ثم جاءت الصناعة، وهي فحم وحديد: وظهرت المصانع التي أحالت المواد الخامة إلى أشياء مصنوعة، والفرق كبير في الثمن بين الاثنين، فإن قنطار القطن الذي يباع خاما بعشرين جنيها يباع مصنوعا منسوجا بأكثر من مئة جنيه، وطن النحاس أو الحديد أو النيكل الذي يباع بخمسين جنيها وهو خام قد يبلغ ثمنه وهو مصنوع ألف جنيه.
اعتبر صناعات الساعات في سويسرا، فإن المواد الخامة في الساعة قد لا تزيد على خمسين قرشا ولكنها، أي: الساعة، تباع بخمسة جنيهات.
هذا من ناحية الثراء في الأمم الصناعية، فإن الأوروبيين أثرياء؛ لأنهم صناعيون.
أما من ناحية الثقافة فإن العلم التجريبي يغلب عليها؛ لأن المصنع يحتاج إلى العمل للتجربة، وليس العكس، أي: ليس العلم هو الذي أوجد الصناعات، وإنما الصناعات هي التي احتاجت إلى العلم، وأرصدت العلماء للبحث، وأصبحت النظرة العلمية عامة تكافح النظرة التقليدية التي كانت سائدة في العهد الزراعي السابق.
وليس في عالمنا شيء يحرر العقل من الخرافات، ومن التفسيرات التقليدية للأشياء المادية التي هي ثمرة العلم الذي يطلب تجربة اليد إلى جانب تفكير العقل.
ومن هنا هذه المادية الأوروبية التي تغلب على تفكير الأوروبيين، هذه المادية التي هي ثمرة العلم الذي جلبته الصناعة والمصانع.
وكرامة العامل الصناعي واستقلاله، ثم أيضا حريته الفكرية ثم المساواة بين الجنسين، ثم احترام الدستور والقوانين، كل هذا من ثمرات الوسط الصناعي، وسط المدينة التي تنأى عن وخامة القرية، وسط العلم التجريبي.
ولا أنكر أن لهذا الوسط عيوبا، ولكن ما أتفهها إلى جانب هذه القوة العظمى التي يتسلط عليها الإنسان باستخدام الحديد والنار في زيادة ثرائه ورفاهيته، وامتداد ثقافته إلى النظرة الاستيعابية للكون، وأخيرا هذه الحرية، الاجتماعية والفكرية، التي لم تعرفها أمة زراعية، أي: أمة شرقية، تعيش بالزراعة. •••
وهنا سؤال:
لماذا يؤدي الوسط الريفي أو القروي إلى البلادة والاستسلام في حين يؤدي الوسط الصناعي إلى الذكاء والاستطلاع؟
Page inconnue