ولو كنت تكتب قصة بطريقة التأليف كما يفعل بعض الناس لالتفت للموقف امرأة، مثلما كدنا نفعل في البداية. ولجعلناها زوجة صغيرة لعم حسن العجوز أو ابنة فائرة لعوبا.
لا بد سيدور بخلدك شيء كهذا .. فالعسكري لا يذكر لك شيئا كثيرا، إنه يؤكد لك، بلا حاجة للتأكيد، أن الرجل عجوز وطيب، وأن له في هذه البقعة بضعة أيام، وقد كان جالسا في مكانه وجاءت عربة نقل ووقفت كالعادة وبينا السائق يذكر له الرقم، وإذا من الصندوق ترفع الهامة القصيرة لعم حسن، وإذا به يتطلع إلى المكان، ثم تقع عيناه على الشجرة، فينحني ناحية السائق في الكابينة ويشكره ويطلب منه، بأدبه المعهود، أن ينزل هنا قائلا إنه قد اختار هذه البقعة لينصب فيها نصبته. وبمساعدة الشيال ينزل عم حسن أشياءه الفقيرة القليلة، ويستأذن من العسكري ويقضي بقية اليوم في إقامة «الغرزة».
وتلك هي حياة عم حسن التي اختارها .. وكل إنسان منا يختار حياته بالطريقة التي تحلو له، بعضنا يختار المهنة الناجحة ويقضي عمره يحارب زملاءه من أبنائها الناجحين، ويكيد لهم ويكيدون له، وبعضنا يختار مهنة البحث عن مهنة، ويظل العمر ينتقل من عمل فاشل إلى عمل فاشل، ولكل منا كما قلت مهنته التي يفضلها أو التي يلعنها أو التي تتلاءم مع ذاته وطبيعته وصفاته .. وعم حسن قد ترك هذا كله واختار لنفسه مهنة أن يخدم الناس حيث لا يتوقع الناس خدمته، فهو لا بلد له ولا بيت، موطنه الدائم يوجد حيث يوجد بيته، وبيته يوجد حيث يوجد عمله، وعمله يوجد حيث يرى أن حاجة الناس إليه أكثر وأشد!
وهو يصنع القهوة والشاي والمعسل .. ورأسماله بلا رأس وبلا مال، وهو يوجد اليوم هنا في بقعة مهجورة من طريق السويس-الإسماعيلية، لا بد عندها تقاطع أو محطة أو شيء ما .. هنا حيث لكوب الشاي يصبح قيمة لا تقدر، خاصة إذا قدم لسائق منهك استيقظ منذ الفجر وعليه قبل أن ينام أن يقضي الليلة القادمة بطولها سائقا.
ويظل عمل حسن في المكان حتى يزهد هو فيه أو يزهد فيه المكان، أو تصل المسائل على حد رأيه إلى حيث يصبح لا داعي للبقاء، يشير عم حسن لأية عربة قادمة، في هذا الاتجاه أو ذاك، فسكك الله كلها له وكل مكان فيها مثله مثل أي مكان، ممكن أن يصبح بلده وموطنه ومسقط عمله، ويركب عم حسن هو ورأسماله، وفي أي اتجاه يتصادف أن تكون العربة ذاهبة إليه يذهب، وعند أية بقعة في المسافة يراها عم حسن تصلح مكانا يحتاج فيه الناس والسائقون بشكل خاص للخدمة ولا يجدونها ولا يتوقعون وجودها، ينحني على السائق يطلب منه، بأدبه المعهود، إنزاله، وعادة .. بل لم يحدث أن تقاضى منه أي سائق أجرا، وينزل، ويظل يعمل. وقد يقضي في البقعة أياما، وقد يقضي فيها - كما حدث - سنتين، إلى أن تصل المسائل إلى الحد المعهود، فيشير عم حسن إلى أول عربة نقل قادمة، وهكذا!
ولا بد - خاصة إذا كنت مثقفا .. مقيدا بألف قيد وهمي أو ممن صنعك إلى عملك - تمنعك أشياء ليس أقلها الخوف الشديد، أو بالأصح الجبن، من أن تفكر، مجرد تفكير، في تغيير محل عملك، أو عملك نفسه، أو حتى محل إقامتك، لا بد أن تحسد عم حسن على حياته تلك، فهي في رأيك لا بد أرحب وأوسع حياة، حياة ألغت المكان والزمان والبعد الرابع وكل الأبعاد، البلد كلها .. بملايين الكيلومترات التي تكون سككها وطرقها ومساحتها ملكك .. ملكك حقا لا مجازا، إذا ماذا تفعل بالملكية قدر حقك أن توجد في المكان الذي تمتلك وقتما تريد وأي زمن تشاء، وهل يحتل صاحب العمارة مهما كبرت أكثر من المقعد الذي يجلس عليه أو الفراش؟ وما متعة من يمتلك مئات من الأفدنة أو بضع عمارات؟ .. ولكنه صاحب مصر كلها. من حقه أن يحل بأي مكان فيها في أي وقت يشاء، ويستمتع ما شاءت له المتعة، بإحساسه أنه صاحب المكان وأي مكان!
وجزء من دوافعنا للالتصاق بمنطقة بعينها من المدينة أو القرية، بل بشارع، بل ببيت بعينه من بيوتها، هو أننا نعرف الساكنين معنا وحولنا ونأتنس بهم، وجزء من خوفنا أن نغادر ذلك البيت أو الحي ونقطن في غيره، إننا نخاف من تجربة الغربة مع أناس لم نعرفهم بعد وحتما لهذا نتوجس منهم.
إن ما يدفعنا للالتصاق بمكان محدد، وناس محددين، أننا نخاف الأمكنة الأخرى والناس الآخرين، فنتوقع على ما نعرفه ومن نعرفهم حتى لو قضينا الأعمال نمله ونملهم، عم حسن العجوز لا بد أنه لا يخاف الآخرين، وما دام قد اعتبر مصر كلها بيته ومكان عمله، فلا بد أنه اعتبر المصريين كلهم؛ صعايدة وبحاروة وشراقوة وغرابوة، أهله وأبناء حيه وحتته، وهكذا وبمنتهى الجرأة والألفة والبساطة، ألقى نفسه في وسطهم في البحر الضخم الهائل الذي يكون ملايينهم .. ومن الواضح تماما أنه لم يغرق، وأن الأيدي رفعته، ولا زالت ترفعه وتتداوله، ومن المكان إلى المكان يلقي بنفسه إلى يد ترفعه بحنان ورفق لتضعه حيث يحدد أو لتسلمه إلى يد جديدة إذا أراد .. وكأنما أبرم الرجل اتفاقا مع المصريين جميعا أصحاب البلد، أن يقدم لهم القهوة والشاي في المكان الذي يفتقدون فيه القهوة والشاي أكثر .. وفي مقابل هذا عليهم هم - المصريين - أن يتكفلوا بأمر عيشه وسكنه وإقامته وتنقلاته كلما حلا له أن ينتقل.
وكما تؤثر الوظيفة في الموظف، وكما يصبح من خصائص سائق الأتوبيس صوته المرتفع؛ إذ لا بد له أن يرفعه ليغطي على صوت الآلة الحديدية والآلة البشرية، ليسمعه الركاب أو حتى ليبلغ شتائمه إلى الراكب الذي أثر أن يدخر رأيه الصريح فيه إلى اللحظة التي يضع فيها قدمه على الأرض ويتحرك الأتوبيس .. كما تنمي الوظيفة ذلك الجزء من الإنسان الذي يتعامل به مع الآخرين .. وبالتالي تنمي لدى الآخرين ذلك الجزء الذي يتعاملون به معه، فعم حسن يتعامل مع جزء نادر، أو بالدقة نادر العمل .. في الناس .. ذلك الجزء المخصص للعمل من أجل الآخرين .. الجزء الإنساني الضامر في أناس كثيرين .. الذي ربما حولته الأجزاء الأنانية لدى البعض كما تحول الأماكن غير المستعملة، إلى مخازن، تختزن فيها أحصنة النهم الإضافية ومغذيات الطموح الفردي الصغير.
عم حسن يعامله الناس، والسائقون، الذين يبدون وكأن قلوبهم قد قدت من جرانيت أصم، بأجزائهم الإنسانية، وما أكبر هذه الأجزاء أحيانا بالذات في قلوب هذا النوع المخيف من السائقين .. ولأنه يحيا ويتنفس ويأكل وينام بهذه الأجزاء وبما تهيئه له، فقد اكتسب هو الآخر طابعا غريبا يميزه عن جميع الناس، فأدبه الزائد ليس ذلك النوع الممتثل الذليل الذي ندرك في الحال مدى ما فيه ضعة واسترزاق .. إنه نوع عميق من الأدب، لا ينبع من الانحناءات والكلمات الهامسة .. وإن كانت بعض أعراضه كلمات هامسة .. ولكنه لا ليريك ويظهر لك أنه يهمس، ولكن لأنه بإدراكه أنك ستستريح أكثر لو همس، نوع من مراعاة الشعور، ولكن لأن مراعاة الشعور لدى معظمنا لا تحدث إلا لسبب، وإلا لحاجة لك عند من تراعي شعوره، فأعتقد أنه من الصعب أن نتصور مراعاة الشعور لمجرد مراعاة الشعور .. لمجرد أن إنسانا يحترم شعورك فعلا ويقدره - مهما كنت - ويهمه مراعاته، بل حتى في طريقة سؤال للناس، إنه يفعل هذا بأدب صحيح، ولكنه أدب فيه ثقة بنفسه، وكأن المسألة أمر مفروغ منه. فرق كبير بين أن تطلب من إنسان لا تعرفه شيئا وتحاول حينئذ ولأنك تفترض أنه ليس من حقك أن تطلب منه وهو الغريب عنك شيئا أو تسأله معروفا، تحاول أن ترقق ما أمكن من طلبك ولهجتك وتودع فيها كل ما يمكنك إيداعه من رقة السائلين والمقترضين ومن يطلبون بذله، فرق بين هذا وبين أن يطلب من إنسان نعتقد أنه فعلا أخوك ومن أقربائك، ولك عليه مثلما له عليك، أن تسأله، ومن واجبه وليس تفضلا أو تنازلا، أن يعطيك.
Page inconnue