وليس التحريف بعيدا في الانتقال من لفظ «شعر» إلى لفظ «شير» إذا علمنا أن حرف العين، وبعض حروف الحلق سقطت من «الأكدية» قديما كما سقطت من أكثر اللغات، وهو بحث فصله الأستاذ مرمرجي في كتاب «المعجميات»، فليرجع إليه من أراد التفصيل.
ومهما يكن من رأي في نشأة الأعاريض العربية، فالحقيقة التي لا محل فيها لاختلاف الآراء أن لغتنا الشاعرة قد انفردت بفن من النظم الشعري لم تتوافر شرائطه وأدواته لفن النظم في لغة من اللغات. (5) أوزان الشعر
فن الشعر في اللغة العربية يناسب هذه اللغة الشاعرة التي انتظمت مفرداتها وتراكيبها، ومخارج حروفها على الأوزان والحركات وفصاحة النطق بالألفاظ، فأصبح لها من الشعر الموزون فن مستقل بإيقاعه عن سائر الفنون، التي يستند إليها الشعر في كثير من اللغات.
فلا حاجة بالشعر العربي إلى إيقاع الرقص الذي يصاحب إنشاد الشعر في اللغات الأخرى؛ لأن أشعار تلك اللغات تستعير الحركة المنتظمة من دقات الأقدام وحركات الأجسام في حلقات الرقص، أو اللعب المنسق على حسب خطوات الإقبال والإدبار والدوران، ولا حاجة بالشعر العربي إلى ملازمة الإيقاع المستعار من الرقص واللعب؛ لأن أوزانه مستقلة بإيقاعها الذي يميز أقسامها وحدودها، ويغنيها عن الأقسام والحدود في الفنون الأخرى.
ولا حاجة بالشعر العربي إلى مصاحبة الغناء لترتيب أوقاته، وضبط مواقع المد والسكون في كلماته؛ لأنه مرتب مضبوط في كل كلمة، بل في كل جزء من أجزاء الكلمة، يجمع بين الحركة والسكون ... فما من كلمة عربية تخلو من حرف متحرك وحرف ساكن على اختلاف الترتيب بين الحركة والسكون، وما من وزن على وضع من الأوضاع لا تضبطه حركة الشعر المسموع بغير حاجة إلى الغناء.
وأسباب هذا الفن الكامل الذي استوفى أوزانه في بحوره وقوافيه تظهر من دراسة تاريخ النظم في اللغة العربية، ونعرض لها ببعض التفصيل في مناسبة أخرى، ولكن السبب الشامل الذي يحيط بجميع تلك الأسباب أن التركيب الموسيقي أصل من أصول هذه اللغة لا ينفصل عن تقسيم مخارجها، ولا عن تقسيم أبواب الكلمات فيها، ولا عن دلالة الحركات على معانيها ومبانيها بالإعراب أو بالاشتقاق.
وهذا السبب الشامل هو الذي يسر النظم المطبوع لأصحاب السليقة الشعرية من الناطقين باللغة العربية، منذ أقدم عصور الجاهلية إلى هذه الأيام، فإن الشاعر المطبوع ينظم الأشعار في بحورها المتعددة بغير حاجة إلى علم يدرسه، ويستهدي به غير سليقته الفنية، ولم تكن بالشاعر الجاهلي حاجة إلى دراسة العروض، ولا إلى تعرف أسماء البحور وتقسيم ضروب التفاعيل، وليس لناظم الزجل في أيامنا هذه حاجة إلى ذلك، وهو ينظم في كل بحر من بحور العروض وكل مجزوء من مجزوءاتها، وإنه ليجهل أسماءها وقد يجهل قراءاتها في الورق كما يجعل معانيها إذا هي قرئت عليه، وكثيرا ما نظم الأزجال في بحور العروض المتعددة أناس من الأميين جهلوا كتابة الحروف، كما جهلها قبل مئات السنين شعراء الجاهلية المشهورون.
ولولا جريان اللغة في ألفاظها وتراكيبها على السليقة الموسيقية، لما تيسر ذلك للشاعر الجاهلي بالأمس، ولا للزجال الأمي في هذه الأيام.
وقد أحصى الخليل بن أحمد من بحور الشعر خمسة عشر بحرا، وزاد عليها الأخفش بحرا سماه المتدارك؛ لأنه استدركه على العروض الذي وضعه الخليل، واستحدث الشعراء بعد ذلك في هذه البحور ضروبا من الأوزان تتسع لأغراض النظم في كل حالة من أحوال الشعور، والعاطفة التي تعرض للنفس البشرية، فوافقت هذه الأوزان أغراض الحماسة والفخر والغزل والرثاء، كما وافقت أغراض الغناء والرقص وأغراض القصة والمسرح، وأغراض الأحاديث والثنائيات، ولم تضق بالتوشيح والتسميط، ولا بالأناشيد الفردية والأناشيد الجماعية، ولم يعجز عن التعبير بها في فنون القصة على التخصيص ناظم ذو معرفة وثقافة، ولا ناظم من الأميين أصحاب السليقة المطبوعة في ملاحم اللغة العامية.
فالملحمة اليونانية الكبرى - وهي الإلياذة - نقلت إلى العربية الفصحى في هذه الأوزان.
Page inconnue