Ce que voient les yeux
ما تراه العيون: قطع قصصية مصرية
Genres
مشى محمد بك مشية الزهو والتيه، يميل به الإعجاب بنفسه ويرنح عطفه احتقاره للناس، ومن مثل محمد بك على وجه البسيطة وهو الغني العظيم ابن الكرم والسيادة، وبيته مأوى البؤساء وملجأ الفقراء؟! وكان في ذلك اليوم مقطب الوجه عابسا ساهما، وذلك لزيارة وسيط وافاه في الصباح يطلب يد أخته الكبرى لابن أحد البيكاوات، وهل يسمح محمد بك بذلك ولأخته حصة فيما تبقى من تراث أبيه يصرف ريعها على الحفلات اليومية التي يقيمها كل ليلة في بيته هو ورفاقه الكرام، أستغفر الله، بل عبيده المخلصون؟! وصل محمد بك للسلملك وكان الوقت مساء؛ لأن البك لا يفيق من نومه إلا في الساعة السادسة، وكان من عادته النوم بعد الغذاء، ولما دخل غرفة الاستقبال وجد الجماعة في انتظاره وقد تهيئوا للقائه، فجلس بينهم وهو تائه النظر، وقد تعمد ذلك حتى لا يقال إنه يتنازل لرؤية أحدهم، ثم نادى الخادم وأمره أن يجيء بزجاجات الوسكي، وقام الخادم بما أمر به حق قيام، وتناول كل واحد قدحه وشربوا نخب البك.
وقام أحدهم واقفا، وهو شيخ سكير يناهز الستين، كان كاتبا بوزارة «ال ...» وأحيل على المعاش، ولم يساعده معاشه على اقتناء الخمر والقيام بأود أسرته، فالتجأ لمحمد بك، وليس شيء أحب لنفس محمد بك من أن يلتجئ إليه من يظهر التفاني في محبته والخضوع لآرائه والحاجة العظمى لماله وطعامه. وكان ذلك الشيخ من أصحاب النكات الظريفة المستملحة، يترقب الفرص حتى إذا حانت أرسل النكتة من فيه فتقع في قلب مناظره كما يقع السهم الصائب في ثنايا الصدر. ولم يكن في تلك الحاشية التي جمعتها يد المنكر والفساد رجل يحب الآخر؛ فكلهم متنافرو المشارب مختلفو الأميال، ولم يتحدوا إلا على كسب أموال البك، حلالا كان ذلك الكسب أم حراما. قام ذلك الشيخ وقال للبك: سيدي وولي نعمتي، هل ليدك الشريفة أن تتناول الكمنجة ...؟
ولم يمهله البك أن يتم قوله فنهره قائلا: كفى مجونا وهزرا.
اندهش الرفاق لما فاه به البك لاعتقادهم أن البك يحب من يتغنى بشهرته الواسعة في الكمنجة. اندهش الجميع وسكتوا، ولكن شيخنا السكير لم يندهش ولم يسكت، بل ابتسم ابتسام الفائز، وقال وفي صوته رنة الرجاء والاستعطاف: الناس لا تشك في هزري ومجوني، وهم أيضا لا يشكون في نبوغك وعبقريتك، فهل لسيدي أن يتنازل ويشنف آذان عبيده؟
ونظر البك للسماء مادا يده لوجهة الشيخ.
ففطن صاحبنا لما يدور في خلد البك، فمشى على أطراف أصابعه إلى أن وصل لتلك اليد الشريفة، وتناولها في يده، وقبلها مرارا وهو يرجو ويستعطف.
فقبل البك رجاءه وشنف آذان رفاقه، ولم يكن - حفظه الله - حانقا على عبده، ولكنه كان ممن إذا رجاهم أحد ودوا لو كرر الرجاء مرات عديدة. وبينما كان البك يشنف آذان رفاقه دخل عليهم رفيق آخر هللوا لقدومه وصفقوا، ولكن البك عبس في وجهه وصافحه مصافحة جفاء وغضب؛ فانقلب تهليل الجماعة إلى نفور وازدراء، واستمر البك يضرب الكمنجة ورءوس الرفاق تميل طربا إلى أن انتهى فألقى بها على الخوان، ونظر للقادم نظرة تجسم فيها البغض وقال: ما هذا الجفاء يا سعادة الباشا.
فابتسم الحضور لتقريع البك، وسكت الرجل، فقال البك: علام السكوت؟ أين كنت؟ وعلام تأخرت؟ - كانت امرأتي تلد. - لقد وضعت بإذن الشيطان كلبا.
فقهقه الحضور وتمايلوا بأجسامهم، وكانوا يضحكون إرضاء للبك، وليس شيء أقبح من وجه من يتضاحك، ولكن البك كان يتغافل عن كل ذلك تغفيلا لنفسه، وأقسم الرجل ثلاثا على صحة دعواه، فقال البك: إنك تكذب. أنت تنكر النعمة التي أسبغناها عليك. - حاشا لله أن أكون ذلك الرجل. - صه. إياك والكلام. إني أعرف أين كنت أمس.
وسكت الرجل وهو بريء لم يرتكب إثما، وهل في ذهابه لبيت ابن عم البك مرة في الشهر إثم كبير؟ ولكن البك كان من الأغنياء الذين تشبه أخلاقهم أخلاق النساء؛ فتراهم يغيرون إذا ما التجأ أحد حاشيتهم مرة في حياته إلى أحد سواهم.
Page inconnue