أخضر، أخضر،
كم أحبك يا أخضر!
رياح خضر، وأفنان خضراء.
السفينة في البحر،
والجواد في الجبال.
وإلى جانب هذا التعليم الفطري الذي ناله الشاعر من الطبيعة حوله، ومن حياة الحقول ونسيج الأساطير والحكايات الشعبية، بدأ حصيلته في فترة مبكرة؛ فقد اهتمت والدته - وهي المدرسة أصلا - بتلقينه مبادئ اللغة والعلوم بنفسها، وأشربته حب الموسيقى ومبادئها منذ نعومة أظفاره، ثم انتظم في مدرسة القرية - التي كان يشرف عليها ويدرس فيها الأستاذ «أنطونيو اسبينوزا»، وهو صديق حميم لأسرة لوركا، الذي سرعان ما فطن إلى المواهب الباكرة التي يتمتع بها ذلك الصبي، فتوفر على تطوير النزعات الفنية فيه، وقد بادله الصبي ودا بود، وصل إلى أنه حين نقل الأستاذ عام 1908م إلى مدينة «المرية» الساحلية، قررت الأسرة أن ترسل ابنها بصحبته، تلميذا في مدرسته، ومقيما في منزله، حتى يستمر في تلقي التعليم الذي بدأه على يديه.
ولكن إقامة لوركا في «المرية» لم تكن موفقة؛ إذ سرعان ما غلبه الحنين إلى أسرته وبلدته، وافتقد الجو الحاني الذي كان يحيطه به أبواه، وأخيرا سقط فريسة المرض، وتورم وجهه من جراء الميكروب الغامض الذي هاجمه، حتى اضطر الآب إلى أن يعيده إلى البيت، ولم يرسل به بعيدا عن الأسرة بعد ذلك، وكانت حصيلة هذه التجربة المريرة، أولى محاولات لوركا الأدبية؛ إذ إنه كتب خلال فترة مرضه قصيدة هزلية قصيرة، شبه نفسه فيها بوجهه المنتفخ بسلطان مراكش آنذاك، وهي تمثل جانبا آخر من جوانب خياله الممتلئ بالصور العربية.
وقد بدأ في تلك الفترة - عام 1908م وما بعده - شغف لوركا بالقراءة والمطالعة، وكان من بين ما تأثر به كتاب «دون كيخوتة» درة الأدب الإسباني، وبعض مترجمات من أعمال «فكتور هيجو» كانت في مكتبة جده لأبيه، وتجمعت مادة قراءاته هذه مع مادة الشعر الشفوي والرومانسيات، والأغاني الشعبية التي كان يسمعها من أفواه الفلاحين أو في السهرات العائلية، حتى إنه صار وهو في العاشرة من عمره طفلا ذا خيال ثري، تضطرم فيه الصور والأساطير والروايات، ويبين اضطرابها عينيه الداكنتين فتنبئان عن روح وثابة تواقة للتعبير عن نفسها في أشكال مختلفة من الفن والحياة.
وفي المنزل، كان لوركا ينفث عاطفته الفنية المبكرة على شكل أعمال تمثيلية يعرضها أمام جمهوره الأول، وهو يتكون من أخيه وأختيه ووالدته، ومن يعمل في المنزل من خدم، وقد تأثر تأثرا عظيما بعروض مسرح العرائس الريفي المتنقل الذي كان يمر بين آونة وأخرى بقريته، وكان يحاول أحيانا تقليد عرض التمثيليات التي يشاهدها فيه وينقلها عبر خياله إلى نظارته ، وقد ظهر هذا الميل فيما بعد في عدد من عروض مسرح العرائس توفر الشاعر على كتابتها وإخراجها، منها «عرائس كاتشي بورا»، ومسرحية عرائس «دون كريستوبال» وغيرهما، مما يمثل من حصيلة أعماله ذلك الجانب الطفولي من شخصيته الذي امتزج بموهبة الفنان فأنتج أعمالا خلاقة في ذلك الميدان.
حياة المدينة
Page inconnue