أما اللغة العربية فخذ منها - مثلا - حروف الباء والتاء والثاء، فإن الباء قريبة من مخرج التاء، وأن التاء والثاء لتتقاربان حتى ليقع بينهما الإبدال في كثير من الكلمات.
وخذ مثلا حرفي الحاء والخاء، أو حرفي الدال والذال، أو حرفي السين والشين، أو حرفي الصاد والضاد، أو حرفي الطاء والظاء، أو حرفي العين والغين، أو القاف والكاف، أو حروف اللام والميم والنون، فإن التقارب بينها في النسق يشبه التقارب بينها في اللفظ كما يشبه التقارب بينها في الشكل كلما امتنع اللبس عند تكرار الأشكال.
وهذه هي اللغة الشاعرة في حروفها قبل أن تتألف منها كلمات، وقبل أن تتألف من الكلمات تفاعيل، وقبل أن تتألف من التفاعيل بيوت وبحور.
فإذا كان الشعر روحا يكمن في سليقة الشاعر حتى يتجلى قصيدا قائم البناء، فهذا الروح في الشعر العربي يبدأ عمله الأصيل مع لبنات البناء، قبل أن تنتظم منها أركان القصيد. (2) المفردات
إن جهاز النطق الإنساني أداة موسيقية وافية، لم تحسن استخدامها على أوفاها أمة من الأمم القديمة أو الحديثة كما استخدمتها الأمة العربية؛ لأنها انتفعت بجميع المخارج الصوتية في تقسيم حروفها؛ ولم تهمل بعضها وتكرر بعضها الآخر بالتخفيف تارة والتثقيل تارة، كما فعل المتكلمون بسائر اللغات المعروفة، ومنها الهندية الجرمانية والسامية والطورانية.
وهذا الذي تكلمنا عنه في المقال السابق، الذي خصصناه لدلالة الحروف على السليقة الشاعرة في اللغة العربية.
فإذا انتقلنا من الحروف إلى الكلمات التي تتألف منها، فهذه الدلالة ظاهرة جدا كظهورها في الحروف المتفرقة أو أظهر؛ لأنها تضيف الموسيقية في القواعد والموسيقية في المعاني إلى الموسيقية الملحوظة في مجرد النطق، أو السماع بغير معنى يتم به التخاطب بين المتكلمين.
وحسبنا أن نلاحظ في تركيب المفردات من الحروف أن الوزن هو قوام التفرقة بين أقسام الكلام في اللغة العربية، وأن اللغات السامية التي تشارك هذه اللغة في قواعد الاشتقاق لم تبلغ مبلغها في ضبط المشتقات بالموازين التي تسري على جميع أجزائها، وتوفق أحسن التوفيق المستطاع بين مبانيها ومعانيها.
فالفرق بين ينظر وناظر ومنظور ونظير ونظائر ونظارة ومناظرة ومنظار ومنظر ومنتظر، وما يتفرع عليها هو فرق بين أفعال وأسماء وصفات وأفراد وجموع، وهو كله قائم على الفرق بين وزن ووزن، أو قياس صوتي وقياس مثله، يتوقف على اختلاف الحركات والنبرات، أي: على اختلاف النغمة الموسيقية في الأداء.
وحكم الأسماء الجامدة كحكم المشتقات في هذه الخصلة، فإنها تجري على أوزان معلومة تشملها بأقسامها على تفاوت قوتها ذهابا مع القول القائل: بأن زيادة المبنى زيادة في المعنى.
Page inconnue