ومع اقتحام شاعرنا لمجال النشر وبداية ذيوع اسمه في المحافل الأدبية والفنية، بدأ يشعر بأن جو «غرناطة» يضيق عن آماله وطموحاته، إنه الآن بحاجة إلى أجواء جديدة وآفاق أوسع يمارس تحت ظلالها تحقيق أحلامه العريضة، ومن ناحية أخرى، كان كثير من رفاقه في مقهى «الأميدا» قد نزحوا إلى مدريد للدراسة في جامعاتها، وعندما وجد أنه لا مناص له من الانتقال بدوره إلى العاصمة، وكان ممن رحب بفكرته تلك أستاذه «فرناندو دي لوس ريوس»، الذي أشار على أسرة لوركا بضرورة إتاحة الفرصة أمامه لتنمية مواهبه في بيئة أكثر اتساعا واستعدادا، واستطاع الأستاذ أن يحصل على موافقة الأبوين على تحويل لوركا للدراسة في كلية الآداب بجامعة مدريد المركزية، مع استمرار قيده في كلية الحقوق بجامعة غرناطة، وكان الرحيل صعبا على الأبوين، ولا سيما الأم التي تألمت أشد الألم من فراق ابنها الأكبر، وكان وعد من لوركا بحضوره دائما في الإجازات وفي الصيف لقضاء أكبر وقت ممكن مع الأسرة.
وهكذا يشد الشاعر الرحال إلى مدريد في ربيع عام 1919م، حاملا معه بطاقات مرور تعينه على غزو تلك العاصمة التليدة: حفنة من الملابس الجديدة بما فيها بذلة سهرة سوداء، وخطابات تقديم إلى معارف الأسرة، «وبلدياتها» الغرناطيين في العاصمة، وفوق كل شيء: عدة نسخ من كتابه الأول انطباعات وصور.
وكان مما ضاعف من الفائدة التي استقاها بانتقاله إلى العاصمة نزوله بالإقامة في المدينة الجامعية في مدريد،
Resedencia de Estudiantes ، ولم تكن هذه المدينة الطلابية تقتصر على كونها نزلا لسكنى الطلبة الجامعيين فحسب، بل إنها كانت تمثل مركزا من مراكز الحركة الفنية الطليعية في إسبانيا، ونقطة وصل بين حركات الحداثة الفنية في أوروبا وبينها في إسبانيا، بما كانت تضمه أيامها من نخبة الشباب الجامعي المفكر المستنير، وكثيرا ما كان يطلق عليها اسم أكسفورد الإسبانية، وكانت المدينة تقع في أعالي مدريد بالقرب من متحف العلوم الطبيعية، وكان الشاعر «خيمينيث» يسميها «رابية أشجار الحور»، واستقبل مدير المدينة الجامعية لوركا بحفاوة وترحاب شديدين، وسهل له جميع إجراءات الالتحاق، لما كان قد سمعه عنه قبل مقدمه من رفاقه وزملائه الغرناطيين الذين سبقوه في الالتحاق بالمدينة، ومنح لوركا غرفة تقاسمها مع أول زميل له ويدعى «بيبين بللو»، وهي غرفة تطل نوافذها على فناء يسمى «فناء أزهار الدفلى»، كان قد خططه أيضا الشاعر «خيمينيث».
وهكذا انضم شاعرنا إلى تلك البوتقة التي انصهرت فيها الاتجاهات الحديثة في كل أدب وفن، وكان من الطلاب المقيمين في المدينة الجامعية كثيرون أصبحوا بعد ذلك أعلاما مشهورين: الرسام الشاعر «خوسيه مورنيو»، السينمائي «لويس بونيوبل»، الرسام السيريالي «سلفادور دالي»، الشاعر الأندلسي «رافييل ألبرتي»، الشاعران «مانويل ألتولاجيري» و«اميليو برادوس»، كذلك كان يتردد على المدينة ومنتدياتها فنانون وأدباء خارجيون ليسوا من الطلبة، منهم «بدور ساليناس» - «خورخيه جيين» - «أنطونيو متشاود» - «يوجين دورس »، وعلماء فلاسفة كبار، مثل «أونامونو» و«أورتيجا آي جاسيت»، و«رامون منندث بيال» أحد المستشرقين الإسبان العظام ، وكانت المدينة الجامعية محفلا ضروريا لأي أستاذ أجنبي يمر بمدريد، وهكذا استمع لوركا فيها إلى محاضرات من «البرت أينشتاين» و«هنري برجسون» و«برتراند راسل» وآخرين.
وسرعان ما اندمج لوركا في هذا الجو الفني الفريد، بما وهبه من طلاوة الحديث وإجادة إلقاء الشعر وإنشاد الأغاني الشعبية، وفوق كل شيء بمعزوفاته على بيانو المدينة الجامعية الذي كان لا يكاد يقوم عنه، وكانت أسعد لحظاته هي التي يجلس فيها إلى ذلك البيانو العتيق؛ ليعزف الألحان الكلاسيكية التي يطلبها منه الحاضرون ببراعة عظيمة، ثم ينتقل منها إلى عزف وغناء المقطوعات الشعبية التي تعلمها وحفظها منذ صباه في القرى ووسط الحقول، وكان من بين من هام بهم من الكلاسيكيين: شوبان وموزار وبيتهوفن ورافيل وديبوسي، والبنينز ودي فايا الإسبانيان.
وكانت مدريد كلها ميدانا رحيبا مفتوحا أمام الشاعر يجول فيه بحثا عن غذاء لروحه ومشاعره الفنية، فكان كثير التردد على المتاحف التي تزخر بها العاصمة، ولا سيما متحف «البرادو» - مثيل متحف اللوفر الفرنسي وصنوه - حيث أغرم بلوحات «فلاسكيز» و«جويا» و«الجريكو»، وقد حفزه إعجابه بلوحات ذلك الأخير إلى زيارة متحفه وبيته في مدينة طليطلة، على مسيرة ساعة ونصف من مدريد.
ورغم أن لوركا كان نادرا ما يحضر درسا نظاميا في الجامعة التي التحق بها، إلا إنه كان كثير التردد على مكتبة الجامعة لالتهام كتب الأدب التي تزخر بها، كذلك كان يتردد على «أتنيو مدريد» وهو المركز الثقافي والفني المعترف به في العاصمة، وكان يمثل الثقافة التقليدية للبلاد، ويوجد مثيل له في كل مدينة إسبانية.
غير أن تكوين لوركا الفني والثقافي لا يرجع إلى الكتب فحسب، بل وأيضا إلى كوكبة الثريا من الأساتذة والزملاء والأصدقاء من شعراء ورسامين وموسيقيين، ممن حفلت بهم الحياة الثقافية والفنية في ذلك الوقت، وكانت ثمة مجموعة من الأصدقاء توثقت عرى المحبة والود بينهم وبين لوركا أكثر من غيرهم - سينضمون إلى بعضهم فيما بعد ليكونوا فيما بينهم جيلا جديدا من الأدباء والفنانين هو جيل 27، ومن هؤلاء «خيراردو دييجو»، «داماسو ألونصو»، «لويس ثيرنورا »، «بدرو ساليناس»، «فيسنتي الكساندري»، «إدواردو ماركينا»، «خورخيه جيين»، «سلفادور دالي»، وذلك جانب رهط الغرناطيين الذين انتقلوا إلى مدريد وهم «رافاييل ألبرتي»، «مانويل أنخليس أورتيث»، «إميليو برادوس»، «مانولو التولاجيري»، «ملشور فرناندز ألماجرو». وقد أصبحت هذه الأسماء، كما هو الحال مع لوركا، شهيرة فيما بعد، ومنهم من حصل في السنوات الأخيرة على جائزة نوبل للأدب، وهو فسنتي الكساندري.
وقد أضرم هذا الجو الفني والأدبي النار في فؤاد لوركا، الذي كان مشتعلا أصلا بحب كل ما هو فن وشعر، وأسهم هو في هذا الجو بما كان لديه من خيال شعري وموسيقى وطريقة للحياة المكرسة للفن الخالص، ويضيف مؤرخ حياته «لويس كانو»: «غير أن أكثر ما كان يجتذبه هو الحياة نفسها، بما فيها من عروض حية ثرية، وحرية تجربة مشاعر وانطباعات متنوعة عميقة، ولو أنهم خيروه بين الأدب والحياة لاختار الحياة، مع كل ما يكنه من حب للأدب والفن، لقد كان همه الأول أن يحيا ويرى من يحيون حوله».
Page inconnue