فاتحة عريقة
اللغة الشاعرة
لغة التعبير
الزمن في اللغة العربية
الشعر ديوان العرب
نقد الشعر العربي
النقد العلمي
الشعر العربي والمذاهب الغربية الحديثة
فاتحة عريقة
اللغة الشاعرة
لغة التعبير
الزمن في اللغة العربية
الشعر ديوان العرب
نقد الشعر العربي
النقد العلمي
الشعر العربي والمذاهب الغربية الحديثة
اللغة الشاعرة
اللغة الشاعرة
تأليف
عباس محمود العقاد
فاتحة عريقة
بدأت اللغة العربية تاريخها المعروف بخصائصها المميزة لها اليوم في عصر سابق للدعوة الإسلامية، يرده علماء المقارنة بين اللغات إلى القرن الرابع قبل الهجرة، ويرجع - فيما نعتقد - إلى عصر قبل ذلك؛ لأن المقابلة بينها وبين أخواتها السامية يدل على تطور لا يتم في بضعة أجيال، ولا بد له من أصل قديم يضارع أصول التطور في أقدم اللغات، ومنها السنكسريتية وغيرها من اللغات الهندية الجرمانية.
فلا بد من أجيال طويلة تمضي قبل أن ينتهي تطور اللغة إلى هذه التفرقة الدقيقة بين أحكام الإعراب، أو بين صيغ المشتقات، أو بين أوزان الجمع والمثنى وجموع الكثرة والقلة في الأوزان السماعية، ولا بد من فترة طويلة يتم بها تكوين حروف الجر والعطف وسائر الحروف التي تدخل في تركيب الجملة بمعانيها المختلفة، وتنفصل بلفظها من ألفاظ الأسماء والأفعال التي تولدت منها، وهي في بعض اللغات لم تنفصل عنها حتى اليوم.
ولكن هذه اللغة - على قدمها - تتجدد لها مزايا متعددة كلما تقدمت الدراسات الحديثة في العلوم اللسانية والصوتية، ويرجع الباحثون إلى خصائصها، فيكشفون جانب المزية فيها وجانب الرجحان منها على غيرها، بعد أن كان فريق منهم يحسبها شذوذا يدل على النقص أو يدل على جمود في التطور على سنة اللغات الشائعة بين لغات الحضارة الكبرى.
وقد فرقت هذه الدراسات الحديثة بين المزايا التي يتغنى بها أصحاب العصبيات القومية، فخرا بألسنتهم وطبائعهم وعقولهم على عادة جميع الأقوام، وبين المزايا العلمية التي تستند إلى خصائص النطق والتعبير المتفق عليها في العلوم اللسانية، ولا محاباة فيها لهذه اللغة أو لتلك على حسب علاقاتها الجنسية أو الدينية.
وهذه هي المزايا التي عنينا بدرسها في الفصول التالية، وقدمنا منها مزايا التعبير الشعري ومزايا التعبير على العموم؛ لأنها في مبدأ الأمر بحوث دعت إليها المناقشة في موضوع الشعر وتطوره، أو تطور قواعده وأوزانه، وناسبتها بحوث أخرى عن المزايا العلمية في لغتنا ترتبط بها، ويصح أن تكون مثالا للمزايا التي تثبت للغة على لسان الغرباء عنها، كما تثبت لها على لسان أبنائها الفخورين بمحاسنها وفضائلها.
قلنا في تقرير من تقارير لجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب: إن اللغة العربية وصفت قديما - وحديثا - بأنها لغة شعرية، ثم قلنا: إن الذين يصفونها بهذه الصفة يقصدون بها أنها لغة يكثر فيها الشعر والشعراء، وأنها لغة مقبولة في السمع يستريح إليها السامع، كما يستريح إلى النظم المرتل والكلم الموزون، كما يقصدون بها أنها لغة يتلاقى فيها تعبير الحقيقة، وتعبير المجاز على نحو لا يعهد له نظير في سائر اللغات.
ثم أشرنا إلى كلام الجاحظ عن انفراد اللغة العربية بالعروض، فعقبنا عليه بأنه كلام علم وحق، لا يبعث إليه مجرد الفخر بالعصبية؛ لأن الفخر كثيرا ما يزيد على تقدير الواقع ذهابا مع العاطفة ... أما الحقيقة هنا فهي أكبر من قول القائلين: إن اللغة العربية لغة شعرية لانفرادها بفن العروض المحكم أو جمال وقعها في الأسماع، فإنها لغة شاعرة ولا يكفي أن يقال عنها: إنها لغة شعر، أو لغة شعرية، وجملة الفرق بين الوصفين أن اللغة الشاعرة تصنع مادة الشعر وتماثله في قوامه وبنيانه؛ إذ كان قوامها الوزن والحركة، وليس لفن العروض ولا للفن الموسيقي كله قوام غيرها.
وفي الصفحات التالية تفصيل واسع لهذا المعنى، ننتقل بعده من مزايا اللغة في التعبير الشعري إلى مزاياها في التعبير على إطلاقه، ونستند في ذلك إلى الحجة التي يقول بها الباحث الغريب عن اللغة حين يبني بحثه على قواعد العلوم اللسانية، ويسرنا بعد ذلك أن نقول: إنها توافق ما ينادي به أبناء اللسان العربي حين يذهبون بالفخر إلى أقصى مداه.
في الصفحات التالية فصول عن اللغة الشاعرة، وعن اللغة المعبرة، وعن المقابلة بين فن العروض العربي وأمثاله من فنون اللغات الأخرى، وعن فلسفة الحياة كما تصورها لنا المأثورات الشعرية من عهد الجاهلية إلى ما بعد الإسلام، وعن الموافقة بين مقاييس النقد، ومقاييس التاريخ في الشعر القديم، ومعها فصول تناسبها وتجري في مجراها، نتحرى بها إبراز المزايا العلمية لهذه اللغة الشاعرة في إبان الحاجة إليها؛ لأن الحاجة إلى إبراز هذه المزايا تمس غاية المساس في زمن تعرضت فيه هذه اللغة - وحدها - بين لغات العالم لكل ما ينصب عليها من معاول الهدم، ويحيط بها من دسائس الراصدين لها؛ لأنها قوام فكرة وثقافة وعلاقة تاريخية؛ لا لأنها لغة كلام وكفى.
ومن واجب القارئ العربي إلى جانب غيرته على لغته أن يذكر أنه لا يطالب بحماية لسانه ولا مزيد على ذلك، ولكنه مطالب بحماية العالم من خسارة فادحة تصيبه بما يصيب هذه الأداة العالمية من أدوات المنطق الإنساني، بعد أن بلغت مبلغها الرفيع من التطور والكمال، وإن بيت القصيد هنا أعظم من القصيد كله ... لأن السهم في هذه الرمية يسدد إلى القلب، ولا يقف عند الفم واللسان، وما ينطق به في كلام منظور أو منثور.
عباس محمود العقاد
اللغة الشاعرة
(1) الحروف
اللغة الشاعرة هي اللغة العربية.
وليس في اللغات التي نعرفها، أو نعرف شيئا كافيا عن أدبها، لغة واحدة توصف بأنها لغة شاعرة غير لغة الضاد، أو لغة الأعراب، أو اللغة العربية.
وتقدم أننا لا نعني باللغة الشاعرة ما يوصف أحيانا باللغة الشعرية، فإن الكلمة قد تكون شعرية صالحة للنظم في موقعها من السمع، ولكنها لا تكون مع ذلك جارية مجرى الشعر في نشأتها ووزنها واشتقاقها، بل تكون كأنها الطعام الذي يصلح لتركيب البنية، ولكنه هو في ذاته ليس بالبنية الحية، وليس باللحم والدم الذي يتركب منه أجسام الأحياء.
كذلك لا نريد باللغة الشاعرة أنها لغة يكثر فيها الشعر والشعراء، فإن كثرة الشعراء تتوقف أحيانا على كثرة عدد المتكلمين باللغة، فلا عجب أن تكون الأمة التي ينتسب لها خمسون مليونا أكثر شعرا من أمة ينتسب إليها عشرة ملايين، ولو لم تكن في لغتها مزية شعرية تفوق بها سائر اللغات، وليس من العجب أن يكثر الشعر والشعراء في لغة صالحة للتعبير على اختلاف الموضوعات، التي يتناولها التعبير المنظوم أو المنثور.
إنما نريد باللغة الشاعرة أنها لغة بنيت على نسق الشعر في أصوله الفنية والموسيقية، فهي في جملتها فن منظوم منسق الأوزان والأصوات، لا تنفصل عن الشعر في كلام تألفت منه، ولو لم يكن من كلام الشعراء.
وهذه الخاصة في اللغة العربية ظاهرة من تركيب حروفها على حدة، إلى تركيب مفرداتها على حدة، إلى تركيب قواعدها وعباراتها، إلى تركيب أعاريضها وتفعيلاتها في بنية القصيد.
وفي هذا المقال نبدأ من البداءة وهي حروف الهجاء، أو الحروف التي اشتهرت باسم الحروف الأبجدية، واجتمع منها بعد ترتيبها الأخير ثمانية وعشرون.
ليست الأبجدية العربية أوفر عددا من الأبجديات في اللغات الهندية الجرمانية، أو اللغات الطورانية أو اللغات السامية، فإن اللغة الروسية - مثلا - تبلغ عدة حروفها خمسة وثلاثين حرفا، وقد تزيد ببعض الحروف المستعارة من الأعلام الأجنبية عنها.
ولكنها على هذه الزيادة في حروفها لا تبلغ مبلغ اللغة العربية في الوفاء بالمخارج الصوتية على تقسيماتها الموسيقية؛ لأن كثيرا من هذه الحروف الزائدة إنما هو حركات مختلفة لحرف واحد، أو هو حرف واحد من مخرج صوتي واحد، تتغير قوة الضغط عليه كما تتغير قوة الضغط في الآلات، دون أن يستدعي ذلك افتنانا في تخريج الصوت الناطق من الأجهزة الصوتية في الإنسان.
فهناك حرف ينطق «يا» وحرف ينطق «يو» وحرف ينطق «تسي»، وآخر ينطق «تشي»، وحروف أخرى هي في حقيقتها تثقيل لحروف الباء والفاء والجيم، ليس فيها تنويع نطقي يدل على التصرف الحي في استخراج الأصوات الكلامية من مخارجها المتعددة، ولكنها تنويع آلي مادي لدرجة الضغط على المخرج الواحد بغير كسب للأجهزة الناطقة في تصريفاتها المتعددة.
وبمثل هذا الاختلاف في الضغط أو الاختلاف في الحركة يمكن أن تبلغ حروف الأبجدية خمسين وستين، ولا تدل على تنويع مفيد لمخارج النطق الإنساني على حسب الملكة الموسيقية الكامنة في استعداده.
وتظل اللغة العربية بعد ذلك أوفر عددا في أصوات المخارج التي لا تلتبس، ولا تتكرر بمجرد الضغط عليها، فليس هناك مخرج صوتي واحد ناقص في الحروف العربية، وإنما تعتمد هذه اللغة على تقسيم الحروف على حسب موقعها من أجهزة النطق، ولا تحتاج إلى تقسيمها باختلاف الضغط على المخرج الواحد، كما يحدث في الباء الخفيفة والباء الثقيلة التي يميزونها بثلاث نقط من تحتها بدلا من النقطة الواحدة، أو كما يحدث في الفاء ذات النقطة الواحدة والفاء ذات النقط الثلاث (V) ، أو كما يحدث في الجيم المعطشة وغيرها.
وعلى هذه الصورة تمتاز اللغة العربية بحروف لا توجد في اللغات الأخرى كالضاد والظاء والعين والقاف والحاء والطاء، أو توجد في غيرها أحيانا، ولكنها ملتبسة مترددة لا تضبط بعلامة واحدة.
وعلى هذه الصورة أيضا استغنت اللغة العربية عن تمثيل الحرف الواحد بحرفين مشتبكين أو متلاصقين، كما يكتبون الثاء والذال والشين وغيرها في بعض اللغات. •••
ذلك ما نعنيه باللغة الشاعرة في تقسيم حروفها، فهي لغة إنسانية ناطقة تستخدم جهاز النطق الحي أحسن استخدام يهدي إليه الافتنان في الإيقاع الموسيقي، وليس هنا أداة صوتية ناقصة تحس بها الأبجدية العربية؛ إذ ليس في حروف الأبجديات الأخرى حرف واحد يحوج العربي إلى افتتاح نطق جديد لم يستخدمه، وكل ما هنالك أنه قد يحوجه إلى الضغط الآلي على بعض الحروف المعهودة، وهو ضغط يدل على العجز عن تنويع الأصوات، واستخدام أجهزة الحياة الناطقة على أحسن الوجوه، وأقربها إلى التنويع والتفصيل.
وقد كانت سليقة اللغة العربية هي الهداية النافعة لعلمائها فيما اختاروه من ترتيب الأبجدية على وضعها الأخير، فإن هناك تناسبا موسيقيا فنيا بين الحروف المتقاربة لا مثيل له في الأبجديات الأعجمية، التي تلحق فيها السين بالباء، أو التي يمكن ترتيبها على غير هذا الوضع دون تغيير في دلالات الألفاظ أو دلالات الأشكال.
أما اللغة العربية فخذ منها - مثلا - حروف الباء والتاء والثاء، فإن الباء قريبة من مخرج التاء، وأن التاء والثاء لتتقاربان حتى ليقع بينهما الإبدال في كثير من الكلمات.
وخذ مثلا حرفي الحاء والخاء، أو حرفي الدال والذال، أو حرفي السين والشين، أو حرفي الصاد والضاد، أو حرفي الطاء والظاء، أو حرفي العين والغين، أو القاف والكاف، أو حروف اللام والميم والنون، فإن التقارب بينها في النسق يشبه التقارب بينها في اللفظ كما يشبه التقارب بينها في الشكل كلما امتنع اللبس عند تكرار الأشكال.
وهذه هي اللغة الشاعرة في حروفها قبل أن تتألف منها كلمات، وقبل أن تتألف من الكلمات تفاعيل، وقبل أن تتألف من التفاعيل بيوت وبحور.
فإذا كان الشعر روحا يكمن في سليقة الشاعر حتى يتجلى قصيدا قائم البناء، فهذا الروح في الشعر العربي يبدأ عمله الأصيل مع لبنات البناء، قبل أن تنتظم منها أركان القصيد. (2) المفردات
إن جهاز النطق الإنساني أداة موسيقية وافية، لم تحسن استخدامها على أوفاها أمة من الأمم القديمة أو الحديثة كما استخدمتها الأمة العربية؛ لأنها انتفعت بجميع المخارج الصوتية في تقسيم حروفها؛ ولم تهمل بعضها وتكرر بعضها الآخر بالتخفيف تارة والتثقيل تارة، كما فعل المتكلمون بسائر اللغات المعروفة، ومنها الهندية الجرمانية والسامية والطورانية.
وهذا الذي تكلمنا عنه في المقال السابق، الذي خصصناه لدلالة الحروف على السليقة الشاعرة في اللغة العربية.
فإذا انتقلنا من الحروف إلى الكلمات التي تتألف منها، فهذه الدلالة ظاهرة جدا كظهورها في الحروف المتفرقة أو أظهر؛ لأنها تضيف الموسيقية في القواعد والموسيقية في المعاني إلى الموسيقية الملحوظة في مجرد النطق، أو السماع بغير معنى يتم به التخاطب بين المتكلمين.
وحسبنا أن نلاحظ في تركيب المفردات من الحروف أن الوزن هو قوام التفرقة بين أقسام الكلام في اللغة العربية، وأن اللغات السامية التي تشارك هذه اللغة في قواعد الاشتقاق لم تبلغ مبلغها في ضبط المشتقات بالموازين التي تسري على جميع أجزائها، وتوفق أحسن التوفيق المستطاع بين مبانيها ومعانيها.
فالفرق بين ينظر وناظر ومنظور ونظير ونظائر ونظارة ومناظرة ومنظار ومنظر ومنتظر، وما يتفرع عليها هو فرق بين أفعال وأسماء وصفات وأفراد وجموع، وهو كله قائم على الفرق بين وزن ووزن، أو قياس صوتي وقياس مثله، يتوقف على اختلاف الحركات والنبرات، أي: على اختلاف النغمة الموسيقية في الأداء.
وحكم الأسماء الجامدة كحكم المشتقات في هذه الخصلة، فإنها تجري على أوزان معلومة تشملها بأقسامها على تفاوت قوتها ذهابا مع القول القائل: بأن زيادة المبنى زيادة في المعنى.
وعلى غير هذا النسق تجري أوزان الكلمات في اللغات الأخرى، وأولها لغات النحت على التخصيص، فإن الكلمات فيها قد تجري على وزن واحد بغير دلالة على اتفاق في المعنى، ولا في تقسيم الأسماء والأفعال والحروف، ولولا هذه المشابهة العرضية بين بعض كلماتها لكان فيها من الأوزان عداد ما فيها من الكلمات.
إن كلمات «آن وبان وتان وثان وجان وذان وران وفان ومان» توجد في اللغة الإنجليزية اتفاقا، ومنها الحروف والأفعال والأسماء، فليس بين أوزانها ومعانيها ارتباط على الإطلاق كالارتباط القياسي، الذي يوجد في أوزان اللغة العربية كلها اطردت على قياس واحد، وهذا الذي نعنيه بدلالة الحركة الموسيقية في تركيب المفردات على حدة، بعد ما رأيناه من دلالة المخارج الصوتية على شاعرية اللغة في تكوين الحروف.
وقد يختلف الفعلان في قوة التعبير باختلاف الحركة بينهما، كما يحدث بين قسم وقسم بتشديد السين، وكما يحدث بين شهد وشاهد، وبين عرف وعرف، وبين الأفعال اللازمة والأفعال المتعدية لمفعول واحد أو لمفعولين على وجه التعميم.
وتختلف الأوزان في الجموع، فتدل على الكثرة أو القلة كما تختلف أوزان الصفات أحيانا، فتدل على التمكن أو النقص في تلك الصفات، ومن أمثلتها صفات الكبير والمتكبر والمكابر والكبارة، إلى أشباه هذه الفوارق الخفية التي لا نظير لها في غير اللغة العربية.
ومن خصائص هذه اللغة البليغة في تعبيراتها أن الكلمة الواحدة تحتفظ بدلالتها الشعرية المجازية، ودلالتها العلمية الواقعية في وقت واحد بغير لبس بين التعبيرين.
فكلمة الفضيلة تدل بغير لبس على معنى الصفة الشريفة في الإنسان، ولكن مادة فضل بمعنى الزيادة على إطلاقها لا تفقد دلالتها الواقعية على المواد المحسوسة، بل يصح عند جميع المتكلمين والمستمعين أن يفهموا «فضول» القول على أنه وصف غير حميد ؛ لأن الزيادة في غير جدوى تخالف الزيادة المطلوبة إذا كان المقام مقام القول في صفات الكلام.
بل يجوز للمتكلم البليغ أن يستخدم مادة البلوغ للوصول إلى البلد أو المكان، ويستخدم مادة البلاغة والإبلاغ للوصول إلى إقناع العقول، والإفضاء إليها بالأثر المنشود من المقال.
ولا يصعب الجمع بين التعبير الواقع والتعبير المجازي الشعري في مئات من الكلمات تجري على الألسنة كل يوم، وتؤدي إلى السامعين معانيها النظرية الفكرية، ومعانيها الحسية في وقت واحد بغير لبس بين المقصود في كل مقام.
فلا لبس في قول القائل: إنه «يقيد شوارد الأفكار»، ولو شفعها بعد ذلك باستخدام كلمة القيد في تقييد الأسير والسجين.
ولا لبس بين الشرف بمعنى رفعة المقام وبين الشرف الذي يفهمه السامع، إذا سمع عن بناء من الأبنية أنه قائم على شرف من الأرض، أو أنه مشرف على ما دونه من الأمكنة.
ولا لبس بين القلب بما يحتويه من الحدس والشعور والعاطفة، وبين القلب من قلب الشيء يقلبه إذا أريد به تغيير وضعه أو موضوعه.
ولا لبس بين الموضوع بمعنى الفكرة التي نبحثها وندرسها، وبين الموضوع من الوضع في مكان محسوس.
وسليقة اللغة الشاعرة هي التي تجعل السامع العربي يفهم المعنى المقصود على الأثر إذا سمع واصفا يصف حسناء بأنها بدر على غصن فوق كثيب؛ لأن ذهن السامع العربي تعود النفاذ في الصورة الحسية إلى دلالتها النفسية، فهو لا يرسم في ذهنه قمرا وغصن شجرة وكومة من الرمل حين يستمع تلك العبارة، ولكنه يفهم من البدر إشراق الوجه ومن الغصن نضرة الشباب ولين الأعطاف، ومن الكثيب فراهة الجسم، ودلالتها على الصحة وتناسب الأعضاء.
وإن سهولة استخلاص المجاز الشعري من الألفاظ المحسوسة لهي السليقة الشاعرة، التي يحار لها أبناء اللغات المحرومة من هذه المزية، فيختلط الأمر على نقادهم، ويحارون كيف يوفقون بين الصور التي تنقلها إليهم الألفاظ المسموعة، وتبقى في أذهانهم وأخيلتهم لاصقة بأجسامها المنظورة أو الملموسة بلا فكاك من قيود المعجمات.
إن السامع العربي يسمع التمثيل المشهور في قول القائل: «رأيت أسدا في الحمام»، فلا تتمثل له غير صورة البطل الشجاع كما يكون الإنسان المتصف بالبطولة والشجاعة.
وبهذه السليقة الشاعرة تتصل المفردات اللغوية بأشكالها المحسوسة أو تنفصل عنها، ولا تبقى لها غير معانيها المجازية؛ لأنها مفردات في لغة شاعرة يعمل فيها الخيال والذوق، كما تعمل فيها الأبصار والأسماع، وسنزيد هذا المعنى بيانا في الفصول التالية. (3) الإعراب
من الأسئلة الشائعة بين مؤرخي الفنون واللغات؛ سؤال عن الشعر والنثر أيهما أسبق إلى الظهور، وأيهما أقدم في تاريخ الأدب؟
والذين يسألون هذا السؤال لا يجهلون أن الكلام المنثور سابق للكلام المنظوم، فلا محل للخلاف إذا كان مداره على ترتيب ظهور النطق بالكلام للتفاهم بين الناس في شئونهم المشتركة، وترتيب ظهور الكلام المنظوم الذي ينفرد بنظمه الشعراء وأصحاب الغناء.
ولكن السؤال على ذلك الوجه يدور على ترتيب التفاهم بأصوات الإيقاع ودلالة الحركات، ثم التفاهم بالكلمات المتناثرة التي احتوتها لغة الإنسان الأولى.
فعلى هذا الوجه يكون محل الخلاف ظاهرا؛ لأنه خلاف بين القائلين: بأن التفاهم بأصوات الإيقاع سابق لتطور اللغة الأولى، وبين القائلين: بأن اللغة تطورت إلى غايتها من التمام قبل أن يعتمد الناس على التفاهم بالأصوات الموقعة على حسب العواطف، أو على حسب دلالة الحركات والإشارات.
فلا حاجة إلى الكلمات لفهم معنى الصوت الذي ينبعث من بعيد للاستغاثة وإعلان الخطر والفزع، ولا حاجة إلى الكلمات لفهم معاني الأصوات التي يرسلها الصائحون على البعد أو على القرب للتهليل والاستبشار، وإعلان الفرح والابتهاج.
ولا حاجة إلى الكلمات لفهم معنى الأنين على ملامح المبتئس الكئيب، الذي يكاد لا يبين من الضعف والخوف، أو معنى الرجاء والتوسل بما يشبه الآهات وحروف التنبيه، والإشارة التي لم تبلغ بعد مبلغ الكلم المفهوم.
فهذه الأصوات التي تدل السامع بإيقاعها، ونغمتها هي المقصودة بالشعر البدائي قبل تطور اللغة، واستيفاء وسائل التعبير بالجمل والتراكيب، فإن تلك الأصوات الموقعة حقيقة بأن تسمى شعرا حين نحسب الكلام الناقص المختلط قبل تطور اللغة فنا من فنون القول المنثور.
ويرى أناس من مؤرخي اللغات أن الإعراب في اللغة العربية أثر من آثار استخدام الحركة في التعبير عن المعنى، وأن اللغة العربية تفردت بين لغات العالم بهذه الخاصة الفنية مع شيوع أنواع من الإعراب في بعض اللغات الهندية الجرمانية، كاللاتينية وبعض اللغات السامية كالعبرية والحبشية، وبعض اللغات القديمة المهجورة كاللغة المصرية على عهد الفراعنة.
إلا أن الإعراب «العربي» واف مقرر القواعد يعم أقسام الكلام أفعالا وأسماء وحروفا، حيثما وقعت بمعانيها من الجمل والعبارات، ولا يزيد الإعراب في اللغات الأخرى على إلحاق طائفة من الأسماء والأفعال بعلامات الجمع والإفراد، أو علامات التذكير والتأنيث، وما زاد على ذلك فهو مقصور على مواضع محدودة، ولا يصاحب كل كلمة ولا كل عبارة كما يصاحب الكلمات العربية، حيثما وقعت من عباراتها المفيدة.
وهذا الإعراب المفصل في هذه اللغة الشاعرة هو آية السليقة الفنية في التراكيب العربية المفيدة، توافرت لها جملا مفهومة بعد أن توافرت لها حروفا تجمع مخارج النطق الإنساني على أفصحها وأوفاها، وبعد أن توافرت لها مفردات ترتبط فيها المعاني بضوابط الحركات والأوزان.
فليس أوفق للشعر الموزون من العبارات التي تنتظم فيها حركات الإعراب، وتتقابل فيها مقاطع العروض وأبواب الأوزان وعلامات الإعراب.
فإن هذه الحركات والعلامات تجري مجرى الأصوات الموسيقية، وتستقر في مواضعها المقدورة على حسب الحركة والسكون في مقاييس النغم والإيقاع، ولها بعد ذلك مزية تجعلها قابلة للتقديم والتأخير في كل وزن من أوزان البحور؛ لأن علامات الإعراب تدل على معناها كيفما كان موقعها من الجملة المنظومة، فلا يصعب على الشاعر أن يتصرف بها دون أن يتغير معناها؛ إذ كان هذا المعنى موقوفا على حركتها المستقلة الملازمة لها، وليس هو بالموقوف على رص الكلمات كما ترص الجمادات.
وإن هذه الموسيقية لتعلم النحاة أحيانا كيف ينبغي أن يفهموا الشعر في هذه اللغة الشاعرة؛ لأنه المزية الشعرية في قواعد إعرابها أسبق من المصطلحات التي يتقيد بها النحاة والصرفيون.
يقول النابغة:
فبت كأني ساورتني ضئيلة
من الرقش في أنيابها السم ناقع
فينسى النحاة أن علامة الرفع في القافية تدل على الصفة، وتعطي الكلمة معناها الذي يلائم الوزن ويلائم الإعراب، وما أخطأ النابغة حين قال: «ضئيلة ناقع في أنيابها السم ...» ولا هو بمخطئ في تأخير الصفة إلى مكان القافية؛ لأنها - وهي مرفوعة - لا تكون إلا صفة موافقة لموصوفها أينما انتقل بها ترتيب الكلم المنظوم.
ويقول أبو سعيد الرستمي في وصف دار ابن عياد:
وسامية الأعلام تلحظ دونها
سنا النجم في آفاقها متضائلا
فلا يضير الشاعر أن يضع النحاة «متضائلا» هنا حيث أرادوا من مواضع الإعراب: هي حال وإن أرادها النحاة مفعولا ثانيا، وهي قافية مطمئنة في موقعها على حسب الوزن، وعلى حسب المعنى في كل كلام منظوم أو منثور، ولا يستقيم هذا النسق لشاعر ينظم بغير اللغة العربية؛ لأن الترتيب الآلي، يقيده بموضوع لا يتعداه، حيث يطلقه الإعراب «العربي» المعدود في عرف أعدائه الجهلاء قيدا من القيود.
وتتبع هذه الضآلة إلى موقعها من نظم شاعر معاصر يضعها حيث صح له وضعها بلفظها ووزنها ومعناها، فقال:
قطعوا بأيديهم خيوط سيادة
كانت كخيط العنكبوت ضئيلا
إن «ضئيلا» في هذا البيت الذي وصف به «شوقي» سيادة بني عثمان لتحمد للإعراب العربي، تلك الطمأنينة التي تستقر بها في موضعها، فلا تضطرها الخيوط إلى الجمع، ولا تضطرها السيادة إلى التأنيث، وليس عليه أن يقول: «كانت ضئيلة» ولا أن يقول: «قطعوا خيوطا ضآلا» لأن لسان «الحال» هنا أصدق من لسان المقال. •••
ولم تكن قواعد الإعراب لتسعد الشاعر هذا الإسعاد في تطويع أوزانه لمعانيه، لو أنه نظم قصائده بلغة أجنبية؛ لأنه لا يظفر في تلك اللغة بالكلمات التي تتساوى فيها أوزان الصرف وأوزان الشعر، ولكن اللغة العربية تنفرد بسمة الشاعرية؛ لأنها جمعت على هذا المثال البديع بين أبواب الاشتقاق وأوزان العروض وحركات الإعراب. (4) العروض
وجد الشعر في كل لغة من لغات القبائل البدائية والأمم المتحضرة.
ولكنه لم يوجد فنا كاملا مستقلا عن الفنون الأخرى في غير اللغة العربية.
والمقصود بالفن الكامل هو الشعر الذي توافرت له شروط الوزن والقافية، وتقسيمات البحور والأعاريض التي تعرف بأوزانها وأسمائها، وتطرد قواعدها في كل ما ينظم من قبيلها.
فالشعر في كثير من اللغات قد يلاحظ فيه الإيقاع، ولا تلاحظ فيه القافية ولا الأوزان المقررة، وقلما تلاحظ القافية في الأشعار التي تنشدها الجماعات، كالشعر المسرحي عند اليونان، وتراتيل الصلاة والعبادة عند العبريين.
وربما لوحظت فيه القافية على غير وزن مطرد، كما تلاحظ في الأغاني الفردية أو أغاني الرقص التي تردد فيها الجماعة كلمات قائد الفرقة الراقصة عند مواقف معينة مرسومة بقوافيها، أو بحروف الروي فيها.
أما الشعر الذي تلاحظ القافية والوزن وأقسام التفاعيل في جميع بحوره وأبياته، فهو خاصة من خواص اللغة العربية دون غيرها من لغات العالم أجمع، ومنها اللغات السامية التي تنتمي إليها لغة الضاد.
وقد خطر لبعضهم أن هذا الفن العربي أثر من آثار المزاج السامي، لما اشتهرت به السلالات السامية من نشاط الحس وسرعة الاستجابة للمؤثرات.
ولكن البحوث المشرقية منذ القرن التاسع عشر كشفت عن أوضاع الشعر عند أبناء الأمم السامية القديمة، والأمم السامية التي بقيت لها بقية من الأعقاب في هذه الأزمنة، فثبت أنها جميعا خلو من فنون العروض الملتزمة في المنظومات العربية، وأن أكثر شعرها من قبيل النثر الذي يقيمه الغناء ويصلحه الإيقاع، تارة بالمد وتارة بالقصر على غير قاعدة مطردة، وأن الشاعر الواحد عندهم قد ينظم عشرات القصائد، فلا تتفق فيها قصيدتان على وتيرة واحدة، ولا يتأتى له أن يسمي قصيدة منها باسمها وعلامات وزنها، إلا أن يذكر سطرا من سطورها.
فالشعر في اللغة العبرية، وهي أشهر اللغات السامية بعد العربية إنما هو سطور متلاحقة تعرف الصلة بينها بترديد فقرة منها، أو بتفصيل عبارة مجملة تذكر في السطر الأول، وتشرحها السطور التالية، أو بالاستجابة بين الشرط والجواب، وبين الصلة والموصول لتعليق المعنى المنتظر على نحو يشبه تعليق السمع بانتظار القافية.
ونكتفي بمثل واحد من أمثلة الوصايا التي وردت في كتاب العهد الجديد منسوبة إلى السيد المسيح - صلوات الله عليه - وهذه فقرات منها:
اسألوا تعطوا.
اطلبوا تجدوا.
اقرعوا يفتح لكم.
لأن من يسأل يأخذ، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يفتح له الباب .
من منكم يسأله ابنه خبزا فيعطيه حجرا.
ومن منكم يسأله سمكة فيعطيه حية.
أو يسأله بيضة فيعطيه عقربا.
فإذا كنتم وأنتم أشرار تحسنون العطاء، فكيف بالمنعم الذي في السماء؟
وكل ما ورد في كتب العهد القديم والعهد الجديد من التراتيل والأناشيد، فهو على أسلوب كهذا الأسلوب، يتردد فيه الإيقاع بغير وزن وبغير قافية، ويعتمدون فيه على حركات الغناء، ولا يستقل فيه الشعر بأوزانه المقسمة وقوافيه الملتزمة، وعلاماته التي يجمعها فن العروض، وتقبل التجديد والتنويع تفريعا على هذه الأصول إلى غير انتهاء.
فالعرب لم يبدعوا فن الشعر؛ لأنهم سلالة سامية؛ ولم يبدعوه لأنهم سلكوا فيه مسلك الأمم الأخرى مبتكرين أو مقلدين، ولكنهم تفردوا بفنهم الذي لا نظير له بين أمم العالم لأسباب كثيرة ذكرنا بعضها فيما تقدم، ونضيف إليها عماد هذه الأسباب في هذا المقال.
ذكرنا في المقالات السابقة خاصة الفن الموسيقي في مخارج الحروف العربية، وذكرنا خاصة الأوزان والحركات على حسب معاني المشتقات، ثم ذكرنا خاصة الإعراب وارتباط قواعده بالحركات، ودلالة هذه الحركات على معانيه دلالة تسمح بالتقديم والتأخير، ووضع الكلمة في الموضع الذي يناسب مبنى البيت ولا يخل بمعناه.
أما السبب الذي نحسبه عماد هذه الأسباب جميعا في اختصاص الشعر العربي بفنون الوزن والقافية فهو الحداء.
إن الحداء غناء مفرد موقع على نغمة ثابتة، وهي حركة الجمل في حالتي الإسراع والإبطاء.
ولا بد للغناء المفرد من القافية؛ لأنها هي التي تنبه السامع إلى المقاطع والنهايات خلافا للغناء المجتمع، الذي يشترك فيه الكثيرون فيعرفون من سياقه أين يكون الوقوف وأين يكون الاسترسال.
ولا بد للغناء الملازم لحركة واحدة من اطراد الحركة ومجاراتها في إيقاعها، وبخاصة حين تكون الحركة الطبيعية نمطا لا يقع فيه الخطأ والاختلاف، كحركة الإبل في السرعة والإبطاء، فإنها لا تجري على صناعة تتفاوت في الإتقان، ولكنها تنساق إليها بالفطرة، وتعود إليها فتعيدها بجميع أجزائها.
ومن المشاهد أن هذا الفن المطبوع كان قدوة للفنون المصنوعة في نظم الشعر بين أبناء اللغات الآرية، كما كان قدوة لهذه الفنون المصنوعة بين أبناء اللغات السامية، فإن شعراء الفرس اقتبسوا أوزان العروض العربية، وفضلوها على الأوزان التي اخترعها لهم الموسيقيون، مع قدم الآلات الموسيقية عندهم، وطول العهد بها في حضارتهم قبل الإسلام بعدة قرون.
وكذلك اقتبس شعراء اللغة العبرية أوزان العروض العربية بعد اتصالهم بالعرب والمغرب، ولم يكن للعبريين شعر موزون قبل ذاك.
على أن كلمة «الشعر» مع تحريفاتها الكثيرة ترجع في اللغات السامية إلى أصلها العربي كما يرى الثقات من اللغويين المحدثين، فكلمة (شيرو) في الأكدية القديمة تدل على هتاف الأناشيد في الهياكل، ومنها انتقلت إلى العبرية التي تأتي فيها كلمة (شير) بمعنى «أنشد»، وإلى الآرامية التي تترادف فيها كلمة «شور»، وكلمات الترنم والترتيل، ويسمى كتاب نشيد الإنشاد بالعبرية «شيرهشيريم» بهذا المعنى.
وليس التحريف بعيدا في الانتقال من لفظ «شعر» إلى لفظ «شير» إذا علمنا أن حرف العين، وبعض حروف الحلق سقطت من «الأكدية» قديما كما سقطت من أكثر اللغات، وهو بحث فصله الأستاذ مرمرجي في كتاب «المعجميات»، فليرجع إليه من أراد التفصيل.
ومهما يكن من رأي في نشأة الأعاريض العربية، فالحقيقة التي لا محل فيها لاختلاف الآراء أن لغتنا الشاعرة قد انفردت بفن من النظم الشعري لم تتوافر شرائطه وأدواته لفن النظم في لغة من اللغات. (5) أوزان الشعر
فن الشعر في اللغة العربية يناسب هذه اللغة الشاعرة التي انتظمت مفرداتها وتراكيبها، ومخارج حروفها على الأوزان والحركات وفصاحة النطق بالألفاظ، فأصبح لها من الشعر الموزون فن مستقل بإيقاعه عن سائر الفنون، التي يستند إليها الشعر في كثير من اللغات.
فلا حاجة بالشعر العربي إلى إيقاع الرقص الذي يصاحب إنشاد الشعر في اللغات الأخرى؛ لأن أشعار تلك اللغات تستعير الحركة المنتظمة من دقات الأقدام وحركات الأجسام في حلقات الرقص، أو اللعب المنسق على حسب خطوات الإقبال والإدبار والدوران، ولا حاجة بالشعر العربي إلى ملازمة الإيقاع المستعار من الرقص واللعب؛ لأن أوزانه مستقلة بإيقاعها الذي يميز أقسامها وحدودها، ويغنيها عن الأقسام والحدود في الفنون الأخرى.
ولا حاجة بالشعر العربي إلى مصاحبة الغناء لترتيب أوقاته، وضبط مواقع المد والسكون في كلماته؛ لأنه مرتب مضبوط في كل كلمة، بل في كل جزء من أجزاء الكلمة، يجمع بين الحركة والسكون ... فما من كلمة عربية تخلو من حرف متحرك وحرف ساكن على اختلاف الترتيب بين الحركة والسكون، وما من وزن على وضع من الأوضاع لا تضبطه حركة الشعر المسموع بغير حاجة إلى الغناء.
وأسباب هذا الفن الكامل الذي استوفى أوزانه في بحوره وقوافيه تظهر من دراسة تاريخ النظم في اللغة العربية، ونعرض لها ببعض التفصيل في مناسبة أخرى، ولكن السبب الشامل الذي يحيط بجميع تلك الأسباب أن التركيب الموسيقي أصل من أصول هذه اللغة لا ينفصل عن تقسيم مخارجها، ولا عن تقسيم أبواب الكلمات فيها، ولا عن دلالة الحركات على معانيها ومبانيها بالإعراب أو بالاشتقاق.
وهذا السبب الشامل هو الذي يسر النظم المطبوع لأصحاب السليقة الشعرية من الناطقين باللغة العربية، منذ أقدم عصور الجاهلية إلى هذه الأيام، فإن الشاعر المطبوع ينظم الأشعار في بحورها المتعددة بغير حاجة إلى علم يدرسه، ويستهدي به غير سليقته الفنية، ولم تكن بالشاعر الجاهلي حاجة إلى دراسة العروض، ولا إلى تعرف أسماء البحور وتقسيم ضروب التفاعيل، وليس لناظم الزجل في أيامنا هذه حاجة إلى ذلك، وهو ينظم في كل بحر من بحور العروض وكل مجزوء من مجزوءاتها، وإنه ليجهل أسماءها وقد يجهل قراءاتها في الورق كما يجعل معانيها إذا هي قرئت عليه، وكثيرا ما نظم الأزجال في بحور العروض المتعددة أناس من الأميين جهلوا كتابة الحروف، كما جهلها قبل مئات السنين شعراء الجاهلية المشهورون.
ولولا جريان اللغة في ألفاظها وتراكيبها على السليقة الموسيقية، لما تيسر ذلك للشاعر الجاهلي بالأمس، ولا للزجال الأمي في هذه الأيام.
وقد أحصى الخليل بن أحمد من بحور الشعر خمسة عشر بحرا، وزاد عليها الأخفش بحرا سماه المتدارك؛ لأنه استدركه على العروض الذي وضعه الخليل، واستحدث الشعراء بعد ذلك في هذه البحور ضروبا من الأوزان تتسع لأغراض النظم في كل حالة من أحوال الشعور، والعاطفة التي تعرض للنفس البشرية، فوافقت هذه الأوزان أغراض الحماسة والفخر والغزل والرثاء، كما وافقت أغراض الغناء والرقص وأغراض القصة والمسرح، وأغراض الأحاديث والثنائيات، ولم تضق بالتوشيح والتسميط، ولا بالأناشيد الفردية والأناشيد الجماعية، ولم يعجز عن التعبير بها في فنون القصة على التخصيص ناظم ذو معرفة وثقافة، ولا ناظم من الأميين أصحاب السليقة المطبوعة في ملاحم اللغة العامية.
فالملحمة اليونانية الكبرى - وهي الإلياذة - نقلت إلى العربية الفصحى في هذه الأوزان.
وملاحم أبي زيد الهلالي نظمت في هذه الأوزان، فلم يعجز ناظمها العامي عن سرد الحوادث، وحكاية الأحاديث في مواقف المناجزة أو المعاتبة أو الغزل أو النصيحة، أو الوصف أو الرواية، ولم يزد ما استخدمه من الأوزان على أربعة بحور إلا ما ندر.
وفي اللهجات الشائعة مقطوعات نظمها الأميون والأميات في موضوعات الأفراح والمآتم والمساجلات، والأمثال لا تخرج عن أوزان تلك البحور، ولا يحس الناظم الأمي أنها عسيرة عليه، فهو لا يحتاج إلى أداة غير السليقة الفنية، والقدرة المطبوعة على التعبير.
وأبلغ من كل ما تقدم في الإبانة عن معدن اللغة العربية، وعن هذه الخاصة الفنية فيها أن أوزانها تتفق في كل ترتيل فصيح، ولو لم يكن شعرا مقصودا كما اتفقت في الآيات الكثيرة من القرآن الكريم، وينبغي أن يؤمن المسلم وغير المسلم بأن القرآن الكريم لم يكن شعرا، وما هو بقول شاعر كما جاء فيه، وكما جاء في كلام الرسول الذي أوحي إليه:
فمما يوافق وزن البحر الطويل فيه:
فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .
ومما يوافق وزن البحر المديد:
إن قارون كان من قوم موسى .
ومما يوافق وزن البحر البسيط:
فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم .
ومما يوافق وزن البحر الكامل:
صلوا عليه وسلموا تسليما .
ومما يوافق وزن البحر الخفيف:
وتوكل على العزيز الرحيم .
ومما يوافق بحر الرمل:
إنهم رجس ومأواهم جهنم .
ومما اتفق فيه وزن بيت كامل:
لن تنالوا البر حتى
تنفقوا مما تحبون •••
ومن تزكى فإنما
يتزكى لنفسه •••
وجفان كالجواب
وقدور راسيات
ويخزهم وينصركم عليهم
ويشف صدور قوم مؤمنينا •••
وقرآنا فرقناه
لتقرأه على الناس
وهذا وأمثاله يطرد في كل كلام عربي مرتل فصيح، ولا يعهد له نظير في اللغات الأخرى، ولو كانت من اللغات التي يتقارب فيها الشعر والنثر ولم يبلغ فنها الشعري مبلغ أوزان العروض العربية من دقة التقسيم والتفصيل.
ويخلص لنا من جملة هذه الخصائص في الشعر العربي، واللغة العربية أن فن النظم بهذه اللغة فن دقيق كامل الأداة مستغن بأوزانه عن سائر الفنون، ولكنه - على هذا - فن مطبوع لا كلفة فيه على قائل ذي قدرة على التعبير له نصيب من الشاعرية والملكة الفنية، ومن هنا يظهر لنا كل الظهور أن الدعوة إلى إلغاء الأوزان ذات البحور والقوافي في اللغة العربية، لا تأتي من جانب سليم، ولا تؤدي إلى غاية سليمة، فلا يدعو إليها غير واحد من اثنين: عاجز عن النظم الذي استطاعه الشاعر العامي في نظم القصص المطولة، والملاحم التاريخية من أمثال السيرة الهلالية، وسيرة الزير سالم وغيرها من السير المشهورة المتداولة، أو عاجز عن النظم الذي استطاعه الشاعر العامي والشاعرة العامية في نظم أغاني الأعراس، ونواح المآتم وأمثال الحكمة، والنصيحة على ألسنة المتكلمين باللهجات الدارجة، ولا خير للفن في كلام يقوله من يعجز عن هذا القدر من السليقة الشاعرية والملكة الفنية، وأحرى به أن يأتي بما عنده في كلام منثور، ويترك النظم وشأنه بدلا من هدم الفن كله وحرمان اللغة من آثار القادرين عليه، ونحن نستشهد بالقصاصين وناظمي الملاحم العامية والأغاني الشائعة؛ لأن في استطاعتهم نظم القصص والملاحم، والأغاني والأناشيد بغير تعلم ولا معرفة ثقافية ينفي عن الأوزان العربية تلك الصعوبة المزعومة، التي يدعي الأدعياء أنها تجعل النظم العربي من أصعب فنون النظم في اللغات العالمية، ونسكت عمدا في هذا المقام عن الملاحم المترجمة التي نقلها إلى العربية أناس من المثقفين المطلعين على الآداب والعلوم، فإن المتشاعرين الأدعياء قد يزعمون أن تذليل هذه الصعوبة عمل يحتاج إلى الثقافة والاطلاع، ولا يقتدر عليه عامة المترجمين.
فإن لم يكن نقص الملكة الفنية سبب العجز عن أوزان الشعر العربي، والدعوة إلى إبطال هذه الأوزان، فهو إذن عمل من أعمال الهدم الصراح عن سوء نية وخبث طوية، يتعمده المجاهرون به لتقويض معالم اللغة ومحو آثار الأدب، وفصم العلاقة الفكرية بين روائع الثقافة العربية في مختلف العصور، وتلك شنشنة نعهدها في العصر الحاضر من دعاة الهدم المستترين وراء كلمات التقدم والتجديد، وأين يعمل هؤلاء عملهم الهادم إن لم يكن هذا عملهم المقصود من وراء الستار؟!
إن هدم الفن الجميل الذي امتازت به لغة العرب بين لغات العالم لا يصدر إلا عن عجز، أو إصرار على الهدم ... ولا خير في دعوة يتولاها العجز العقيم والضغينة النكراء. (6) المجاز والشعر
اللغة العربية لغة المجاز.
والمجاز هو الأداة الكبرى من أدوات التعبير الشعري؛ لأنه تشبيهات وأخيلة وصور مستعارة وإشارات ترمز إلى الحقيقة المجردة بالأشكال المحسوسة، وهذه هي العبارة الشعرية في جوهرها الأصيل.
ولا تسمى اللغة العربية - فيما نرى - بلغة المجاز لكثرة التعبيرات المجازية فيها؛ لأن هذه التعبيرات قد تكثر في لغات عديدة من لغات الحضارة.
وإنما تسمى اللغة العربية بلغة المجاز؛ لأنها تجاوزت بتعبيرات المجاز حدود الصور المحسوسة إلى حدود المعاني المجردة، فيستمع العربي إلى التشبيه، فلا يشغل ذهنه بأشكاله المحسوسة إلا ريثما ينتقل منها إلى المقصود من معناه، فالقمر عنده بهاء، والزهرة نضارة، والغصن اعتدال ورشاقة، والطود وقار وسكينة، والرسوم الهيروغليفية عنده بهذه المثابة قد انتقلت إلى حروف تتألف منها كلمات.
نعم ... إن المجاز قد انتقل في اللغة العربية من الكتابة الهيروغليفية إلى الكتابة بالحروف الأبجدية، وهذا هو المثال الصالح لتقريب المعنى الذي نريده حين نقول: إن المجاز العربي يصور لنا المعاني المجردة - مباشرة - من وراء تصوير الأشباه والأشكال.
كان الكاتب القديم في عهود الكتابة الأولى قبل اختراع الأبجدية يريد أن يكتب كلمة «يمشى»، فيرسم على الصخر أو الورق صورة إنسان يمشي على قدميه، ويبدو عليه أنه يتحرك في مشيته، ثم تطورت الكتابة فانتقلت الصورة إلى مقطع صوتي يؤخذ من الصورة، ويستخدم في الدلالة على الأصوات التي تشبهه، ثم انتقلت من المقطع الصوتي إلى حرف واحد تجتمع منه حروف الأبجدية، وهذه هي الكتابة في مرحلتها الأخيرة.
فالباء هي الحرف الأول من كلمة «بيت» التي كانت ترسم على شكل بيت للدلالة على المبيت أو المساء، ثم تولد منها مقطع بحروفه الثلاثة، ثم تولد من المقطع حرف واحد هو الذي بقي من الصورة كلها، وهو الذي نسميه الآن حرف «الباء» ونسمعه، فلا يخطر لنا رسم البيت على بال؛ لأننا تخطينا بالكتابة عهد الهيروغليفية، وعهد المقطع إلى عهد الحروف الأبجدية.
مثل هذا التطور يتكرر في الصور المجازية التي ترد على ألسنة المتكلمين باللغة العربية، فلا يلبث التشبيه المجازي أن يؤدي معناه المقصود بغير وساطة الشكل المستعار، ولا يشتغل الذهن بالصورة المحسوسة لانتقاله منها على الأثر إلى الوصف الذي يقارنها، كما تقدم في معنى القمر والزهرة والغصن والطود، وكما نرى في مئات الكلمات التي تشتمل عليها اللغة العربية، ولا تزال معانيها المجازية مقترنة بمعانيها الحقيقية جنبا إلى جنب، في استعمال كل يوم على كل لسان، وهذا الذي ألمحنا إليه في مبحث من المباحث عن الحقيقة والمجاز في اللغة العربية كما نتكلمها اليوم، وكما كان أبناؤها الأسبقون يتكلمون بها في جميع العهود.
ففي هذه اللغة الشاعرة توجد كلمات كثيرة بقي لها معناها الحقيقي مع شيوع معناها المجازي على الألسنة؛ حتى ليقع اللبس في أيهما السابق وأيهما اللاحق في الاستعمال.
ونبدأ بكلمتي والحقيقة والمجاز، وهما أقرب الشواهد على اقتران المعاني الأصيلة، والمعاني المنقولة في تلك الكلمات.
فالحقيقة فكرة مجردة، قد تبلغ الغاية في تجردها من المحسوسات، ولكن مادة الكلمة تستخدم للدلالة على ما يلمس باليد ويقع تحت النظر، فيقال: «انحقت» عقدة الجبل: أي انشدت، وحق: بلغ حافة الطريق.
والمجاز من جاز المكان أو جاز به غير معترض، ويقال: هذا جائز عقلا أي: غير ممتنع ولا اعتراض عليه، وهذه كلمة مجازية أي: يمكن أن تنطلق في هذا المعنى، أو أنها تحتمله مع معناها الأصيل.
وكلمات: انطلق وامتنع واعترض واحتمل أمثلة أخرى لاقتران المعنى الأصيل والمعنى المنقول، فكلها تستخدم للمحسوسات وغير المحسوسات.
ويلاحظ هذا الاقتران بين المعاني المجردة والمعاني المحسوسة في كثير من المسائل الفكرية، والصفات الخلقية التي تجتمع في مادة واحدة: كالواجب والفريضة والفضيلة والحكمة والعقل والعظمة والأنفة والعزة والنبل والشرف والرحمة والجمال والنشر والعلم والشك والثقة، والذكاء إلى كثير من أشباهها.
فيقال: وجب بمعنى ثبت، والوجبة بمعنى الأكلة في وقت ثابت، والواجب بمعنى اللازم أو العرف أو المنطق.
ويقال: «الفريضة» عن الخشبة التي فرضت أو حزت وبينت فيها العلامات، ويقال: «الفرائض» عن الحدود المبينة الواضحة.
والفضيلة كل بقية أو زيادة، والفضيلة هي الخلق الذي يدل على فضل أو زيادة عند صاحبه، والفاضل هو الذي عنده زيادة، أو يتفضل بعطائه على غيره.
والحكمة مادة تجمع بين الدلالة على الرشد والدلالة على الحديدة، التي توضع في اللجام؛ لتمنع الفرس أن ينطلق غاية انطلاقه، وهي «الحكمة».
والعقل كالحكمة والحكمة فيما يشبه هذين الغرضين، ويقال: تعقل الأمر أي: تدبره وأدركه: وتأتي «تدبره» أيضا بمعنى مشى في أعقابه، وأدركه بمعنى لحقه ووصل إليه.
أما العظمة فهي صفة العظيم، والعظيم هو الكبير العظام أو الكبير الأخلاق والمزايا.
والأنفة هي حركة الأنف في حالة الترفع والاشمئزاز، وهي حركة تشبه الإشاحة بالأنف أو ضمه لاتقاء رائحة تعاف.
والعزة يوصف بها المكان المنيع والرجل المنيع، فالعزيز في الحالتين غير السهل المباح.
والنبل ما ارتفع من مكان أو شأن، وكذلك الشرف، هما وصفان للخلق الرفيع أو المرتبة الرفيعة.
والرحمة هي عاطفة ذوي الأرحام، وتدخل العاطفة مثلها في هذا القياس، فيقال: عطف على الإنسان كما يقال: عطف على المكان.
والجمال مادة تجمع بين التجمل بمعنى التزين والتجمل بمعنى أكل الشحم، وكأنما أخذوا وصف الوجه الجميل من الوجه الذي يمتلئ ويلمع؛ لأنه ليس بشاحب ولا معروق.
وبشر الأديم يبشره بشرا قشر بشرته التي عليها الشعر، والبشر تهلل بشرة الوجه كأنه ليس عليه حائل، والبشرة ما ظهر من نبات الأرض وعشبها.
ويبدو أن العلم والعلم والمعالم التي يعرف بها الطريق من مادة واحدة، وأن الشك مأخوذ من هيئة الرجل الذي يرتاب؛ لأنه يطرق ويتأمل؛ أو من الظلع لأنه لا يسير على سواء.
والثقة ما يحصل من اليقين أو من الشد بالوثاق، والذكاء ملكة الفهم واتقاد النار.
ومن هذه المجازات ما هو قوي الدلالة على أحوال الأمة العربية في حياتها الأولى؛ فالكتابة والشكل والرسم والبلاغة والفصاحة والدلالة نفسها كلمات مستعارة من حياة أقوام رعاة وقبائل مترحلة.
فالكتابة والشكل بمعنى القيد والرسم أثر خطو الإبل على الرمل في رسيمها، أو سيرها على العموم والبلاغة من الوصول إلى غاية المسير، والفصاحة من اللبن الفصيح الذي زال رغوه، والدلالة للقافلة كالدلالة للكلام.
وإذا قال العربي القديم: إن العرب قوم أو قبيل، فإنما يعني بالقوم طائفة من الناس تقوم معا للقتال، فالشاعر الذي سأل «أقوم آل حصن أم نساء» لم يخطئ الغرض، وإنما جاء اللبس أو جاءت الحاجة إلى التفسير حين أطلقت كلمة القوم على الأمة كلها، فوجب أن تطلق في معناها هذا على الرجال والنساء.
وما الطائفة؟ وما القبيل؟ إنهما جاريتان على هذا المجرى، فالطائفة أناس يمضون إلى قبلة واحدة ... ومثل هذا إطلاق كلمة القرن على الذين يقترنون في مولد واحد، ثم أطلقت على الزمن الذي يقترنون فيه، ويشبه أن يكون الجيل بمعنى القرن على فعيل من جال، ثم تحولت من جويل إلى جيل. •••
نستطرد مما تقدم إلى المقارنة بين اللغة العربية، واللغات الأخرى في استعمال المعنى الحقيقي، والمعنى المجازي في وقت واحد، فيبدو لنا من هذه المقارنة أن الكلمات التي تستعمل للغرضين كثيرة في اللغة العربية، وليست بهذه الكثرة في اللغات الأوروبية، وقد يرجع هذا الفارق إلى غير سبب واحد، فلعله راجع إلى تطاول العهد بين بداوة الأمم الأوروبية وحضارتها، ولعله راجع إلى انتقال لغاتها إلى حالتها الحاضرة من لغات قديمة بطل استعمالها، وانقطعت فروعها عن أصولها، ولعله راجع إلى خاصة عربية بدوية في التعبير بالتشبيهات المجازية أو الشعرية.
وأيا كان السبب، فالخلاصة العملية التي نتأدى إليها من هذه الملاحظة أننا لا نحتاج كثيرا إلى التسلسل التاريخي في وضع معجماتنا الحديثة؛ لأن هذا التسلسل ضروري في اللغات التي يكثر فيها إهمال الكلمة في معنى، وسيرورتها في معنى آخر، ولكنه لا يبلغ هذا المبلغ من الضرورة حين توجد الكلمة مستعملة في جميع معانيها على السواء، أو على درجات متقاربة.
ومن النتائج العملية لتلك الملاحظة أن نذكر في سياق التجديد، والمحافظة على القديم أن العرب كانوا مجددين على الدوام في إطلاقهم الكلمات القديمة على المعاني الجديدة، ونحن لا نعدو سياقنا هذا حين نلتفت إلى الأصل في كلمة القديم والأصل في كلمة الجديد، فنتخذ منها شاهدا على ما ذهبنا إليه.
فالتقدم هو السير بالقدم، ويقال: تقدم أي مشى بقدمه، كما يقال: ترجل أي مشى برجله، وتقدمه أي مشى أمامه، ومن هنا التقدم بمعنى السبق والقديم بمعنى الزمن السابق.
ولا ندري على اليقين كيف أطلقت كلمة الجديد على معناها هذا من أقدم أطوارها، ولكننا ندري أن الجد هو القطع، وأن الثوب الجديد هو الذي قطع حديثا، فلعل هذا المعنى من أقدم معاني الجديد إن لم يكن أقدمها على الإطلاق.
وظاهر من جملة هذه الملاحظات أن أهل العربية جددوا كثيرا من مجازاتهم، وأننا نستطيع أن نحذو حذوهم.
ونحن نقول: «إننا نحذو حذوهم»، ولا نظن أننا نبعد في اتخاذ الكلمات لمعانيها المستحدثة مسافة أبعد من المسافة بين الأصل في حذو الجد، وبين المجاز في دلالته على الاقتداء والاهتداء، ولا أبعد من الأصل في كلمة «المسافة» حين أطلقت على الموضع الذي يسوف فيه الدليل تراب الأرض؛ ليعرف موقعه من السير، ثم استعيرت لما نعنيه اليوم بالمسافة، وهي كل بعد بين موضعين.
وشرط اللغة علينا أن نصنع كما صنع أهلها، فنجدد في المعاني من طريق المجاز، بحيث لا يكاد السامع يفرق بينهما للوهلة الأولى أهي أصل في اللغة قديم أم مجاز جديد. •••
في هذا المبحث المتقدم عرضنا الأمثلة المتكررة، التي يقترن فيها المعنى المجازي بالمعنى الحقيقي في وقت واحد؛ لأن الصورة المجازية قد استحالت إلى ما يشبه الحروف الأبجدية في تطور الكتابة، فلم يبق من البيت إلا الباء، ولم يبق من الجمل إلا الجيم، ولم يبق من اليد إلا الدال، ولم يبق على هذا القياس من الغزال إلا خفة الحركة، ولا من المرجان المفتر عن الدر النضيد إلا احمرار في الشفة يتفتح عن ثنايا الثغر المبتسم، بغير حاجة إلى استحضار آكام المرجان، وعقود اللؤلؤ وتراكيب الأفواه ذوات الشفاه.
إن قول البديعي العربي: «رأيت قمرا على غصن على كثيب» يربك السامع من غير أبناء اللغة العربية، ويجتهد هذا السامع في استخراج الصورة المحسوسة من أطوار هذه التشبيهات، فلا يدري كيف يجتمع منها رسم جميل، ثم ينفض يديه من البلاغة العربية قائلا لنفسه: إنها بلاغة مزاج آخر يسيغ ما لا يساغ في كل مزاج.
إلا أن المسألة في حقيقتها ليست من مسائل المزاج المختلف بين الأجناس، ولكنها مسألة اللغة والاصطلاح في استخدام الصور والكلمات، وليس بين الأمزجة في هذه المصطلحات كبير اختلاف لو اتفقت على المفتاح المشترك في هذا «الجفر» المكشوف.
إن العربي أيضا يزعجه أن يضع قمر السماء على غصن الشجر على كومة الرمل؛ ليستخرج منها محاسن إنسان يهواه ولا يعجب السامع من هواه.
ولكنه يبتهج ولا ينزعج حين يفهم الصورة على طريقته في ترجمة المجاز من الصور الهيروغليفية إلى الحروف الأبجدية.
إشراق كالإشراق الذي يحسه الناظر إلى القمر، وخفة كالخفة التي يتمايل بها الغصن النضير، وجسم بض كالجسم الذي يمسك ذلك الغصن، وإنسان يتقابل فيه الإشراق والخفة والبضاضة في رشاقة واعتدال، ولا موجب بعد ذلك للحيرة، ولا لنفض اليدين من بلاغة المزاج الغريب الذي يأبى أن يأتلف بكل مزاج.
وهكذا يصنع اليوم من يقرأ كلمة «أبجد» حين يذكر أنها كانت في أول عهد الكتابة خليطا من صورة الثور والبيت والجمل واليد المبسوطة، ثم ينسى هذه الصور المتراكبة في غير معنى؛ ليجمع منها حروف الألف والباء والجيم والدال. •••
يقول الكاتب المستشرق الأستاذ «أدوين هول» في كتابه عن الأندلس في ظل المسلمين: «إن أكثر هذه المنظومات مما لا يطيقه العقل الغربي»، وهو رأي يصرح به الخبراء بتلك المنظومات، ولا نعرف من أهو أحق بالحكم عليها من جارسيا جوميز الذي يجمع بين الأستاذية في العلم والذوق المرهف لفهم القريض، وهو يقول في فصل عقده للكلام على ابن قزمان أحد الشعراء المتأخرين:
إن الصناعة اللفظية هي موضع العناية الكبرى في الأدب العربي، بين نثر مقيد بالأسجاع وبين ألوان من المجازات والأشباه، والطلاوات واللوازم، تعوزها الحرارة والشعور، وكأنما هي كلها عرض من العروض المقنعة بالبراقع، حيث البسمات لآلئ، والعيون أزهار بنفسجيات، والرياحين والجداول سيوف، وإن القارئ ليجتهد اجتهاده بين ترجمات بير
أو شاك
Schack ، فينوء ذهنه بما يطبق عليه من النسق المتفق المتواتر! خصور كالأغصان تنبثق من آكام الرمال، أو شاعر يشبه نفسه بالطير الذي أثقل ندى الممدوح جناحيه فأعياه أن يطير، أو برق يومض بين الغمام كأنه ضرام العشق في قلب الشاعر، يتوهج من خلل دموعه، ونصفها - أو أكثر من نصفها - قوالب منقولة يحيكها النظامون من وحي الذاكرة.
هذا الخطأ الذريع في الحكم على الشعر العربي شائع غالب على أقوال المستشرقين، نفهمه ولا نرى صعوبة في فهمه إذا ذكرنا «أولا» أن الغالب على هؤلاء المستشرقين أنهم من زمرة الحفاظ، يشتغلون بجانب الحفظ في الأدب، ولا يشتغلون بلباب الأدب في لغاتهم، ولا في لغات غيرهم من المشارقة أو المغاربة، فهم لا يحسنون الحكم على شاعر من أبناء جلدتهم، وأحرى بهم ألا يحسنوا الحكم على الشعراء من أبناء اللغات التي تخالف لغاتهم في تراكيبها ومصطلحاتها، ومن أبناء الأمم التي تخالف أممهم في أمزجتها وعاداتها، وقد ينظر الكثيرون منهم إلى القصيدة الرائعة، فيقفون عند مجازاتها، ويشعرون بالربكة التي يشعر بها عندنا من يقول مثلا: «هات الأسطوانة!» فيحضر له السامع قرصا من أقراص الغناء المسجل، فيختلط عليه الأمر بين ما توقعه من لفظ الكلمة، وما رآه بعد ذلك من حقيقة المسمى.
وكذلك يشعر المستشرق بالربكة حين يتوقف بذهنه عند مجازات التشبيه، فيحسبها مقصودة لذاتها ويتقيد بقشورها اللفظية دون ثمراتها وبذورها، ولا يدري كيف يطرب العربي لهذا الشعر، ولا يحاول أن يرجع بالعجب إلى نفسه قبل أن يتهم أمة كاملة بضلال الحس وسوء التعبير، وهي - فيما يعلم - من الأمم التي تفخر بلسانها، وتنكر العجمة في ألفاظها ومعانيها.
ولقد كان من أقرب التفسيرات إلينا أن نرجع بأخطاء المستشرقين في فهم الشعر العربي إلى الفارق الأبدي المزعوم بين أذواق الشعراء في لغتنا، وأذواق الشعراء في لغاتهم على تباينها، وكنا نستغرب ذلك التفسير لولا أننا نعلم أن قراءنا يتذوقون شعرهم، كما يتذوقون شعرنا، وأن الفوارق الكلامية لا تحول دون ظهور المعاني الإنسانية لمن يلتمسها في مواطنها، ويتحرى أن يزنها بموازينها، وأن ينفذ إلى بواطنها، فليس بين الأذواق الإنسانية من فاصل في تمييز فنون البلاغة الخالدة، وإنما هو الفاصل بين الحفظ والذوق، يضاف إليه الفاصل بين المجاز في صورته الحسية والمجاز في معناه، فيحول دون الفهم الصحيح في اللغة الواحدة فضلا عن اللغات المتعددة، وهذا هو الفاصل بين المستشرقين الحفاظ، وبين محاسن الشعر العربي في ظواهره وخفاياه، وفي ألفاظه ومعانيه. (7) الفصاحة العلمية
للأمم في تنافسها بالمناقب والمزايا ألوان من المفاخرة بلغاتها يضيق بها نطاق البحث في بضعة سطور، فمنها التي تفخر بوضوح عباراتها وعذوبة جرسها، ومنها التي تفخر بوفرة كلماتها واتساع ثروتها من ألفاظ الأسماء والأوصاف والأفعال، ومنها التي تفخر بثرائها الأدبي وذخيرتها الفنية، ومنها التي يزعم أبناؤها أنهم هم الناطقون المبينون ومن عداهم متبربرون، لا يبينون عن أنفسهم ولا يحسنون فهم البيان من الآخرين.
ومعظم هذه المفاخر دعوى لا دليل عليها، أو دعوى لها أدلتها التي تتشابه وتتقابل، ولا ترجح فيها الكفة مرة حتى تقابلها الكفة الأخرى برجحان مثله، فلا تنهض فيها حجة بينة، ولا يزال الناس من شتى الأمم ينظرون إليها نظرتهم إلى العادات الشائعة بين الناس في مناظراتهم ومفاخراتهم، وحجتها الكبرى «أنانية» قومية تشبه «أنانية» الفرد في حبه لنفسه، وإيثاره لصفاته بغير حاجة إلى دليل، أو مع القناعة بأيسر دليل.
ولكن الفصاحة العربية في دعوى أهلها مفخرة لا تشبه هذه المفاخر في جملتها؛ لأن دليلها العلمي حاضر لا يتعسر العلم به، والتثبيت منه على ناطق بلسان من الألسنة، ولا حاجة له في هذا الدليل إلى غير النطق وحسن الاستماع.
إن اللفظ الفصيح هو اللفظ الصريح الذي لا لبس فيه ولا اختلاط في أدواته، وهذا هو «اللفظ العربي» بدليله العلمي الذي لا تعتمد دعواه على «أنانية» قومية، ولا على نزعة عاطفية، تقابلها نزعات مثلها عند غير العرب من الناطقين بلغات الحضارة.
فلا لبس بين مخارج الحروف في اللغة العربية، ولا إهمال لمخرج منها، ولا حاجة فيه إلى تكرار النطق من مخرج واحد، تتوارد منه الحروف التي لا تتميز بغير التثقيل أو التخفيف.
وجميع المخارج الصوتية في اللسان العربي مستعملة متميزة بأصواتها، ولو لم يكن بينها غير فرق يسير في حركة الأجهزة الصوتية.
والفصاحة هي امتناع اللبس كما تقدم، وهذه هي الخاصة النطقية التي تحققت في اللغة العربية لمخارج الأصوات كما تحققت للحروف.
فليس في اللغة العربية حرف يلتبس بين مخرجين، وليس في النطق العربي مخرج ينطبق فيه حرفان.
ليس في اللغة العربية حرف يستخدم مخرجين كحرف (بسي) في اللغة اليونانية، وهو مختلط من الباء الثقيلة والسين.
وليس فيها حرف يستخدم مخرجين كحرف (تشي) في تلك اللغة (X) ، وهو خليط من التاء والشين.
وليس فيها حرف يعبر عنه بحرفين كالذال أو الثاء اللذين يكتبان بما يقابل عندنا التاء والهاء (th) ، ويتغير النطق بهما في مختلف الكلمات.
ولا تزدحم أصوات الحروف في اللغة العربية على مخرج واحد، كما تزدحم الفاء والڨاء الثقيلة والباء والباء الثقيلة (P, b - F, v)
مع ترك مخارج الحلق مهملة، وهي تتسع من أقصى الحلق إلى أدناه لسبعة حروف هي الهمزة والهاء والألف والعين والحاء والغين والخاء، وهي مميزة في النطق والسمع بغير التباس، ولا ازدواج في الأداء.
ولا يلزم في اللغة العربية أن يكون لكل حرف مخرج مستقل في جهاز النطق، الذي يشترك فيه الحلق والحنك واللسان واللثة والشفتان، بل كل ما يلزم فيها أن يكون جوهر الحرف سليما في مجراه من الجهاز الصوتي، وفي موقعه من السمع، لحسن استخدام ذلك الجهاز، وحسن التمييز فيه بين الأصوات المتشابهة أو المتقاربة، فقد يتقارب الحرفان حتى يقع بينهما الإبدال على الألسنة مع اختلاف اللهجات ، ولكنه إبدال لا ينشأ من غموض الحرف والتباسه، بل يأتي من اختلاف السهولة والصعوبة مع وضوح الحرفين، فلا التباس بين الذال والدال، ولا بين الحاء والهاء ولا بين التاء والثاء، ولا بين حروف الإبدال على العموم، ولكن سبب الإبدال بينها أن حرفا منها أسهل من حرف في اللهجة السريعة أو اللهجة الدارجة، وجوهره مع ذلك مستقل واضح الاستقلال عند المقارنة بينها في السماع.
واللسان العربي المبين يتجنب اللبس في الحركات الأصلية، كما يتجنب اللبس في الحروف الساكنة، فلا لبس بين الفتح والضم والكسر والسكون، وإذا وقعت الإمالة بين حركتين لم تكن وجوبا قاطعا تثبته الحروف، بل كان قصاراه أنه نمط من أنماط النطق يشبه العادات الخاصة عند بعض الأفراد، أو بعض الجماعات في أداء الحركة وإشباعها أو قصرها، كيفما كان رسم الحرف في الكلام المكتوب، وكيفما كان جوهره المميز في الكلام المسموع. •••
فإذا قال قائل: إن فصاحة النطق مزية نادرة تمتاز بها اللغة العربية، فليست هي دعوة من دعاوى الفخر والأنانية، ولكنها حقيقة يقررها علم وظائف الأعضاء؛ لأن جهاز النطق في الإنسان وظيفة معروفة، ولا خفاء بالفرق بين تقسيماته التي تستوفي الأداء، وتميز الحروف والمخارج وبين تقسيماته التي تعطل بعض الأداء، ويعرض فيها اللبس والتلفيق لما تؤديه، فإن الحكم في ذلك كالحكم على كل أداة ناطقة، أو عازمة من أدوات الأنغام والأصوات. •••
وبقي أن نعرف كيف انفردت اللغة العربية بهذه المزية النادرة؟ هل هي مزية من مزايا المصادفة لا تعرف لها علة طبيعية؟ أو هي نتيجة من نتائج التطور الطبيعي، أو نتائج الاختيار بين الأفصح من اللهجات وبين اللهجات التي دونها في الفصاحة على ألسنة المتكلمين بلغة واحدة؟
إن تعليل هذه الفصاحة بالتطور الطبيعي كاف لتفسير هذه الظاهرة في اللغة العربية، فإن لهجات النطق بالحروف العربية إنما هي لهجات قبائل متعددة تنطق بلسان واحد، وتتهيأ أسباب الانتخاب الطبيعي في هذا اللسان لتتابع الاتصال بين الناطقين به من أبناء القبائل المتعددة، خلافا للأمم الأخرى التي تختلف لغاتها، وتفترق مساكنها ولا تظهر آثار التطور اللغوي عندها في بيئة واحدة تتفاهم بلسان واحد.
فلا يخفى أن جهاز النطق واحد في الناس من أبناء الأمم المختلفة، وكل ما يتفق له من العوارض الحسنة أو المعيبة يجوز أن يتفق للإنسان العربي في حالة من حالاته، وقد شوهد هذا التشابه في المخارج الصوتية بين لهجات بعض القبائل العربية، ولهجات الأمم الأخرى، ولكن الفرق في الحالتين أن لهجات النطق العربي قد اجتمعت في لسان واحد ينتهي إليه الاختيار، ويبقى فيه متداولا بين أبنائه، ولم يتفرق بين أشتات من الأمم يأخذ كل شتيت منه بنصيب غير نصيب سواه.
فاللهجات العربية وجد فيها ما وجد في أمم عدة من التباس النطق بالجيم والياء والكاف والشين والخاء والظاء والتاء وغيرها من مخارج الأصوات، التي يكتبونها أحيانا بحرف واحد، وأحيانا بحرفين أو أكثر من حرفين.
فالياء تنطق جيما في لغة فقيم، وتنطق جيما بعد العين فقط في لغة قضاعة، وقد تنطق الجيم ياء في لغة بعض القبائل على عكس لغة فقيم وقضاعة، وتبدل كاف الخطاب المؤنثة شينا وكاف المذكر سينا في لغة ربيعة، ويطرد إبدال الكاف شينا في إحدى اللهجات اليمانية.
وقد لخص الأستاذ حفني ناصف معظم الحروف التي يقع فيها اختلاف النطق في رسالته القيمة عن حياة اللغة العربية، فذكر منها حرفا بين الطاء والثاء وحرفا بين الباء والفاء، وحرفا بين الشين والجيم.
كما ذكر حروفا أخرى تتردد بين القاف والجيم والكاف، ويتشابه فيها النطق بين أبناء اللغة السامية واللغات الآرية في مواطن متفرقة لا يجمعها إقليم واحد.
وليس بالمستغرب أن يؤدي الاتصال بين البادية والحاضرة إلى تهذيب بعض الأصوات، تبعا لاختلاف لهجة الحديث في الصحراء الواسعة وفي مجالس المدينة، وقد يكون للتنقل بين رحلات الشمال، ورحلات الجنوب مثل هذا الأثر مع ما يقترن به من آثار الرخاء أو الخشونة في أطوار اللهجة الواحدة، ثم يؤدي ذلك مع الزمن إلى اصطفاء لهجة واحدة مفضلة تكون لها الغلبة على سائر اللهجات، وتعم هذه اللهجة بعد ذلك إذا اشترك الناطقون باللغة جميعا في حفظها وترديدها، وقد حدث ذلك في اللغة العربية خاصة على نحو لا يتفق لغيرها في الزمن القديم والحديث، فأصبح اللسان العربي المبين لسانا واحدا، لكل من يحفظ القرآن الكريم أو يتلوه.
ولا ننسى أن العرب تباينوا أول ما تباينوا بنطق بعض الحروف كما تقدم، ولكنهم اتفقوا جميعا في خاصة واحدة من خواص جهاز النطق، وهي استخدام أصوات الحلق التي أهملت جميعا في كثير من اللغات، ويعلل بعضهم ذلك بعلة الجو والمناخ، حيث يتيسر للعربي أن يفتح صدره للهواء، ولا يتيسر ذلك لأبناء البلاد الباردة، وحيث يحتاج العربي إلى النداء في الصحراء، ولا يحتاج إليه سكان المدن والأودية المتجاورة، ومنهم من يحسب أن بعض مخارج الأصوات التي تشبه القاف والخاء والعين مألوفة في مسامع الرعاة، الذين استمعوا طويلا إلى أصوات الإبل والضأن، وأصوات السباع في الفلوات، وهو تعليل يقال ولا نظنه يفسر انفراد اللغة العربية ببعض الحروف التي لم ينطق بها الرعاة والمستمعون بجوار الفلاة إلى أصوات السباع. •••
وإن هذه التعليلات لتذهب مذاهبها من الظن المقبول أو المردود، ولكنها تنتهي إلى حقيقة تعلو على الظن، وهي أن النطق الفصيح فضيلة الحيوان الناطق، وأن الفصاحة العربية قد بلغت بأداة النطق الآدمية غاية ما بلغه الإنسان المعبر عن ذات نفسه بالكلمات والحروف.
لغة التعبير
يقال عن الشاعر البليغ: إنه هو الشاعر الذي نعرفه من كلامه، وإن لم يقصد إلى تعريفنا بسيرته وترجمة حياته؛ لأنه يصف لنا شعوره بما حوله من الأحياء وسائر الأشياء، ومتى عرفنا من كلامه ما يحب وما يكره وما يرتضيه وما ينكره، وما يحرك طبعه وفكره أو يمر بهما في غير اكتراث، فقد بدت لنا حقيقة جلية سافرة، وكان لسان الحال فيها - بحق - أصدق من لسان المقال.
واللغة على عمومها أولى أن يقال فيها هذا الذي يقال عن الشاعر البليغ؛ لأن اللغة هي قوام التعبير الناطق بين جميع المتكلمين بها، فإن لم نتعرف منها حقائق أحوالهم فما هي بأداة وافية بوسائل التعريف.
فليس من الغلو في وصف اللغة المعبرة أن يقال: إنك تضع معجمها بين يديك، فكأنما قد وضعت أمامك قواعد تاريخها ومعالم بيئتها، ولم تدع لمراجع التاريخ والجغرافية غير تفصيلات الأسماء والأيام.
واللغة العربية في طليعة اللغات المعبرة بين لغات العالم الشرقية أو الغربية، فلا يعرف علماء اللغات لغة قوم تتراءى لنا صفاتهم وصفات أوطانهم من كلماتهم وألفاظهم كما تتراءى لنا أطوار المجتمع العربي من مادة ألفاظه ومفرداته في أسلوب الواقع وأسلوب المجاز.
ونبدأ بالمجتمع نفسه فنعلم أن المجتمع العربي في قوامه الأصيل إنما كان مجتمع رحلة ومرعى، وأن الكلمات التي تدل على معنى الجماعة في لسان العرب قلما تخلو من الإشارات إلى الرحلة والرعاية، فالأمة هي الجماعة التي تؤم مكانا واحدا أو تأتم بقيادة واحدة.
والشعب هو الجماعة التي تتخذ لها شعبة واحدة من الطريق، والطائفة هي الجماعة التي تطوف معا، والقبيلة هي الجماعة التي تسير إلى قبلة مشتركة، والفصيلة هي الجماعة التي تفارق في مسلك واحد، والفئة هي الجماعة التي تفيء إلى ظل واحد، والجيل من الناس هم الذين يشتركون في مجال واحد، والبيئة هي الموطن الذي يبوء إليه أصحابه بعد الرحلة عنه، والنفر من القوم من ينفرون معا للقتال أو لغيره، والقوم في جملتهم هم الذين «يقومون» قومة واحدة للقتال خاصة؛ ولهذا أطلقت أولا على الرجال ثم شملت الرجال والنساء، ومن هنا قوله تعالى:
ولا نساء من نساء
بعد قوله:
لا يسخر قوم من قوم ... ومنه قول زهير:
وما أدري ولست أخال أدري
أقوم آل حصن أم نساء
وإذا لاحظنا هنا المعنى في دلالة أسماء الأمكنة، فهي دلالة مطردة على هذا المثال في أكثر البقاع التي تسكن أو يرحل منها وإليها.
فالمنزل حيث ينزل الإنسان، والبيت حيث يبيت بالليل، وكذلك الموقع والمرجع والمأوى، وكذلك المسافة بين مكان ومكان إنما هي الموضع الذي يساف ترابه للاهتداء إلى الطريق.
وقد يدل اسم المكان بمادته على عيشة «المشاع» في البادية الأولى، فيطلق اسم «القصر» على المكان الذي يبنى مقصورا على بانيه، خلافا للبيوت والخيام التي تقام في كل مكان.
واسم المكان قبل كل شيء ما معناه؟ معناه من «التمكن» خلافا للنقلة والمنتقل بغير استقرار.
ويلاحظ هذا أيضا في الكلمات التي تدل على العشير، أو على الرابطة الاجتماعية بين الآحاد.
فالصاحب هو من يمشي معك في السفر، وكذلك الرفيق الذي يؤخذ مع الطريق وقبل الطريق، وكذلك الزميل من صحبة الزمالة، والقريب الذي يقترب من منزلك، وتناسب كلمة «العدو» للخصم الذي يعدوك أو يعدو على جوارك.
ونتتبع هذا المعنى، أو نتقراه في المعاني المجازية، فنقول المذهب للطريقة الفكرية كما نقول المنهج والمشرب والنحو والمصدر والمورد والمقام والمقامة، ونطلق السيرة على الترجمة وهي من سار يسير، ونطلق القصة على الحكاية وهي من قص الأثر، ونطلق الأثر على المخلفات وهي من بقايا المواطئ والأقدام.
وقد قلنا: نتتبع، ونتقرى، وقلنا: المجاز وكلها مما لوحظت فيه هذه الدلالة في أصولها.
فالتتبع من السير وراء الراحل، والتقري من البحث عنه حيث كان مقره، والمجاز من العبور، وما التعبير نفسه في أصوله؟ إنه هو العبور.
ولا بد من مناسبة قريبة أو بعيدة تنتهي إلى هذه الدلالة في الألفاظ المعبرة عن الجماعات والأمكنة.
فنحن نقول «الجيش» من جيشان الحركة في الأمكنة المتعددة أو المكان الواحد.
ونقول الجند، والراجح أن الأصل فيه يرجع إلى «الجند»، وهي الأرض الغليظة التي لا يسهل طروقها، كأنهم استعاروه لمناعة المكان الذي يحميه المقاتلون المسلحون أو المستعدون للقتال.
ونعتقد أن النظر إلى ألفاظ اللغة من هذه الناحية متمم لكل دراسة من دراساتها، سواء منها ما يراد للتاريخ أو لتحقيق أصالة الكلمات أو لتقرير قواعد «البلاغة» ... وهي كذلك من التبليغ أو البلوغ إلى المكان.
فإذا التبس علينا أمر كلمة من الكلمات، فلم نعلم في ظاهر الأمر أهي من ألفاظ العرب الأصيلة أم من الدخيل عليها، فلدينا هذا المقياس الحاضر نقيس به دلالة الكلمة، ونردها إلى حياة العرب وإلى المعهود من تعبيرها عن معالم تلك الحياة، فلا يطول بنا العناء في الرجوع بها إلى أصل معقول نطمئن إليه.
قيل مثلا: إن كلمة «القلم» مأخوذة من «كلموس» اليونانية ... ولا يعزى الاستناد في هذا القول إلى مرجع من مراجع التاريخ المحقق غير مجرد الظن القائم على التشابه في مخارج اللفظين، وهو لا يدل على السابق إلى وضع الكلمة من اللغتين.
ولكننا نستطيع أن نرد الكلمة إلى القلم أو التقليم من القلامة في اللغة العربية، فنرى أنها أصيلة في هذه اللغة بهذا المعنى، ونتقصى المادة، فنعلم أنها لا تنقل بجملتها من لغة إلى لغة.
فمادة القاف والميم وما يتوسطهما مطردة في الدلالة على الشق والقطع، ومنها قحم وقرم وقصم وقضم وقطم وقلم، وهي آخرها في ترتيب الأبجدية.
ونعود إلى الشيء الذي «يقلم» فنعلم أن القناة والقصبة والريشة مما يقلمه العرب ويتخذون منه القلامات، فيحق لنا أن نفهم أننا بصدد هذه الكلمة أمام لفظ أصيل في لغة العرب، لا ينقلونه من لفظ آخر في لغة أجنبية.
وأذكر أن طبيبا فاضلا لقيني في الإسكندرية، فأخذ علي بعض ما كتبت يومئذ عن القانون: أن كلمة «القانون» دخيلة في العربية، وأن «الشريعة» أحق منها بالاستعمال في كتابنا ما دامت نظائرها ميسورة لدينا.
قلت للطبيب الفاضل: إن الكلمة من بضاعتنا التي ردت إلينا، وإن القانون اليونانية ليست هي إلا القناة بصيغة التصغير عندهم؛ لأن الغالب في لغتهم على معنى القانون أنه مستعار من القصبة التي توضع بها الحدود وتقاس بها المواقع، وهم يطلقون في اللغات الغربية كلمة رولر
Ruler
على المسطرة التي ترسم الخطوط والحدود، وعلى الحاكم الذي يقيم الأحكام، ونحن في الشرق نستخدم القصبة للقياس والفصل بين المواقع، وتسمى عاصمة الحكم «قصبة» في بعض اللهجات.
فالقانون
Canon
تصغير للقناة
Canal ؛ لأن القناة الصغيرة هي التي تستخدم عندهم استخدام المسطرة لوضع الحدود والفصل بين الرسوم، وإذا رجعنا إلى القناة أمكن أن نقول: إن القانون هو «قناتنا» قد رجعت إلينا بعد أن صيغت عندهم في صيغة التصغير، ولسنا نجزم بأن كلمة
Canal
مأخوذة من العربية بغير خلاف، ولكننا نجزم بأن «القناة» كلمة لم يأخذها العرب من اليونان؛ لأن الأقنية من النخل ومن عيدان الشجر، ومن مسايل الماء ومن أسنة الرماح أصول عريقة في حياة العرب لا تستعار. •••
وإن من أنفع ما تنفعنا به هذه المقارنة أن نعول عليها حين تتشابه الكلمات باللفظ، أو تتقارب بالمخارج بين لغتين أو لغات عدة، فإن لم نستطع أن نعرف أيها السابق إلى وضع الكلمة، فلعلنا مستطيعون أن نعرف أنها أصيلة أو مستعارة في لغتها بالمقابلة بين تعبيراتها وأحوال معيشتها.
وقد كان زميلنا العالم المجتهد الأستاذ عبد القادر المغربي، يرى أن كلمة المرج في العربية مأخوذ من كلمة «المرغ» الفارسية، فكان مما يشككنا في هذا الظن أن مادة «مرج» و«مرغ» و«مرت» في اللغة العربية متقاربة في مدلولها، وأنها على صلة بالمرع وبالمرعى على قدم الحاجة إلى المرعى في بلاد العرب، فإن لم نستطع أن نجزم باستعارة الفرس كلمتهم «المرغ» من العرب، ففي وسعنا أن نجزم بأن العرب أصلاء في كلماتهم غير مستعيرين.
وهناك كلمات تتشابه في مخارجها بين أبعد اللغات؛ لأنها قد نشأت من الحكاية الصوتية التي تنقل الأصوات كما تقع في الآذان، وقد نفهم من تكرر المادة في أمثال هذه الألفاظ أنها نشأت في اللغة، ولم تنقل إليها بعد تداولها في لغة أخرى.
ففي الإنجليزية يدل لفظ «كت» على القطع كما يدل عليه لفظ «كسيه» باللغة الفرنسية، والمشابهة بين اللفظين وبين «القط» بهذا المعنى في اللغة العربية ظاهرة للسماع، ولكن القاف والطاء وما يثلثهما في لغتنا شائعة في الدلالة على القطع بأنواعه، ومنها قطب وقطر وقطف وقطم، ويلحق بهذه الملاحظة أن القاف والتاء والقاف والدال والقاف والصاد تؤدي معنى قريبا من هذا المعنى، فلا وجه للقول: بالاستعارة في أمثال هذه الألفاظ. •••
ومن الجائز أن يمتد القياس إلى أغراض أخرى في المقارنة بين الكلمات واللغات تحريا لأصولها، أو للعلاقة بين معانيها ومعيشة أبنائها، ولكن البحث على هذا المثال ضرورة لا محيد عنها في اللغات التعبيرية، واللغة العربية في مقدمتها ... فإنه بحث يجمع بين أغراض التاريخ وأغراض البيان، وأغراض الدراسات النفسية والاجتماعية، ولا نحسب أن في اللغة العربية كلمة يطول الخلاف عليها مع الاحتكام بها، على هذا النحو، إلى أصولها ودواعيها من حياة الناطقين بالضاد، وأولها كلمات الفصاحة والبلاغة والنحو والصرف والإعراب.
الزمن في اللغة العربية
يعرف ارتقاء اللغات بمقاييس كثيرة، منها - بل من أهمها - مقياس الدلالة على الزمن في أفعالها، ثم في سائر ألفاظها.
واللغات تنشأ على نحو قريب من نشأة الكتابة على الطريقة الهيروغليفية، أي: طريقة الدلالة بالأشكال المرسومة.
يعبر الكاتب مثلا عن الكتابة، فيرسم إنسانا ينقش أشكالا على حجر أو ورق بالقلم أو الأداة المعدة للكتابة، ويدل بذلك على مجرد حدوث الفعل في غير زمن محدود، سواء كان الكاتب قد فرغ من عمله أو لا يزال يكتب، أو يريد أن يكتب بعد حين، فإذا أراد أن يدل على وقت الفعل أشار إليه بعلامة مضافة، يفهم منها البعد والإدبار أو البعد والإقبال أو الاستمرار والاستغراق.
وهذا الذي حدث في الكتابة قد حدث على نحو قريب منه في الكلام، مع توضيح المعنى بالإشارة واعتماد السامع على المشاهدة، فلا بد من علامات صوتية أو جسدية للتفرقة بين ما كان وما هو كائن لا يزال، وما سيكون أو سوف يكون، وما هو معلق على شرط لا ينتظر أن يكون إلا في حالة معلومة.
ولهذا يظهر ارتقاء اللغة من علامات الزمن في أفعالها، فاللغة التي تدل على الزمن بعلامات مقررة في الفعل أعرق وأكمل من اللغة التي خلت من تلك العلامات، وبمقدار الدلالة تكون العراقة والارتقاء.
وقد شاع بين اللغويين المختصين بدراسة تواريخ الألسنة في الغرب أن اللغات السامية ناقصة في دلالة الأفعال على الأزمنة، ومنها اللغة العربية، على تفاوت بينها وبين الفروع الأخرى من الأرومة المشهورة باسم اللسان السامي، أو لسان الساميين.
وربما ساغ هذا القول عن اللغة العربية في عقول المتعجلين من مصدقيه؛ لأنهم توهموا أن هذه اللغة نشأت على صحراء خاوية لا قيمة للوقت عند أهلها؛ فلا جرم تخلو من التوقيت الدقيق في تمييز الأفعال والأحداث.
لكنه وهم لا يثبت على نظرة محققة في التاريخ ولا في اللغة، ولا نحسب أن لغة نفهمها - أو نفهم عنها - قد اشتملت على وسائل للتمييز بين الأوقات كما اشتملت عليها اللغة العربية، سواء نظرنا إلى ضرورات سكانها، أو نظرنا إلى تصريف أفعالها وكلماتها.
فكل لحظة من لحظات النهار والليل قد كان لها شأنها في حياة سكان البادية بين السفر والإقامة والحل والترحال، فمنها ما هو صالح لبدء المسير، وما هو صالح للراحة القصيرة، وما هو صالح للراحة الطويلة، وما ليس يصلح لغير السكينة والاستقرار.
ولهذا وجدت كلمات البكرة والضحى، أو الغدوة والظهيرة والقائلة والعصر والأصيل والمغرب والعشاء والهزيع الأول من الليل، والهزيع الأوسط، والموهن، والسحر، والفجر، والشروق ... ويكاد التقسيم على هذا النحو أن ينحصر بالساعات على صعوبة التفرقة بين هذه الأوقات في كثير من اللغات الأخرى بغير الجمل أو التراكيب.
وكل موسم من مواسم السنة له شأنه في المرعى والانتجاع، وطلب الماء أو التجارة أو الأمان. ولهذا وجدت أسماء المواسم والفصول جميعا، ووجدت معها ثلاثة أسماء مختلفة الدلالة على الدورة حول الشمس في مصطلح الفلكيين: فهي السنة ... وهي العام، وهي الحول، ولكل منها موضعه في التعبير.
ووجدت في اللغة كلمة اليوم والنهار والليل، ولم تنقسم إلى يوم وليل دون تفرقة بين معنى اليوم ومعنى النهار.
بل لهذا وجدت للأوقات كلمات مختلفة على حسب الطول والقصر في المدة، فالمدة شاملة لجميع المقادير من امتداد الزمن، وتنطوي فيها اللحظة أو اللمحة للوقت القصير، والبرهة والردح للوقت الطويل، والفترة للمدة المعترضة بين وقتين، بل وجد فيها الحين للزمن المقصود المعين، والعهد للزمن المعهود المقترن بمناسباته، والزمن للدلالة على جنس الوقت كيفما كان، والدهر للمدة المحيطة بجميع الأزمنة والعهود والأحيان.
مثل هذا الإحساس بالزمن لا تصوره الكلمات في لغة من اللغات التي نفهمها أو نفهم عنها، على صورة أدق من هذه الصورة ولا أدل على الفوارق بين أجزائها، ولا غرابة في ذلك لو أراد الباحثون أن يلتمسوا السبب الذي يبطل العجب، فإن الزمن الماضي «مهم» عند أبناء البادية العربية في كل عهد من عهوده؛ لأنه مستودع المفاخر والأنساب والثارات والسوابق والذكريات، وليس من المصادفة أن يسمى التاريخ هنا باسم الأيام، وأن يعرف لكل يوم أثره فيما كان وما يكون.
أما الزمن الحاضر فلا غرابة في العناية بأجزائه وتقسيماته؛ لأن كل لحظة منه ذات شأن في الحركة والإقامة، وفي المرعى والتجارة، وفي الحرب والأمان.
وليس من الطبيعي أن يبلغ إحساس قوم بالوقت هذا المبلغ، ثم يخلو كلامهم من الدلالة على الإحساس به في مختلف مواضعه ومناسباته.
والواقع أن اللغة العربية تستوفي هذه الدلالة بأسلوبيها المعروفين في اللغات؛ ونعني بهذين الأسلوبين أسلوب الكلمات المستفادة من التصريف والاشتقاق أو من الأدوات المصطلح على تخصيصها لمعانيها، وأسلوب التعبيرات التي تدخل في عداد الجمل والتراكيب.
ومن الأسلوب الأول الصيغ التي تأتي من تصريف الفعل للدلالة على المستقبل الإنشائي كفعل الأمر، فإنه في اللغة العربية مخصص بصيغتين لهذا المعنى بغير لبس في الزمن ولا في الفاعل، فيقول العربي: اكتب، ويفهم من ذلك أن الكتابة مطلوبة للمستقبل غير حاصلة حتما، فإذا عبر المتكلم بالإنجليزية عن هذا الفعل، فترجمة «اكتب» فيها كلمة
Write ، وهي تدل على مجرد الكتابة بغير زمن محدود، ولا تتخصص لمعنى الأمر إلا إذا قيل:
Do write
أو
You should write ، ويندر في اللغات الغربية ما يشتمل على تخصيص أدق من هذا التعميم.
أما الأسلوب الآخر - وهو أسلوب الدلالة على الزمن بالتعبيرات التي تدخل في عداد الجمل والتراكيب، فكل ما أمكن التعبير عنه بهذا الأسلوب في لغة من اللغات، فهو ممكن في اللغة العربية في سهولة كسهولتها أو أسهل منها.
فقد ينسب القول مثلا إلى أحد من الناس كأنه عادة كان يأتي بها في غير زمن محدود، فيقول المتكلم بالإنجليزية:
He used to say
أو
He was always saying ... ويقول العربي: إنه كان يقول، أو إنه تعود أن يقول، أو إنه طالما قال ... ولا تختلف العبارتان في صحة الدلالة ولا في التحديد الزمني، ولا في الإطلاق من هذا التحديد ولا في الإطالة والإيجاز.
وننظر إلى الأفعال من وجهة الأجرومية، فنرى أن أوضاعها في اللغة العربية أدل على التطور والارتقاء من لغات أخرى تحسب في طليعة اللغات دقة وأداء للمعاني الذهنية.
والقرائن التي تكشف عن ذلك كثيرة، فمن علامات التطور في اللغة العربية أن الفعل الماضي فيها هو الأصل، ويأتي الفعل المضارع بالتصريف ... وفي لغات أخرى من أرقى اللغات يشيع استعمال المضارع «أولا»، ويأخذون منه الماضي بإضافة حرف أو مقطع أو تغيير الصيغة.
فالإنسان البدائي يتكلم كأنه يصور على الطريقة الهيروغليفية، فيرسم الحاضر المشاهد في أثناء العمل، ويريد أن يعبر عن الكتابة فيرسم إنسانا في أثناء عمل الكتابة، أي: في الزمن الحاضر المضارع للرؤية، فإذا أراد أن يعبر عن الماضي أضاف إلى الصورة علامة تدل على حدوثها فيما مضى، أو أضاف إليها صورا تتمم معناها بما يفهم منه إسنادها إلى وقت مضى، ولكن اللغة العربية تغلب فيها صيغة الماضي، ويؤخذ منها المضارع بحرف يدخل عليها، وإنما تتم غلبة الصيغة الماضوية بتطور يتدرج في الارتقاء حتى تستقر الصيغتان - صيغة الماضي وصيغة المضارع - على هذا التقسيم.
ومن علامات التطور في اللغة العربية أن تكون التفرقة بين الزمنين فيها فلسفية منطقية، فضلا عن التفرقة النحوية.
ففي كثير من اللغات المعدودة من أرقى اللغات ينقسم الفعل إلى ماض وحاضر ومستقبل
.
على حين أن الحاضر شيء تبحث عنه، فلا تجده أو تجده على الدوام متصلا بالاستقبال لا ينفصل عنه لحظة من أقصر اللحظات؛ لأنه ما من لحظة مهما تقصر إلا وهي كافية أن تجعله في حكم ما كان وليس هو حاضرا الآن.
وهذا الفارق الدقيق ملحوظ في تقسيم الأفعال العربية؛ لأنها ماض ومضارع يدل على الحال متصلا بالاستقبال، ولا يكون الفعل إلا للحال والاستقبال، أو يكون الزمن فيه مضارعا للزمن السائر الذي لا يستقر على قرار.
وقد فطن لهذه الحقيقة عالم من أقدر علماء الأجروميات والمباحث اللسانية، ففي كتاب أصول الأجرومية الإنجليزية لمؤلفه الدكتور «أوتوجسبرسن»
Jespersen
يقول هذا الباحث المحقق: «إن لنا - على الأصح - أن نحسب أن الزمن ينقسم إلى جزئين: ماض ومستقبل، وبينهما حد الانفصال وقت حاضر كأنه النقطة الهندسية، التي لا طول لها ولا عرض ولا ارتفاع، ولكنها على الدوام منسوبة إلى المستقبل .»
وهذه التفرقة الفلسفية المنطقية ملحوظة في التفرقة الأجرومية بين الحاضر والمستقبل في لغة العرب، فإذا أراد المتكلم أن يذكر المستقبل بشتى معانيه، فهو موجود بمعنى الاستمرار وبمعنى الدلالة على ما يأتي، وبمعنى الإنشاء واستحداث الفعل على الطلب، فصيغة المضارع تدل على الحال والاستقبال، وصيغة المضارع مسبوقة بالسين تدل على المستقبل القريب، ومسبوقة ب «سوف» تدل على المستقبل البعيد.
وصيغة الأمر تدل على فعل مطلوب في المستقبل يقترن بالزمن عند حصوله: أمرته ففعل، وهذه المجاوبة بين طلب الفعل وحدوثه مألوفة في اللغة العربية تتمثل في أفعال المطاوعة التي لا نظير لها في كثير من اللغات: فإذا وقع الحدث في الزمن، فله صيغ متعددة تؤكد هذا التحقق كما يقال: أمرته فأتمر، ورسمته فارتسم، وقطعته فانقطع، وكسرته فانكسر.
ومن قبيل هذه التوكيدات للحدوث أو طلب الحدوث في الزمن - دلالة المفعول المطلق حيث نقول: فعلته فعلا، وصنعته صنعا، إلى أشباه ذلك في مواضعه ودواعيه من التعبير والتوكيد.
ومن علامات التطوير أفعال الدعاء والرجاء، فإنها في هذه اللغة العربية غاية في الدقة تحسب من قبيل التميز المنطقي أو الفلسفي في هذا الباب.
فالمعنى غالب على اللفظ في أفعال الدعاء والرجاء: يقول القائل: (صحبتك السلامة) و(حفظك الله) و(رعاك الله) ... ومن آية القصد في اللغة ألا يحتاج الفعل هنا إلى النقل من صيغة الماضي إلى الحاضر؛ لأن المعنى بالبداهة معلق بالاستقبال، وفي بقائه على صيغة الماضي ما يشعر بقوة الأمل في الاستجابة، كأن ما يرجى أن يكون قد كان وأصبح من المحقق المستجاب، ولا شك أن هذا المعنى مقصود؛ لأنه لم يأت عن عجز في اللغة ولا يمتنع على قائل أن ينقله إلى صيغة المضارع إذا شاء. •••
ومن المعلوم أن الغربيين في أجرومياتهم يلحقون باب الشرط والنفي بالكلام على الزمن في الأفعال وهو لحق معقول؛ لأن الشرط والنفي يفيدان ما يحدث وما لا يحدث في زمن من الأزمان، وقد استوفى الشرط والنفي في اللغة العربية أيما استيفاء، فكان من أدوات الشرط ما يفيد الاحتمال الضعيف ، ومنها ما يفيد الاحتمال القوي.
كما يقال: إن حدث هذا، وإذا حدث هذا. ومنها ما يفيد الاحتمال مع الفرض والتقدير، وقد يفيد الامتناع حين تستخدم «لو» في مواضعها، ومنها ما يفيد الشرط المعلق على توقيت منتظر أو متفق عليه كالشرط ب «متى»، ومنها ما يربط السببية أو النتيجة العقلية على الإطلاق الذي لا يتقيد من الأزمان ك «مهما» وأيان وأنى، وك «لو» في بعض الأحوال.
أما النفي ففيه دقة وقصد يدل على جملة قواعد القصد في اللغة العربية.
فالنفي ب «لم» مقصور على نفي الحدوث وهو بالبداهة لا يكون إلا لزمن ماض؛ لأننا لا نتكلم عن شيء حدث قطعا أو لم يحدث قطعا، إلا إذا كان الكلام على ما مضى ... ولهذا تقصد اللغة فلا تحول الفعل من صيغة المضارع إلى صيغة الماضي بعد لم. ويقول العربي: ما حدث هذا ولا يقول: لم حدث هذا؛ لأن «ما» تدخل على المضارع فتفيد نفي «الانبغاء» لا نفي الحدوث ... ومن قال: «ما يحدث هذا» فإنه يعني أن هذا لا ينبغي أن يحدث ولا يعقل أن يحدث ... وقد يلاحظ هذا على الفعل الماضي الذي تسبقه «ما» ... فإن نفي الوقوع هنا لا يخلو من نفي الانبغاء، ومن قال مثلا: «ما فاه فلان بهذا الكلام»، فكأنه يقول: «حاشاه أن يفوه به»، وهذا هو الفارق بين «لم» التي لا تحتاج إلى الفعل الماضي فإنها ماضية قطعا وبين «ما» التي تدخل على الماضي والمضارع؛ لأنها تدل على جانب معنى الوقوع على نفي الشيء؛ لأنه لا ينبغي أو لا يعقل أو لا يقع في الحساب.
أما إذا نفى الحدوث مع انتظاره في المستقبل فصيغة المستقبل هنا لازمة؛ ولهذا يقول العربي: «لما يحدث هذا» وهو يترقب أن يحدث بعد قليل أو كثير.
وهذا القصد في تحويل صيغة الفعل لا يأتي جزافا فيما نرى؛ لأنه يتكرر حيثما اقتضاه المعنى، فنقول مثلا: إن حدث هذا، وإذا حدث هذا، ومتى حدث هذا؛ لأن الاستقبال مفهوم بالبداهة ولا حاجة إليه في اللفظ، وليس هذا لعجز أو لنقص في التصريف؛ لأن الفعل المضارع موجود، ويجوز استعماله مع الشرط في بعض الأحوال لمن شاء.
وإذا دخلت أداة نفي على الفعل المضارع، فهي في حقيقتها مانعة للحدوث لا نافية للحدوث، ومن قال: «لن يئوب القارظان» و«لن تشرق الشمس من المغرب»، فهو يقرر امتناع ذلك لسبب عنده قاطع يمنعه، وليس هذا من قبيل النفي في الصيغ الماضوية.
والمهم في جميع هذه الملاحظات أن الفعل يتأثر بموقعه من الأداة النافية ومعناها، فليس هو منقطعا عن العلاقة الزمنية بل هو متأثر بها في لفظه ومعناه ... «فلم يفعل» غير «لن يفعل» وغير «ما يفعل»، وهو اختلاف يدل على ارتباط العلاقة الزمنية بعلاقة الإعراب، وإن تعذر تعليله من ناحية الإعراب كما يتعذر مثل ذلك في جميع اللغات. •••
على أن اللغات التي تتكلم بها في أرقى الأمم لم تشتمل على تصريفات، أو صيغ مصطلح عليها للدلالة على الزمن خلت منها اللغة العربية أو من نظائرها، وإنما ترد الشبهة على بعض النقاد الغربيين من وجود عناوين للأزمنة المعلقة عندهم لا توجد لها نظائر في اللغة العربية، وهذه الأزمنة المعلقة هي التي يفرض حدوثها فيما مضى، أو ما يلي في حالات مشروطة أو متخيلة، ولكنها ليست قاطعة ولا منتهية إلى نهاية حاسمة، وهذه الأزمنة المعلقة يعبرون عنها في بعض اللغات الأوروبية بالأفعال المساعدة مع الفعل أو اسم الفاعل أو اسم المفعول، ويحكيها في اللغة العربية أنه تقول مثلا عن أحد معروف أو مفروض: «لعله يكون مصورا كبيرا لو نشأ قبل عصره»، أو «لعله يكون في مثل هذه الأحوال قد نجح لو نشأ بعد حين» أو «في مثل هذه الساعة من الغد يكون قد حضر أو يكون حاضرا ... إلى أشباه هذه التعبيرات التي يسهل استخدامها في اللغة العربية كما رأينا، وليست هي في اللغات الأخرى مخصصة بوضع أصيل من أوضاع التصريف والاشتقاق، ولكنها تعبيرات طارئة تتيسر محاكاتها عندنا في كل معنى من معانيها.
وقد يأتي التعبير مخالفا لقصد القائل مع استعمال الفعل المساعد في أشيع اللغات الأوروبية كما يظهر من ترجمة هذه الجملة العربية: «قلت له أمس: إنني سأذهب غدا»، فإنهم يترجمونها بالإنجليزية:
I said to him yesterday I should go tomorrow .
ويجوز للسامع أن يفهم من هذا التعبير أن الذهاب واجب أو أنه حاصل حتما، في حين أن المتكلم لا يعني ذلك، بل يعني أن ينوي أن يذهب ولا يقيد ذلك بالوجوب أو الجزم بالحدوث، وليس في التعبير العربي شيء جديد يدعو إلى هذا اللبس، مع أن الزيادة فيه على الفعل أقل من الزيادة اللفظية في اللغة الإنجليزية؛ لأن السين حرف واحد، وقد يستغنى عنه فيقال: «قلت له أمس: إنني أذهب غدا، أو ذاهب غدا» فيفهم السامع ما أراده القائل.
وكثيرا ما يقيدون دلالات الزمن في اللغات الأوروبية بعبارة معينة لا تتقيد بها في الواقع. ومن الأمثلة التي أذكرها على ذلك أننا كنا في أيام التلمذة ندرس باب المبني للمجهول في اللغة الإنجليزية، فسألنا الأستاذ أن نبني للمجهول هذه العبارة: واكتب هذا
write this ، فأجبته بما معناه هذا يجب أن يكتب
This must be written ... قال الأستاذ: يجوز، ولكنه غير الاصطلاح المشهور، وإنما الاصطلاح المشهور أن يقال:
This should be written ... والفرق بينهما كالفرق بين «هذا يجب أن يكتب» «وهذا يلزم أن يكتب» ... ولا فرق بينهما في الحقيقة إلا تحكما واصطلاحا لتقرير وضع من الأوضاع يتردد في جميع التراكيب.
وبعد فإن اللغة من اللغات يعيبها على الأغلب الأعم نقصان: نقص في المفردات ونقص في أصول التعبير، والنقص في المفردات مستدرك؛ لأنها تزاد بالاقتباس والنقل والتجديد. وما من لغة إلا وهي فقيرة لو سقط منها ما لم يكن فيها قبل بضعة قرون، أما النقص المعيب حقا فهو نقص الأصول والقواعد الأساسية في تكوين اللغة. ومن قبيله ما نسب إلى لغتنا من نقص الدلالة على الزمن في صوره المختلفة، وإنه لنقص خطير لو صحت نسبته إليها، ولكنه بحمد الله غير صحيح. ويحق لنا أن نقول: إن هذه اللغة العربية لغة الزمن بأكثر من معنى واحد: لغة الزمن لأنها تحسن التعبير عنه، ولغة الزمن لأنها قادرة على مسايرة الزمن في عصرنا هذا وفيما يلي من عصور .
الشعر ديوان العرب
وإلى الشاعر يرجع العربي ليتعرف القيم الأخلاقية المفضلة، ويستقصي المناقب التي تستحب من الإنسان في حياته الخاصة أو حياته الاجتماعية.
يرجع العربي إلى الشاعر، ولا يرجع إلى الفيلسوف أو إلى الزعيم أو إلى الباحث في مذاهب الأخلاق، ويعلم كل قارئ عربي أن الشاعر الحكيم أبا تمام إنما قرر حقيقة علمية حين قال:
ولولا خلال سنها الشعر ما درى
بناة العلا من أين تؤتى المكارم
ففي الشعر العربي تنويه بكل صفة من صفات المروءة والفتوة، ازدراء بكل عيب من العيوب التي تشين صاحبها بين قومه، وبيان واف للأخلاق التي تحكم الحياة فعلا، أو ينبغي أن تحكمها وتتراءى فيها مرجحة مشرقة بين سائر الأخلاق.
ومن البديه أن العربي لا يرجع إلى الشاعر ليسأله عن المذاهب الفلسفية ذات الشروح والحواشي وذات العلل والنتائج، ولكنه يرجع إليه ليجد عنده شيئا أصح وأقرب إلى حسه وفهمه وعمله: يجد عنده «شخصيات حية» تتمثل في كل منها صورة من صور الحياة كما هي: وكما يتمناها.
وإنه ليشعر بالمجاوبة بينه وبين هذه الشخصيات في جوانب كثيرة من ذات نفسه وذات ضميره.
يشعر بها حين يريد أن يغتبط بحظه من الأخلاق، ويعتقد أنه على شيء من تلك الصفات التي يحمدها الشعراء.
ويشعر بها حين يريد أن يتعزى عن فقدان الأخلاق الفاضلة في المجتمع، وأن يشكو فقدانها ويبلور هذه الشكوى في كلام محفوظ يردده ويستشهد به لغيره.
ويشعر بها حين يريد أن يستحث طبيعته، وينهض بها إلى غاية يستصعب الوصول إليها، ويؤمن بأنها غاية قد بلغها قبله آخرون.
ولحسن حظه أنه يجد في الشعر شخصيات كثيرة منوعة، تناسب كل حالة، بل تناسب كل سن، بل تناسب كل مزاج.
يجد في الشعر شخصية الشاب المغامر، وشخصية الكهل الناضج، وشخصية الشيخ الحكيم، ويجد هذه الشخصيات معروضة أمامه في حالات الرضا والسخط، وحالات التصون والابتذال، وحالات الروية والارتجال.
كل شاعر من شعرائه النابهين نموذج صحيح من نماذج الشخصية الإنسانية على سليقتها، وكلهم يعطيه الصورة كاملة مستوفاة من حياة واقعية لا شك فيها.
وفي شعر الجاهلية - مثلا - نموذج لشخصية الشاب طرفة بن العبد، وشخصية الكهل حاتم بن عبد الله، وشخصية زهير بن أبي سلمى، وكل منهم موصوف في شعره على حقيقته، ويزيد على ذلك أنه واصف صادق للقيم الأخلاقية كما تواضع عليها المجتمع في عصره، وكما يتمنى أن تسود بين الناس كافة.
لم يعمر طرفة طويلا ولم يجاوز السادسة والعشرين إذا أخذنا بقول أخته في رثائه، ونشأ في بيت من بيوت النسب العريق، ولكنه نشأ يتيما فقد أباه وهو طفل صغير، فلم ينل من أعمامه كل حقه وابتلي بالظلم والرياء بين أهله الأقربين وعشيرته، فركب رأسه واستقل برأيه، وذهب يغامر في الحياة ولا يبالي الموت؛ إذ عاش عيشة النعيم ومات ميتة الكريم.
ألا أيهذا اللائمي أشهد الوغى
وأن أحضر اللذات، هل أنت مخلدي؟
فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
وإذا خوفوه بالعمر القصير قال: «ما أقرب اليوم من غد ...» أو قال: إن العمر طال أو قصر «كالحبل الذي يربط به البعير، وطرفه الآخر في يد القدر لا يدري متى يجذبه منه.»
وعلى كثرة الاهتمام بالأخبار في الصحراء - لأن الأخبار ترتبط بالحياة والموت والأمن والفزع - لم يكن طرفة يبالي أن يسأل عن خبر مغيب عنه، وكان يقول لمن يشغلون أنفسهم بالسؤال والاستطلاع:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
إلا أنه مع إقباله على متعة الحياة لم يكن يرضى لنفسه مكان الرجل الجبان، الذي يهرب من واجبه كلما دعي إليه.
وإن أدع للجلى أكن من حماتها
وإن «تقبل» الأعداء بالجهد أجهد
فهو في الجملة نموذج للشاب النبيل الذي يرضي نفسه، ولا يرضى عنها إذا تخلفت عن أنداده ونظرائه في مقام الشجاعة والندى، ولا يقبل من قومه إذا أعطاهم حقهم في ساعة الشدة أن يحولوا بينه وبين «ساعة المتعة» بتخويفه من اللوم، أو تخويفه من عواقب الإشراف. •••
والنموذج الآخر - حاتم بن عبد الله - مثل من أمثلة الرجولة الناضجة، وقدوة للسيد المسئول عن قومه، وإلى هذا اليوم يضرب المثل بالكرم الحاتمي في أحاديث الناس الذي يعرفون من هو حاتم هذا، أو الذين لا يعرفون منه إلا اسما أصبح في عداد الصفات المتجمعة للنبل والكرامة.
واتفق الرواة على أنه «رجل يصدق قوله فعله، وإذا قاتل غلب، وإذا سئل وهب، وإذا سابق سبق، وإذا أسر أطلق.» وقد شهدت بنته البعثة الإسلامية وجيء بها مع أسرى قبيلتها إلى النبي - عليه السلام - فقالت: يا محمد! هلك الوالد وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلي عني فلا تشمت بي أحياء العرب، فإني بنت سيد قومي، كان أبي يفك العاني ويحمي الذمار، ويقري الضيف ويشبع الجائع ويطعم الطعام ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، أنا بنت حاتم طيء.
وشهد السامعون بصدقها ولم يكن يخفى على النبي حقيقة قولها، فقال - عليه السلام: خلوا عنها، إن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق.
وما من صفة من هذه الصفات إلا قد تواترت الأنباء بتأييدها، وتكررت النوادر التي تثبتها، وجملة ما يقال عن هذا النموذج أنه كان سيدا ينهض بأعباء قومه، ويخجل من العيش الرغد إذا كان في قومه من يشقى بالفقر وبالأسر، ويكرم نفسه مع الحلم في ساعة الغضب، قائلا وعاملا بما يقول:
فنفسك أكرمها فإنك إن تهن
عليك فلن تلقى لك الدهر مكرما
تحلم على الأدنين واستبق ودهم
ولن تستطيع الحلم حتى تحلما
وأغفر عوراء الكريم ادخاره
1
وأصفح عن شتم اللئيم تكرما
لحى الله صعلوكا مناه وهمه
من العيش أن يلقى لبوسا ومطعما
وجماع رأيه أنه يشارك الناس في ماله إذا اغتنى، ولا يشاركهم في مالهم إذا افتقر ويحمي شرفه بماله، ولا يحمي ماله بشرفه.
وإني لعف الفقر مشترك الغنى
وتارك شكل لا يوافقه شكلي
وأجعل مالي دون عرضي جنة
لنفسي، وأستغني بما كان من فضلي
ومن أجمل أقواله التي سبق بها القائلين قبل أربعة عشر قرنا أن المال عبد وليس بسيد.
إذا كان بعض المال ربا لأهله
فإني بحمد الله مالي معبد
ومن تمام أدب الرجولة فيه أنه كان يجمع العفة إلى الكرم والشجاعة، ولم يذكر عنه قط خبر واحد ينفي قوله:
فأقسمت لا أمشي على سر جارتي
يد الدهر ما دام الحمام المغرد
ولا أشتري مالا بغدر علمته
ألا كل مال خالط الغدر أنكد
وشريعة الرجولة في هذا النموذج الأخلاقي الحي أنها حلم مع قوة، وعفة مع شجاعة، وكرم مع وداعة وطيبة، وأنها حقيقة عملية وليست أمنية من أماني المثل الأعلى. •••
ويعرض لنا زهير بن أبي سلمى قيم الحياة الفضلى، كما يتمثلها شيخ واسع التجربة خبير بحوادث الأيام في زمانه وقبل زمانه، يقول بحق في شيخوخته:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عم
ومثال السيد الجدير بالحمد عنده من يحسن الحرب ويسعى في السلم، ومن لا يهاب القتال ولكنه يدري ما هو فيعافه بعد خبرة:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
وما هو عنها بالحديث المرجم
2
وقد جمع الصفات المثلى كلها في أبيات متوالية يشيد فيها بحسن السياسة والفضل والوفاء والقيام بمطالب العشيرة، كما يشيد فيها بالإقدام الذي لا يهاب صاحبه أسباب المنايا وبالصراحة التي تنبو عن النفاق، ويأمر بالمعونة ولكنه ينهى عن المعونة في غير موضعها ولغير أهلها:
ومن لا يصانع في أمور كثيرة
يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
ومن يجعل المعروف من دون عرضه
يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله
على قومه يستغن عنه ويذمم
ومن يوف لا يذمم ومن يهد قلبه
إلى مطمئن البر لا يتجمجم
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
وإن يرق أسباب السماء بسلم
ومن يجعل المعروف في غير أهله
يكن حمده ذما عليه ويندم
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
ومن يغترب يحسب عدوا صديقه
ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
ومهما يكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده
وإن الفتى بعد السفاهة يحلم
وهذه القصيدة أوفى قصائد الشعر الجاهلي في وصف قيم الحياة والأخلاق الفضلى، كما يتمثلها شاعر جاوز الثمانين وقضى العمر في عراك العيش بين الحرب والسلم والشدة والرخاء، وقام بتكاليف الحياة حتى سئم تكاليف الحياة، ولكنه أراد أن يمحضها خالصة لمن يسأمها ولا يزال يعانيها.
وليس أغنى من الشعر الجاهلي بهذه «المذاهب الأخلاقية» معروضة في صدر الشخصيات الحية، يتسع فيها المجال لتطور كل شخصية على حسب اختلاف السن والمزاج وتجارب الأيام ...
ولكنها - على هذا الاختلاف - تستمد القيم من وحي المجتمع العربي في نطاقه، ولا تخرج منه ولا تشعر بالحرج أو بالحجر من أجل ذلك؛ لأنها هي لا تريد أن تخرج من ذلك النطاق، وتحس بأنها تفرضه كما يفرض عليها.
وإذا سألنا عن أثر الشخصية وأثر المجتمع أيهما أظهر وأقدر في خلق هذه القيم الحية، فقد يفضي بنا البحث النظري إلى سؤال كالسؤال عن البيضة والدجاجة، ولكن الأمثلة الواقعية هنا تعطينا الجواب محسوسا مفهوما لا محل بعده للبحوث النظرية.
إن استقلال الشخصية قد بلغ غايته القصوى في رجل ثائر على المجتمع، متمرد على قومه، مفاخر بهذه الثورة وهذا التمرد، وهو عروة بن الورد الملقب بعروة الصعاليك؛ لأنه كان يقود صعاليك القوم ليجلب لهم الميرة ولوازم المعيشة.
ولكنه لم يكن يثور ويتمرد إلا ليحقق القيم الاجتماعية التي تعارف عليها الناس من عشيرته، فيخرج مغيرا مجازفا ليغنم ويطعم «المريض والكبير والضعيف»، كما جاء في سيرته، ويرد على من يفاخره بالصحة والفراهة قائلا: إنه يفرق جسمه في جسوم كثيرة؛ أي: إنه يعطي من طعامه ما يقوت الأجسام، وإن إناءه الواحد آنية للكثيرين ولكن مفاخريه لهم آنية كثيرة كأنها إناء واحد.
وإني امرؤ عافي إنائي شركة
وأنت امرؤ عافي إنائك واحد
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى
بجسمي شحوب الحق والحق جاهد
أفرق جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء والماء بارد
وقد أصبح بعد موته «واضع قيم» ودليلا هاديا لمن يقررون دعائم المجتمع في الدولة العربية، فكان الخليفة الأموي معاوية يقول: لو كان لعروة بن الورد ولد لأحببت أن أتزوج إليهم، وكان الخليفة الأموي الآخر عبد الملك بن مروان يقول: «ما يسرني أن أحدا ولدني من العرب غير أبي إلا أن يكون عروة بن الورد.»
وسأل عمر بن الخطاب الحطيئة: كيف كنتم في حربكم؟ فقال: كنا ألف حازم نطيع قيس بن زهير ولا نعصيه، ونقدم إقدام عنترة، ونأتم بشعر عروة بن الورد.
ولا حاجة بعد هذا المثل للسؤال عن مصدر القيم الأخلاقية بين الشخصية المستقلة وبين العرف الذي يتواضع عليه المجتمع، فإن التطور ينتهي بالثائر والمسالم معا إلى توكيد القيم الفضلى والزراية بمن يخرج عليها، وإنما الثورة على أعضاء المجتمع لا على القيم التي تعاونوا عليها.
وقد مضى على هذه «المذاهب» المتمثلة في هذه الشخصيات نحو ألف وخمسمائة سنة، ولم يزل لها صوت مسموع في استحسان الحسن وإنكار المنكر من الأخلاق. •••
ولم تتغير بعد الإسلام وظيفة الشاعر التي يرجع إليها في تسجيل القيم والأخلاق، وإن كان قد تغير الشاعر كما تغير سامعوه وقراؤه، وأصبح من اليسير على بعض الشعراء أن يعرضوا للناس صفات «الشخصية الحية»، كأنها مذهب من مذاهب التفكير.
والنماذج هنا كثيرة كالنماذج في أيام الجاهلية، ولكننا نجتزئ منها بعض أنواعها التي تدل على اتساع المجال أمام «الشخصية المستقلة» للتطور في نطاق المجتمع الكبير. •••
من هؤلاء الشعراء أصحاب الشخصيات أو أصحاب المذاهب المستمدة من حياتهم وتفكيرهم - ثلاثة ممتازون بين قرنائهم: هم الحسن بن هانئ، وأبو الطيب المتنبي، وأبو العلاء المعري، وأولهم نشأ بعد ظهور الإسلام بنحو قرنين.
فالحسن بن هانئ أبيقوري كامل بالمعنى الذي شاع عن أبيقور بغير تمحيص في العصور الأخيرة، فليس للحياة عنده غاية أحق بالحرص عليها من اللذة حيث كانت، ولا مبالاة في سبيلها باللوم أو بالشريعة، ولكنه لا يدين بهذا المذهب تحديا للدين، بل اعترافا منه بالضعف عن فروضه وإيمانا منه بالرجاء في الغفران؛ ولهذا حسبوه من الظرفاء الذين لا يؤخذون مأخذ الجد، ولم يحاسبوه محاسبة الثورة والمروق.
وأبو الطيب المتنبي شاعر وفيلسوف، وفي وسعك أن تستخرج منه مذهب نيتشه في دين القوة بتفصيلاته، مطبقا في الحياة العملية أو موضوعا موضع المحاولة الدائمة بغير وفاء.
ليس في مذهب نيتشه أصل واحد لا يواجهنا بارزا متميزا في عدة أبيات من شعر المتنبي.
هناك قسمة الأخلاق إلى نوعين: أخلاق السادة وأخلاق العبيد.
وما في سطوة الأرباب عيب
وما في ذلة العبدان عار •••
والغنى في يد اللئيم قبيح
قدر قبح الكريم في الإملاق
وهناك الترفع عن كل شيء فيه مساواة، وليس فيه امتياز واختصاص:
وشر ما قنصته راحتي قنص
شهب البزاة سواء فيه والرخم
وهناك حب الحياة واختلافه بين النوعين، فهو سبب للحذر والاتقاء عند الضعيف، وسبب للإقدام والعدوان عند القوي:
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه
حريصا عليها مستهاما بها صبا
فحب الجبان النفس أورثه التقى
وحب الشجاع النفس أورده الحربا
والقوة هي مصدر الأخلاق العليا، فلا عفة ولا حلم للضعفاء:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعله لا يظلم •••
كل حلم أتى بغير اقتدار
حجة لاجئ إليها اللئام
والصفات الكريمة قوى كقوى جحافل الخيل المغيرة:
هزمت مكارمه المكارم كلها
حتى كأن المكرمات قنابل
وإنما يخاف الكريم شيئا واحدا، وهو العار الذي يذهب بسمعة المجد، فلا يحذر الموت من يحذر العار.
فالعار مضاض وليس بخائف
من حتفه من خاف مما قيلا
وإذا كان مذهب نيتشه ناطقا جدا في شعر المتنبي، فشعر المعري فيه مذهبان ناطقان - تفصيلا - من مذاهب العلم والفلسفة، وهما مذهب داروين ومذهب شوبنهور.
حب البقاء وتنازع البقاء بين الأحياء:
أرى حيوان الأرض يرهب حتفه
ويفزعه رعد ويطمعه برق •••
ولا يرى حيوان لا يكون له
فوق البسيطة أعداء وحساد
والطبيعة تسلح كل حي بما يلائمه في هذا النزاع:
وما جعلت لأسود العرين
أظافير إلا ابتغاء الظفر
ولا فرق بين الأقوياء والضعفاء في هذه الحرب الأبدية:
ظلم الحمامة في الدنيا وإن حسبت
في الصالحات كظلم الصقر والباز
ولكنه يخلص من ذلك كله إلى رحمة الأحياء جميعا؛ لأنها: أقوياءها وضعفاءها ضحايا القدر الغالب مدفوعة إلى العدوان أو الدفاع.
ولو علمتم بداء الذئب من سغب
إذن لسامحتم بالشاة للذيب
ومقاسمته الضعيف أولى من حمل مؤنة الصراع:
إن شقا يلوح في باطن البر
رة قسم بيني وبين الضعيف
ولكن أحق من الإنعام بدرهم على إنسان فقير، أن تنعم بالحياة كلها على برغوث مقبوض:
تسريح كفك برغوثا ظفرت به
أحق من درهم توليه محتاجا
كلاهما يتوقى والحياة له
حبيبة ويروم العيش مهتاجا
بل حتى عسل النحل لا يجوز لنا أن نغصبه لأنفسنا؛ لأنها تجمعه لنفسها ولا تجمعه للمشتار.
تق الله حتى في جنى النحل شرته
فما جمعت إلا لأنفسها النحل
ولهذا عاش على النبات وحرم كل طعام من الحيوان أو من جناه، ولم يذهب هذا المذهب محاكاة لأهل الهند كما وهم بعضهم؛ لأنه كان يعجب من عقائد كثيرة وشعائر مختلفة يدين بها الهنود، كتناسخ الأرواح وتقديس البقر وتحريق الجثث وما إليها.
وقد انتهى به مذهب داروين إلى مذهب شوبنهور، وهو الإعراض عن الحياة بمعاركها ومظالمها والكف عن النسل؛ لأن الأب الصادق الحنان هو الذي يجنب أبناءه شقوة العيش:
وإذا أردتم للبنين كرامة
فالحزم أجمع تركهم في الأظهر
أما ولادة النسل فهي جناية جناها عليه أبوه، فهو يكفر عنه فلا يجني على بنيه:
هذا جناه أبي علي
وما جنيت على أحد
وعلى هذا النحو يفتح الشعر للعربي متحفا حافلا بأنماط الحياة، ويصور بها القيم الأخلاقية في شخصية تتناسق وتتجاوب في سلوكها، وفي تعبيرها عن هذا السلوك، وإذا تعددت أمام العربي هذه الأنماط، فهي لا تحير فكره ولا تبلبل خواطره كما تحار الأمم التي تتلقى «الأيديولوجية» من مذاهب الفلاسفة بين الجدل والمناقشة ... كلا ... لا حيرة فكر هنا ولا بلبلة خاطر؛ لأن السليقة العربية تواجه هذه الأنماط بحسها ووعيها، وتختار منها كل ما اقترب منها واستوضحته بظروفها وأطوارها.
وهناك الضابط المهم الذي يوحد هذه الأنماط، ويتحول بها إلى اتجاه واحد، كما تتحول الجداول إلى مجرى النهر الكبير.
ذلك هو ضابط الدين بعد ظهور الإسلام.
ففي الجاهلية كان نطاق المجتمع يحيط بالأنماط الشخصية فتتفق - مع تعددها - على الإيمان بآداب المجتمع في النهاية.
وبعد ظهور الإسلام أحاطت آداب الدين بآداب المجتمع، وجاءت بمادة التماسك التي تشمل الأنماط الكثيرة، وتردها إلى بنية واحدة.
والشعر والدين كيف يتفقان؟
نعم كيف يتفقان وفي الشعر قسوة نيتشه، ورهبانية شوبنهور، وإباحية أبيقور المرفوضة في التقاليد؟
نعم يتفقان وفي الصدر سعة وعلى الثغر ابتسامة؛ لأن القرآن يصف الشعراء بأنهم
ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون .
فللشاعر أن يقول ما يشاء، وللقارئ أن يستريح إلى سماعه إذا شاء؛ لأنه لا ينظر إليه نظرة المعارض المصادم للدين، وإنما ينظر إليه كأنه يتفرج على منظر حسن من مناظر الفنون.
إن «الأيديولوجية» الدينية كثيرا ما تصيب النفس الإنسانية بما يشبه داء الفصام
Schizophernia ؛ لأنها لا تقرر لها مكانها بين عالم الطبيعة، وعالم ما وراء الطبيعة، ولا تقرر لها مكانها بين حق الفرد وحق الجماعة.
إلا أن الإسلام لا يترك نفس الإنسان في هذا التيه على غير هدى، إن هذه الدنيا - عالم الطبيعة - طيبة يجب على الإنسان أن يأخذ نصيبه منها ويأمره القرآن قائلا:
ولا تنس نصيبك من الدنيا ، ويأمره الأثر
Tradition
قائلا: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.»
وحق الفرد - حق الحرية القائم على المسئولية - يطلق روح الإنسان من كل خطيئة ليست في عمله كما تكرر ذلك في القرآن الكريم غير مرة:
كل نفس بما كسبت رهينة .
كل امرئ بما كسب رهين .
ولا تزر وازرة وزر أخرى .
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى .
وعلى كل إنسان إلى جانب حق المسئولية الحرة واجب يؤديه، ولكنه واجب على قدر طاقته
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [البقرة: 286].
أما الجماعة
Society
التي يختارها الإسلام، فهي الجماعة التي تقوم على المساواة في الحقوق، وعلى حكم الشورى، ولا يمتنع فيها التفاضل بالكفايات.
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات : 13].
وأمرهم شورى بينهم [الشورى :
نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات [الزخرف :
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [الزمر : 9].
ولكن الإسلام يمنع حصر الثروة في أيدي طبقة واحدة
كي لا يكون دولة بين الأغنياء [الحشر : 7].
ولا يخفى أن المشكلة الكبرى في العصر الحديث إنما هي مشكلة العلاقة بين حرية الفرد ومصلحة الجماعة، والإسلام لا يقيد المسلمين بنظام معين لحل هذه المشكلة، ولكنه يحرم السلطان المطلق كل التحريم، ويحرم استئثار طبقة معينة بخيرات المجتمع، ولا يحاسب الفرد إلا بما هو مسئول عنه مختار فيه، ولا يفرض عليه واجبا فوق طاقته، وهذا كل ما يطلب من «الأيديولوجية» الدينية في تقرير نظام الحكم، وما بقي فهو من الأعمال التي يتولاها الناس في كل زمن بما يقتضيه.
وأصعب الصعوبات في كل «أيديولوجية» سواء كانت دينية أو فلسفية، أنها تخاطب الشخصيات المنوعة بلسان واحد، كأنها مطبوعة في طابع واحد، الأيديولوجية لا محل لها في الثقافة العربية؛ لأن «الشخصية الإنسانية» تبلغ مداها في هذه الثقافة من التعبير عن نفسها، وذخيرة الشعر العربي من أقدم العصور تكفي لتفريج كل حجر يعوق الشخصية عن تطورها، ففيه من ألوان الشخصية أكثر مما في قصص الأمم الأخرى من الشخوص المتخيلين
Figures ، مع الفارق بين المثل الحي المعبر عن وجدانه بلسانه، وبين الدمى المخلوقة من صنع الخيال يلقى على ألسنتها كل ما يقال.
ومكان الشعر العربي في «الأيديولوجية» أنه أكثر من أدب، وأنه تعبير عضوي
Organic
عن الحياة الباطنة، فهو تنفيس حر عن الوجدان في قضاياه الخاصة والعامة ولا صدام فيه؛ لأنه منوع كثير الأنماط، يناسب حالات كثيرة من النقائض التي تعرض للإنسان.
إن القداسة عبء ثقيل لا يقوى عليه المخلوق الفاني في جميع أوقاته، ولكن المعبد الذي يأذن إلى جانبه بالمضمار الرياضي، والمنبر البليغ يعطي الإنسانية حقها، ويعينها على واجبها إذا أرادت أن تعان عليه.
وهكذا تستطيع الأيديولوجية العربية من جانبها الديني وجانبها الفني أن تقيم الإنسان على رأس طريق لا ظلام فيه! شخصية حرة مسئولة، ومجتمع يوجب المساواة في الحقوق، ولا يسمح باحتكار الثروة لفئة محدودة ولا يحرم الممتاز فرصة الامتياز، وواجب على قدر الطاقة في جميع الأحوال.
نقد الشعر العربي
أخطاء المستشرقين في نقد الشعر القديم
انتهى في عصرنا هذا دور الاستشراق في خدمة اللغة العربية، وبقي للمستشرقين دورهم الذي ينتفع به أبناء الغرب الذين يعتمدون على إخوانهم في لغاتهم للعلم بما يحتاجون إلى علمه عن اللغة العربية.
ووضح اليوم مكان المستشرقين في الدراسات العربية، وسائر الدراسات الشرقية.
فإذا صرفنا النظر عن عمل الكثيرين منهم في دراسة اللغة لأغراض دينية أو سياسية، فهم قبل كل شيء مؤرخون أو أصحاب إحصاء وتسجيل، لم يعهد فيهم أنهم حجة في آداب بلادهم، فهم أحرى ألا يكونوا عندنا حجة في آدابنا العربية، وبخاصة في مسائل الذوق الفني، واختيار الشعر والحكم على الشعراء.
وهم بعد ذلك يجهلون روح اللغة ويجهلون معاني الكلمات، وليس من الشائع بينهم أن يتوسعوا في دراسة التاريخ العام للبلاد الشرقية إلى جانب دراسة اللغة، فيكثر عندهم من أجل ذلك أن يخطئوا فهم أطوار اللغة جهلا منهم بأطوار التاريخ، وبما يستلزمه من موضوعات الشعر والخطابة وغيرها من التعبيرات القومية.
ومثال ذلك أنهم - لغفلتهم عن الفارق بين أديان العرب الجاهلين، وأديان الهند واليونان والفرس - حسبوا أن العرب قد كان لهم شعر ديني لا بد أن يكون على مثال قصائد الهند والفرس والأساطير اليونانية الشعرية، ورتبوا على ذلك إنكار الشعر العربي المنسوب إلى الجاهليين؛ لأنه خلو من التعبير عن العبادات والشعائر وما إليها، ولكن قليلا من العلم بالتاريخ الجاهلي ينقض هذا الظن كله لما هو معلوم عن مناسك العرب الجاهليين، وإنها لم يوجد لها هيكل ترتل فيه الصلوات والأناشيد الدينية على مثال الهياكل الهندية أو الفارسية أو المحافل اليونانية، وإنما كان هيكلهم الأكبر في الكعبة مثابة فريضة ليس للشعر عمل فيها كعمله في الأشعار الدينية المشهورة، ونعني به فريضة الحج، أو زيارة الكعبة من حين إلى حين، ولو جاز أن ننفي الشعر الجاهلي الذي خلا من الدينيات لوجب أن نحل في محله شعرا آخر لم يخل من هذه الدينيات، ولو بقي ذكره ولم تبق نصوصه بأوزانه وكلماته ، سواء نظم ذلك الشعر بلغة قريش أو بلغة غيرها، لاعتقاد المستشرقين أن لغة قريش لم تشمل أنحاء الجزيرة العربية ... فأين هو ذلك الشعر الموهوم؟
ومن نقص فهم التاريخ الذي يؤدي إلى الخطأ في نقد الشعر، وفهم أطوار اللغة أن المستشرقين لم يتلفتوا إلى عموم لغة قريش بين اليهود الذين لا شك في اختلاف لغتهم الأولى عن لغات قريش، وسائر أبناء الجزيرة.
وبعض ما يستفاد من الالتفات إلى تاريخ يهود يثرب - مثلا - أنه يصحح خطأ المستشرقين؛ إذ ينكرون وحدة اللغة العربية قبل الإسلام في عصر المعلقات، والقصائد الجاهلية، ولقد كانت وحدة اللغة من مقدمات الدعوة الإسلامية التي خاطبت العرب جميعا بلسان يعرفونه من قبل عصر الإسلام ... فجاء بعض المستشرقين بوهم من أوهامهم يشككون في وحدة هذه اللغة، وينكرون اتفاق الجزيرة على التخاطب بلسان القرشيين والمكيين، ويزعمون أن وحدة هذه اللغة ممتنعة لاختلاف لسان العدنانيين والقحطانيين.
وإلى هذا الخطأ أشرنا في كتابنا مطلع النور حيث نقول:
فاليهود في يثرب أصدق جواب على هذه الأوهام؛ لأنهم غرباء عن الجزيرة العربية دخلوها في القرن الأول أو الثاني للميلاد، ولا يجوز الشك في ذلك، ولا القول: بأنهم عرب تهودوا كما قال بعض المؤرخين على غير علم ولا روية فيما يصح أن يقال! فإن القول بذلك يستلزم منا أن نفرض أن العرب الأميين تطوعوا للتحول إلى اليهودية، ثم تعلموا العبرية، وتفقهوا في كتب التوراة؛ لينقطعوا عن أسلافهم وينضووا إلى قوم مخذولين في بلادهم لا يسلمون لأحد من الأمم أنه أهل للدخول معهم في عداد شعب الله المختار، فهذا من أغرب الفروض التي لا تثبت بغير دليل قاطع فضلا عن الثبوت - ظنا وتخمينا - بغير دليل، وليس في هجرة اليهود من فلسطين إلى بلاد العرب غرابة، أو مناقضة لوقائع التاريخ بعد تشتيتهم في القرن الأول أو الثاني للميلاد، وقد كان مقامهم على الطريق بين تيماء والمدينة للتجارة والزراعة، والاشتغال بغير صناعات القبائل العربية أشبه شيء أن يكون على ذلك الطريق خاصة دون الطريق الأخرى التي يحميها النبط وقريش ، ولا يستطيع اليهود المهاجرون أن يقتحموها على أصحابها وهم مشردون مستضعفون، مع العداء بينهم وبين النبطيين، وتعصب النبطيين على إسرائيل دينا ولغة وميلا في السياسة والولاء.
وعلى جميع هذه الفروض التي لا تقبل الشك تبقى هناك الحقيقة، التي لا تختلف مع اختلاف القول في أصول يثرب وخيبر وفدك وتيماء ووادي القرى على الإجمال.
فهل هؤلاء عرب يكتبون؟
لو كانوا كذلك لقد كانوا خلقاء أن يحفظوا في صحفهم كلاما عربيا، مما قبل الإسلام بثلاثة قرون يخالف العربية الموحدة في عصر الإسلام، إن صح أن العربية لم تكن موحدة في أيام شعراء المعلقات ... وبعض هؤلاء الشعراء لم يسبقوا عصر الإسلام بأكثر من مائة عام.
وكانوا خلقاء أن يحفظوا بالكتابة العبرية لهجة غير اللهجة الموحدة التي يشك المستشرقون في سبقها للإسلام إلى عصر أولئك الشعراء، أو كانوا خلقاء أن يعلمونا من كتابتهم شيئا يؤيد ذلك الشك نوعا من التأييد.
أما إذا كانوا على القول الراجح - بل القاطع - يهودا دخلوا الجزيرة بلسان غير لسانها، وتكلموا الآرامية أو الأدومية أو العبرية، ثم تعلموا اللغة العربية الحجازية، فهذا التوحيد الذي تم بين اللغة الحجازية وبين الآرامية أو الأدومية أو العبرية ليس بالمستغرب أن يتم بين لهجة العرب في الجنوب، ولهجة العرب في الحجاز وسائر أطراف الجزيرة، فقد أقام عرب اليمن في الجزيرة، واتصلوا بالحجاز زمنا أطول جدا من مقام اليهود المهاجرين منذ القرن الأول أو الثاني للميلاد.
ولم يصل إلينا شيء من لغة اليهود الذين أقاموا بجنوب الجزيرة، أو اليهود الذين تحالف معهم ذو نواس في نجران، ولكن اليهود الذين وفدوا إلى الحجاز بعد البعثة النبوية كان منهم كتاب ومؤرخون مطلعون على تواريخ حمير، وتواريخ أسلافهم العبرانيين، وكان منهم كعب بن مانع المسمى بكعب الأحبار، وكان منهم وهب بن منبه الصنعاني الذي قال ابن خلكان: إنه رأى كتابا له عن ملوك حمير وأخبارهم وأشعارهم في مجلد واحد، ووصف هذا الكتاب بأنه مفيد، وقد كان كعب ووهب من المغربين في طلب النوادر، فلم يذكروا لنا زمنا شهداه ، أو شهده آباؤهما، وأجدادهما، كانت فيه لغة قريش مجهولة في اليمن وما جاورها. وأدنى من ذلك إلى عصر البعثة قدوم الوفود من اليمن إلى الحجاز، وذهاب الولاة من الحجاز إلى اليمن بإذن النبي - عليه السلام، ومنهم معاذ بن جبل وعلي بن أبي طالب، ومن كان يصحبهما في عمل الولاية والتعليم، فلم نسمع أن وفود اليمن - على النبي - جهلوا ما سمعوه أو نطقوا بكلام لا يفهمه أهل الحجاز، وهؤلاء لقد لقنوا لغاتهم من آبائهم، فلا يفوتهم ما اختلف من كلامهم إذا كان ثمة اختلاف.
وأقدم من البعثة المحمدية رحلة الصيف ورحلة الشتاء، وليس في أخبار هذه الرحلات إلماع إلى تفاهم قريش من أهل اليمن، بلغة غير اللغة القرشية في الجيل السابق للبعثة والجيل الذي تقدمه، ومن البعيد جدا أن يغيب عن ذاكرة العربي حديث جيلين قبل جيله، وقد كانت أخبارهم ورواياتهم وأنسابهم وأمثالهم كلها قائمة على الحفظ، وتسلسل الرواية والإسناد من جيل إلى جيل، فإذا كانت لغة الحجاز شائعة عامة على مدى الذاكرة في عصر البعثة المحمدية، فلا أقل من ثلاثة أجيال تقدر لهذا الشيوع وهذا التعميم، وترجع بنا هذه الأجيال إلى أقدم الأوقات التي أسند إليها نظم المعلقات، فلا نستغرب نظمها باللغة التي يفهمها العرب من الجنوب إلى الشمال.
ولقد سمع النبي - عليه السلام - قصيدة كعب بن زهير، وقد نظمها ولا شك بلغة أبيه زهير بن أبي سلمى، وكان زهير من أسرة شاعرة مسبوقا إلى النظم بتلك اللغة، ولا يعقل أن يكون التغير في لغة النظم قد طرأ عليهم فجأة في مدى سنوات معدودات. فإذا بلغنا بالمعلقات عصر هرم بن سنان - ممدوح زهير، وما تقدمه بقليل فليس من شعراء المعلقات من هو أقدم من ذلك بزمن طويل يمتنع فيه التوافق على النظم الواحد واللغة الواحدة.
ولا بد أن نذكر هنا أن أوزان العروض لا تخلق بين يوم وليلة، وأن وزن قصيدة كعب ووزن قصيدة أبيه قد وجدا قبل عصر الشاعرين، ونظمت فيهما قصائد جيل أو جيلين على الأقل قبل ذلك التاريخ، ولو أن هذه الأوزان وسعت شعرا غير شعر اللغة الحجازية لما غاب خبره إن غاب لفظه ومعناه.
ومن عسف القول ولا ريب أن نجزم بامتناع هجرة اليمانية إلى ما وراء حدود اليمن في الجزيرة العربية، فإذا جاز أن تهاجر منهم قبيلة واحدة، فحكم القبيلة في مسألة اللغة كحكم القبائل العشر أو العشرين، ولمن شاء أن ينكر نسبة البكريين أو التغلبيين أو الغساسنة إلى اليمن مستندا إلى الدليل، أو غير مستند إلى دليل على الإطلاق، ولكنه لا يستطيع أن ينكر نسبتهم إلى اليمن وينكر نسبة اللغة العدنانية إليهم في وقت واحد، فإنه بذلك ينكر نسبتهم إلى كل أصل معروف في الجزيرة العربية، ولا يأتي لهم بأصل من تلك الأصول.
وإن من ينكر انتقال قوم من اليمن إلى ما وراءها؛ لينكر أمرا غير قابل للإنكار في الجزيرة العربية التي لم يثبت فيها تاريخ أثبت من تواريخ الرحلات، على تباعد الأزمنة وتبدل العوارض الجوية وطوارئ الخصب والجدب والغلبة والهزيمة. وما من باحث ذي روية يعتسف البت بذلك الإنكار، ثم يجزم بحصر اليمانية في حدودهم منذ أحاطت بهم تلك الحدود. فمن العسف أن يقال: إن اليمانية لم تبرح اليمن قط في العصور التي سبقت البعثة المحمدية، وليس من العسف في شيء أن يقال: إنها برحتها على حسب الطوارئ وعوامل الجو والتاريخ، ولا داعي بعد ذلك لاستغراب التوافق بين اليمانية، وأبناء الحجاز وتهامة، وسائر الجزيرة في لهجة من اللهجات، فما دمنا نقدر بحكم البداهة أن اليمانية وجدوا في الجزيرة العربية وراء حدودهم، وتكلموا كما يتكلم المقيمون في جوارهم فقد زالت المشكلة ... ولم تكن هنالك في الحقيقة مشكلة تزال.
وليس أكثر من العسف الذي يلجأ إليه منكرو الوحدة في لغة الجزيرة قبل البعثة المحمدية بجيلين أو ثلاثة أجيال، وإن اعتساف التاريخ هنا لأهون في رأينا من اعتساف الفروض الأدبية التي لا تقبل التصديق، فما من قارئ للأدب يسيغ القول: بوجود طائفة من الرواة يلفقون أشعار الجاهلية، كما وصلت إلينا ويفلحون في ذلك التلفيق؛ إذ معنى ذلك «أولا» أن هؤلاء الرواة قد بلغوا من الشاعرية ذروتها التي بلغها امرؤ القيس والنابغة وطرفة وعنترة وزهير وغيرهم من فحول الشعر في الجاهلية. ومعنى ذلك «ثانيا» أنهم مقتدرون على توزيع الأساليب على حسب الأمزجة والأعمار والملكات الأدبية؛ فينظمون بمزاج الشاب طرفة ومزاج الشيخ زهير، ومزاج العربيد الغزل امرئ القيس، ومزاج الفارس المقدام عنترة بن شداد، ويتحرون لكل واحد «مناسباته» النفسية والتاريخية، ويجمعون له القصائد على نمط واحد في الديوان الذي ينسب إليه، ومعنى ذلك «ثالثا» أن هذه القدرة توجد عند الرواة، ولا توجد عند أحد من الشعراء ثم يفرط الرواة في سمعتها، وهم على هذا العلم بقيمة الشعر الأصيل، وما من ناقد يسيغ هذا الفرض ببرهان فضلا عن إساغته بغير برهان ولغير سبب، إلا أن يتوهم ويعزز التوهم بالتخمين! وإن تصديق النقائض الجاهلية جميعا لأهون من تصديق هذه النقيضة التي يضيق بها الحس، ويضيق بها الخيال.
وشتان - مع هذا - النقائض التي يستدعيها العقل ويبحث عنها إذا تفقدها فلم يجدها، والنقائض التي يرفضها العقل ولا موجب لها من الواقع، ولا من الفكر السليم.
فهذه النقائض التي تحاول أن تشككنا في وحدة اللغة العربية قبل الإسلام يرفضها العقل؛ لأن قبولها يكلفه شططا ولا يوجبه بحث جدير بالإقناع.
فمما يتكلفه العقل إذا تقبلها أن يجزم - كما تقدم - بانقطاع عرب اليمن عن داخل الجزيرة كل الانقطاع، وأن يجزم ببقاء لغة قحطانية تناظر اللغة القرشية في الجيلين السابقين للبعثة المحمدية، غير معتمد على أثر في ذاكرة الأحياء ولا في ورق محفوظ، وأن يلغي كل ما توارثه العرب عن أنسابهم وأسلافهم، وهم أمة تقوم مفاخرها وعلاقاتهم على الأنساب وبقايا الأسلاف، وأن يفترض وجود الرواة المتآمرين على الانتحال بتلك الملكة التي تنظم أبلغ الشعر، وتنوعه على حسب الأمزجة والدواعي النفسية والأعمار، وأن يفهم أن القول المنتحل مقصور على الأسانيد العربية، مبطل لمراجعها، دون غيرها من مراجع الأمم التي صح عندها الكثير مما يخالطه الانتحال والكذب الصريح.
ومن النقائض التي يستدعيها العقل ويستلزمها، ويتخذ منها حجة لثبوت الواقع في جملته أن يحدث الاختلاف في الرواية، وأن يتعذر فيها الإجماع بين الرواة، فإن العقل لا يصدق الأقاويل التي يتفرق رواتها، ويطول العهد عليها ويعول أصحابها على الذاكرة والإسناد، ثم تأتي متفقة في الجملة والتفصيل، ولا تتعرض مع الزمن وعوامل الأهواء للاضطراب والحذف والإضافة عن قصد أو بفعل النسيان والإهمال، فاختلاف الرواة إذن سبب من أسباب التصديق، واتفاقهم يدعو إلى الشك أو التكذيب.
وقد نسمع النقيضين في هذه الحالة؛ فنرفضهما ولا نرفض لباب الخبر ومغزاه. فقد سمعنا أن عمرو بن كلثوم أو الحارث بن حلزة ألقى قصيدته في وقفة واحدة، وسمعنا أن زهير بن أبي سلمى كان ينظم قصيدته في الحول، وتسمى قصائده من أجل ذلك بالحوليات، وقد نسقط هذه المبالغة كما نسقط تلك، ولا يلزم من ذلك أن نسقط الشعر الذي يوغل في وقت نظمه، بين أقصى الطرفين.
وربما وقفنا على روايتين نصدقهما الآن عند النظر إلى الحقائق العصرية، ونعلم أن تلفيقهما في الزمن الماضي جد عسير ولو أراده الملفقون. فمما يروى عن امرئ القيس أنه تعجب من إعراض النساء عنه مع وسامته ومكانته، وسأل إحدى النساء في ذلك فقالت له: نعم، ولكن لك عرقا كأنه عرق كلب، ثم نقرأ أخبار وفاته فنعلم منها أنه أصيب قبل موته بقروح تساقط منها جلده، وسمى الحلة التي كان يلبسها من أجل ذلك بذات القروح، ومؤدى الروايتين معا أن الشاعر كان على استعداد للمرض الجلدي لفساد رائحة العرق الذي يفرزه، وأنه لم يزل حتى استشرى به الفساد في رحلته القصية فظهرت فيه تلك القروح، ويقترن ذلك بنوادره مع النساء المعرضات عنه، وغلبة الشاعر علقمة عليه في عيني امرأته، فلا يسهل على الناظر في جميع هذه الأخبار أن ينسب تلفيقها عمدا إلى راوية واحد، ولا يسهل عليه أن يتلقاها متفرقة ثم يجردها من الدلالة التي تربط بينها على غير علم من الرواة المتفرقين.
وربما كذب الكثير من أخبار طرفة ولم تكذب قصيدته، حيث تنم في جملتها على خلائقه التي تنوب عن تلك الأخبار، وتغنينا عن محاسبة الرواة على التصديق أو التكذيب.
وهذه القرائن الأدبية هي التي يغفل عنها المستشرقون ولا يفطنون لها لأنهم ينظرون في النصوص والإسناد ولا ينظرون في الأدب، ولا في روح الكلام ومضامين التعبير، ومنهم من لا يعرف أدب بلاده، ولا يحسن الحكم عليه، وهو أدب اللغة التي تلقنها في حجر أمه، فليست معرفته باللغة العربية كافلة له أن يحكم على آدابها وأساليبها، ومضامين الكلام فيها، مع تعدد الأمزجة والأذواق ... ومنهم علامة تصدى لوضع المعجمات الكبرى في اللغة العربية، فكتب في مادة «أخذ» إنها تأتي بمعنى نام لقوله تعالى:
لا تأخذه سنة ولا نوم ... ومنهم من يترجم «أبا بكر» بأبي العذراء؛ لأنه كان والد الزوجة التي بنى بها النبي - عليه السلام - وهي عذراء، ومنهم من يترجم الصعيد بمصر الميمونة أو مصر السعيدة
Egypt Felix
قياسا على اليمن التي تسمى العربية السعيدة
Arabia Felix ، ومنهم من يقول: إن التضحية تدل على عبادة الشمس؛ لأنها من الضحى ... وما هي في وضعها إلا كالتغدية من الغداة والتعشية من العشاء، والسحور من السحر إلى غير ذلك من توقيت الوجبات والذبائح بميقاتها في الليل والنهار، ومنهم من يحسب أن القصيدة من القصد، فيترجمها بالكلام الذي يراد معناه!
وقد تصدت منهم لهذا البحث الذي نحن فيه عن اللغة قبل نزول القرآن طائفة تقتحم هذه المباحث، وهي أجهل بآلاتها من عامة الأميين، فالدكتور سنكلر ثسديل
Thusdale
صاحب كتاب مصادر الإسلام يروي شبهات الناقدين للقرآن الكريم، ومنها هذه الأبيات:
دنت الساعة وانشق القمر
عن غزال صاد قلبي ونفر
أحور قد حرت في أوصافه
ناعس الطرف بعينيه حور
مر يوم العيد في زينته
فرماني فتعاطى فعقر
بسهام من لحاظ فاتك
تركتني كهشيم المحتظر
ويتخذ منها قرينة على اقتباس القرآن بعض الآيات من أشعار الجاهليين.
ويضيف الدكتور العلامة إلى هذه الأبيات أبياتا أخرى كقول القائل:
أقبل والعشاق من خلفه
كأنهم من حدب ينسلون
وجاء يوم العيد في زينة
لمثل ذا فليعمل العاملون
قال الدكتور: «ومن الحكايات المتداولة في عصرنا الحاضر أنه لما كانت فاطمة بنت محمد تتلو هذه الآية وهي
اقتربت الساعة وانشق القمر
سمعتها بنت امرئ القيس، وقالت لها: إن هذه القطعة من قصائد أبي أخذها والدك، وادعى أن الله أنزلها عليه، ومع أنه يمكن أن تكون هذه الرواية كاذبة؛ لأن امرأ القيس توفي سنة 540م، ولم يولد محمد إلا في سنة الفيل أي: سنة 570م، فلا ينكر أن هذه الأبيات المذكورة واردة في سورة القمر وفي سورة الضحى، وفي سورة الأنبياء وفي سورة الصافات، وغاية الأمر أنه يوجد اختلاف طفيف في اللفظ وليس في المعنى، فورد في القرآن اقتربت وفي القصيدة دنت ... ومن البين الواضح أنه يوجد مناسبة ومشابهة بين هذه الأبيات، وبين تلك الآيات الواردة في القرآن، فإذا ثبت أن هذه الأبيات هي لامرئ القيس حقيقة، فحينئذ يصعب على المسلم توضيح كيفية ورودها في القرآن؛ لأنه يتعذر على الإنسان أن يعتقد أن أبيات شاعر وثني كانت مسطورة في اللوح المحفوظ قبل إنشاء العالم.»
ثم قال الدكتور يطالب العلماء المسلمين، مع المعترضين والمشتبهين، بأن يقيموا الدليل على أن هذه الآيات مأخوذة ومقتبسة من القرآن، وأنها ليست من نظم امرئ القيس الذي توفي قبل مولد محمد بثلاثين سنة «ولكن يصعب علينا أن نصدق بأن ناظم هذه القصائد بلغ إلى هذا الحد من التهتك والاستخفاف، والجرأة في أي زمن من الأزمان بعد تأسيس مملكة الإسلام التي كانت متسعة الأطراف والأكناف، حتى يقتبس آيات من القرآن، ويستعملها في مثل هذا الموضوع.»
ثم يختم الدكتور كلامه في هذه الشبهات مصطنعا الحذر والحيطة؛ لئلا يثبت نظم هذه الأبيات بعد الإسلام، فتسقط الشبهة كلها، فيقول: «إن هذه الأبيات ليست كل ما يعترض به المعترضون؛ لأن ما تقدم من الأسانيد كاف عندهم لتأييد هذه القضية.»
وأيسر ما يبدو من جهل هؤلاء الخابطين في أمر اللغة العربية قبل الإسلام، وعلاقتها بلغة القرآن الكريم - أنهم يحسبون أن علماء المسلمين يلقون في بحث تلك الأبيات، وصبا واصبا لينكروا نسبتها إلى الجاهلية ... ولا يلهمهم الذوق الأدبي أن نظرة واحدة كافية لليقين بإدحاض نسبتها إلى امرئ القيس، أو غيره من شعراء الجاهلية.
وهذه النظرة الكافية هي التي تعيي الناقدين المستشرقين، وهي أصل وثيق من أصول النقد يعول عليه الناظر في الأدب كل التعويل، ولا يقدح فيه أن يتسع للجدل، وأن يجوز عليه الخطأ في القليل دون الكثير.
كذلك يتسع سبيل الجدل في إنكار خبرة الخبير بكتابة الخطوط، وكذلك يجوز الخطأ في محاكاة كلمة أو بضع كلمات، ولا يجوز في السطور والصفحات.
فإذا نظر خبير الخطوط في صفحة من الصفحات، فقد تغنيه نظرة في الحكم عليها بالصحة أو التزييف، وربما جاز عليه أمر الكلمة والكلمات، إذا لم يكن أمامه غير هذه الكلمة أو هذه الكلمات للمقابلة والمضاهاة، ولكنه إذا حصل على تلك الكلمة مكتوبة عشر مرات أو عشرين مرة لم يكن من اليسير أن ينخدع فيها، كما ينخدع في الكلمة المفردة بغير تكرار، وعلى هذا المنوال يبدو الصحيح والزيف في الشعر الأصيل والشعر المدخول، وقد يجوز التزوير في الشطرة الواحدة أو البيت الواحد إذا امتنعت المقارنة بينه وبين أمثاله من تلفيق صاحب التزوير، ولكنه لا يجوز إذا كرر المزور الأبيات، ومثلت للناظر الناقد طريقته في تزوير هذه الأبيات المتفرقات.
أما المستحيل، أو شبيه المستحيل، فهو تزوير أدب كامل ينسب إلى الجاهلية، ويصطبغ في جملته بالصبغة التي تشمله على تباين القائلين والشعراء، فإذا جمعنا الشعر المنسوب إلى الجاهلية كله في ديوان واحد، فمن المستحيل أو شبيه المستحيل أن نجمع ديوانا يماثله، ولا يخالفه من كلام العباسيين أو كلام الأمويين المتأخرين، وإذا قل الفارق بين الشعر المخضرم والشعر الأموي الأول والشعر الجاهلي، فتلك آية على صحة العلامات التي تميز الشعر الجاهلي، وعلى صحة القرابة بينه وبين الشعر الذي لم يفترق عنه افتراقا بعيدا بزمانه وثقافة قائليه، وبيئاتهم في المعيشة ومناسبات التعبير، فلا يتشابه الشعر الجاهلي والشعر المخضرم، إن لم يكن بينهما ميزان مشترك، مع انتمائه إلى عشرات الشعراء الجاهليين والمخضرمين.
إن الملامح الشخصية التي تميز بين الفرزدق والأخطل وجرير لم يكن لها ثبوت أوضح وأقوى من ثبوت الفوارق، التي تميز بين امرئ القيس وعمرو بن كلثوم وزهير، فمن يرى أن خلق دواوين الفرزدق والأخطل وجرير في وسع راوية واحد، فقد سهل عليه أن ينسب شعر الجاهليين جميعا إلى راوية أو رواة، ولكنه يذهب في الحالين مذهبا لا سند له، ولا سابقة من مثله في آداب الأمم، ولا نصيب له من الذوق الأدبي غير النبو والاستغراب.
وربما كان «سنكلر ثسديل» الذي مثلنا به لجهل المستشرقين باللغة والذوق الأدبي، وشواهد التضمين والاقتباس مثلا صارخا كما يقال في التعبير الحديث، ولكن المثل الصارخ هو الذي يبرز الحقيقة مستعصية على اللبس والمكابرة، ويحيط بما دونه من الأمثلة التي تتردد بين الشك واليقين، وقد أتينا على طائفة منها لا تتخلف عن المثل الصارخ بشوط بعيد. •••
على أن موازين النقد الأدبي الذي اشتغل به هذا النفر من المستشرقين لا تسلم على هينة من جراء أخطائهم؛ لأنهم ضللوا أناسا من تلاميذهم فاتبعوهم في أكثر الأخطاء التي كانوا يقعون فيها من جراء عجزهم عن النفاذ إلى حقائق التاريخ، وأسرار البلاغة العربية.
ولا بد من مراجعة طويلة يستعان فيها بموازين البحث العلمي على تصحيح تلك الأخطاء، ونأتي فيما يلي بمثل من أمثلة النقد في مسألة من مسائل الأدب القديم المشهورة لاتباع المنهج المفيد في المراجعة والتصحيح، كما اتصل الأمر على الخصوص بالفروض التي تتردد عن التاريخ المجهول.
النقد العلمي
لا بد من حيلة ناجعة غير حيلة الرفض المطلق أو القبول المطلق، أو الظن المتردد بين الطرفين - كلما عرضت للناقد مشكلة من مشكلات الأخبار الأدبية أو التاريخية التي يختلط فيها الصدق بالكذب، والخرافة بالواقع والحقيقة بالخيال، ولا يخلو منها مرجع من مراجع التاريخ القديم، أو من المراجع العصرية في كثير من الأجيال.
فما هي هذه الحيلة الناجعة؟ إن الظن فيها لا يغني شيئا إلا إذا أخذناه مأخذ الظنون، ولم نزعم أنه يترقى إلى مرتبة القول الملزم أو الرأي المقبول.
ونعتقد أن النقد العلمي في العصر الحديث وشيك أن يعتمد على وسيلة من أوثق الوسائل التي تستند إلى الحجة المقنعة ، ولا تكتفي بترجيحات الظن أو الذوق على ديدن النقاد قبل العصر الأخير، ونود في هذا المقال أن نجرب طريقة هذا النقد العلمي في سيرة من أحوج السير إلى التمحيص، وأكثرها قبولا لتطبيق هذه الطريقة على وجه واضح ...
تلك هي سيرة «امرئ القيس» الذي أضل تاريخه الكثيرين قبل أن يلقبوه بالملك الضليل.
فمن اليسير عندنا أن نعرض أخباره على التفسير العلمي، فنعلم منها يقينا ما ليس بالمختلق لاستحالة اختلاقه على مؤرخيه في صدر الإسلام، وبعد صدر الإسلام إلى الأزمنة المتأخرة؛ لأن أولئك المؤرخين يجهلون التفسيرات العلمية التي تؤخذ من أخبارهم فيما يصححون روايته، أو يتعمدون فيه التزيد والتلفيق.
وهذه أمثلة متفرقة من الأخبار التي نضم بعضها إلى بعض، فيتم بها تفسير سيرة الشاعر على نحو لا يستطاع تلفيقه في زمانه أو أزمنة مؤرخيه: (1)
يقول كتاب الشعر والشعراء: «كان امرؤ القيس جميلا وسيما، ومع جماله وحسنه مفركا لا تريده النساء إذا جربنه، وقال لامرأة تزوجها: ما يكره النساء مني؟ قالت: يكرهن منك أنك ثقيل الصدر خفيف العجز، سريع الإراقة، وسأل أخرى فقالت: يكرهن منك أنك إذا عرقت فحت برائحة كلب، فقال: إنك صدقتني وإن أهلي أرضعوني بلبن كلبة.» (2)
وروى غير مصدر من مصادر تاريخه «أنه تزوج امرأة من طيئ فأبغضته من ليلتها، وكرهت مكانها معه فجعلت تقول له: يا خير الفتيان أصبحت، فيرفع رأسه فينظر فإذا الليل كما هو فتقول: أصبح ليل ...! فلما أصبح قال لها: قد علمت ما صنعت الليلة، فما الذي كرهت مني؟ ولم يزل بها حتى قالت مثل ما تقدم.» (3)
روى الميداني أنه لما جاور في طيئ نزل به علقمة الفحل التميمي، فقال كل واحد منهما لصاحبه: أنا أشعر منك، فتحاكما إلى امرأته فقالت له: علقمة أشعر منك؛ لأنك زجرت فرسك وحركته بساقك وضربته بسوطك، وأنه أدرك الصيد ثانيا من عنان فرسه، فغضب امرؤ القيس وقال: ليس كما قلت، ولكنك هويته، فطلقها فتزوجها علقمة وبهذا لقب علقمة الفحل. (4)
وأجمع المؤرخون على أنه كان يلقب بذي القروح ، ولكنهم اختلفوا في إصابته بالقروح فقال بعضهم: إنها مرض كالجدري، وقال آخرون: إنها من حلة مسمومة خلعها عليه قيصر بعد سفره من القسطنطينية انتقاما منه؛ لأن رجلا من بني أسد كان على صلة بحاشية قيصر، فسمع أن امرأ القيس يغازل بنت قيصر فوشى به، وألقى إلى الملك أن امرأ القيس «غوي داعر» وسيفضح ابنته بشعره. (5)
وغير هؤلاء الرواة يقولون: بل كان قيصر راضيا عن الشاعر إلى ما بعد وفاته، وأمر بإقامة تمثال له عند قبره شاهده الخليفة المأمون لما دخل بلاد الروم ليغزو الصابئة.
هذه جملة أخبار متفرقة يؤخذ منها أن امرأ القيس كان مصابا بالتهاب جلدي يحدث من اجتذاب المواد الدهنية، والسكرية لطائفة من الطفيليات، ويفوح العرق في هذه الحالة برائحة كرائحة الكلب؛ لأن الكلب قليل المسام في جلده، فيشبه عرقه عرق جلد الإنسان المصاب.
ويضاف إلى ذلك أن العلاقة بين الأمراض الجلدية وأمراض الوظائف الجنسية معروفة، ولهذه العلاقة يتخصص أطباء هذه الأمراض بعلاج الأمراض الجنسية كما هو معلوم.
فمن الواضح إذن أن أخبار الرواة عن الخلل الجنسي في بنية امرئ القيس صحيحة لا يستطيع الرواة أن يلفقوها، ويجمعوا بين دلالتها على هذه الصورة، ومن الواضح كذلك أن تعليل رائحة العرق برضاع لبن الكلبة وهم باطل؛ لأن هذا الرضاع لو حدث لم تحدث منه تلك الرائحة ... ونفهم من هذه القرائن بالبداهة أن قصة الحلة المسمومة وهم كهذا الوهم؛ لأن القروح لا بد أن تنشأ من ذلك المرض الجنسي بعد طول العهد بالإصابة؛ ولأن الرجل الذي تبغضه زوجته لعيوبه الجنسية لا يبلغ من غوايته للمرأة أن يستهوي ابنة قيصر، وأن يتعرض في جريرة ذلك للوشاية والانتقام. •••
وننتقل من روايات زواجه ومرضه إلى روايات أخلاقه، فنعلم من جملتها ما يفسر لنا سمعته، وما اشتهر به من الإباحة وافتضاح السيرة في أمور النساء: (1)
ظهر مذهب مزدك على عهد الملك الفارسي قباذ، وهو مذهب يدعو إلى المشاركة في الأموال والزوجات، وأراد الملك الفارسي أن ينشره بين العرب، فأنكره المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة وارتضاه الحارث بن عمرو ملك كنده. (2)
وكان المهلهل الشاعر خال امرئ القيس ماجنا مستهترا بمصاحبة النساء، ولقب من أجل ذلك بالزير وهو الرجل الذي يكثر من مزاورة النساء. (3)
وكان امرؤ القيس يبيح في شعره ما لا يباح من التحدث بالفسوق والخيانة وغشيان الخدور، فلا جرم يقال عنه: إنه غوي داعر ويتردد وصفه بهذه الصفة على ألسنة رواته.
فهذه أخبار عدة تفسر لنا سمعة الشاعر، وتبين لنا البواعث النفسية التي تنبعث بها تلك الخليقة، وتهيئ لها جوها الاجتماعي ولوازمها العاطفية «أولا» من خلائق القبيلة التي ولد فيها، وسمحت لها أحوالها الاجتماعية بقبول مذهب مزدك، ومطاوعة الملك الفارسي حيث خالفه ملك الحيرة.
ويأتي جو الأسرة بعد جو القبيلة، فلا يستغرب من امرئ القيس الناشئ أن يشبه خاله زير النساء من جانب الطبيعة ومن جانب الصناعة الفنية؛ إذ كان خاله شاعرا يقول بفنه ما طبع عليه بوراثته، وقد يزيد امرأ القيس تماديا في المجون والخلاعة أنه يدفع بهما شبهة النقص ويعوض بهما قولا، ما ليس له في الحقيقة. •••
وعلى هذا النحو من المقابلة بين الروايات نعلم حدود الكذب، أو حدود الوضع حتى عند ثبوت الوضع، أو ثبوت التناقض بين الروايات في الخبر الواحد.
فإن كذب الوضاع ينتهي عند حدود الاستطاعة التي لا يقدرون على مجاوزتها، فليس في مقدورهم أن يختلقوا العوارض الطبية التي تصلح دون غيرها لتفسير أخبارهم ونقائضهم، واستخراج الحقائق الظاهرة أو المستترة بين طواياها ...
وليس في مقدورهم أن يصنعوا بيئة القبيلة ولا بيئة الأسرة، ولا بيئة الجو النفساني الذي نشأ فيه الشاعر، وعاش فيه حتى اتفقت هذه البيئات جميعا على التمهيد لتكوين إنسان موجود، ولا بد أن يكون موجودا إذا تلازمت مقدمات وجوده، ونتائجها على وجه يمتنع فيه الكذب؛ لأنه كذب لا يستطيعه من يأتي به ولو أراده وتحراه. •••
فالشخصية التاريخية الصادقة هي التي تتوافق عناصرها، وتتجمع ملامحها وتتلاقى أجزاؤها كما تتلاقى أجزاء الهيكل المتفرق بين حفائر الأرض، فيركب كل منها في مكانه وتستوي الأعضاء من هنا وهناك، كما تستوي في الكائن الطبيعي والصورة الحية.
وربما كان هذا الاستواء الذي لا حيلة فيه للرواة الكذبة، ولا للرواة الأمناء أحق بالاعتماد عليه من ورود السيرة في كتب التاريخ من مصادر أخرى بعيدة عن مصادرها العربية، فقد وردت سيرة امرئ القيس في كتب نونوز وكتب بروكوب من مؤرخي الروم، وورودها هنالك دليل وثيق على شخصية تاريخية لم تنفرد بها المصادر العربية، ولكن الصدق الذي تأتي به الأخبار على غير قصد من رواتها ووضاعها أصح في الدلالة من المكتوب المقصود، الذي لا يستحيل عليه ظن التدبير.
الشعر العربي والمذاهب الغربية الحديثة
نظم الشعر في اللغة العربية فن مستقل بذاته بين الفنون التي عرفت في العصر الحديث باسم الفنون الجميلة، وتلك مزية نادرة جدا بين أشعار الأمم الشرقية والغربية، خلافا لما يبدر إلى الخاطر لأول وهلة، فإن كثيرا من أشعار الأمم تكسب صفتها الفنية بمصاحبة فن آخر، كالغناء أو الرقص أو الحركة بهدف الإيقاع، ولكن النظم العربي فن معروف المقاييس والأقسام بعد استقلاله عن الغناء والرقص والحركة الموقعة، فلا يصعب تمييزه، شطرة شطرة بمقياسه الفني من البحور والأعاريض إلى الأوتاد والأساليب.
وليست هذه خاصة من خواص اللغات السامية أخوات العربية، فإننا إذا أخذنا سطرا على حدة من قصيدة عبرية لم نستطع أن ننسبه إلى وزن محدود أو مقياس متفق عليه، ولا بد من اقترانه بسطور أخرى يتم بها الإيقاع، ولا تطرد في قول كل شاعر ولا في سطور كل قصيدة، فهو والفاصلة النثرية التي يمكن أداؤها بالغناء، أو بالإيقاع على حركة الرقص متساويان.
ومن الشعر الغربي ما يعرف كل سطر منه بعدد من المقاطع والنبرات، ولكنه بغير قافية تنتهي إليها هذه السطور.
أما ضروب النظم التي تلتزم فيها القافية، فكلها في نشأتها كانت تغنى أو تنشد إلى إيقاع الرقص، ثم استقلت بأوزانها المحدودة على نحو مشابه للأوزان العربية، وهي الموشحات التي اشتهرت عندهم باسم «استانزا» أو اسم «سونيت»، ويدل كلا الاسمين على أن أصلها من الرقص والغناء ... فإن إستانزا كلمة إيطالية بمعنى الوقوف تقابلها ستاند
Stand
بالإنجليزية، وسونيت
Sonnet
من كلمة سونج
Song
بمعنى الغناء.
فالشعر الذي لا يضبط بالوزن أو القافية موجود في اللغات السامية واللغات الآرية، وبعضه لا يزيد الإيقاع فيه على الموازاة بين السطور بغير ضابط متفق عليه، وبعضه يضبط فيه الإيقاع بعدد المقاطع والنبرات، ولا ينتهي إلى قافية ملتزمة في القصيدة أو المقطوعة الصغيرة.
إنما الوزن المقسم بالأسباب والأوتاد والتفاعيل، والبحور خاصة عربية نادرة المثال في لغات العالم، وكذلك القافية التي تصاحب هذه الأوزان.
ومرجع ذلك إلى أسباب خاصة لم تتكرر في غير البيئة العربية الأولى، أهمها سببان: هما الغناء المنفرد، وبناء اللغة نفسها على الأوزان.
فالأمم التي ينفرد فيها الشاعر بالإنشاد تظهر القافية في شعرها؛ لأن السامعين يحتاجون إلى الشعور بمواضع الوقوف والترديد، ولكن الجماعة إذا اشتركت في الغناء لم تكن بها حاجة إلى هذا التنبيه؛ لأن المغنين جميعا يحفظون الغناء بفواصله، ولوازمه ومواضع النبر والترديد في كلماته وفقراته، فينساقون مع الإيقاع بغير حاجة إلى القوافي عند نهاية السطور، وإنما تنشأ الحاجة إلى القافية، أو وقفة تشبه القافية، عند تفاوت السطور وانقسام القوم إلى منشدين ومستمعين.
يقول العلامة جلبرت موري - وهو من ثقات البحث في الأوزان والأعاريض: «إن نتائج هذا الاختلاف زيادة الاعتماد على القافية في اللغات الحديثة؛ ففي اللغتين اللاتينية واليونانية ينظمون بغير قافية؛ لأن الأوزان فيهما واضحة، وإنما تدعو الحاجة إلى القافية لتقرير نهاية السطر وتزويد الأذن بعلامة ثابتة للوقوف، وبغير هذه العلامة تثقل الأوزان، وتغمض ولا تستبين للسامع مواضع الانتقال والانفصام، بل لا يستبين له هل هو مستمع لكلام منظوم أو كلام منثور، وقد اختلف الطابعون عند طبع الكتب هذا الاختلاف في بعض المناظر المرسلة من كلام شكسبير، فحسبها بعضهم من المنثور وحسبها الآخرون من المنظوم، ومما يلاحظ أن اللاتين اعتمدوا على القافية حين فقدوا الانتباه إلى النسبة العددية ... وأن الصينيين يحرصون على القافية؛ لأنهم يلتزمون الأوزان، وأن انتشار القافية في أغاني الريف الإنجليزية يقترن بالترخص في أوزان الأعاريض.»
ويستطرد الأستاذ موري إلى الشعر الفرنسي فيقول: «إن اللغة الفرنسية حين رجع فيها الوزن إلى مجرد إحصاء للمقاطع، وأصبحت المقاطع بين مطولة وصامتة ... نشأت فيها من أجل ذلك حاجة ماسة إلى القافية، فصارت في شعرها ضرورة لا محيص عنها، ودعا الأمر إلى تقطيع البيت أجزاء صغيرة ليفهم معناه.»
ومن أسباب الاكتفاء بالوزن دون القافية في أشعار الغربيين سبب لم يذكره الأستاذ موري، وهو غناء الجماعة للشعر المحفوظ كما تقدم.
فحيث شاعت أناشيد الجماعة قل الاعتماد على القافية، وكثر الاعتماد على حركات الإيقاع، ولو لم تكن متناسقة الوزن على نمط محدود؛ لأن الغناء بالكلام المنثور ممكن مع توازن الفواصل وموازاة السطور.
وأناشيد الجماعة قد شاعت بين العبريين؛ لأنهم قبيلة متنقلة تحمل تابوتها في رحلتها، وتنشد الدعوات معا في صلواتها الجامعة، وفي هذه الدعوات ترانيم على وقع الدفوف، كما جاء بالإصحاح الخامس عشر من سفر الخروج «أخذت مريم النبية الدف بيدها، وخرجت جميع النساء وراءها بدفوف ورقص، وأجابتهم مريم: رنموا للرب فإنه قد تعظم ...»
وكذلك شاعت بين اليونان أغاني المسرح التي ترجع في نشأتها إلى الشعائر الدينية، ثم انتقلت منها إلى الأمم الأوروبية.
ومما يؤيد الصلة بين غناء الفرد والتزام القافية أن شعراء الأمم الغربية، الذين ينشدون قصائدهم للمستمعين قد لجأوا إلى القافية، والتزموا في مراعاتها أحيانا ما يلتزمه عندنا شعراء الموشحات.
أما البيئة العربية فلم تكن فيها قبل الإسلام صلوات جامعة منتظمة بمواعيدها ومحفوظاتها، وإنما كان الحداء هو الغناء الذي يصاحب إنشاد الشعر على بساطة كأنها بساطة الترتيل، ينشده الحادي على انفراد وتصغى إليه القافلة أحيانا في هدأة الليل، إذ يعتمد الحس كله على السمع في متابعة النغم إلى مواضع الوقوف والترديد، فتقفو النغمة على وتيرتها، ويصدق عليها اسم القافية بجملة معانيه.
لهذا استقل النظم بحقه في الصنعة؛ لأن هذه الصنعة لازمة لتمييزه مع الغناء ومع غير الغناء، فانتظمت قوافيه وانتظم ترتيله انتظاما لا بد منه لكفايته، مع بساطة أفانين الغناء.
وإذا التمسنا مدخلا لفن الحركة الموقعة مع الحداء، فهناك إيقاع واحد نتابعه في خطوات الإبل وفي خطوات الهرولة التي تصاحبها على القدم، وإلى هذا الإيقاع يرجع وزن الرجز على قصد وعلى غير قصد، ومجيئه على غير قصد أدل على تمكن العادة، وعلى أصالتها في الحياة البدوية.
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب •••
هل أنت إلا أصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
وقد تكون حركة الهرولة في الطواف بالكعبة ملحوظة في كل دعاء مروي كيفما اختلف المختلفون في صحة الرواية، كما قيل عن امرأة أخزم بن العاصي حين نذرت ولدها للكعبة، فقالت:
إني جعلت رب من بنيه
ربيطة بمكة العلية
فباركن لي ربها إليه
واجعله لي من صالح البرية
فهكذا يفهم الناظم كيف تكون حركة الدعاء مع الهرولة، أيا كان صاحب النظم أو من ينسب إليه.
هذه المرددات الفردية هي التي ميزت النظم العربي باستقلال فنه ووضوح قافيته وترتيله، ولو وجدت في الجاهلية العربية صلوات جامعة تنشد فيها الدعوات المحفوظة لوجدت فيها القصائد التي تمثل لنا حياتهم الدينية وحياتهم الاجتماعية، إما من أناشيد الصلاة كما عرفها العبرانيون، أو من أناشيد المسرح كما عرفها اليونان، ولكننا نعرف العرب من قصائدهم الفردية كما نعرف الأمم الأخرى من أمثال تلك القصائد، فلا يفوتنا منها غاية ما تدل عليه.
هذا سبب من أسباب تلك الظاهرة النادرة التي ظهرت لنا في القصيدة العربية، وكانت نادرة بين الأمم السامية والأمم الآرية على السواء.
أما السبب الآخر فهو أصالة الوزن في تركيب اللغة، فالمصادر فيها أوزان، والمشتقات أوزان، وأبواب الفعل أوزان، وقوام الاختلاف بين المعنى حركة على حرف الكلمة تتبدل بها دلالة الفعل، بل يتبدل بها الفعل فيحسب من الأسماء، أو يحتفظ بدلالته على الحدث حسب الوزن الذي ينتقل إليه.
هذه أصالة في موضع الوزن من المفردات والتراكيب لا يستغرب معها أن يكون للوزن شأنه في شعر هذه اللغة، وأن يكون شأنها في نظم أشعارها على خلاف المعهود في منظومات الأمم الأخرى، ولو صرفنا النظر عن أثر الإنشاد الفردي في تثبيت القافية، واستقلال فن العروض عن فن الغناء، في القصائد العربية.
نعم إن اللغات السامية تجري على قواعد الاشتقاق، وتوليد الأسماء من الأفعال، ولكن المقابلة بين هذه اللغات في أقسام مشتقاتها وتفريع الكلمات من جذورها تدل على تمام التطور في قواعد الأوزان العربية، وعلى نقص هذه القواعد أو التباسها في أخواتها السامية، بل تدل في باب الإعراب خاصة على تفصيل في العربية يقابله الإجمال أو الإهمال في أخواتها، وفي غيرها من اللغات الآرية التي دخلها شيء من الإعراب. •••
وواضح مما تقدم أننا قصرنا القول على النظم من حيث هو أوزان عروضية، أو قوالب تحتوي الكلم المنظوم فيها.
فهذه القوالب هي التي تطورت في اللغة العربية، فأصبحت فنا مستقلا بمقاييسه عن فن الغناء أو فن الحركة الموقعة، أما الكلام المنظوم في تلك القوالب، فهو عمل ممتد مع الزمن يأتي فيه كل عصر بما هو أهله من الإبداع أو الزيادة أو المحاكاة، وإنما نعود إلى القوالب والأوزان في كل عصر لنسأل: هل هي صالحة لأداء المقاصد الشعرية ومجاراة الأمم في تطورها الذي يمتد مع الزمن على حسب حالاتها من الشعور والفهم والقدرة على الأداء؟ وهل تتسع للتعديل إذا وجب التعديل للوفاء بمطلب جديد من مطالب التعبير؟
إن تجارب العصور الماضية تنجلي عن صلاح القوالب العروضية لمجاراة أغراض الشعر في أحوال كثيرة، ويبدو منها أن أساس العروض العربي قابل للبناء عليه بغير حاجة إلى نقضه وإلغائه، فقد كانت بضعة بحور من أوزان الشعر كافية لأغراض الشعراء في الجاهلية؛ أشهرها الطويل والكامل والخفيف، ثم نشأت من أوزانها مجزوءات ومختصرات صالحة للغناء حين استحدثت الحاجة إليه في الحواضر العربية التي عرفت الغناء على إيقاع الآلات، ثم اتخذت من هذه البحور أسماط وموشحات، وأهازيج تتعدد قوافيها مع اختلاف مواقعها، وتطول فيها الأشطر أو تقصر مع التزام قواعد الترديد فيها، واختار بعض الشعراء نظم المثاني أو المزدوجات وبعضهم نظم المقطوعات التي تجتمع في قصيد واحد متعدد القوافي، أو تتفرق وتتعدد بأوزانها مع توحيد الموضوع، ولما نقلت الإلياذة اليونانية إلى النظم العربي لم تضق بها أوزانه، ولم يظهر من سياق الترجمة أن هذه الأوزان قاصرة على التنويع فيها على نمط غير هذا النمط لمن يشاء التنويع، واستجابت الأوزان لمطالب المسرح كما استجابت للملحمة المترجمة، ولما يشبهها من القصائد التاريخية المطولة.
وقد أفرد الموسيقار العصري الأستاذ خليل اللاوردي فصلا وافيا في كتابه فلسفة الموسيقى الشرقية؛ لبحث التوزين والإيقاع وتطبيق العروض العربية على الضوابط الموسيقية، فانتهى من بحثه إلى إمكان التوزيع في الأوزان العروضية، واستطاعة الموسيقي والشاعر أن يفتتح أشكالا غير محدودة من أشكال الموازين، واعتمد في تجاربه على الجهاز الفني المسمى بالمترونوم، وهو «صندوق صغير من الخشب هرمي الشكل يفتح من إحدى جهاته الأربع، فينكشف عن قضيب معدني مقسم بخطوط، وعليه ثقل متنقل يحدث حركة متساوية ... فيقسم الدقيقة الواحدة من الزمن إلى نقرات بين أربعين ومائتين وثمان، فيمثل الحد الأدنى النقرات المتناهية في البطء، ويمثل الحد الأعلى النقرات المتناهية في السرعة ...» ولم يلجأ الموسيقار إلى وحدات للنغمات غير وحدات الفواصل والأوتاد، والأسباب التي يستخدمها العروضيون، ولم يجعل لها أقساما غير أقسامهم المعروفة، كالسبب الخفيف والسبب الثقيل، والوتد المقرون والوتد المفروق، والفاصلة الصغرى والفاصلة الكبرى، وإنما استخدم الضوابط الموسيقية لبحث الموضوع بمصطلحاتهم التي لا تحتاج إلى التخصص، أو التوسع في فنون الألحان.
فخلص من بحوثه الموسيقية والعروضية معا إلى نتيجة محققة خلاصتها - كما قال - أن أشكال الموازين الشعرية غير محدودة أو أن حدودها - على ما نرى - أشبه بحدود الكلمات، التي تتألف من الحروف الأبجدية على حين أن الحروف الأبجدية قلما تزيد على الثلاثين.
فإذا نظرنا إلى ما تم من أشكال العروض، وما يتأتى أن يتم منها مع التنويع والتوزين، ثبت لنا أنها قائمة على أساس صالح للبناء عليه، وتجديد الأنماط والأشكال فيه، على نحو يتسع لأغراض الشعر، ولا يلجئنا إلى نقض ذلك الأساس.
وهذا كله مع التسليم بداهة بالتفرقة بين الكلام المنثور، والكلام المنظوم في السهولة أو الصعوبة، فإن التسهيل المطلوب لفن من الفنون كائنا ما كان ينبغي أن ينتهي عند بقاء الفن فنا مقرر القواعد والمقاييس، وما جهل الناس قط أن الكلام أسهل من الغناء، وأن المشي أسهل من الرقص، وأن الحركة المرسلة أسهل من الحركة الرياضية، ولم يكن ذلك قط مسوغا للاستغناء بالكلام عن فن الغناء أو بالمشي عن فن الرقص، أو بتحريك الأعضاء بغير هدى عن أصول الحركة الرياضة، أو الحركة في ألعاب الفروسية ... فمهما يكن من تيسير الأوزان بالتنويع والتوفيق، فلا مناص في النهاية من التفرقة بينها وبين الكلام المرسل في سهولة الأداء، وإنما المطلوب أن تكون فنا سهلا، وليس المطلوب مجرد السهولة التي تخرجها من عداد الفنون.
ولا بد في هذا السياق من تفرقة أخرى هي التفرقة بين القواعد والقيود في كل فن من الفنون، فلا سبيل إلى الاستغناء عن القواعد في عمل له صفة فنية، ولا ضرر من الاستغناء عن القيود التي تعوق حرية الفن، ولا يتوقف عليها قوامه الذي يسلكه في عداد الفنون.
ومن تجاربنا في تاريخ الشعر العربي، يتبين لنا أن قواعد النظم عندنا مؤاتية للشاعر في كل تصرف يلجئه إليه تطور المعاني والتعبيرات في مختلف البيئات والأزمنة، فلا موجب للفصل بين قواعد النظم، وأغراض الشعر في تجربة من التجارب العربية، التي وعيناها منذ نشأت أوائل الأوزان إلى أن بلغت ما بلغته في منتصف هذا القرن العشرين.
ذلك شأن التجارب العربية، فما بال التجارب في أمم الحضارة التي تتصل بنا ونتصل بها، وتبادلنا مطالب الفنون والآداب كما يحدث الآن بيننا وبين أمم الحضارة الغربية؟ ماذا تفرض علينا هذه الثقافة المتبادلة في ميدان النظم والشعر على اتصال بينهما أو على انفراد؟
أما في النظم فلا خفاء بالأمر من أيسر نظرة إلى آدابنا وآداب الأمم الغربية، التي نتصل بها في العصر الحديث.
فمما لا تردد فيه أن هذه الأمم لم تبدع في موازين النظم بدعا نستفيده منها، ولم نكن قد سبقناها إليه في عصر من عصورنا، فإذا التزموا الأعاريض معتدلين أو مبالغين، فليس عندهم ما هو أدق وأجمل من الموشحة في أوزانها التي تقبل التنويع والتشجير إلى غير نهاية، والتي يعتبر تعدد القافية فيها ندحة وزينة في وقت واحد . فإن إطلاق الحرية للشاعر في توزيع القوافي، حيث شاء يوشك أن يعفيه من قيودها، كما يزيد من الإيقاع جمالا على جمال.
ولم يبدع الأوروبيون - حتى في شعر المسرحيات الملحنة - فنا من الأناشيد أتم من الموشحة، وأصلح منها للتلحين وحركة الإيقاع.
فإذا ترخص الشاعر الغربي في القواعد، فأسقط القافية واختار الوزن الذي يسمونه بالنظم الحر أو النظم الأبيض - فجهد ما بلغوا إليه أنهم عادوا إلى الأسطر المتوازنة، أو إلى الاكتفاء بالمقاطع التي لا تبلغ في دقتها مبلغ الأسباب والأوتاد والفواصل، وكل أولئك طور من الأطوار التي تخطاها الشعر العربي في الأزمنة الماضية، أو سبقتهم إليه أمة من الأمم الشرقية، وتوقف بها التطور عنده، لارتباطه بالتقاليد الدينية.
فليس عند الغرب من فنون النظم جديد نأخذ منه في أبواب التوزين والتنويع.
ليس في فن النظم جديد نأخذه من الأعاريض الغربية لم تكن عندنا أسسه العريقة، ولم تكن عندنا أصوله وفروعه أو جذوره وأغصانه على حد تعبير «الموشحين».
لكن الأمر يختلف كثيرا في الكلام على «الشعر»، أو الكلام على الأدب ومدارسه ومذاهبه، ودعواته التي تجيش بها الحياة الغربية في كل حقبة، ولا تتميز منها دعوة واحدة دون أن يتميز لها حكم خاص بالشعر يتناوله قبل أن يتناول غيره من الفنون الجميلة، ولا سيما فنون التعبير.
هذه المذاهب الشعرية تعنينا كما تعنيهم، وتمتد بآثارها إلى أقوالهم وأفعالهم كما تمتد إلى أقوالنا وأفعالنا؛ لأنها من أطوار الحياة التي لا تنحصر في دوائر الفن، ولا في أدوار الثقافة على إطلاقها، وإن يكن مظهرها الثقافي هو الجانب الذي يشتغل به النقاد والمؤرخون في ميادين الفنون.
هذه الدعوات أوسع نطاقا من أن يحاط بها في مقال، ولكنها تقترب من الحصر المستطاع إذا جمعناها في أدوارها الإنسانية العامة، التي توشك أن تكون أمواجها دورية في هذا المحيط الزاخر؛ إذ هي عالقة بطبيعة الإنسان في جملتها، وطبيعة الإنسان واحدة - كما قيل - في كل زمان ومكان.
ونحن نعلم أن أبقراط حصر الطبائع الجسدية في أربعة أمزجة، وهي المزاج الدموي والمزاج الصفراوي، والمزاج البلغمي والمزاج السوداوي ، ثم جاء العلامة بافلوف يعد تقسيم خصائص الأجسام بين الهرمونات وعائلات الدم، وودائع الوعي الباطن والوعي الظاهر أقساما لا تنفد ولا تحصى - فعاد إلى الأمزجة الأبقراطية تيسيرا للفوارق العامة، وجعلها أساسا لتجاربه النفسية التي تعد إلى هذه الساعة من إحدى تجارب العلماء.
فنحن على هذه الوتيرة نقسم الذوق الفني في الإنسان إلى أقسامه الخالدة حين نقول: إن الناس كانوا منذ فطروا واقعيين وخياليين، ومحافظين على القديم وطلابا للجديد، أو أنهم كانوا - إذا اكتفينا بقسمتهم إلى قسمين اثنين - صنفا يمشي في وسط القطيع وصنفا ينزع إلى الأطراف، أمام ووراء، وعلى كلا الجناحين من اليمين واليسار ... وقد تفكه بعض العلماء الجادين، فأطلق على الصنف الأول اسم فريق الضأن، وعلى الصنف الثاني اسم فريق المعيز ...
ونرى من تاريخ الأمم الغربية منذ ملكت حرية التفكير أنها دارت دورتها بين مذاهب الأدب خلال القرون الثلاثة الأخيرة، وأنها نزعت في دعواتها المتعاقبة كل نزعة طبيعية تستلزمها أطوار الحياة بعد عصر الجمود والتقليد.
ففي فترة اليقظة الأولى كان من الطبيعي أن ينزع الإنسان إلى استقلال «الشخصية الإنسانية» في وجه التقاليد العتيقة، والأحكام التي تطاع بغير فهم، بل بغير شعور في أكثر الأحوال ... وهذه هي النزعة التي سميت بنزعة الإبداع و«الحرية الشخصية»
Romanticism .
ومن الطبيعي أن ينتهي هذا الإبداع من كل جانب على غير هدى متفق عليه - إلى شيء من الفوضى والشرود يستحب معه التوقف إلى حين، وهنا ظهرت دعوة العود إلى الاتباع والاطراد على نحو جديد يناسب مطالب الزمن، فنشأت من ثم دعوة الاتباع أو الاطراد الجديد
New Classicism .
وإذا حكم اختلاف الطبائع حكمه بين أنصار الواقع وأنصار الخيال، فهنا مجال الاختلاف بين الواقعيين
Realists
والخياليين والمثاليين
Idealists .
وقد يظهر هذا الاختلاف في صورة أخرى بين الطبيعيين
Naturalists
والفنيين أنصار الفن للفن
Art for arts sake .
ونقول: إن الواقعيين والطبيعيين متقاربون؛ لأنهم جميعا من أنصار الواقع، وإنما ينفرد الواقعيون بمحاربة النزعات الخيالية، وينفرد الطبيعيون بمحاربة النزعات الصناعية: نزعات الإغراق والتزويق والتنسيق، وإذا اقترنت هذه المذاهب جميعا في عصر من عصور النهضة، فالانقسام بينها يئول في هذه الحالة إلى قسمين: قسم تغلب عليه الصبغة العلمية، وقسم تغلب عليه الصبغة الفنية، ويتسع كل قسم منهما لكثير من الآراء وأشتات من الأساليب.
ولا جدوى من متابعة العناوين التي تنتهي في الغرب بصيغة النسبة المذهبية (Ism) ، فإنها تنطوي جميعا في هذه الدعوات، ويحيط كل منها بعالم من الآراء والأسباب، ولكننا نجمعها في حدودها الواسعة إذا حجبنا منها الرومانتيزم والنيو كلاسيزم والريالزم، والإيديالزم فلا يخرج من هذه المذاهب مذهب جاد يناط به عمل من أعمال البناء والإصلاح في عالم الفنون، ولا تزال حتى اليوم وافية بأغراض البحث والمناقشة بين المختلفين على الفنون فيما يستحق الخلاف.
وعلى تعدد المذاهب والعناوين في الغرب لا نرى هنالك لبسا على الإطلاق بين المذاهب التي أشرنا إليها، وبين عشرات المذاهب التي ينتحلها الدعاة على عجل منذ الحرب العالمية الأولى، ويندر أن تعيش إحداها أو تستقل عن سواها بصفة من الصفات التي يتناولها التطبيق والتميز.
فلا لبس على الإطلاق بين مذاهب الجد ومذاهب الهزل في الآداب الغربية، فمذاهب الجد تدعو كلها إلى البناء وتقوم بالبناء فعلا ويعيش ما تبنيه، ومذاهب الهزل لا تتحدث بشيء غير الهدم والإلغاء: فلا لون ولا شبه ولا رسم ولا قاعدة في التصوير، ولا لفظ ولا معنى ولا منطق ولا مدلول في الشعر والنثر، وإنه لمن الحظ الحسن أن تقصر هذه الدعوى عن الفنون التي ترتبط بها ضرورات المعيشة والاجتماع، فإنها لو تناولتها لسمعنا بفن المعمار الذي لا حجرات ولا جدران ولا حجارة ولا طلاء فيه، وسمعنا بمجامع الموسيقى التي لا تميز بين الضوضاء والألحان، ولا محل فيها للمعازف والآلات.
من هذه المذاهب ما يطلق عليه اسم المستقبلية
Futurism ، أو فوق الواقعية
Surrealism
أو الذئبية
Fauvism
بل منها ما يسمى بمدرسة التأتأه
Dadaism
ويقول أصحابه: إنهم اختاروا له هذا الاسم من أول تأتآت الطفل
Da Da ، وتطلق أحيانا على حصان الخشب ليسهل النطق به على ألسنة الأطفال، ومؤدى مذهب هؤلاء الدعاة أن التعبير الصحيح عن النفس الإنسانية إنما يرجع به إلى صورة الطفولة ورموز الأحلام، وخفايا الوعي الباطن كما تبدو للحالم في المنام، أو كما يرسلها الناطق عفوا بغير تأمل وبغير انتباه!
ومن هؤلاء الملفقين للمذاهب من يختار اللفظة، ويسأل عن معناها فيسخر من السائل؛ لأنه يبحث عن المعنى ولا يكتفي بوقع اللفظة في الأذن أو من منظرها للعين القارئة، فمن عناوين مارينتي إمام «المستقبلية»
Zang Tumb Tumb
زانج تمب تمب ... ومن عناوين زميله أردينجو سوفيسي
BIF§Z + 18
ما لا يفهم ولا يترجم، وإنما هو مقابل عندنا لحرف الباء، ثم الياء ثم الفاء، ثم علامة موسيقية ثم زاي ثم علامة + ثم رقم 18).
وقد عقب صاحب تاريخ الأدب الإيطالي على إمام هذه المدرسة فقال: «إنه لم يجاوز حدود السخف في شعره ...» ولم يخل كلام المؤرخ من مجاملة؛ لأن السخف معنى يوصف بالرداءة، ولا معنى هنا ولا وصف لرديء أو غير رديء. (صفحة 485 من كتاب تاريخ الأدب الإيطالي تأليف أرنست هاتش ولكنز
Ernest Hatch Wilkins ). •••
ولابد من وضع هذه الدعوات في موضعها من تاريخ الآداب الإنسانية الأوروبية التي تظهر بينها ... فما موضعها الصحيح؟
موضعها الصحيح أنها تمثل جانب السخافة الذي لا بد أن يتمثل في بيئة يباح فيها القول لكل قائل، ولا يخجل فيها العاجز من عجزه ولا صاحب اللجاجة من لجاجته، وهم جميعا في غمرة من محن الحروب والفتن والقلاقل والآفات، فهل تخلو هذه البيئات من جانب سخافة في الأذواق والدعوات؟ وأين هو هذا الجانب إن لم يكن هذا مظهره الذي يتمثل في صوت القنوت؟
ولسنا نقول: إن هذه السخافة جانب يهمل ولا يلتفت إليه، فإنها خليقة أن تدرس كما تدرس عوارض الأمراض والعلل والنكبات، ولكن البون بعيد جدا بين دراستها لهذا الغرض، ودراستها للاقتداء بها واعتبارها من مدارس الفن والأدب، ونماذج الذوق والجمال.
ولا تفوتنا في معرض الكلام على الشطط الفني ملاحظة وثيقة الصلة بموضوع الخلط الذي يقال عنه: إنه هو التعبير الصادق دون غيره عن الوعي الباطن، والسريرة الإنسانية في أعماقها «اللامنطقية» على حد تعبيرهم المأثور.
فالخلط الهاذر مذهب لم يخلقه دعاة «اللامنطقية» في القرن العشرين، ولكنهم خلقوا شيئا واحدا فيه لم يسبقهم أحد إليه؛ وهو إطلاق العناوين العلمية عليه واستعارتها من دراسات التحليل النفساني، أو من دراسات العلوم الطبيعية، وقديما وجد في الشعراء والفنانين من يجنح به هواه أحيانا إلى رفع الكلفة، واطراح الحشمة والابتذال في اللفظ أو المعنى أو في كليهما، فيسترسل في الهذر واللغط كأنه في إجازة من «نفسه الفضلى» كما يقولون ... وينسب إلى هذه النزوات شعر المجانة والهزل، وشعر الإباحة والجموح، وينسب إليه كذلك ضرب من الشعر الذي يخيل إلى الناس أنه محدثهم بالحكم والأمثال وهو في أسلوبه الهازل ساخر بضروب الحكمة والمثل، كما صنع ابن سودون اليشبغاوي (810-868ه) في قصيدته البائية التي يقول فيها:
عجب عجب عجب عجب
بقر تمشي ولها ذنب
ولها في بزبزها لبن
يبدو للناس إذا حلبوا
لا تغضب يوما إن شتمت
والناس إذا شتموا غضبوا
من أعجب ما في مصر يرى
الكرم يرى فيه العنب
والنخل يرى فيه بلح
أيضا، ويرى فيه رطب
زهر الكتان مع البلسان
هما لونان ولا كذب
كيهود في دير، خلطوا
بنصارى حركهم طرب
وأدخل من هذا في باب «اللامنطقية» مذهب من مذاهب الزجل في اللغة الدارجة يعاقبون بينه وبين الأدوار المقصودة، فيبدءون بالدور العاقل، ويتبعونه بالدور المجنون إلى نهاية الزجل، ويحفظ من هذه الأزجال كثير في مجموعات إلى الأجيال القريبة، من أمثلتها في كتاب ترويح النفوس لحسن الآلاتي زجل يقول فيه:
كسرت بطيخة رأيت العجب
في وسطها أربع مداين كبار
وفي المداين خلق مثل البقر
في كل واحدة أربع قواعي خضار
وفي القلاع أقوام طوال الدقون
ودمعهم يجري شبيه البحار
من دمعهم تزرع نجوم السما
في خلقة المشمش عديم المثال
وأحيانا يقسمون الأدوار إلى دور صاح ودور سكران، أو يصوغون فيها المفارقات على ألسنة الصبيان كما يجري على ألسنة العامة:
يا ليل يا عين معرفش أكدب
والضفدعة شايلة مركب
وأبو فصادة ريسها
والقط الأعور حارسها
إلى أشباه هذه «اللامنطقيات» المتواضعة التي يضعها أصحابها في مواضعها، ويسمونها بأسمائها، ولا تعدو عندهم أن تكون «منفسا» يستبيحونه إلى حين، ويعرضون به «اللامنطقية» في صورة فنية، يعلمون ويعلم الناظرون إليها أنها من قبيل الصور الهزلية أو «الكاريكاتور»، ولا يطلبون من الإنسانية أن تحلها في محل فنونها، وأن تنبذ المنطق في سبيلها.
فإذا كان لا بد من هذه اللامنطقية في الآداب العربية، فعندها منها ما يغنيها ولها فيها مجال لا يخرج بالعقل من دائرة العقل، ولا بالجنون من دائرة الجنون.
ومما نحمده من أطوار الشعر العربي الحديث أن هذه المذاهب لم يكن لها تأثير ثابت فيه، وأنها تعرض له مع عوارض الزمن كما تعرض الأزياء والأفانين ثم ... تمضي لطيتها إلى مصيرها العاجل بعد شهور، ولا تطول حتى تحسب بحساب السنين.
أما المذاهب التي كان لها أثرها المحمود فهي مذاهب الجد والبناء، فإننا إذا عرضنا الشعر العربي من أواخر القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن العشرين لم نخطئ أن نرى فيه أثرا جديدا لكل مذهب من المذاهب الواقعية، أو المثالية أو الطبيعية، أو الاطرادية الحديثة أو الابتداعية المتحررة، وقد تتراءى هذه المذاهب في أغراض الشعر كما تتراءى في أساليب الشعراء، ومنها الأغراض التاريخية والاجتماعية والملاحم والمسرحيات والأغاني العاطفية، والأناشيد القومية، ولكل مقصد من المقاصد التي ينظم فيها شعراء الغرب، مع الفارق الذي يحسب فيه حساب التقديم في الزمان، كما يحسب فيه الحساب لوفرة المحصول وسعة النطاق.
وعلى الجملة يتقدم الشعر عندنا ولا تعتريه النكسة أو الجمود، إلا أنه يعاني من أطوار العصر ما يعانيه كل شعر في أنحاء العالم، وذلك هو المشاركة القوية في ميدانه الأول؛ فهو الآن لا يستأثر وحده بميدان العاطفة والخيال، بل تشاركه فيه الصور المتحركة والقصص المطولة والنوادر الموجزة، ومناظر التمثيل ومسموعات الإذاعة وأخبار الصحافة، ومبدعات الفنون التي تيسرت لها أسباب العرض في الأندية والمنازل، ومجامع الناس في كل مكان، وليس من المنظور أن ينشر الفن مع هذه المشاركة، كما كان ينشر وحيدا منفردا بالميدان قبل بضعة قرون.
على أنها مشاركة عارضة يعمل فيها التخصص عمله، ويطول الأمد أو يقصر في هذا العمل المتصل بغير قرار، فإذا عاد الشعر إلى الاستقلال بمجاله بين الفنون، فقد يعود إليه أقوى مما كان؛ لأنه يكسب المزية التي لا مشاركة فيها، ويكسب الأنصار الذين لا يستبدلون به سواه، ويتلقى المدد منه، ولعله دور من أدوار الشعر تركه الأوائل للأواخر على خلاف ما قيل.
Page inconnue