Martin Luther : Une très courte introduction
مارتن لوثر: مقدمة قصيرة جدا
Genres
ولما نظر لوثر إلى كيان المسيحية على أنه هش للغاية، ومعرض على الدوام لقوى الشر، رأى الخطر محدقا من كل جانب، وعزا تأثير الشيطان الخبيث إلى كل من عارضه، وبدا أنه يهدد أهدافه. فوق ذلك كان العالم مشارفا على نهايته، ولم يعد أمام ألمانيا إلا اللحظة الراهنة للتشبث بالإنجيل الذي كان أملها الوحيد. بعبارة أخرى عد لوثر كل ما هدد أهدافه رفضا للسماح لله بأن ينقذ ما تبقى من المؤمنين ؛ من ثم سيطرت النزاعات بينه وبين خصومه على حياته، وصارت مرتبطة بفكرة قرب نهاية العالم. فلما تأمل لوثر حياته قبل وفاته بعام، وجدها في الأساس عبارة عن سلسلة من الخلافات والمناظرات؛ ففي البداية جاءت مسألة صكوك الغفران التي ذكرها في مقدمة كتاباته اللاتينية، ثم تلتها - حسبما كان لوثر يذكر - مسألة مجازية الأسرار المقدسة والدعوة إلى تجديد العماد. فبدا أن عدوا تلو الآخر يهب ليتصدى له، وأن يد الشيطان تحرك الجميع، وفي مواجهتهم جميعا أطلق لوثر بعضا من أشرس المجادلات التي سجلت في القرن السادس عشر.
استخدم لوثر في كتاباته الأخيرة بالأخص لهجة شرسة وفظة في بعض الأحيان في مواجهة خصومه، سواء خصومه الفعليين أو من تصور فيهم الخصومة، ولا سيما في مواجهة البابوية واليهود. وتتجلى لهجته الاستفزازية في العنوان نفسه في اثنين من أعماله الأخيرة هما: «ضد اليهود وأكاذيبهم» (1543)، و«ضد بابوية روما التي أسسها الشيطان» (1545). حتى إن صديقه الأقرب ومعينه فيليب ميلانشتون - الذي كان رثاؤه للوثر مفعما بالثناء على فضائله - شعر بضرورة تبرير لهجة لوثر المقذعة، فاستعان ردا على من أشاروا إلى أن لوثر كان أكثر حدة مما دعت الحاجة بمقولة إراسموس، التي يزعم أنه قال فيها: «منح الله هذا العصر الحديث طبيبا قاسيا؛ نظرا لعظم حجم أمراض هذا العصر.» إلا أن لوثر برع في استخدام البلطة لا المبضع، وقد وصف نفسه بدقة بأنه حطاب خشن، مهمته هي اقتلاع جذور الأشجار المجتثة وجذوعها واستئصال الأشواك وردم البرك الموحلة وتمهيد الطرق. ومن الواضح أن المحاولات الأخيرة لتبرير قسوة لوثر قد ازدادت تعقيدا؛ بفعل الأحداث التي شهدها القرن العشرين. فبعد أن حث البابا يوحنا الثالث والعشرون ومجلس الفاتيكان الثاني على إظهار النوايا الطيبة، بدت اتهامات لوثر العنيدة للبابوية غير مبررة، رغم أن العقائد والممارسات التي احتج عليها ظلت في أغلبها كما هي دون تغيير. وعلى الرغم من نقده للأمراء المستبدين، جعلت الحركات الشعبية الداعية إلى التحرر والعدالة الاجتماعية إيعاز لوثر بذبح الفلاحين المتمردين يبدو انحرافا عن رسالة المسيح. أما أكثر ما أضر بلوثر فهو الهولوكوست واستخدام آلة الدعاية النازية لتصريحاته المناهضة لليهود، مما جعل ثوراته المعادية للسامية تكاد تكون ممنوعة الذكر.
لم يكن لوثر يعيش في القرن العشرين، وإنما في القرن السادس عشر، وربما يمكن تبرير مغالاته إلى حد كبير في ضوء التوجهات والصراعات التي أحاطت به. على سبيل المثال، تذكرنا العلاقة المهتزة بين المسيحيين واليهود ببداية المسيحية نفسها، وقد تدهورت هذه العلاقة على نحو منتظم مع انتشار المسيحية في أوروبا. واشتد العداء العام للمجتمعات اليهودية الصغيرة في أواخر العصور الوسطى، فوجهت إلى اليهود اتهامات غريبة، كتدنيس خبز القربان المقدس وقتل الأطفال المسيحيين، ونفوا من أغلب بلدان غرب أوروبا، إلا أن المجتمعات اليهودية ظلت موجودة في ألمانيا، واستمر التواصل بين الحاخامات وعلماء اللاهوت المسيحيين في بداية حركة الإصلاح الديني. كان أغلب أنصار حركة الإصلاح الديني من جماعات الإنسانيين، وقد اشتركوا جميعا في رغبة متجددة بتدريس اللغة الإغريقية والعبرية وتعلمهما، كما آمنوا أن المسيحية المنقحة ستكون مقبولة في المجتمعات اليهودية، ومن ثم علقوا آمالا غير واقعية على تحول الكثير من اليهود إلى المسيحية أو إلى «دينهم الحق» بتعبير لوثر عام 1523. وقد ذكر لوثر في أولى محاضراته عن سفر المزامير أن عظماء بني إسرائيل، الذين صدقوا وعود الله كإبراهيم وداود، كانوا مثالا للإيمان المسيحي، وامتدح المجتمعات المسيحية اليهودية الأولى، واصفا إياها بأنها «الكنيسة الحقة»، غير أن أسلاف لوثر حشروا اليهود غير المؤمنين بالمسيح مع المهرطقين والآثمين، وعزى لوثر إلى اليهود وصفا مشابها عندما يئس من تحويلهم إلى المسيحية، فكتب عام 1543:
يكثر اليهود والأتراك والبابويون في كل مكان، ويزعمون جميعا بغرورهم أنهم يشكلون الكنيسة الحقة، وأنهم شعب الله المختار، بصرف النظر عن الدين الوحيد الحق [المسيحية] ... الذي يصبح به وحده الإنسان من أبناء الله ويظل كذلك.
تحول يهود ألمانيا في غضون عقدين من الزمان من قوم يؤمل في تحولهم إلى المسيحية في منظور الإصلاحيين الكاثوليكيين والبروتستانت إلى تهديد خطر، وقد تبنى لوثر الرأي نفسه رغم سخافته، مما أدى إلى توبيخه القاسي لهم في كتابه «ضد اليهود وأكاذيبهم»، وقد أشارت لفظة «أكاذيبهم» إلى معتقدات قديمة تستند إلى كتابهم المقدس، وتزعم أن اليهود هم شعب الله المختار، الذين ميزوا بنعم معينة كالعهد والقانون والأرض الموعودة. وقد وصف لوثر رفضهم الاعتراف أن يسوع هو المسيح المخلص بالكفر الذي أغضب الله وتسبب في أن تمنع نعمه عن ألمانيا. ولعل هذا الخوف من أن يقوض كفر اليهود جهود الإصلاح، يفسر دفاع بعض أنصار حركة الإصلاح، كأوربانوش ريجيوس ومارتن لوثر، عن التفسير المسيحي للفقرات التي تتحدث عن المسيح في الكتاب العبري؛ فأقام ريجيوس حوارا مطولا مع زوجته آنا يبين فيه ما فعله المسيح في عيد الفصح الأول عندما «أخذ يفسر لهما، منطلقا من موسى ومن الأنبياء جميعا، ما ورد عنه في جميع الكتب» (لوقا 27:24) في الطريق إلى عمواس، ومن هنا أيضا كرس لوثر 85٪ من كتابه «عن اليهود وأكاذيبهم» للبرهنة على أن يسوع هو المسيح المخلص، الذي تنبأ به سفر العهد القديم، وكرس سائر المقال للوصايا المشينة التي اقتبست عنه كثيرا: احرقوا معابد اليهود ومدارسهم، ودمروا منازلهم كليا، وصادروا تلمودهم وغيره من كتبهم المقدسة، وامنعوا حاخاماتهم من التدريس، وارفضوا منحهم حق المرور في الطرق العامة، وامنعوهم من العمل بأي حرفة عدا الفلاحة والغزل. وقد أوصى الإصلاحي البروتستانتي مارتن بوسر والكاثوليكي جون إيك بالعديد من الوصايا نفسها، فدل تكريس كل هذا الجهد للبرهنة على أن يسوع هو المسيح المخلص، ولقمع الأقلية اليهودية في مجتمع أغلبيته الساحقة مسيحية؛ على ضعف كيان المسيحية آنذاك في منظور زعمائها.
لكن عزو المحرقة اليهودية مباشرة إلى لوثر - كما بدا أن ويليام شايرار يرمي في كتابه «صعود وسقوط الرايخ الثالث» - لا ينبئ عن الدقة من الناحية التاريخية. فبالفعل لزم الكثير من المسيحيين الألمان الصمت عندما أردى النظام النازي ستة ملايين قتيل من اليهود (وغيرهم)، واستخدمت بالفعل آلة الدعاية النازية كتابات لوثر، لكن من الثابت أيضا أن المسيحيين الألمان (سواء الكاثوليك أو الإصلاحيين أو اللوثريين) لا سيما الموجودين في كنيسة الاعتراف؛ احتجوا على هذه الفظائع، وبعض من احتجوا عليها كديتريش بونهوفر قتل أو سجن أو نفي لذلك . ومن تغاضى عن هذا القتل منهم لم يفعل ذلك بالدرجة الأولى لما قاله لوثر، فوفقا ليوهانز وولمان الذي تتبع اتجاه استيعاب كتابات لوثر المناهضة لليهودية في ألمانيا:
لم تنبع إساءة استغلال كتابات لوثر ... بغرض معاداة السامية العنصرية بعد الحرب العالمية الأولى من العقيدة اللوثرية، بل من عقيدة مخالفة [الحركة القومية الألمانية الخالصة]، وقد تأسست هذه الحركة على أوهام القرن التاسع عشر بتفوق الألمان العرقي والثقافي، الذي دعم أوهام ألمانيا الرايخ الثالث العنصرية النازية التي حادت عن الدين.
كان نقد لوثر للإسلام أقل حدة من نقده لليهودية، رغم أن جيوش المسلمين العثمانية مثلت تهديدا حقيقيا لأوروبا الوسطى، بعكس التهديد الوهمي الذي مثلته اليهودية، وقد غالى مؤلفو المنشورات السياسية في هذا العصر في تقدير حجم هذا التهديد، بتصوير الحرب السياسية على أنها حرب بين المسيحية والإسلام، أو بين المسيح وأعداء المسيح. كان أغلب ما عرفه لوثر عن الإسلام مستقى من كتاب العصور الوسطى، لكنه كتب هو وميلانشتون مقدمة لترجمة لاتينية منقحة للقرآن نشرت في مدينة بازل عام 1542. وناقشت كتاباته الأخرى ردة الفعل المسيحية الملائمة للتهديد التركي، وعقدت مقارنات بين الإسلام والمسيحية، لكن القليل فقط من كتابات لوثر اتسم بالأصالة - إن وجد بينها ما اتسم بذلك من الأساس - ولو أنها اكتسبت أهمية جديدة في ظل التهديد العثماني وأجندة حركة الإصلاح التنصيرية.
رأى لوثر أن الإسلام دين يؤلف بين أديان مختلفة؛ إذ يؤلف بين العقيدة الوثنية والعقيدة اليهودية والعقيدة المسيحية، لكن «ليس به مخلص أو غفران للخطايا أو عفو أو روح قدس»؛ لذا رأى أن الموت أقل هونا للمسيحي من الحياة في ظل حكومة لا يستطيع أن يعترف فيها بإيمانه بالكامل. ولا شك أنه لم يقبل وجود الإسلام في أوروبا بعد إعادة تنصيرها، ولكنه مع ذلك لم يؤيد شن حرب صليبية ضد الأتراك، فزعم ساخرا أنه إذا شرع الإمبراطور في تدمير الكافرين وغير المسيحيين، إذا:
عليه أن يبدأ بالبابا، والأساقفة ورجال الدين، بل ولعل عليه أيضا ألا يستثنينا أو يستثني نفسه، فإمبراطوريته تنطوي على ما يكفي من مظاهر الوثنية الفظيعة، إلى الحد الذي يجعل محاربة المسلمين لهذا السبب غير واجبة. فثمة الكثير جدا من المسلمين واليهود والوثنيين وغير المسيحيين بيننا، يظاهرون باعتناق عقائد زائفة ويحيون حياة مشينة مخزية.
Page inconnue