جدا من الطباع الذهنية والنفسية المختلفة بين سبعة مليارات شخص من سكان كوكبنا؛ مما يحول دون إمكانية تحقيق ذلك.
إن دافعي في القيام بهذا العمل يعكس إيماني الراسخ بأنه حين يتعلم كل منا تقدير الأهمية الحاسمة للأخلاق ويجعل القيم الداخلية مثل الرأفة والصبر جزءا لا يتجزأ من نظرتنا الأساسية للحياة، فإن آثار ذلك ستكون بعيدة المدى. وكما أرجو أن أكون قد أوضحت، فإن القيام بذلك سيساعدنا على المستوى الفردي في تحقيق المزيد من السعادة ويوفر إحساسا حقيقيا بالغاية في حياتنا والمغزى منها. أما على مستوى المجتمع، فعندما يفعل المزيد منا الأمر نفسه، ستكون لدينا فرصة حقيقية لأن نتحرك باطراد في اتجاه ترسيخ ثقافة أقل تركيزا على المادة، وإيلاء اهتمام أكبر بمواردنا الروحية الداخلية بدلا من ذلك. وسوف يجني الجميع فوائد القيام بذلك.
كثيرا ما أسأل عما إذا كنت متفائلا تجاه مستقبل البشرية. وجوابي البسيط هو نعم. في أوائل القرن العشرين على سبيل المثال، كان الاعتقاد السائد أن الحل لأي نزاع متأزم لا بد أن يأتي باستخدام القوة. من حسن الحظ أن هذا الرأي لم يعد منتشرا. فاليوم قد سئم الناس في كل مكان من الحرب، وصاروا يرغبون بصدق في إيجاد طرق غير عنيفة لتسوية الخلافات. وبالمثل، كان الرأي السائد أيضا حتى وقت قريب جدا أن العلم والروحانية لا يتفق أحدهما مع الآخر، لكن اليوم مع تغلغل التطورات العلمية في طبيعة الواقع على نحو أعمق من أي وقت مضى، يتزايد الاعتراف بأن هذين المجالين من مجالات السعي الإنساني يمكن أن يكمل كل منهما الآخر، بل هما كذلك في واقع الأمر. وبالرغم من أن الكثيرين في الماضي القريب لم يكونوا يدركون تأثير السلوك البشري على البيئة، فقد صارت الحاجة إلى مراعاة تأثير أفعالنا على البيئة، لا سيما فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية، حقيقة يقبلها العالم بأكمله تقريبا. وأخيرا، بينما كانت القومية المرتكزة على أساس ارتباط المرء القوي ببلده قوة مهيمنة حتى أواخر القرن العشرين، فإن جاذبيتها تتضاءل اليوم إلى حد كبير، بفضل ترابطنا المتزايد بسبب وسائل الاتصالات والهجرة الجماعية. ونتيجة لذلك، فإن الوحدة والتكافل بين البشر يصبحان تدريجيا من المسلمات. وهذه بعض أسباب تفاؤلي.
إضافة إلى ذلك، فإنني أومن على الدوام بقوة الفرد. فعلى مدار تاريخ البشرية، ظهر العديد من التطورات العظيمة التي ساعدت في تغيير مسار الإنسانية من خلال مبادرات الأفراد. وقد بدأت كل من هذه المبادرات بتصور عالم جديد أفضل والإيمان به. سواء أكانت حملة ويليام ويلبرفورس لإلغاء تجارة الرقيق، أم حركة الحرية السلمية التي نادى بها المهاتما غاندي في الهند، أم حركة الحقوق المدنية لمارتن لوثر كينج الابن، أم حملة زميلتي جودي ويليامز الحائزة جائزة نوبل للسلام لحظر الألغام الأرضية المضادة للأفراد، فقد أتى الإلهام في جميع هذه الحالات من الأفراد. وقد كانت مجموعات من الأفراد أيضا هي التي ساعدت في إحداث تغيير دائم؛ إذ دعمت كل حملة من هذه الحملات. ونظرا لأن المجتمع نفسه ما هو إلا مجموعة من الأفراد، بشر مثلك ومثلي تماما، يترتب على ذلك أننا إذا أردنا تغيير المجتمع، فإن الأمر يتوقف على مساهمة كل فرد منا.
إن أفراد جيلي ينتمون إلى القرن العشرين الذي مضى بالفعل. خلال ذلك القرن، شهدنا نحن البشر أنواعا كثيرة من الأمور، بما في ذلك الحرب على نطاق واسع. ونتيجة للمعاناة الرهيبة التي سببها هذا، أشعر أننا أصبحنا، أنضج وأحكم بعض الشيء. حققنا أيضا في ذلك القرن الكثير من التقدم المادي. لكننا حين فعلنا ذلك ولدنا الظلم الاجتماعي والتدهور البيئي، وكلاهما أمران يتعين علينا الآن التعامل معهما. إن الأمر يعود الآن إلى شباب اليوم كي ينشئوا عالما أفضل من ذلك الذي ورثوه. والحق أن الكثير يقع على أكتافهم.
بالنظر إلى هذه الحقيقة، وأيضا إلى حقيقة أن التغير المجتمعي الفعال لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال جهود الأفراد، فيجب أن يكون تعليم الجيل القادم جزءا أساسيا من استراتيجيتنا للتعامل مع هذه المشكلات. هذا هو أحد الأسباب التي تجعلني دائما ما أحاول التواصل مع الشباب في جولاتي وقضاء بعض الوقت معهم. أملي ورغبتي أن يهتم التعليم الرسمي في يوم من الأيام بما أسميه تعليم القلب. فمثلما نسلم بالحاجة إلى اكتساب المهارة في المواد الأكاديمية الأساسية، آمل أن يأتي الوقت الذي يمكننا أن نسلم فيه بأن الأطفال سيتعلمون في مناهجهم المدرسية، الأهمية الشديدة للقيم الداخلية مثل الحب، والرأفة، والعدالة، والعفو.
إنني أتطلع إلى يوم يصبح الأطفال فيه، نتيجة لدمج مبادئ اللاعنف وحل النزاعات بالطرق السلمية في المدارس، أكثر وعيا بمشاعرهم وعواطفهم، ويشعرون بإحساس أكبر بالمسئولية تجاه أنفسهم وتجاه العالم الأوسع. ألن يكون ذلك رائعا؟
لنسع جاهدين إذن، كبارا وصغارا، لتحقيق هذا العالم الأفضل؛ لنسع جميعا لبنائه برؤية وشجاعة وتفاؤل، ولنتجرد في سعينا هذا من انتمائنا إلى شعب أو آخر، أو إيماننا بدين أو آخر، بل نسعى بصفتنا أفرادا في هذه العائلة البشرية الكبيرة التي تضم سبعة مليارات شخص. وتلك هي دعوتي المتواضعة.
في نطاق حياة الكون، لا تتعدى الحياة البشرية ومضة شديدة الضآلة. كل فرد منا زائر لهذا الكوكب: ضيف لن يمكث فيه إلا قليلا. فأي حماقة أكبر من قضاء هذا الوقت القصير في وحدة وتعاسة وصراع مع رفاقنا الزائرين؟ لا شك أنه من الأفضل كثيرا أن نستغل وقتنا القصير في السعي لعيش حياة ذات معنى، وغنية بإحساس من التواصل مع الآخرين وخدمتهم.
حتى الآن، لم يمر من القرن الحادي والعشرين سوى ما يزيد قليلا عن عقد من الزمان؛ ومن ثم فالجزء الأكبر منه لم يأت بعد. إنني آمل أن يكون هذا قرنا من السلام، قرنا من الحوار، قرنا تتسم فيه الإنسانية بقدر أكبر من الاهتمام والمسئولية والرأفة. وهذه هي دعواتي أيضا.
Page inconnue