[وجوب الإيمان بكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى من صفات الرحمن وتلقيه بالتسليم والقبول]
لمعة الاعتقاد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المحمود بكل لسان في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان ولا يشغله شأن عن شأن جل عن الأشباه والأنداد وتنزه عن الصاحبة والأولاد ونفذ حكمه في جميع العباد لا تمثله العقول بالتفكير ولا تتوهمه القلوب بالتصوير ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١] له الأسماء الحسنى، والصفات العلى ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى - لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى - وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: ٥ - ٧] أحاط بكل شيء علما، وقهر كل مخلوق عزة وحكما، ووسع كل شيء رحمة وعلما ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: ١١٠] موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم، وعلى لسان نبيه الكريم.
وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى ﵇
1 / 5
من صفات الرحمن وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل.
وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظا، وترك التعرض لمعناه ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله اتباعا لطريق الراسخين في العلم الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله ﷾: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: ٧] وقال في ذم مبتغي التأويل لمتشابه تنزيله ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٧] فجعل ابتغاء التأويل علامة على الزيغ، وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم، ثم حجبهم عما أملوه، وقطع أطماعهم عما قصدوه، بقوله سبحانه: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٧]
[كلام الإمام أحمد بن حنبل في الصفات]
قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ﵁ في قول النبي ﷺ: «إن الله ينزل إلى سماء الدنيا»، أو «إن الله يرى في القيامة»، وما أشبه هذه الأحاديث
1 / 6
نؤمن بها، ونصدق بها بلا كيف، ولا معنى، ولا نرد شيئا منها، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، ولا نرد على رسول الله ﷺ، ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١] ونقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسه، لا نتعدى ذلك، ولا يبلغه وصف الواصفين، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت، ولا نتعدى القرآن والحديث، ولا نعلم كيف كنه ذلك إلا بتصديق الرسول ﷺ، وتثبيت القرآن (١) .
[كلام الإمام محمد بن إدريس الشافعي في الصفات]
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ﵁: آمنت بالله وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله.
[كلام السلف وأئمة الخلف في الصفات]
وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف ﵃، كلهم متفقون على الإقرار والإمرار
_________
(١) هنا نهاية كلام بن حنبل.
1 / 7
والإثبات، لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله. وقد أمرنا بالاقتفاء لآثارهم، والاهتداء بمنارهم (١) وحذرنا المحدثات وأخبرنا أنها من الضلالات، فقال النبي ﷺ: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (٢) .
[كلام عبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز ﵄ في الصفات]
وقال عبد الله بن مسعود ﵁: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم. وقال عمر بن عبد العزيز ﵁ كلاما معناه: قف حيث وقف القوم فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم (٣) على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم: حدث بعدهم، فما أحدثه
_________
(١) المنار، جمع منارة: وهي العلامة تجعل بين الحدين.
(٢) رواه أبو داود في " سننه " والترمذي في " جامعه " بسند صحيح عن أبي نجيح العرباض بن سارية ﵁.
(٣) الضمير هنا عائد على " القوم ".
1 / 8
إلا من خالف هديهم ورغب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفي وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم محسر، وما دونهم مقصر. لقد قصر عنهم قوم فجفوا وتجاوزهم آخرون فغلوا وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم.
[كلام الإمام أبو عمر الأوزاعي في الصفات ورد الأدرمي على رجل تكلم ببدعة]
وقال الإمام أبو عمر الأوزاعي ﵁: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوه لك بالقول.
وقال محمد بن عبد الرحمن الأدرمي لرجل تكلم ببدعة ودعا الناس إليها: هل علمها رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، أو لم يعلموها؟ قال لم يعلموها، قال: فشيء لم يعلمه هؤلاء أعلمته أنت؟ قال الرجل: فإني أقول: قد علموها، قال: أفوسعهم أن لا يتكلموا به، ولا يدعوا الناس إليه، أم لم يسعهم؟ قال: بلى وسعهم، قال فشيء وسع رسول الله ﷺ وخلفاءه لا يسعك أنت؟ فانقطع الرجل. فقال الخليفة - وكان حاضرا -: لا وسع الله على من لم يسعه ما وسعهم.
1 / 9
وهكذا من لم يسعه ما وسع رسول الله ﷺ وأصحابه والتابعين لهم بإحسان والأئمة من بعدهم والراسخين في العلم من تلاوة آيات الصفات وقراءة أخبارها ولإمرارها كما جاءت، فلا وسع الله عليه.
[ذكر بعض الآيات والأحاديث الواردة في الصفات]
فمما جاء من آيات الصفات قول الله ﷿: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ [الرحمن: ٢٧] وقوله ﷾: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: ٦٤] وقوله تعالى إخبارا عن عيسى ﵇ أنه قال: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ [المائدة: ١١٦] وقوله سبحانه: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ [الفجر: ٢٢] وقوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢١٠] وقوله تعالى: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [المائدة: ١١٩] وقوله تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤] وقوله تعالى في الكفار: ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ [الفتح: ٦] وقوله تعالى: ﴿اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ﴾ [محمد: ٢٨] وقوله تعالى: ﴿كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٦]
1 / 10
ومن السنة، قول النبي ﷺ: «ينزل ربنا ﵎ كل ليلة إلى سماء الدنيا» (١) وقوله: «يعجب ربك من الشاب ليست له صبوة» (٢) وقوله: «يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر ثم يدخلان الجنة» (٣) فهذا وما أشبهه مما صح سنده وعدلت رواته، نؤمن به، ولا نرده ولا نجحده ولا نتأوله بتأويل يخالف
_________
(١) متفق عليه من حديث أبي هريرة ﵁ ولفظه بتمامه: " ينزل ربنا ﵎ كل ليلة إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له.
"، شرح شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الحديث بكتاب قيم طبعه المكتب الإسلامي مرتين باسم " شرح حديث النزول ".
(٢) رواه أحمد في " المسند " وأبو يعلى، من حديث ابن لهيعة. قال الهيثمي: وإسناده حسن. وقال الحافظ السخاوي في " المقاصد الحسنة " وضعفه شيخنا - أي الحافظ ابن حجر في فتاويه لأجل ابن لهيعة. والصبوة: الميل إلى الهوى.
(٣) متفق عليه من حديث أبي هريرة ولفظه: " يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله، فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم، فيقاتل في سبيل الله فيستشهد. ".
1 / 11
ظاهره، ولا نشبهه بصفات المخلوقين، ولا بسمات المحدثين، ونعلم أن الله ﷾ لا شبيه له ولا نظير ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١] وكل ما تخيل في الذهن أو خطر بالبال فإن الله تعالى بخلافه.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥] وقوله تعالى: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [الملك: ١٦] وقول النبي ﷺ: «ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك» (١) «وقال للجارية: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: أعتقها فإنها مؤمنة» رواه مسلم، ومالك بن أنس، وغيرهما من الأئمة. وقال النبي ﷺ لحصين: «كم إلها تعبد؟ قال سبعة، ستة في الأرض وواحدا في السماء. قال من لرغبتك ورهبتك؟ قال الذي في السماء، قال فاترك الستة واعبد الذي في السماء،
_________
(١) رواه أبو داود في " سننه " رقم (٣٨٩٢) وفي سنده زيادة بن محمد الأنصاري. قال الحافظ بن حجر في " التقريب " منكر الحديث.
1 / 12
وأنا أعلمك دعوتين، فأسلم، وعلمه النبي ﷺ أن يقول: " اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي» (١) .
وفيما نقل من علامات النبي ﷺ وأصحابه في الكتب المتقدمة: أنهم يسجدون بالأرض ويزعمون أن إلههم في السماء. وروى أبو داود في سننه أن النبي ﷺ قال: «إن ما بين سماء إلى سماء مسيرة كذا وكذا. . .» . وذكر الخبر إلى قوله: «وفوق ذلك العرش، والله سبحانه فوق ذلك» (٢) فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف ﵏ على نقله وقبوله، ولم يتعرضوا لرده ولا تأويله، ولا تشبيهه ولا تمثيله.
_________
(١) رواه الترمذي في باب " جامع الدعوات "، عن عمران بن حصين، وقال: هذا حديث غريب، وقد روي هذا الحديث عن عمران أيضا من غير هذا الوجه.
(٢) رواه أبو داود في " سننه " رقم (٤٧٢٣) بغير هذا اللفظ، وفيه ذكر الأوعال، وفي سنده " الوليد بن أبي ثور " قال فيه الحافظ بن حجر في " التقريب ": ضعيف وفي سنده أيضا، " عبد الله بن عميرة "، قال فيه الذهبي: فيه جهالة، ورواه الترمذي وقال حديث غريب.
1 / 13
سئل الإمام مالك بن أنس ﵀ فقيل: يا أبا عبد الله ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥] كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. ثم أمر بالرجل فأخرج.
1 / 14
[من صفات الله تعالى أنه متكلم بكلام قديم]
كلام الله ومن صفات الله تعالى أنه متكلم بكلام قديم يسمعه منه من شاء من خلقه، سمعه موسى ﵇ منه من غير واسطة، وسمعه جبريل ﵇، ومن أذن له من ملائكته ورسله، وأنه سبحانه يكلم المؤمنين في الآخرة ويكلمونه، ويأذن لهم فيزورونه، قال الله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: ١٦٤] وقال سبحانه: ﴿يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي﴾ [الأعراف: ١٤٤] وقال سبحانه: ﴿مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٥٣] وقال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ [الشورى: ٥١] وقال سبحانه: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى - إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾ [طه: ١١ - ١٢] وقال سبحانه: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي﴾ [طه: ١٤] وغير جائز أن يقول هذا أحد غير الله.
1 / 15
وقال عبد الله بن مسعود ﵁: " إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء "، روى ذلك عن النبي ﷺ (١) وروى عبد الله بن أنيس عن النبي ﷺ أنه قال: «يحشر الله الخلائق يوم القيامة عراة حفاة غرلا بهما (٢) فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان»، رواه الأئمة (٣) واستشهد به البخاري (٤) وفي بعض الآثار أن موسى ﵇ ليلة رأى النار فهالته ففزع منها فناداه ربه: يا موسى، فأجاب سريعا استئناسا بالصوت، فقال لبيك لبيك، أسمع صوتك ولا أرى مكانك، فأين
_________
(١) في جميع طرق حديث ابن مسعود هذا عنعنة الأعمش وهو مدلس، والحديث موقوف غير مرفوع عند الأكثرين، بل هو المحفوظ.
(٢) غرلا: الغرل جمع الأغرل، وهو: الواسع الخلقة، والغرلة: القلفة. وبهم: ليس معهم شيء، وقيل أصحاء.
(٣) رواه الإمام أحمد في " المسند " عن عبد الله بن أنيس، ج ٣ ص ٤٩٥ طبع المكتب الإسلامي. وأبو يعلى والطبراني.
(٤) أي: معلقا.
1 / 16
أنت؟ فقال: " أنا فوقك وأمامك وعن يمينك وعن شمالك "، فعلم أن هذه الصفة لا تنبغي إلا لله تعالى. قال كذلك أنت يا إلهي، أفكلامك أسمع، أم كلام رسولك؟ قال: " بل كلامي يا موسى ".
1 / 17
[القرآن كلام الله]
القرآن كلام الله ومن كلام الله سبحانه القرآن العظيم، وهو كتاب الله المبين وحبله المتين وصراطه المستقيم وتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين بلسان عربي مبين، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وهو سور محكمات وآيات بينات وحروف وكلمات من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، له أول وآخر وأجزاء وأبعاض، متلو بالألسنة محفوظ في الصدور، مسموع بالآذان مكتوب في المصاحف، فيه محكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، وأمر ونهي ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: ٤٢] وقوله تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٨] (١)
_________
(١) الظهير: المعين.
1 / 18
[الإسراء: ٨٨]، وهو هذا الكتاب العربي الذي قال فيه الذين كفروا: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ﴾ [سبأ: ٣١] وقال بعضهم: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ [المدثر: ٢٥] فقال الله سبحانه: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ [المدثر: ٢٦] وقال بعضهم: هو شعر، فقال الله تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ [يس: ٦٩] فلما نفى الله عنه أنه شعر وأثبته قرآنا لم يبق شبهة لذي لب في أن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي هو كلمات وحروف وآيات، لأن ما ليس كذلك لا يقول أحد: إنه شعر، وقال ﷿: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٣] ولا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثل ما لا يدري ما هو ولا يعقل، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي﴾ [يونس: ١٥] فأثبت أن
1 / 19
القرآن هو الآيات التي تتلى عليهم. وقال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [العنكبوت: ٤٩] وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ - فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ - لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: ٧٧ - ٧٩] بعد أن أقسم على ذلك، وقال تعالى: ﴿كهيعص﴾ [مريم: ١] ﴿حم - عسق﴾ [الشورى: ١ - ٢] وافتتح تسعا وعشرين سورة بالحروف المقطعة. وقال النبي ﷺ: «من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف حسنة» حديث صحيح (١) .
وقال ﵊: «اقرأوا القرآن قبل أن يأتي قوم يقيمون حروفه إقامة السهم لا يجاوز تراقيهم يتعجلون أجره ولا يتأجلونه» (٢) وقال أبو بكر وعمر رضي الله
_________
(١) رواه الطبراني في الأوسط عن عبد الله بن مسعود ﵁ بلفظ: " من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، وكفارة عشر سيئات، ورفع عشر درجات " وفي سنده نهشل الورداني، وهو متروك.
(٢) رواه الإمام أحمد في " المسند "، وأبو داود في " سننه "، عن جابر ﵁، وفي الباب عن سهل بن سعد، وأنس بن مالك حديثان أخرجهما الإمام أحمد في " مسنده ". الترقوة: الحلقوم، وقوله: " يتعجلون ولا يتأجلون " أي: يطلبون بقراءته العاجلة، أي: عرض الدنيا، والرفعة فيها، ولا يلتفتون إلى الأجر في الدار الآخرة، وهذا من معجزاته ﷺ.
1 / 20
عنهما إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه، وقال علي ﵁: من كفر بحرف منه فقد كفر به كله، واتفق المسلمون على عد سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه.
ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفا متفقا عليه أنه كافر، وفي هذا حجة قاطعة على أنه حروف.
1 / 21
[رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة]
رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم ويزورونه، ويكلمهم ويكلمونه، قال الله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ - إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢ - ٢٣] وقال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: ١٥] فلما حجب أولئك في حال السخط دل على أن المؤمنين يرونه في حال الرضى، وإلا لم يكن بينهما فرق، وقال النبي ﷺ: «إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته» حديث صحيح متفق عليه (١) . وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية، لا للمرئي بالمرئي، فإن الله تعالى لا شبيه له ولا نظير.
_________
(١) متفق عليه من حديث جرير بن عبد الله البجلي ﵄.
1 / 22
[القضاء والقدر]
القضاء والقدر ومن صفات الله تعالى أنه الفعال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط في اللوح المسطور، أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعا لأطاعوه، خلق الخلق وأفعالهم وقدر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، قال الله تعالى: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٣] قال الله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: ٤٩] وقال تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: ٢] وقال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ [الحديد: ٢٢] وقال تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ [الأنعام: ١٢٥]
1 / 23
روى ابن عمر أن جبريل ﵇ قال للنبي ﷺ: «ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، فقال جبريل: صدقت.» رواه مسلم. وقال النبي ﷺ: «آمنت بالقدر خيره وشره وحلوه ومره» (١) ومن دعاء النبي ﷺ الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت الوتر: «وقني شر ما قضيت» (٢) ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره واجتناب نواهيه، بل يجب أن نؤمن، ونعلم أن لله علينا الحجة بإنزال الكتب وبعثة الرسل، قال الله تعالى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: ١٦٥] ونعلم أن الله سبحانه ما أمر
_________
(١) روى الطبراني في " الكبير " بسند رجاله موثقون عن عبد الله بن عمر ﵄ بلفظ: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، والجنة والنار والقدر خيره وشره وحلوه ومره من الله.
(٢) رواه أبو داود في " سننه " عن الحسن بن علي ﵄، والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن.
1 / 24