ـ[لسان العرب]ـ
المؤلف: محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى (المتوفى: ٧١١هـ)
الناشر: دار صادر - بيروت
الطبعة: الثالثة - ١٤١٤ هـ
عدد الأجزاء: ١٥
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، ومذيل بحواشي اليازجي وجماعة من اللغويين]
تَرْجَمَة الْمُؤلف ـ[اسْمه]ـ ابْن مَنْظُور مُحَمَّد بن مُكرَّم بن عليّ بن أَحْمد بن حبقة الْأنْصَارِيّ الإفْرِيقِي كَانَ يُنسب إِلَى رُوَيْفِع بن ثَابت الْأنْصَارِيّ، من صحابة رَسُول الله وَهُوَ صَاحب «لِسَان الْعَرَب» فِي اللُّغَة. ـ[وِلَادَته]ـ وُلِدَ ابْن مَنْظُور فِي الْقَاهِرَة، وَقيل فِي طرابلس، فِي شهر الْمحرم سنة ٦٣٠ هـ / سنة ١٢٣٢ م ـ[مَنْزِلَته ورحلته العلمية]ـ كَانَت حَيَاته حَيَاة جد وَعمل مَوْصُول، كَانَ عَالما فِي الْفِقْه مِمَّا أهَّلَه لتولي منصب الْقَضَاء فِي طرابلس، كَمَا عمل فَتْرَة طَوِيلَة فِي ديوَان الْإِنْشَاء وَكَانَ عَالما فِي اللُّغَة وَيشْهد لَهُ بذلك هَذَا الْكتاب الْفَرد «سان الْعَرَب» وَقد جمع فِيهِ بَين التَّهْذِيب والمحكم والصحاح والجمهرة وَالنِّهَايَة وحاشية الصِّحَاح جوّده مَا شَاءَ ورتبه تَرْتِيب الصِّحَاح وَهُوَ كَبِير، وَكَانَ من أفضل عُلَمَاء عصره فِي المعارف الكونية فَهُوَ بِحَق مفخرة من المفاخر الخالدة فِي التراث الْعَرَبِيّ، وَسمع من ابْن المقير ومرتضى بن حَاتِم وَعبد الرَّحِيم بن الطُّفَيْل ويوسف بن المخيلي وَغَيرهم. وعمَّر وَكبر وحدَّث فَأَكْثرُوا عَنهُ، وَكَانَ مغرى بِاخْتِصَار كتب الْأَدَب المطوَّلة، اختصر الأغاني والعِقد والذخيرة ونشوان المحاضرة ومفردات ابْن البيطار والتواريخ الْكِبَار وَكَانَ لَا يمل من ذَلِك، قَالَ الصَّفَدِي: لَا أعرف فِي الْأَدَب وَغَيره كِتابا مطوَّلا إِلَّا وَقد اخْتَصَرَهُ، قَالَ: وَأَخْبرنِي وَلَده قطب الدّين أَنه ترك بِخَطِّهِ خَمْسمِائَة مجلدة، وَيُقَال إِن الْكتب الَّتِي علقها بِخَطِّهِ من مختصراته خَمْسمِائَة مجلدة. وَكَانَ عِنْده تشيُّع بِلَا رفض، قَالَ أَبُو حَيَّان أَنْشدني لنَفسِهِ: ضع كتابي إِذا أَتَاك إِلَى الأَرْض ... وقلِّبه فِي يَديك لماما فعلى خَتمه وَفِي جانبيه ... قُبَلٌ قد وضعتهنَّ تؤَاما قَالَ وأنشدني لنَفسِهِ: النَّاس قد أثموا فِينَا بظنهم ... وَصَدقُوا بِالَّذِي أَدْرِي وتدرينا مَاذَا يضرُّك فِي تَصْدِيق قَوْلهم ... بِأَن نحقق مَا فِينَا يظنونا حملي وحملك ذَنبا وَاحِدًا ثِقَة ... بِالْعَفو أجمل من إِثْم الورى فِينَا قَالَ الصَّفَدِي: هُوَ معنى مطروق للقدماء لَكِن زَاد فِيهِ زِيَادَة وَهِي قَوْله ثِقَة بِالْعَفو من أحسن متممات البلاغة. وَذكر ابْن فضل الله أَنه عَمِيَ فِي آخر عمره، وَكَانَ صَاحب نكت ونوادر وَهُوَ الْقَائِل: بِاللَّه إِن جزت بوادي الْأَرَاك ... وَقبلت عيدانه الْخضر فَاك فَابْعَثْ، إِلَى عَبدك، من بَعْضهَا ... فإنني، وَالله، مَا لي سواك ـ[مؤلفاته]ـ ١. مُعْجم «لِسَان الْعَرَب» فِي اللُّغَة. ٢. مُخْتَار الأغاني. ٣. مُخْتَصر «تَارِيخ بَغْدَاد» للخطيب الْبَغْدَادِيّ فِي عشرَة مجلدات. ٤. مُخْتَصر «تَارِيخ دمشق» لِابْنِ عَسَاكِر. ٥. مُخْتَصر «مُفْرَدَات ابْن البيطار». ٦. مُخْتَصر «العقد الفريد» لِابْنِ عبد ربه. ٧. مُخْتَصر «زهر الْآدَاب» للحصري. ٨. مُخْتَصر «الْحَيَوَان» للجاحظ. ٩. مُخْتَصر «يتيمة الدَّهْر» للثعالبي. ١٠. مُخْتَصر «نشوان المحاضرة» للتنوخي. ١١. مُخْتَصر «الذَّخِيرَة». ـ[وَفَاته]ـ توفّي فِي مصر سنة ٧١١ هـ / ١٣١١م.
تَرْجَمَة الْمُؤلف ـ[اسْمه]ـ ابْن مَنْظُور مُحَمَّد بن مُكرَّم بن عليّ بن أَحْمد بن حبقة الْأنْصَارِيّ الإفْرِيقِي كَانَ يُنسب إِلَى رُوَيْفِع بن ثَابت الْأنْصَارِيّ، من صحابة رَسُول الله وَهُوَ صَاحب «لِسَان الْعَرَب» فِي اللُّغَة. ـ[وِلَادَته]ـ وُلِدَ ابْن مَنْظُور فِي الْقَاهِرَة، وَقيل فِي طرابلس، فِي شهر الْمحرم سنة ٦٣٠ هـ / سنة ١٢٣٢ م ـ[مَنْزِلَته ورحلته العلمية]ـ كَانَت حَيَاته حَيَاة جد وَعمل مَوْصُول، كَانَ عَالما فِي الْفِقْه مِمَّا أهَّلَه لتولي منصب الْقَضَاء فِي طرابلس، كَمَا عمل فَتْرَة طَوِيلَة فِي ديوَان الْإِنْشَاء وَكَانَ عَالما فِي اللُّغَة وَيشْهد لَهُ بذلك هَذَا الْكتاب الْفَرد «سان الْعَرَب» وَقد جمع فِيهِ بَين التَّهْذِيب والمحكم والصحاح والجمهرة وَالنِّهَايَة وحاشية الصِّحَاح جوّده مَا شَاءَ ورتبه تَرْتِيب الصِّحَاح وَهُوَ كَبِير، وَكَانَ من أفضل عُلَمَاء عصره فِي المعارف الكونية فَهُوَ بِحَق مفخرة من المفاخر الخالدة فِي التراث الْعَرَبِيّ، وَسمع من ابْن المقير ومرتضى بن حَاتِم وَعبد الرَّحِيم بن الطُّفَيْل ويوسف بن المخيلي وَغَيرهم. وعمَّر وَكبر وحدَّث فَأَكْثرُوا عَنهُ، وَكَانَ مغرى بِاخْتِصَار كتب الْأَدَب المطوَّلة، اختصر الأغاني والعِقد والذخيرة ونشوان المحاضرة ومفردات ابْن البيطار والتواريخ الْكِبَار وَكَانَ لَا يمل من ذَلِك، قَالَ الصَّفَدِي: لَا أعرف فِي الْأَدَب وَغَيره كِتابا مطوَّلا إِلَّا وَقد اخْتَصَرَهُ، قَالَ: وَأَخْبرنِي وَلَده قطب الدّين أَنه ترك بِخَطِّهِ خَمْسمِائَة مجلدة، وَيُقَال إِن الْكتب الَّتِي علقها بِخَطِّهِ من مختصراته خَمْسمِائَة مجلدة. وَكَانَ عِنْده تشيُّع بِلَا رفض، قَالَ أَبُو حَيَّان أَنْشدني لنَفسِهِ: ضع كتابي إِذا أَتَاك إِلَى الأَرْض ... وقلِّبه فِي يَديك لماما فعلى خَتمه وَفِي جانبيه ... قُبَلٌ قد وضعتهنَّ تؤَاما قَالَ وأنشدني لنَفسِهِ: النَّاس قد أثموا فِينَا بظنهم ... وَصَدقُوا بِالَّذِي أَدْرِي وتدرينا مَاذَا يضرُّك فِي تَصْدِيق قَوْلهم ... بِأَن نحقق مَا فِينَا يظنونا حملي وحملك ذَنبا وَاحِدًا ثِقَة ... بِالْعَفو أجمل من إِثْم الورى فِينَا قَالَ الصَّفَدِي: هُوَ معنى مطروق للقدماء لَكِن زَاد فِيهِ زِيَادَة وَهِي قَوْله ثِقَة بِالْعَفو من أحسن متممات البلاغة. وَذكر ابْن فضل الله أَنه عَمِيَ فِي آخر عمره، وَكَانَ صَاحب نكت ونوادر وَهُوَ الْقَائِل: بِاللَّه إِن جزت بوادي الْأَرَاك ... وَقبلت عيدانه الْخضر فَاك فَابْعَثْ، إِلَى عَبدك، من بَعْضهَا ... فإنني، وَالله، مَا لي سواك ـ[مؤلفاته]ـ ١. مُعْجم «لِسَان الْعَرَب» فِي اللُّغَة. ٢. مُخْتَار الأغاني. ٣. مُخْتَصر «تَارِيخ بَغْدَاد» للخطيب الْبَغْدَادِيّ فِي عشرَة مجلدات. ٤. مُخْتَصر «تَارِيخ دمشق» لِابْنِ عَسَاكِر. ٥. مُخْتَصر «مُفْرَدَات ابْن البيطار». ٦. مُخْتَصر «العقد الفريد» لِابْنِ عبد ربه. ٧. مُخْتَصر «زهر الْآدَاب» للحصري. ٨. مُخْتَصر «الْحَيَوَان» للجاحظ. ٩. مُخْتَصر «يتيمة الدَّهْر» للثعالبي. ١٠. مُخْتَصر «نشوان المحاضرة» للتنوخي. ١١. مُخْتَصر «الذَّخِيرَة». ـ[وَفَاته]ـ توفّي فِي مصر سنة ٧١١ هـ / ١٣١١م.
Page inconnue
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
[مقدمة الناشر]
عزمنا بعد الاتكال عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَبعد إِعْمَال الروية وتقليب الْفِكر، أَن نصدر طبعة جَدِيدَة للسان الْعَرَب، لِابْنِ مَنْظُور الإفْرِيقِي، وَلَيْسَ هَذَا الْعَمَل يَسِيرا، فان الطبعة الأولى توافرت عَلَيْهَا أَمْوَال حُكُومَة الخديو مُحَمَّد توفيق وَتَحْت إمرتها مطبعة كَبِيرَة، كَمَا تعاون علماؤها فِي الإشراف على الْعَمَل، وَمَعَ ذَلِك لم تخل من أغاليط، بَعْضهَا نبه عَلَيْهِ جمَاعَة من الْعلمَاء، وَبَعضهَا لم يُنَبه عَلَيْهِ أحد، فتداركنا ذَلِك كُله، مستعينين بنخبة من عُلَمَاء اللُّغَة المتخصصين، ورأينا أَن نثبت تحقيقات مصحح الطبعة الأولى الْوَارِدَة فِي الهوامش بنصها.
وسنصدر الْكتاب أَجزَاء ليسهل اقتناؤه.
وسنضيف إِلَيْهِ فهرسا شَامِلًا أَسمَاء الشُّعَرَاء وذيلا بالمفردات والمصطلحات الحديثة الَّتِي أقرتها المجامع اللُّغَوِيَّة فِي الْبِلَاد الْعَرَبيَّة، لوصل مَا انْقَطع من التراث اللّغَوِيّ.
وأشير علينا أَن نغير تَرْتِيب " اللِّسَان " وَلَكنَّا آثرنا أَن يبْقى على حَاله حفظا للأثر من أَن يُغير، ولأن تَرْتِيب الْأَبْوَاب على الْحَرْف الْأَخير يعين الشَّاعِر على القافية - وَلَعَلَّه أحد الْمَقَاصِد الَّتِي أرادها صَاحب اللِّسَان - وَهُنَاكَ معاجم تسير على غير هَذَا التَّرْتِيب الَّذِي اخْتَارَهُ ابْن مَنْظُور وَاخْتَارَهُ مثله الفيروز آبادي.
غير أننا تيسيرا للبحث عَن اللَّفْظَة المُرَاد الْبَحْث عَنْهَا، وإيضاح مَكَانهَا من مادتها، رَأينَا أَن نضع فواصل حاولنا بهَا على قدر الِاسْتِطَاعَة، أَن نفصل بَين اللَّفْظَة وَالْأُخْرَى، لكَي تبرز للباحث ضالته الَّتِي ينشدها بأيسر سَبِيل وَأَقل عناء.
وَالله ولي التَّوْفِيق.
الناشر
1 / 3
تَرْجَمَة الْمُؤلف ﵀
قَالَ الإِمَام الْحَافِظ شهَاب الدّين أَبُو الْفضل احْمَد بن حجر الْعَسْقَلَانِي فِي كِتَابه الدُّرَر الكامنة فِي أَعْيَان الْمِائَة الثَّامِنَة فِي حرف الْمِيم مَا نَصه: هُوَ مُحَمَّد بن مكرم بن عَليّ بن أَحْمد الْأنْصَارِيّ الإفْرِيقِي ثمَّ الْمصْرِيّ جمال الدّين أَبُو الْفضل، كَانَ ينْسب إِلَى رويفع بن ثَابت الْأنْصَارِيّ.
ولد سنة ٦٣٠ فِي الْمحرم وَسمع من ابْن المقير ومرتضى بن حَاتِم وَعبد الرَّحِيم بن الطُّفَيْل ويوسف بن المخيلي وَغَيرهم.
وَعمر وَكبر وَحدث فَأَكْثرُوا عَنهُ، وَكَانَ مغرى بِاخْتِصَار كتب الْأَدَب المطولة، اختصر الأغاني وَالْعقد والذخيرة ونشوار المحاضرة ومفردات ابْن البيطار والتواريخ الْكِبَار وَكَانَ لَا يمل من ذَلِك، قَالَ الصَّفَدِي: لَا أعرف فِي الْأَدَب وَغَيره كتابا مطولا إِلَّا وَقد اخْتَصَرَهُ، قَالَ: وَأَخْبرنِي وَلَده قطب الدّين أَنه ترك بِخَطِّهِ خَمْسمِائَة مجلدة، وَيُقَال إِن الْكتب الَّتِي علقها بِخَطِّهِ من مختصراته خَمْسمِائَة مجلدة، قلت: وَجمع فِي اللُّغَة كتابا سَمَّاهُ " لِسَان الْعَرَب " جمع فِيهِ بَين التَّهْذِيب والمحكم والصحاح والجمهرة وَالنِّهَايَة وحاشية الصِّحَاح، جوده مَا شَاءَ ورتبه تَرْتِيب الصِّحَاح، وَهُوَ كَبِير، وخدم فِي ديوَان الْإِنْشَاء طول عمره وَولي قَضَاء طرابلس.
وَكَانَ عِنْده تشيع بِلَا رفض، قَالَ أَبُو حَيَّان أَنْشدني لنَفسِهِ:
ضع كتابي إِذا أَتَاك إِلَى الأر ... ض وَقَلبه فِي يَديك لماما
فعلى خَتمه وَفِي جانبيه ... قبل قد وضعتهن تؤاما
قَالَ وأنشدني لنَفسِهِ:
النَّاس قد أثموا فِينَا بظنهم ... وَصَدقُوا بِالَّذِي أَدْرِي وتدرينا
مَاذَا يَضرك فِي تَصْدِيق قَوْلهم ... بَان نحقق مَا فِينَا يظنونا
حملي وحملك ذَنبا وَاحِدًا ثِقَة ... بِالْعَفو أجمل من إِثْم الورى فِينَا
قَالَ الصَّفَدِي: هُوَ معني مطروق للقدماء لَكِن زَاد فِيهِ زِيَادَة وَهِي قَوْله ثِقَة بِالْعَفو من أحسن متممات البلاغة.
وَذكر ابْن فضل الله أَنه عمي فِي آخر عمره، وَكَانَ صَاحب نكت ونوادر وَهُوَ الْقَائِل: بِاللَّه إِن جزت بوادي الْأَرَاك، ... وَقبلت عيدانه الْحَضَر فَاك
فَابْعَثْ، إِلَى عَبدك، من بَعْضهَا، ... فإنني، وَالله، مَا لي سواك
وَمَات فِي شعْبَان سنة ٧١١.
* * *
وَقَالَ الْحَافِظ جلال الدّين عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر السُّيُوطِيّ فِي بغية الوعاة فِي طَبَقَات
اللغويين والنحاة فِيمَن اسْمه مُحَمَّد: مُحَمَّد بن مكرم بن عَليّ وَقيل رضوَان بن أَحْمد بن أبي الْقَاسِم بن حبقة بن مَنْظُور الْأنْصَارِيّ الإفْرِيقِي الْمصْرِيّ جمال الدّين أَبُو الْفضل صَاحب لِسَان الْعَرَب فِي اللُّغَة الَّذِي جمع فِيهِ بَين التَّهْذِيب والمحكم والصحاح وحواشيه والجمهرة وَالنِّهَايَة، ولد فِي الْمحرم سنة ٦٣٠ وَسمع من ابْن المقير وَغَيره وَجمع وَعمر وَحدث وَاخْتصرَ كثيرا من كتب الْأَدَب المطولة كالأغاني وَالْعقد والذخيرة ومفردات ابْن البيطار، وَنقل أَن مختصراته خَمْسمِائَة مُجَلد، وَكَانَ صَدرا رَئِيسا فَاضلا فِي الْأَدَب مليح الْإِنْشَاء روى عَنهُ السُّبْكِيّ والذهبي وَقَالَ تفرد بالغوالي وَكَانَ عَارِفًا بالنحو واللغة والتاريخ وَالْكِتَابَة وَاخْتصرَ تَارِيخ دمشق فِي نَحْو ربعه، وَعِنْده تشيع بِلَا رفض، مَاتَ فِي شعْبَان سنة ٧١١.
1 / 4
مُقَدّمَة الطبعة الأولى
الْحَمد لله منطق اللِّسَان بتحميد صِفَاته، وملهم الْجنان إِلَى تَوْحِيد ذَاته، وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد أشرف مخلوقاته، وعَلى آله وَصَحبه الَّذين اقتدوا بقداته واهتدوا بسماته.
وَبعد فقد اتّفقت آراء الْأُمَم: الْعَرَب مِنْهُم والعجم، الَّذين مارسوا اللُّغَات ودروا مَا فِيهَا من الْفُنُون وَالْحكم، وأساليب التَّعْبِير عَن كل معنى يجرى على اللِّسَان والقلم، على أَن لُغَة الْعَرَب أوسعها وأسنعها، وأخلصها وأنصعها، وَأَشْرَفهَا وأفضلها، وآصلها وأكلمها، وَذَلِكَ لغزارة موادها، واطراد اشتقاقها، وسرارة جوادها، واتحاد انتساقها.
وَمن جملَته تعدد المترادف، الَّذِي هُوَ للبليغ خير رافد ورادف، وَمَا يَأْتِي على رُوِيَ وَاحِد فِي القصائد مِمَّا يكْسب النّظم من التحسين وُجُوهًا، لَا تَجِد لَهَا فِي غَيرهَا من لُغَات الْعَجم شَبِيها.
وَهَذَا التَّفْضِيل يزْدَاد بَيَانا وظهورا، وَيزِيد المتأمل تَعَجبا وتحييرا، إِذا اعْتبرت أَنَّهَا كَانَت لُغَة قوم أُمِّيين لم يكن لَهُم فلسفة اليونانيين، وَلَا صنائع أهل الصين، وَمَعَ ذَلِك فقد جعلت بِحَيْثُ يعبر فِيهَا عَن خواطر هذَيْن الجيلين بل سَائِر الأجيال، إِذا كَانَت جديرة بَان يشغل بهَا البال، وتحسن فِي الِاسْتِعْمَال الَّذِي من لوازمه أَن يكون المعني الْمُفْرد وَغير الْمُفْرد مَوْضُوعا بإزائه لفظ مُفْرد فِي الْوَضع، يخف النُّطْق بِهِ على اللِّسَان ويرتاح لَهُ الطَّبْع، وَهُوَ شان الْعَرَبيَّة، وكفاها فضلا على مَا سواهَا هَذِه المزية.
وَإِنَّمَا قلت مُفْرد فِي الْوَضع لانا نرى مُعظم أَلْفَاظ اليونانية، وَغَيرهَا من اللُّغَات الإفرنجية، من قبيل النحت، وشتان مَا بَينه وَبَين الْمُفْرد البحت، فَإِن هَذَا يدل على أَن الْوَاضِع فطن، من أول الْأَمر، إِلَى الْمعَانِي الْمَقْصُودَة الَّتِي يحْتَاج إِلَيْهَا لإِفَادَة السَّامع، بِحَسب اخْتِلَاف الْأَحْوَال والمواقع.
وَذَاكَ يدل على أَن تِلْكَ الْمعَانِي لم تخطر بِبَالِهِ الا عِنْدَمَا مست الْحَاجة إِلَيْهَا، فلفق لَهَا ألفاظا كَيْفَمَا اتّفق وَاعْتمد فِي الإفادة عَلَيْهَا.
فَمثل من وضع اللَّفْظ الْمُفْرد، مثل من بنى صرحا لينعم فِيهِ ويقصد، فَقدر من قبل الْبناء كل مَا لزم لَهُ من المداخل والمخارج، والمرافق والمدارج، ومنافذ النُّور والهواء، والمناظر المطلة على المنازه الفيحاء، وَهَكَذَا أتم بناءه، كَمَا قدره وشاءه.
وَمثل من عمد إِلَى النحت والتلفيق، مثل من بنى من غير تَقْدِير وَلَا تنسيق، فَلم يفْطن إِلَى مَا لزم لمبناه الا بعد أَن سكنه، وَشعر بِأَنَّهُ لَا يُصِيب فِيهِ سكنه، فتدارك مَا فرط مِنْهُ تدارك من لهوج فعجز، فجَاء بِنَاؤُه سدادا من عوز.
هَذَا من حَيْثُ كَون الْأَلْفَاظ مُفْردَة كَمَا أسلفت مفصلا.
فَأَما من حَيْثُ كَونهَا تركب جملا، وتكسى من منوال البلاغة حللا، فنسبة تِلْكَ اللُّغَات إِلَى الْعَرَبيَّة، كنسبة الْعُرْيَان إِلَى الكاسي، والظمآن إِلَى الحاسي، وَلَا يُنكر ذَلِك الا مكابر، على جحد الْحق مثابر.
وحسبك أَنه لَيْسَ فِي تِلْكَ اللُّغَات من أَنْوَاع البديع الا التَّشْبِيه وَالْمجَاز، وَمَا سوى ذَلِك يحْسب فِيهَا من قبيل الإعجاز.
هَذَا وكما أَنِّي قررت أَن اللُّغَة الْعَرَبيَّة أشرف اللُّغَات، كَذَلِك أقرر أَن أعظم كتاب ألف فِي مفرداتها كتاب لِسَان الْعَرَب للْإِمَام المتقن جمال الدّين مُحَمَّد بن جلال الدّين الْأنْصَارِيّ الخزرجي الإفْرِيقِي، نزيل مصر، وَيعرف بِابْن مكرم وَابْن مَنْظُور، ولد فِي الْمحرم سنة ٦٩٠، وَتُوفِّي سنة ٧٧١ (١).
وَقد جمع فِي
_________
(١) كَانَت وِلَادَته سنة ٦٣٠ ووفاته سنة ٧١١ كَمَا فِي الوافي بالوفيات للصفدي والدرر الكامنة لِابْنِ حجر والمنهل الصافي لِابْنِ تغري بردى والبغية للسيوطي.
1 / 5
كِتَابه هَذَا الصِّحَاح للجوهري وحاشيته لِابْنِ بري، والتهذيب للأزهري، والمحكم لِابْنِ سَيّده، والجمهرة لِابْنِ دُرَيْد، وَالنِّهَايَة لِابْنِ الْأَثِير، وَغير ذَلِك، فَهُوَ يغنى عَن سَائِر كتب اللُّغَة، إِذْ هِيَ بجملتها لم تبلغ مِنْهَا مَا بلغه.
قَالَ الإِمَام مُحَمَّد بن الطّيب محشي الْقَامُوس: وَهُوَ عَجِيب فِي نقُوله وتهذيبه، وتنقيحه وترتيبه، إلا انه قَلِيل بِالنِّسْبَةِ لغيره من المصنفات المتداولة، وزاحم عصره صَاحب الْقَامُوس رحم الله الْجَمِيع انْتهى.
وَسبب قلته كبر حجمه وَتَطْوِيل عِبَارَته، فإنه ثَلَاثُونَ مجلدا، فالمادة الَّتِي تملأ فِي الْقَامُوس صفحة وَاحِدَة تملأ فِيهِ أَربع صفحات بل أَكثر، وَلِهَذَا عجزت طلبة الْعلم عَن تَحْصِيله وَالِانْتِفَاع بِهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ كتاب لُغَة، وَنَحْو، وَصرف، وَفقه، وأدب، وَشرح للْحَدِيث الشريف، وَتَفْسِير للقران الْكَرِيم، فَصدق عَلَيْهِ الْمثل: إِن من الْحسن لشقوة.
وَلَوْلَا أَن الله ﵎ أودع فِيهِ سرا مَخْصُوصًا لما بَقِي إِلَى الْآن، بل كَانَ لحق بنظرائه من الْأُمَّهَات المطولة الَّتِي اغتالتها طوارق الْحدثَان: كالموعب لعيسى ابْن غَالب التياني، والبارع لأبي عَليّ القالي، وَالْجَامِع للقزاز، غَيرهَا مِمَّا لم يبْق لَهُ عين وَلَا أثر، إلا فِي ذكر اللغويين حِين ينوهون بِمن ألف فِي اللُّغَة وَأثر، فَالْحَمْد لله مولي النعم ومؤتي الهمم على أَن حفظه لنا مصونا من تعاقب الْأَحْوَال، وتناوب الْأَحْوَال، كَمَا نحمده على أَن ألهم فِي هَذِه الْأَيَّام سيدنَا الخديو الْمُعظم، الْعَزِيز ابْن الْعَزِيز ابْن الْعَزِيز مُحَمَّد توفيق الْمَحْمُود بَين الْعَرَب والعجم، والمحفوف بالتوفيق لكل صَلَاح جم، وفلاح عَم، إِلَى أَن يكون هَذَا الْكتاب الفريد بالطبع منشورا، ونفعه فِي جَمِيع الأقطار مَشْهُورا، بعد أَن كَانَ دهرا طَويلا كالكنز المدفون، والدر الْمكنون.
وَذَلِكَ بمساعي أَمِين دولته، وشاكر نعْمَته، الشهم الْهمام، الَّذِي ذاعت مآثره بَين الْأَنَام، وسرت محامده فِي الْآفَاق: حُسَيْن حسني بك نَاظر مطبعة بولاق، وهمة ذِي الْعَزْم المتين، وَالْفضل المكين، الراقي فِي معارج الْكَمَال إِلَى الأوج، الْعلم الْفَرد الَّذِي يفضل كل فَوْج، من إِذا ادلهم عَلَيْك أَمر يرشدك بصائب فكره ويهديك: حَضْرَة حُسَيْن أَفَنْدِي على الديك، فَإِنَّهُ حفظه الله شمر عَن ساعد الْجد حَتَّى احْتمل عبء هَذَا الْكتاب وبذل فِي تَحْصِيله نَفِيس مَاله، رَغْبَة فِي عُمُوم نَفعه، واغتناما لجميل الثَّنَاء وجزيل الثَّوَاب.
فدونك كتابا علا بقدمه على هام السها، وغازل أَفْئِدَة البلغاء مغازلة ندمان الصفاء عُيُون المها، ورد علينا أنموذجه، فَإِذا هُوَ يَتِيم اللُّؤْلُؤ منضد فِي سموط النضار، يروق نظيمه الْأَلْبَاب ويبهج نثيره الأنظار، بلغ، من حسن الطَّبْع وجماله، مَا شهرته ورؤيته تغنيك عَن الإطراء.
وَمن جيد الصِّحَّة مَا قَامَ بِهِ الجم الْغَفِير من جهابذة النجباء، جمعُوا لَهُ، على مَا بلغنَا، شوارد النّسخ الْمُعْتَبرَة والمحتاج إِلَيْهِ من الْموَاد، وعثروا، أثْنَاء ذَلِك، على نُسْخَة منسوبة للمؤلف، فبلغوا من مقصودهم المُرَاد.
وجلبوا غير ذَلِك، من خَزَائِن الْمُلُوك وَمن كل فج، وأنجدوا فِي تَصْحِيح فرائده، وأتهموا وانتجعوا، فِي تطبيق شواهده، كل منتجع، وتيمموا حَتَّى بلغُوا أقاصي الشَّام وَالْعراق وَوَج.
أعانهم الله على صنيعهم حَتَّى يصل إِلَى حد الْكَمَال، وَأتم لَهُم نسيجهم على أحكم منوال، وجزى الله حَضْرَة نَاظر هم أحسن الْجَزَاء، وشكره على حسن مساعيه وحباه جميل الحباء، فَإِن هَذِه نعْمَة كبرى على جَمِيع الْمُسلمين، يجب أَن يقابلوها بالشكر وَالدُّعَاء على ممر السنين، كلما تلوا: إِن الله يحب الْمُحْسِنِينَ، وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيد الْمُرْسلين.
فِي ١٧ رَجَب الْمُعظم سنة ١٣٠٠
كتبه الْفَقِير إِلَى ربه الْوَاهِب
أحْمَد فَارس صَاحب الجوائب
1 / 6
مُقدِّمَةُ الْمُؤَلِّفِ
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
قَالَ عبد الله مُحَمَّد بن المكرم بن أبي الْحسن بن أَحْمد الْأنْصَارِيّ الخزرجي، عَفا الله عَنهُ بكرمه: الْحَمد لله رب الْعَالمين، تبركا بِفَاتِحَة الْكتاب الْعَزِيز، واستغراقا لأجناس الْحَمد بِهَذَا الْكَلَام الْوَجِيز، إِذْ كل مُجْتَهد فِي حَمده، مقصر عَن هَذِه الْمُبَالغَة، وَإِن تَعَالَى؛ وَلَو كَانَ للحمد لفظ أبلغ من هَذَا لحمد بِهِ نَفسه، تقدّس وَتَعَالَى، نحمده على نعمه الَّتِي يواليها فِي كل وَقت ويجدّدها، وَلها الْأَوْلَوِيَّة بِأَن يُقَال فِيهَا نعدّ مِنْهَا وَلَا نعدّدها؛ وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد المشرَّف بالشفاعة، الْمَخْصُوص بِبَقَاء شَرِيعَته إِلَى يَوْم السَّاعَة، وعَلى آله الْأَطْهَار، وَأَصْحَابه الْأَبْرَار، وأتباعهم الأخيار، صَلَاة بَاقِيَة بَقَاء اللَّيْل وَالنَّهَار.
أما بعد فَإِن الله سُبْحَانَهُ قد كرَّم الْإِنْسَان وفضله بالنطق على سَائِر الْحَيَوَان، وشرَّف هَذَا اللِّسَان العربيَّ بِالْبَيَانِ على كل لِسَان، وَكَفاهُ شرفا أَنه بِهِ نزل الْقُرْآن، وَأَنه لُغَة أهل الْجنان. رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس ﵁
مَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ "أَحبُّوا الْعَرَب لثلاث: لِأَنِّي عربيّ، وَالْقُرْآن عربيّ، وَكَلَام أهل الْجنَّة عربيّ"
وَإِنِّي لم أزل مشغوفا بمطالعات كتب اللُّغَات والاطلاع على تصانيفها، وَعلل تصاريفها؛ وَرَأَيْت علماءها بَين رجلَيْنِ: أما من أحسن جمعه فَإِنَّهُ لم يحسن وَضعه، وَأما من أَجَاد وَضعه فَإِنَّهُ لم يُجد جمعه، فَلم يُفد حسنُ الْجمع مَعَ إساءة الْوَضع، وَلَا نَفَعت إجادةُ الْوَضع مَعَ رداءة الْجمع. وَلم أجد فِي كتب اللُّغَة أجمل من تَهْذِيب اللُّغَة لأبي مَنْصُور مُحَمَّد بن أَحْمد الْأَزْهَرِي، وَلَا أكمل من الْمُحكم لأبي الْحسن عَليّ بن إِسْمَاعِيل بن سَيّده الأندلسي، رحمهمَا الله، وهما من أمّهات كتب اللُّغَة على التَّحْقِيق، وَمَا عداهما بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا ثنيَّات للطريق. غير أَن كُلًّا مِنْهُمَا مطلب عسر المهلك، ومنهل وعر المسلك، وكأنَّ وَاضعه شرع للنَّاس موردا عذبا وجلاهم عَنهُ، وارتاد لَهُم مرعًى مربعًا ومنعهم مِنْهُ؛ قد أخّر وقدّم، وَقصد أَن يُعرب فأعجم. فرّق الذِّهْن بَين الثنائي والمضاعف والمقلوب وبدّد الْفِكر باللفيف والمعتل والرباعي والخماسي فَضَاعَ الْمَطْلُوب، فأهمل النَّاس أَمرهمَا، وَانْصَرفُوا عَنْهُمَا، وكادت الْبِلَاد لعدم الإقبال عَلَيْهِمَا أَن تَخْلُو مِنْهُمَا. وَلَيْسَ لذَلِك سَبَب إِلَّا سوء التَّرْتِيب، وتخليط التَّفْصِيل والتبويب. وَرَأَيْت أَبَا نصر إِسْمَاعِيل بن حَمَّاد الْجَوْهَرِي قد أحسن تَرْتِيب مُخْتَصره، وشهره، بسهولة وَضعه، شهرة أبي دُلف بَين باديه ومحتضره، فخف على النَّاس أمره فتناولوه، وَقرب عَلَيْهِم مأخذه فتداولوه وتناقلوه، غير أَنه فِي جو اللُّغَة كالذرّة، وَفِي بحرها كالقطرة، وَإِن كَانَ فِي نحرها كالدرّة؛ وَهُوَ مَعَ ذَلِك قد صحّف وحرّف، وجزف فِيمَا صرّف، فأُتيح لَهُ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بن بري فتتبع مَا فِيهِ، وأملى عَلَيْهِ أَمَالِيهِ، مخرِّجًا لسقطاته، مؤرِّخًا لغلطاته؛ فاستخرت الله ﷾ فِي جمع هَذَا الْكتاب الْمُبَارك، الَّذِي لَا يُساهَم فِي سَعَة فَضله وَلَا يُشارَك، وَلم أخرج فِيهِ عَمَّا فِي هَذِه الْأُصُول، ورتبته تَرْتِيب [الصِّحَاح] فِي الْأَبْوَاب والفصول؛ وقصدت توشيحه
1 / 7
بجليل الْأَخْبَار، وَجَمِيل الْآثَار، مُضَافا إِلَى مَا فِيهِ من آيَات الْقُرْآن الْكَرِيم، وَالْكَلَام على معجزات الذّكر الْحَكِيم، ليتحلى بترصيع (١) دررها عقده، وَيكون على مدَار الْآيَات وَالْأَخْبَار والْآثَار والأمثال والأشعار حلّه وعقده؛ فَرَأَيْت أَبَا السعادات الْمُبَارك بن مُحَمَّد بن الْأَثِير الْجَزرِي قد جَاءَ فِي ذَلِك بالنهاية، وَجَاوَزَ فِي الْجَوْدَة حد الْغَايَة، غير أَنه لم يضع الْكَلِمَات فِي محلهَا، وَلَا رَاعى زَائِد حروفها من أَصْلهَا، فَوضعت كُلًّا مِنْهَا فِي مَكَانَهُ، وأظهرته مَعَ برهانه؛ فجَاء هَذَا الْكتاب بِحَمْد الله وَاضح الْمنْهَج سهل السلوك، آمنا بمنة الله من أَن يصبح مثل غَيره وَهُوَ مطروح مَتْرُوك. عظُم نفعُه بِمَ اشْتَمَل من الْعُلُوم عَلَيْهِ، وغني بِمَا فِيهِ عَن غَيره وافتقر غيرُه إِلَيْهِ، وَجمع من اللُّغَات والشواهد والأدلة، مَا لم يجمع مثلُه مثلَه؛ لِأَن كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ الْعلمَاء انْفَرد بِرِوَايَة رَوَاهَا، وبكلمة سَمعهَا من الْعَرَب شفاهًا، وَلم يَأْتِ فِي كِتَابه بِكُل مَا فِي كتاب أَخِيه، وَلَا أَقُول تعاظم عَن نقل مَا نَقله بل أَقُول اسْتغنى بِمَا فِيهِ؛ فَصَارَت الْفَوَائِد فِي كتبهمْ مفرقة، وسارت أنجم الْفَضَائِل فِي أفلاكها هَذِه مغرّبة وَهَذِه مشرّقة؛ فَجمعت مِنْهَا فِي هَذَا الْكتاب مَا تفرّق، وقرنت بَين مَا غرّب مِنْهَا وَبَين مَا شرّق، فانتظم شَمل تِلْكَ الْأُصُول كلهَا فِي هَذَا الْمَجْمُوع، وَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَة الأَصْل وَأُولَئِكَ بِمَنْزِلَة الْفُرُوع، فجَاء بِحَمْد الله وفْق البُغية وَفَوق المُنية، بديع الإتقان، صَحِيح الْأَركان، سليما من لَفْظَة لَو كَانَ. حللت بِوَضْعِهِ ذرْوَة الْحفاظ، وحللت بجمعه عقدَة الْأَلْفَاظ، وَأَنا مَعَ ذَلِك لَا أدّعي فِيهِ دَعْوَى فَأَقُول شافهتُ أَو سمعتُ، أَو فعلتُ أَو صنعتُ، أَو شددتُ أَو رحلتُ، أَو نقلتُ عَن الْعَرَب العَرْباء أَو حملتُ؛ فَكل هَذِه الدَّعَاوَى لم يتْرك فِيهَا الْأَزْهَرِي وَابْن سَيّده لقائلٍ مقَالا، وَلم يُخليا فِيهِ لأحدٍ مجالا، فَإِنَّهُمَا عيَّنا فِي كِتَابَيْهِمَا عَمَّن رويا، وبرهنا عَمَّا حويا، ونشرا فِي خطيهما مَا طويا. ولعمري لقد جمعا فأوعيا، وَأَتيا بالمقاصد ووفيا.
وَلَيْسَ لي فِي هَذَا الْكتاب فَضِيلَة أمتُّ بهَا، وَلَا وَسِيلَة أتمسك بِسَبَبِهَا، سوى أَنِّي جمعت فِيهِ مَا تفرَّق فِي تِلْكَ الْكتب من الْعُلُوم، وَبسطت القَوْل فِيهِ وَلم أشْبع باليسير، وطالِبُ الْعلم منهوم. فَمن وقف فِيهِ على صَوَاب أَو زلل، أَو صِحَة أَو خلل، فعهدته على المصنِّف الأوّل، وحمده وذمه لأصله الَّذِي عَلَيْهِ الْمعول. لأنني نقلت من كل أصل مضمونه، وَلم أبدل مِنْهُ شَيْئا،
فَيُقَال فَإِنَّمَا إثمه على الَّذين يبدلونه بل أديتُ الْأَمَانَة فِي نقل الْأُصُول بالفص، وَمَا تصرفت فِيهِ بِكَلَام غير مَا فِيهَا من النَّص؛ فليعتدّ منْ ينْقل عَن كتابي هَذَا أَنه ينْقل عَن هَذِه الْأُصُول الْخَمْسَة، ولْيَغْنَ عَن الاهتداء بنجومها فقد غَابَتْ لما أطلعتُ شمسَه.
والناقل عَنهُ يمد بَاعه وَيُطلق لِسَانه، ويتنوع فِي نَقله عَنهُ لِأَنَّهُ ينْقل عَن خزانَة. وَالله تَعَالَى يشْكر مَا لَهُ بإلهام جمعه من منَّة، وَيجْعَل بَينه وَبَين محرِّفي كَلِمِه عَن موَاضعه واقيةً وجُنَّةً. وَهُوَ المسؤول أَن يعاملني فِيهِ بِالنِّيَّةِ الَّتِي جمعتُه لأَجلهَا، فإنني لم أقصد سوى حفظ أصُول هَذِه اللُّغَة النَّبَوِيَّة وَضبط فَضلهَا، إِذْ عَلَيْهَا مدَار أَحْكَام الْكتاب الْعَزِيز وَالسّنة النَّبَوِيَّة؛ وَلِأَن العالِمَ بغوامضها يعلم مَا توَافق فِيهِ النيةُ اللسانَ، (٢) وَيُخَالف فِيهِ اللسانُ النيةَ، وَذَلِكَ لِما رأيتُه قد غلب، فِي هَذَا الأوان، من اخْتِلَاف الْأَلْسِنَة والألوان، حَتَّى لقد أصبح اللّحن فِي الْكَلَام يعد لحنًا مردودًا، وَصَارَ النطقُ بِالْعَرَبِيَّةِ من المعايب معدودًا. وتنافس الناسُ فِي نصانيف الترجمانات فِي اللُّغَة الأعجمية، وتفاصحوا فِي غير اللُّغَة الْعَرَبيَّة، فَجمعت هَذَا الْكتاب فِي زمنٍ أهلُهُ بِغَيْر لغته يفخرون، وصنعته كَمَا صنع نوحٌ الفلكَ وقومُه مِنْهُ يسخرون، وسميته [لسانَ الْعَرَب]
،
_________
(١) نُسْخَة بتوشيح.
(٢) نُسْخَة بِالْعَرَبِيَّةِ.
(*)
1 / 8
وَأَرْجُو من كرم الله تَعَالَى أَن يرفع قدر هَذَا الْكتاب وينفعَ بِعُلُومِهِ الزاخرة، ويصلَ النَّفْع بِهِ بتناقل الْعلمَاء لَهُ فِي الدُّنْيَا وبنطق أهل الْجنَّة بِهِ فِي الْآخِرَة؛ وَأَن يكون من الثَّلَاث الَّتِي يَنْقَطِع عمل ابْن آدم إِذا مَاتَ إِلَّا مِنْهَا؛ وَأَن أنال بِهِ الدَّرَجَات بعد الْوَفَاة بانتفاع كل من عمل بِعُلُومِهِ أَو نقل عَنْهَا؛ وَأَن يَجْعَل تأليفه خَالِصا لوجهه الْجَلِيل، وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل.
قَالَ عبد الله مُحَمَّد بن المكرّم: شرطنا فِي هَذَا الْكتاب الْمُبَارك أَن نرتبه كَمَا رتب الْجَوْهَرِي صحاحَه، وَقد قمنا، والْمنَّة لله، بِمَا شرطناه فِيهِ. إِلَّا أَن الْأَزْهَرِي ذكر، فِي أَوَاخِر كِتَابه، فصلا جمع فِيهِ تفسيرَ الْحُرُوف المقطَّعة، الَّتِي وَردت فِي أَوَائِل سور الْقُرْآن الْعَزِيز، لِأَنَّهَا ينْطق بهَا مفرّقة غير مؤلّفة وَلَا منتظمة، فتَرِد كل كلمة فِي بَابهَا، فَجعل لَهَا بَابا بمفردها؛ وَقد استخرتُ اللهَ تَعَالَى وقدمتها فِي صدر كتابي لفائدتين: أهمهما مقدَّمُهما، وَهُوَ التَّبَرُّك بتفسير كَلَام الله تَعَالَى الْخَاص بِهِ، الَّذِي لم يُشَارِكهُ أحد فِيهِ إِلَّا من تبرك بالنطق بِهِ فِي تِلَاوَته، وَلَا يعلم مَعْنَاهُ إِلَّا هُوَ، فاخترت الِابْتِدَاء بِهِ لهَذِهِ الْبركَة، قبل الْخَوْض فِي كَلَام النَّاس؛ وَالثَّانيَِة أَنَّهَا إِذا كَانَت فِي أول الْكتاب كَانَت أقرب إِلَى كل مُطالع من آخِره، لِأَن الْعَادة أَن يُطالع أول الْكتاب ليكشف مِنْهُ ترتيبه وغرض مُصَنفه، وَقد لَا يتهيأ للمُطالع أَن يكْشف آخِره، لِأَنَّهُ إِذا اطلع من خطبَته أَنه على تَرْتِيب الصِّحَاح أيِس أَن يكون فِي آخِره شَيْء من ذَلِك، فَلهَذَا قدَّمتُه فِي أوّل الْكتاب.
1 / 9
بَاب تَفْسِير الْحُرُوف الْمُقطعَة
روى ابْن عَبَّاس ﵄ فِي الْحُرُوف الْمُقطعَة، مثل ألم ألمص المر وَغَيرهَا، ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا أَن قَول الله عزوجل: ألم أقسم بِهَذِهِ الْحُرُوف ان هَذَا الْكتاب، الَّذِي أنزل على مُحَمَّد ﷺ، هَذَا الْكتاب الَّذِي من عِنْد الله عزوجل لَا شكّ فِيهِ، قَالَ هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى: ألم ذَلِك الْكتاب لَا ريب فِيهِ، وَالْقَوْل الثَّانِي عَنهُ: إِن الرَّحِم ن اسْم الرَّحْمَن مقطع فِي اللَّفْظ، مَوْصُول فِي الْمَعْنى، وَالْقَوْل الثَّالِث عَنهُ إِنَّه قَالَ: الم ذَلِك الْكتاب، قَالَ: ألم مَعْنَاهُ أَنا الله أعلم وارى.
وروى عِكْرِمَة فِي قَوْله: الم ذَلِك الْكتاب قَالَ: الم قسم، وروى عَن السّديّ قَالَ: بَلغنِي عَن ابْن عَبَّاس انه قَالَ: ألم اسْم من أَسمَاء الله وَهُوَ الِاسْم الاعظم، وروى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: ألر والم وحم حُرُوف معرفَة ١ أَي بنيت معرفَة، قَالَ أبي فَحدثت بِهِ الاعمش فَقَالَ: عنْدك مثل هَذَا وَلَا تحدثنا بِهِ! وَرُوِيَ عَن قَتَادَة قَالَ: الم اسْم من اسماء الْقُرْآن، وَكَذَلِكَ حم وَيس، وَجَمِيع مَا فِي الْقُرْآن من حُرُوف الهجاء فِي أَوَائِل السُّور.
وَسُئِلَ عَامر عَن فواتح الْقُرْآن، نَحْو حم وَنَحْو ص والم والر.
قَالَ: هِيَ اسْم من أَسمَاء الله مقطعَة بالهجاء، إِذا وصلتها كَانَت اسْما من اسماء الله.
ثمَّ قَالَ عَامر، الرَّحْمَن ٢.
قَالَ: هَذِه فَاتِحَة ثَلَاث سور، إِذا جمعتهن كَانَت اسْما من اسماء الله تَعَالَى.
وروى أَبُو بكر بن أبي مَرْيَم عَن ضَمرَة بن حبيب وَحَكِيم بن عُمَيْر وَرَاشِد بن سعد ٣ قَالُوا: المر والمص والم واشباه ذَلِك، وَهِي ثَلَاثَة عشر حرفا، ان فِيهَا اسْم الله الاعظم.
وَرُوِيَ عَن ابي الْعَالِيَة فِي قَوْله: الم قَالَ: هَذِه الاحرف الثَّلَاثَة من التِّسْعَة وَالْعِشْرين حرفا لَيْسَ فِيهَا حرف إِلَّا وَهُوَ مِفْتَاح اسْم من اسماء الله، وَلَيْسَ فِيهَا حرف إِلَّا وَهُوَ فِي الآئه وبلائه، وَلَيْسَ فِيهَا حرف إِلَّا وَهُوَ فِي مُدَّة قوم وآجالهم.
قَالَ وَقَالَ عِيسَى بن عمر: أعجب انهم ينطقون باسمائه ويعيشون فِي رزقه كَيفَ يفكرون بِهِ: فالالف مِفْتَاح اسْمه الله، وَلَام مِفْتَاح اسْمه لطيف، وَمِيم مِفْتَاح اسْمه مجيد.
فالالف آلَاء الله، وَاللَّام لطف الله، وَالْمِيم مجد الله، والالف وَاحِد، وَاللَّام ثَلَاثُونَ، وَالْمِيم اربعون.
وَرُوِيَ عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ قَالَ: الم آيَة، وحم آيَة.
وَرُوِيَ عَن أبي عُبَيْدَة أَنه قَالَ: هَذِه الْحُرُوف الْمُقطعَة حُرُوف الهجاء، وَهِي افْتِتَاح كَلَام وَنَحْو ذَلِك.
قَالَ الاخفش: وَدَلِيل ذَلِك أَن الْكَلَام الَّذِي ذكر قبل السُّورَة قد تمّ.
_________
(١) قَوْله " حُرُوف معرفَة الخ " كَذَا بالاصول الَّتِي بايدينا وَلَعَلَّ الاولى مفرقة.
(٢) الرَّحْمَن " قَالَ هَذِه الخ " كَذَا بالنسخ الَّتِي بايدينا وَالْمُنَاسِب لما بعده ان تكْتب مفرقة هَكَذَا الر حم ن قَالَ هَذِه فَاتِحَة ثَلَاث الخ.
(٣) قَوْله " وَرَاشِد بن سعد " فِي نُسْخَة ورائد بن سعد.
(*)
1 / 10
وروى سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: فِي كهيعص هُوَ كَاف، هاد، يَمِين، عَزِيز، صَادِق، جعل اسْم الْيَمين مشتقا من الْيمن، وسنوسع القَوْل فِي ذَلِك فِي تَرْجَمَة يمن ان شَاءَ الله تَعَالَى.
وَزعم قطرب أَن الر والمص والم وكهيعص وص وق وَيس ون، حُرُوف المعجم لتدل أَن هَذَا الْقُرْآن مؤلف من هَذِه الْحُرُوف الْمُقطعَة الَّتِي هِيَ: حُرُوف اب ت ث، فجَاء بَعْضهَا مقطعا، وَجَاء تَمامهَا مؤلفا ليدل الْقَوْم، الَّذين نزل عَلَيْهِم الْقُرْآن، أَنه بحروفهم الَّتِي يعقلونها لَا ريب فِيهِ.
قَالَ، ولقطرب وَجه آخر فِي الم: زعم أَنه يجوز أَن يكون لما لَغَا الْقَوْم فِي الْقُرْآن فَلم يتفهموه حِين قَالُوا: " لَا تسمعوا لهَذَا الْقُرْآن والغوا فِيهِ " أنزل عَلَيْهِم ذكر هَذِه الْحُرُوف لانهم لم يعتادوا الْخطاب بتقطيع الْحُرُوف، فَسَكَتُوا لما سمعُوا الْحُرُوف طَمَعا فِي الظفر بِمَا يحبونَ، ليفهموا، بعد الْحُرُوف، الْقُرْآن وَمَا فِيهِ، فَتكون الْحجَّة عَلَيْهِم أثبت، إِذا جَحَدُوا بعد تفهم وَتعلم.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَق الزّجاج: الْمُخْتَار من هَذِه الاقاويل مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَهُوَ: أَن معنى الم أَنا الله أعلم، وان كل حرف مِنْهَا لَهُ تَفْسِير.
قَالَ: وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن الْعَرَب تنطق بالحرف الْوَاحِد تدل بِهِ على الْكَلِمَة الَّتِي هُوَ مِنْهَا، وانشد: قلت لَهَا قفي فَقَالَت ق فَنَطَقَ بقاف فَقَط تُرِيدُ أَقف.
وانشد أَيْضا: ناديتهم أَن ألجموا أَلا تا! قَالُوا، جَمِيعًا، كلهم: أَلا فا! قَالَ تَفْسِيره: نادوهم أَن الجموا أَلا تَرْكَبُونَ؟ قَالُوا جَمِيعًا: أَلا فاركبوا، فانما نطق بتاء وَفَاء كَمَا نطق الاول بقاف.
وَقَالَ: وَهَذَا الَّذِي اختاروه فِي معنى هَذِه الْحُرُوف، وَالله أعلم بحقيقتها.
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: لله عزوجل، فِي كل كتاب، سر، وسره، فِي الْقُرْآن، حُرُوف الهجاء الْمَذْكُورَة فِي أَوَائِل السُّور.
واجمع النحويون: أَن حُرُوف التهجي، وَهِي الالف وَالْبَاء وَالتَّاء والثاء وَسَائِر مَا فِي الْقُرْآن مِنْهَا، انها مَبْنِيَّة على الْوَقْف، وانها لَا تعرب.
وَمعنى الْوَقْف أَنَّك تقدر أَن تسكت على كل حرف مِنْهَا، فالنطق بهَا: الم.
وَالدَّلِيل على أَن حُرُوف الهجاء مَبْنِيَّة على السكت، كَمَا بني الْعدَد على السكت، أَنَّك تَقول فِيهَا بِالْوُقُوفِ ١، مَعَ الْجمع، بَين ساكنين، كَمَا تَقول، إِذا عددت وَاحِد اثْنَان ثَلَاثَة اربعة، فتقطع ألف اثْنَيْنِ، والف اثْنَيْنِ ألف وصل، وتذكر الْهَاء فِي ثَلَاثَة واربعة، وَلَوْلَا أَنَّك تقدر السكت لَقلت ثَلَاثَة، كَمَا تَقول ثَلَاثَة يَا هَذَا، وحقها من الاعراب أَن تكون سواكن الاواخر.
وَشرح هَذِه الْحُرُوف وتفسيرها: ان هَذِه الْحُرُوف لَيست تجْرِي مجْرى الاسماء المتمكنة والافعال المضارعة الَّتِي يجب لَهَا الاعراب، فانما هِيَ تقطيع الِاسْم الْمُؤلف الَّذِي لَا يجب الاعراب إِلَّا مَعَ كَمَاله، فقولك جَعْفَر لَا يجب أَن تعرب مِنْهُ الْجِيم وَلَا الْعين وَلَا الْفَاء وَلَا الرَّاء دون تَكْمِيل الِاسْم، وانما هِيَ حكايات
_________
(١) فِي نُسْخَة بِالْوَقْفِ.
(*)
1 / 11
وضعت على هَذِه الْحُرُوف، فان أجريتها مجْرى الاسماء وَحدثت عَنْهَا قلت: هَذِه كَاف حَسَنَة، وَهَذَا كَاف حسن، وَكَذَلِكَ سَائِر حُرُوف المعجم، فَمن قَالَ: هَذِه كَاف أنث بِمَعْنى الْكَلِمَة، وَمن ذكر فلمعنى الْحَرْف، والاعراب وَقع فِيهَا لانك تخرجها من بَاب الْحِكَايَة.
قَالَ الشَّاعِر: كافا وميمين وسينا طاسما وَقَالَ آخر: كَمَا بيّنت كَاف تلوح وميمها ١ فَذكر طاسما لانه جعله صفة للسين، وَجعل السِّين فِي معنى الْحَرْف، وَقَالَ كَاف تلوح فانث الْكَاف لانه ذهب بهَا إِلَى الْكَلِمَة.
وَإِذا عطفت هَذِه الْحُرُوف بَعْضهَا على بعض أعربتها فَقلت: ألف وباء وتاء وثاء إِلَى آخرهَا وَالله أعلم.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم: قَالَت الْعَامَّة فِي جمع حم وطس طواسين وحواميم.
قَالَ: وَالصَّوَاب ذَوَات طس وَذَوَات حم وَذَوَات الم.
وَقَوله تَعَالَى يس كَقَوْلِه عزوجل الم وحم واوائل السُّور.
وَقَالَ عِكْرِمَة مَعْنَاهُ يَا إِنْسَان، لانه قَالَ: إِنَّك لمن الْمُرْسلين.
وَقَالَ ابْن سَيّده: الالف والاليف حرف هجاء.
وَقَالَ الاخفش هِيَ من حُرُوف المعجم مُؤَنّثَة وَكَذَلِكَ سَائِر الْحُرُوف.
وَقَالَ: وَهَذَا كَلَام الْعَرَب، وَإِذا ذكرت جَازَ.
وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: حُرُوف المعجم كلهَا تذكر وتؤنث كَمَا أَن الانسان يذكر وَيُؤَنث.
قَالَ: وَقَوله عزوجل الم والمص والمر.
قَالَ الزّجاج: الذى اخترنا فِي تَفْسِيرهَا قَول ابْن عَبَّاس: ان ألم أَنا الله أعلم، والمص أَنا الله اعْلَم وافصل، والمر أَنا الله أعلم وارى.
قَالَ بعض النَّحْوِيين: مَوضِع هَذِه الْحُرُوف رفع بِمَا بعْدهَا أَو مَا بعْدهَا رفع بهَا.
قَالَ: المص كتاب، فكتاب مُرْتَفع بالمص، وَكَانَ مَعْنَاهُ المص حُرُوف كتاب أنزل إِلَيْك.
قَالَ: وَهَذَا لَو كَانَ كَمَا وصف لَكَانَ بعد هَذِه الْحُرُوف أبدا ذكر الْكتاب، فَقَوله: الم الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم، يدل على أَن الم رَافع لَهَا على قَوْله، وَكَذَلِكَ يس وَالْقُرْآن الْحَكِيم، وَكَذَلِكَ حم عسق، كَذَلِك يوحي إِلَيْك، وَقَوله حم وَالْكتاب الْمُبين انا انزلناه، فَهَذِهِ الاشياء تدل على أَن الامر على غير مَا ذكر.
قَالَ وَلَو كَانَ كَذَلِك أَيْضا لما كَانَ الم وحم مكررين.
قَالَ وَقد اجْمَعْ النحويون على أَن قَوْله الاشياء تدل على أَن الامر على غير مَا ذكر.
قَالَ وَلَو كَانَ كَذَلِك أَيْضا لما كَانَ الم وحم مكررين.
قَالَ وَقد اجْمَعْ النحويون على أَن قَوْله عزوجل كتاب أنزل إِلَيْك مَرْفُوع بِغَيْر هَذِه الْحُرُوف، فَالْمَعْنى هَذَا كتاب أنزل إِلَيْك.
وَذكر الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ الْحَرَّانِي شَيْئا فِي خَواص الْحُرُوف الْمنزلَة أَوَائِل السُّور وسنذكره فِي الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا فِي ألقاب الْحُرُوف.
_________
(١) قَوْله " كَمَا بيّنت الخ " فِي نُسْخَة كَمَا بنيت.
(*)
1 / 12
بَاب ألقاب الْحُرُوف وطبائعها وخواصها
قَالَ عبد الله مُحَمَّد بن المكرم: هَذَا الْبَاب أَيْضا لَيْسَ من شرطنا لكني اخْتَرْت ذكر الْيَسِير مِنْهُ، وَإِنِّي لَا أضْرب صفحا عَنهُ ليظفر طَالبه مِنْهُ بِمَا يُرِيد وينال الافادة مِنْهُ من يَسْتَفِيد، وليعلم كل طَالب أَن وَرَاء مطلبه أخر، وَأَن لله تَعَالَى فِي كل شئ سرا لَهُ فعل واثر.
وَلم أوسع القَوْل فِيهِ خوفًا من انتقاد من لَا يدريه.
ذكر ابْن كيسَان فِي ألقاب الْحُرُوف: أَن مِنْهَا المجهور والمهموس، وَمعنى المجهور مِنْهَا أَنه لزم مَوْضِعه إِلَى انْقِضَاء حُرُوفه، وَحبس النَّفس أَن يجْرِي مَعَه، فَصَارَ مجهورا لانه لم يخالطه شئ يُغَيِّرهُ، وَهُوَ تِسْعَة عشر حرفا: الالف وَالْعين والغين وَالْقَاف وَالْجِيم وَالْبَاء وَالضَّاد وَاللَّام وَالنُّون وَالرَّاء والطاء وَالدَّال وَالزَّاي والظاء والذال وَالْمِيم وَالْوَاو والهمزة وَالْيَاء، وَمعنى المهموس مِنْهَا أَنه حرف لَان مخرجه دون المجهور، وَجرى مَعَه النَّفس، وَكَانَ دون المجهور فِي رفع الصَّوْت، وَهُوَ عشرَة أحرف: الْهَاء والحاء وَالْخَاء وَالْكَاف والشين وَالسِّين وَالتَّاء وَالصَّاد والثاء وَالْفَاء، وَقد يكون المجهور شَدِيدا، وَيكون رخوا، والمهموس كَذَلِك.
وَقَالَ الْخَلِيل بن أَحْمد: حُرُوف الْعَرَبيَّة تِسْعَة وَعِشْرُونَ حرفا مِنْهَا خَمْسَة وَعِشْرُونَ حرفا صِحَاح، لَهَا أحياز ومدارج، واربعة أحرف جَوف: الْوَاو وَالْيَاء والالف اللينة والهمزة، وَسميت جوفا لانها تخرج من الْجوف، فَلَا تخرج فِي مدرجة من مدارج الْحلق، وَلَا مدارج اللهاة، وَلَا مدارج اللِّسَان، وَهِي فِي الْهَوَاء، فَلَيْسَ لَهَا حيّز تنْسب إِلَيْهِ إِلَّا الْجوف.
وَكَانَ يَقُول: الالف اللينة وَالْوَاو وَالْيَاء هوائية أَي أَنَّهَا فِي الْهَوَاء.
واقصى الْحُرُوف كلهَا الْعين، وارفع مِنْهَا الْحَاء، وَلَوْلَا بحة فِي الْحَاء لاشبهت الْعين لقرب مخرجها مِنْهَا، ثمَّ الْهَاء، وَلَوْلَا هتة فِي الْهَاء، وَقَالَ مرّة أُخْرَى ههة فِي الْهَاء، لاشبهت الْحَاء لقرب مخرجها مِنْهَا، فَهَذِهِ الثَّلَاثَة فِي حيّز وَاحِد، ولهذه الْحُرُوف ألقاب أخر، الحلقية: الْعين وَالْهَاء والحاء وَالْخَاء والغين، اللهوية: الْقَاف وَالْكَاف، الشجرية: الْجِيم والشين وَالضَّاد، وَالشَّجر مفرج الْفَم، الاسلية: الصَّاد وَالسِّين وَالزَّاي، لَان مبداها من أسلة اللِّسَان وَهِي مستدق طرفه، النطعية: الطَّاء والذال وَالتَّاء، لَان مبداها من نطع الْغَار الاعلى، اللثوية: الظَّاء وَالدَّال والثاء، لَان مبداها من اللثة، الذلقية: الرَّاء وَاللَّام وَالنُّون، الشفوية: الْفَاء وَالْبَاء وَالْمِيم، وَقَالَ مرّة شفهية، الهوائية: الْوَاو والالف وَالْيَاء.
وَسَنذكر فِي صدر كل حرف أَيْضا شَيْئا مِمَّا يَخُصُّهُ.
واما تَرْتِيب كتاب الْعين وَغَيره، فقد قَالَ اللَّيْث بن المظفر: لما أَرَادَ الْخَلِيل بن أَحْمد الِابْتِدَاء فِي كتاب الْعين أعمل فكره فِيهِ، فَلم يُمكنهُ أَن يَبْتَدِئ فِي أول حُرُوف المعجم، لَان الالف حرف معتل، فَلَمَّا فَاتَهُ أول الْحُرُوف كره أَن يَجْعَل الثَّانِي أَولا، وَهُوَ الْبَاء، إِلَّا بِحجَّة وَبعد استقصاء، فدبر وَنظر إِلَى الْحُرُوف كلهَا وذاقها، فَوجدَ مخرج الْكَلَام كُله من الْحق، فصير أولاها، فِي الِابْتِدَاء، أدخلها فِي الْحلق.
وَكَانَ إِذا أَرَادَ أَن يَذُوق الْحَرْف فتح فَاه بالف ثمَّ أظهر الْحَرْف ثمَّ يَقُول: اب ات اث اج اع، فَوجدَ الْعين أقصاها فِي الْحلق، وادخلها، فَجعل أول الْكتاب الْعين، ثمَّ مَا قرب مخرجه مِنْهَا بعد الْعين الا رفع
1 / 13
فالارفع، حَتَّى أَتَى على آخر الْحُرُوف، فَقلب الْحُرُوف عَن موَاضعهَا، ووضعها على قدر مخرجها من الْحلق.
وَهَذَا تأليفه وترتيبه: الْعين والحاء وَالْهَاء وَالْخَاء والغين وَالْقَاف وَالْكَاف وَالْجِيم والشين وَالضَّاد وَالصَّاد وَالسِّين وَالزَّاي والطاء وَالدَّال وَالتَّاء والظاء والذال والثاء وَالرَّاء وَاللَّام وَالنُّون وَالْفَاء وَالْبَاء وَالْمِيم وَالْيَاء وَالْوَاو والالف.
وَهَذَا هُوَ تَرْتِيب الْمُحكم لِابْنِ سَيّده، إِلَّا انه خَالفه فِي الاخير، فرتب بعد الْمِيم الالف وَالْيَاء وَالْوَاو.
وَلَقَد انشدني شخص بِدِمَشْق المحروسة أبياتا، فِي تَرْتِيب الْمُحكم، هِيَ أَجود مَا قيل فِيهَا: عَلَيْك حروفا هن خير غوامض، * قيود كتاب، جلّ، شانا، ضوابطه صِرَاط سوي، زل طَالب دحضه، * تزيد ظهورا ذَا ثبات روابطه لذلكم نلتذ فوزا بمحكم، * مُصَنفه، أَيْضا، يفوز وضابطه وَقد انتقد هَذَا التَّرْتِيب على من رتبه.
وترتيب سِيبَوَيْهٍ على هَذِه الصُّورَة: الْهمزَة وَالْهَاء وَالْعين والحاء وَالْخَاء والغين وَالْقَاف وَالْكَاف وَالضَّاد وَالْجِيم والشين وَاللَّام وَالرَّاء وَالنُّون والطاء وَالدَّال وَالتَّاء وَالصَّاد وَالزَّاي وَالسِّين والظاء والذال والثاء وَالْفَاء وَالْبَاء وَالْمِيم وَالْيَاء والالف وَالْوَاو.
واما تقَارب بَعْضهَا من بعض وتباعدها، فان لَهَا سرا، فِي النُّطْق، يكشفه من تعناه، كَمَا انْكَشَفَ لنا سره فِي حل المترجمات، لشدَّة احتياجنا إِلَى معرفَة مَا يتقارب بعضه من بعض، ويتباعد بعضه من بعض، ويتركب بعضه مَعَ بعض، وَلَا يتركب بعضه مَعَ بعض، فان من الْحُرُوف مَا يتَكَرَّر وَيكثر فِي الْكَلَام اسْتِعْمَاله، وَهُوَ: ال م هـ وي ن، وَمِنْهَا مَا يكون تكراره دون ذَلِك، وَهُوَ: ر ع ف ت ب ك د س ق ح ج، وَمِنْهَا مَا يكون تكراره أقل من ذَلِك، وَهُوَ: ظ غ ط ز ث خَ ض ش ص ذ.
وَمن الْحُرُوف مَا لَا يَخْلُو مِنْهُ أَكثر الْكَلِمَات، حَتَّى قَالُوا: ان كل كلمة ثلاثية فَصَاعِدا لَا يكون فِيهَا حرف أَو حرفان مِنْهَا، فَلَيْسَتْ بعربية، وَهِي سِتَّة أحرف: د ب م ن ل ف، وَمِنْهَا مَا لَا يتركب بعضه مَعَ بعض، إِذا اجْتمع فِي كلمة، إِلَّا ان يقدم، وَلَا يجْتَمع، إِذا تَأَخّر، وَهُوَ: ع هـ، فان الْعين إِذا تقدّمت تركبت، وَإِذا تَأَخَّرت لَا تتركب، وَمِنْهَا مَا لَا يتركب، إِذا تقدم، ويتركب، إِذا تَأَخّر، وَهُوَ: ض ج، فان الضَّاد إِذا تقدّمت (١) تركبت، وَإِذا تَأَخَّرت لَا تتركب فِي أصل الْعَرَبيَّة، وَمِنْهَا مَالا يتركب بعضه مَعَ بعض لَا إِن تقدم وَلَا إِن تَأَخّر، وَهُوَ: س ث ض ز ظ ص، فَاعْلَم ذَلِك.
وَأما خواصها: فان لَهَا أعمالا عَظِيمَة تتَعَلَّق بابواب جليلة من أَنْوَاع المعالجات، وأوضاع الطلسمات، وَلها نفع شرِيف بطبائعها، وَلها خُصُوصِيَّة بالافلاك المقدسة وملائمة لَهَا، وَمَنَافع لَا يحصيها من يصفها، لَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكرهَا، لَكنا لَا بُد ان نلوح بشي من ذَلِك، ننبه على مِقْدَار نعم الله تَعَالَى على من كشف لَهُ سرها، وَعلمه علمهَا، وأباح لَهُ التَّصَرُّف بهَا.
وَهُوَ أَن مِنْهَا مَا هُوَ حَار يَابِس طبع النَّار، وَهُوَ: الالف وَالْهَاء والطاء وَالْمِيم وَالْفَاء والشين والذال، وَله خُصُوصِيَّة بِالْمُثَلثَةِ النارية، وَمِنْهَا مَا هُوَ بَارِد يَابِس طبع التُّرَاب، وَهُوَ: الْبَاء وَالْوَاو وَالْيَاء وَالنُّون وَالصَّاد وَالتَّاء وَالضَّاد، وَله خُصُوصِيَّة بِالْمُثَلثَةِ الترابية، وَمِنْهَا مَا هُوَ حَار رطب طبع الْهَوَاء، وَهُوَ: الْجِيم وَالزَّاي وَالْكَاف وَالسِّين وَالْقَاف والثاء والظاء، وَله
_________
قَوْله " فان الضَّاد إِذا تقدّمت الخ " الاولى فِي التَّفْرِيع ان يُقَال فان الْجِيم إِذا تقدّمت لَا تتركب وَإِذا تَأَخَّرت تتركب وَإِن كَانَ ذَلِك لَازِما لكَلَامه.
(*)
1 / 14
خُصُوصِيَّة بِالْمُثَلثَةِ الهوائيه، وَمِنْهَا مَا هُوَ بَارِد رطب طبع المَاء، وَهُوَ: الدَّال والحاء وَاللَّام وَالْعين وَالرَّاء وَالْخَاء والغين، وَله خُصُوصِيَّة بِالْمُثَلثَةِ المائية.
ولهذه الْحُرُوف فِي طبائعها مَرَاتِب ودرجات ودقائق وثوان وثوالث وروابع وخوامس يُوزن بهَا الْكَلَام، وَيعرف الْعَمَل بِهِ علماؤه، وَلَوْلَا خوف الاطالة، وانتقاد ذَوي الْجَهَالَة، وَبعد اكثر النَّاس عَن تَأمل دقائق صنع الله وحكمته، لذكرت هُنَا اسرارا من افعال الْكَوَاكِب المقدسة، إِذا مازجتها الْحُرُوف تخرق عقول من لَا اهْتَدَى إِلَيْهَا، وَلَا هجم بِهِ تنقيبه وبحثه عَلَيْهَا.
وَلَا انتقاد عَليّ فِي قَول ذَوي الْجَهَالَة، فان الزَّمَخْشَرِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى، قَالَ فِي تَفْسِير قَوْله عزوجل: وَجَعَلنَا السَّمَاء سقفا مَحْفُوظًا، وهم عَن آياتها معرضون، قَالَ: عَن آياتها اي عَمَّا وضع الله فِيهَا من الادلة والعبر، كَالشَّمْسِ وَالْقَمَر، وَسَائِر النيرات، ومسايرها وطلوعها وغروبها على الْحساب القويم، وَالتَّرْتِيب العجيب، الدَّال على الْحِكْمَة الْبَالِغَة وَالْقُدْرَة الباهرة.
قَالَ وَأي جهل أعظم من جهل من أعرض عَنْهَا، وَلم يذهب بِهِ وهمه الى تدبرها وَالِاعْتِبَار بهَا، وَالِاسْتِدْلَال على عَظمَة شان من اوجدها عَن عدم، ودبرها ونصبها هَذِه النصبة، واودعها مَا اودعها مِمَّا لَا يعرف كنهه الا هُوَ جلت قدرته، ولطف علمه.
هَذَا نَص كَلَام الزَّمَخْشَرِيّ ﵀.
وَذكر الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس احْمَد الْبونِي ﵀ قَالَ: منَازِل الْقَمَر ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ مِنْهَا اربعة عشر فَوق الارض، وَمِنْهَا اربعة عشر تَحت الارض.
قَالَ: وَكَذَلِكَ الْحُرُوف: مِنْهَا اربعة عشر مُهْملَة بِغَيْر نقط، واربعة عشر مُعْجمَة بنقط، فَمَا هُوَ مِنْهَا غير منقوط، فَهُوَ اشبه بمنازل السُّعُود، وَمَا هُوَ مِنْهَا منقوط، فَهُوَ منَازِل النحوس والممتزجات، وَمَا كَانَ مِنْهَا لَهُ نقطة وَاحِدَة، فَهُوَ اقْربْ الى السُّعُود، وَمَا هُوَ بنقطتين، فَهُوَ متوسط فِي النحوس، فَهُوَ الممتزج، وَمَا هُوَ بِثَلَاث نقط، فَهُوَ عَام النحوس.
هَكَذَا وجدته.
وَالَّذِي نرَاهُ فِي الْحُرُوف انها ثَلَاثَة عشر مُهْملَة وَخَمْسَة عشر مُعْجمَة، إِلَّا أَن يكون كَانَ لَهُم اصْطِلَاح فِي النقط تغير فِي وقتنا هَذَا.
واما الْمعَانِي المنتفع بهَا من قواها وطبائعها فقد ذكر الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ الْحَرَّانِي وَالشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس احْمَد الْبونِي والبعلبكي وَغَيرهم، ﵏، من ذَلِك مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ كتبهمْ من قواها وتاثيراتها، وَمِمَّا قيل فِيهَا أَن تتَّخذ الْحُرُوف الْيَابِسَة وَتجمع متواليا، فَتكون متقوية لما يُرَاد فِيهِ تَقْوِيَة الْحَيَاة الَّتِي تسميها الاطباء الغريزية، أَو لما يُرَاد دَفعه من آثَار الامراض الْبَارِدَة الرّطبَة، فيكتبها، أَو يرقي بهَا، أَو يسقيها لصَاحب الحمي البلغمية والمفلوج والملووق.
وَكَذَلِكَ الْحُرُوف الْبَارِدَة الرّطبَة، إِذا اسْتعْملت بعد تتبعها، وعولج بهَا، رقية أَو كِتَابَة أَو سقيا، من بِهِ حمى محرقة، أَو كتبت على ورم حَار، وخصوصا حرف الْحَاء لانها، فِي عالمها، عَالم صُورَة.
وَإِذا اقْتصر على حرف مِنْهَا كتب بعدده، فَيكْتب الْحَاء مثلا ثَمَانِي مَرَّات، وَكَذَلِكَ مَا تكتبه من الْمُفْردَات تكتبه بعدده.
وَقد شاهدنا نَحن ذَلِك فِي عصرنا، وراينا، من معلمي الْكِتَابَة وَغَيرهم، من يكْتب على خدود الصّبيان، إِذا تورمت، حُرُوف أبجد بكمالها، ويعتقد أَنَّهَا مفيدة، وَرُبمَا افادت، وَلَيْسَ الامر كَمَا اعْتقد، وَإِنَّمَا لما جهل اكثر النَّاس طبائع الْحُرُوف، وراوا مَا يكْتب مِنْهَا، ظنُّوا الْجَمِيع أَنه مُفِيد فكتبوها كلهَا.
1 / 15
وشاهدنا أَيْضا من يقلقه الصداع الشَّديد ويمنعه الْقُرْآن (١)، فَيكْتب لَهُ صُورَة لوح، وعَلى جوانبه تاءات ارْبَعْ، فَيبرأ بذلك من الصداع.
وَكَذَلِكَ الْحُرُوف الرّطبَة إِذا اسْتعْملت رقى، أَو كِتَابَة، أَو سقيا، قوت الْمِنَّة وادامت الصِّحَّة وقوت على الباه، وَإِذا كتبت للصَّغِير حسن نَبَاته، وَهِي اوتار الْحُرُوف كلهَا، وَكَذَلِكَ الْحُرُوف الْبَارِدَة الْيَابِسَة، إِذا عولج بهَا من نزف دم بسقي، أَو كِتَابَة، أَو بخور، وَنَحْو ذَلِك من الامراض.
وَقد ذكر الشَّيْخ محيي الدّين بن الْعَرَبِيّ، فِي كتبه، من ذَلِك، جملا كَثِيرَة.
وَقَالَ الشَّيْخ عَليّ الحرالي ﵀: إِن الْحُرُوف الْمنزلَة اوائل السُّور وعدتها، بعد اسقاط مكررها، اربعة عشر حرفا، وَهِي: الالف وَالْهَاء والحاء والطاء وَالْيَاء وَالْكَاف وَاللَّام وَالْمِيم وَالرَّاء وَالسِّين وَالْعين وَالصَّاد وَالْقَاف وَالنُّون، قَالَ: إِنَّهَا يقْتَصر بهَا على مداواة السمُوم، وتقاوم السمُوم باضدادها، فيسقى للدغ الْعَقْرَب حارها، وَمن نهشة الْحَيَّة باردها الرطب، أَو تكْتب لَهُ، وتجري المحاولة، فِي الامور، على نَحْو من الطبيعة فتسقى الْحُرُوف الحارة الرّطبَة للتفريح وإذهاب الْغم، وَكَذَلِكَ الحارة الْيَابِسَة لتقوية الْفِكر وَالْحِفْظ، والباردة الْيَابِسَة الثَّبَات وَالصَّبْر، والباردة الرّطبَة لتيسير الامور وتسهيل الْحَاجَات وَطلب الصفح وَالْعَفو.
وَقد صنف البعلبكي فِي خَواص الْحُرُوف كتابا مُفردا، وَوصف لكل حرف خاصية يَفْعَلهَا بِنَفسِهِ، وخا صية بمشاركة غَيره من الْحُرُوف على اوضاع مُعينَة فِي كِتَابه، وَجعل لَهَا نفعا بمفردها على الصُّورَة الْعَرَبيَّة، ونفعا بمفردها، إِذا كتبت على الصُّورَة الْهِنْدِيَّة، ونفعا بمشاركتهما فِي الْكِتَابَة، وَقد اشْتَمَل من الْعَجَائِب على مَا لَا يعلم مِقْدَاره الا من علم مَعْنَاهُ.
وَأما اعمالها فِي الطلسمات فان لله ﷾ فِيهَا سرا عجيبا، وصنعا جميلا، شاهدنا صِحَة اخبارها، وَجَمِيل آثارها.
وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع الاطالة بِذكر مَا جربناه مِنْهَا ورأيناه من التَّأْثِير عَنْهَا، فسبحان مسدي النِّعْمَة، ومؤتى الْحِكْمَة، الْعَالم بِمن خلق، وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير.
_________
(١) قَوْله " الْقُرْآن " كَذَا بالنسخ وَلَعَلَّ الاظهر الْقَرار.
(*)
1 / 16
حرف الْهمزَة
نذْكر، فِي هَذَا الْحَرْف، الْهمزَة الاصلية، الَّتِي هِيَ لَام الْفِعْل، فاما المبدلة من الْوَاو نَحْو العزاء، الذى اصله عز أَو، لانه من عزوت، أَو المبدلة من الْيَاء نَحْو الاباء، الذى اصله اباي، لانه من ابيت، فنذكره فِي بَاب الْوَاو وَالْيَاء، ونقدم هُنَا الحَدِيث فِي الْهمزَة.
قَالَ الازهري: إعلم أَن الْهمزَة لَا هجاء لَهَا، انما تكْتب مرّة ألفا وَمرَّة يَاء وَمرَّة واوا، والالف اللينة لَا حرف لَهَا، انما هِيَ جُزْء من مُدَّة بعد فَتْحة.
والحروف ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ حرفا مَعَ الْوَاو والالف وَالْيَاء، وتتم بِالْهَمْزَةِ تِسْعَة وَعشْرين حرفا.
والهمزة كالحرف الصَّحِيح، غير أَن لَهَا حالات من التليين والحذف والابدال وَالتَّحْقِيق تعتل، فالحقت بالاحرف المعتلة الْجوف، وَلَيْسَت من الْجوف، انما هِيَ حلقية فِي أقْصَى الْفَم، وَلها ألقاب كالقاب الْحُرُوف الْجوف، فَمِنْهَا همزَة التَّأْنِيث، كهمزة الْحَمْرَاء وَالنُّفَسَاء والعشراء والخشاء، وكل مِنْهَا مَذْكُور فِي مَوْضِعه، وَمِنْهَا الْهمزَة الاصلية فِي آخر الْكَلِمَة مثل: الْجفَاء والبواء والرطاء والطواء، وَمِنْهَا الوحاء وَالْبَاء والداء والايطاء فِي الشّعْر.
هَذِه كلهَا همزها أُصَلِّي، وَمِنْهَا همزَة الْمدَّة المبدلة من الْيَاء وَالْوَاو: كهمزة السَّمَاء والبكاء والكساء وَالدُّعَاء وَالْجَزَاء وَمَا اشبهها، وَمِنْهَا الْهمزَة المجتلبة بعد الالف الساكنة نَحْو: همزَة وَائِل وطائف، وَفِي الْجمع نَحْو كتائب وسرائر، وَمِنْهَا الْهمزَة الزَّائِدَة نَحْو: همزَة الشمأل والشامل والغرقئ، وَمِنْهَا الْهمزَة الَّتِي تزاد لِئَلَّا يجْتَمع ساكنان نَحْو: اطْمَأَن واشمأز وازبأر وَمَا شاكلها، وَمِنْهَا همزَة الوقفة فِي آخر الْفِعْل لُغَة لبَعض دون بعض نَحْو قَوْلهم للْمَرْأَة: قولئ، وللرجلين قولا، وللجميع قولؤ، وَإِذا وصلوا الْكَلَام لم يهمزوا، ويهمزون لَا إِذا وقفُوا عَلَيْهَا، وَمِنْهَا همزَة التَّوَهُّم، كَمَا روى الْفراء عَن بعض الْعَرَب أَنهم يهمزون مَا لَا همز فِيهِ إِذا ضارع المهموز.
قَالَ: وَسمعت امراة من غَنِي تَقول: رثات زَوجي بابيات، كَأَنَّهَا لما سَمِعت رثات اللَّبن ذهبت الى أَن مرثية الْمَيِّت مِنْهَا.
قَالَ: وَيَقُولُونَ لبات بِالْحَجِّ وحلات السويق، فيغلطون لَان حلات يُقَال فِي دفع العطشان عَن المَاء، ولبات يذهب بهَا اللبا.
وَقَالُوا: استنشأت الرّيح وَالصَّوَاب استنشيت، ذَهَبُوا بِهِ الى قَوْلهم نشا السَّحَاب، وَمِنْهَا الْهمزَة الاصلية الظَّاهِرَة نَحْو همز الخبء والدفء والكفء والعبء وَمَا اشبهها، وَمِنْهَا اجْتِمَاع همزتين فِي كلمة وَاحِدَة نَحْو همزتي الرئاء والحاوئاء، واما الضياء فَلَا يجوز همز يائه، والمدة الاخيرة فِيهِ همزَة اصلية من ضاء يضوء ضوءا.
قَالَ أَبُو الْعَبَّاس احْمَد بن يحيى فِيمَن همز مَا لَيْسَ بمهموز: وَكنت أرجي بِئْر نعْمَان، حائرا، * فلوأ بالعينين والانف حائر اراد لوى، فهمز، كَمَا قَالَ: كمشترئ بِالْحَمْد مَا لَا يضيره
1 / 17
قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: هَذِه لُغَة من يهمز مَا لَيْسَ بمهموز.
قَالَ: وَالنَّاس كلهم يَقُولُونَ، إِذا كَانَت الْهمزَة طرفا، وَقبلهَا سَاكن، حذفوها فِي الْخَفْض وَالرَّفْع، واثبتوها فِي النصب، الا الْكسَائي وَحده، فانه يثبتها كلهَا.
قَالَ وَإِذا كَانَت الْهمزَة وسطى اجْمَعُوا كلهم على ان لَا تسْقط.
قَالَ وَاخْتلف الْعلمَاء باى صُورَة تكون الْهمزَة، فَقَالَت طَائِفَة: نكتبها بحركة مَا قبلهَا وهم الْجَمَاعَة، وَقَالَ اصحاب الْقيَاس: نكتبها بحركة نَفسهَا، واحتجت الْجَمَاعَة بَان الْخط يَنُوب عَن اللِّسَان.
قَالَ وانما يلْزمنَا ان نترجم بالخط مَا نطق بِهِ اللِّسَان.
قَالَ أَبُو الْعَبَّاس وَهَذَا هُوَ الْكَلَام.
قَالَ: وَمِنْهَا اجْتِمَاع الهمزتين بمعنيين وَاخْتِلَاف النَّحْوِيين فيهمَا.
قَالَ الله عزوجل: أأنذرتهم ام لم تنذرهم لَا يُؤمنُونَ.
من الْقُرَّاء من يُحَقّق الهمزتين فيقرا أأنذرتهم، قرا بِهِ عَاصِم وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ، وقرا أَبُو عَمْرو آأنذرتهم مُطَوَّلَة، وَكَذَلِكَ جَمِيع مَا اشبهه نَحْو قَوْله تَعَالَى: آانت قلت للنَّاس، آألد وانا عَجُوز، آاله مَعَ الله، وَكَذَلِكَ قرا ابْن كثير وَنَافِع وَيَعْقُوب بِهَمْزَة مُطَوَّلَة، وقرا عبد الله بن ابي اسحق آأنذرتهم بالف بَين الهمزتين، وَهِي لُغَة سائرة بَين الْعَرَب.
قَالَ ذُو الرمة: تطاللت، فاستشرفته، فعرفته، فَقلت لَهُ: آأنت زيد الارانب؟ وَأنْشد احْمَد بن يحيى: خرق إِذا مَا الْقَوْم أجروا فكاهة * تذكر آإياه يعنون أم قردا؟ وَقَالَ الزّجاج: زعم سِيبَوَيْهٍ أَن من الْعَرَب من يُحَقّق الْهمزَة وَلَا يجمع بَين الهمزتين، وَإِن كَانَتَا من كَلِمَتَيْنِ.
قَالَ: وَأهل الْحجاز لَا يحققون وَاحِدَة مِنْهُمَا.
وَكَانَ الْخَلِيل يري تَخْفيف الثَّانِيَة، فَيجْعَل الثَّانِيَة بَين الْهمزَة والالف وَلَا يَجْعَلهَا ألفا خَالِصَة.
قَالَ: وَمن جعلهَا ألفا خَالِصَة، فقد اخطا من جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهمَا أَنه جمع بَين ساكنين، والاخرى أَنه أبدل من همزَة متحركة، قبلهَا حَرَكَة، ألفا، وَالْحَرَكَة الْفَتْح.
قَالَ: وانما حق الْهمزَة، إِذا تحركت وَانْفَتح مَا قبلهَا، ان تجْعَل بَين بَين، أَعنِي بَين الْهمزَة وَبَين الْحَرْف الَّذِي مِنْهُ حركتها، فَتَقول فِي سَالَ سَالَ، وَفِي رؤف رؤف، وَفِي بئس بئس، وَهَذَا فِي الْخط وَاحِد، وانما تحكمه بالمشافهة.
قَالَ: وَكَانَ غير الْخَلِيل يَقُول فِي مثل قَوْله " فقد جَاءَ اشراطها " أَن تخفف الاولى.
قَالَ سِيبَوَيْهٍ: جمَاعَة من الْعَرَب يقراون: فقد جَاءَ اشراطها، يحققون الثَّانِيَة ويخففون الاولى.
قَالَ والى هَذَا ذهب أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء.
قَالَ: وَأما الْخَلِيل، فانه يقْرَأ بتحقيق الاولى وَتَخْفِيف الثَّانِيَة.
قَالَ: وانما اخْتَرْت تَخْفيف الثَّانِيَة لِاجْتِمَاع النَّاس على بدل الثَّانِيَة فِي قَوْلهم: آدم وَآخر، لَان الاصل فِي آدم أأدم، وَفِي آخر أأخر.
1 / 18
قَالَ الزّجاج: وَقَول الْخَلِيل أَقيس، وَقَول أبي عَمْرو جيد أَيْضا.
وَأما الهمزتان، إِذا كَانَتَا مكسورتين، نَحْو قَوْله: على الْبغاء إِن أردن تَحَصُّنًا، وَإِذا كَانَتَا مضمومتين نَحْو قَوْله: أَوْلِيَاء أُولَئِكَ، فان أَبَا عَمْرو يُخَفف الْهمزَة الاولى مِنْهُمَا، فَيَقُول: على الْبغاء ان، وأولياء أُولَئِكَ، فَيجْعَل الْهمزَة الاولى فِي الْبغاء بَين الْهمزَة وَالْيَاء ويكسرها، وَيجْعَل الْهمزَة فِي قَوْله: أَوْلِيَاء أُولَئِكَ، الاولى بَين الْوَاو والهمزة ويضمها.
قَالَ: وَجُمْلَة ماقاله فِي مثل هَذِه ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا، وَهُوَ مَذْهَب الْخَلِيل، أَن يَجْعَل مَكَان الْهمزَة الثَّانِيَة همزَة بَين بَين، فَإِذا كَانَ مضموما جعل الْهمزَة بَين الْوَاو والهمزة.
قَالَ: أَوْلِيَاء أُولَئِكَ، على الْبغاء ان، وَأما أَبُو عَمْرو فيقرا على مَا ذكرنَا، وَأما ابْن أبي اسحق وَجَمَاعَة من الْقُرَّاء، فانهم يجمعُونَ بَين الهمزتين، وَأما اخْتِلَاف الهمزتين نَحْو قَوْله تَعَالَى: كَمَا آمن السُّفَهَاء أَلا، فاكثر الْقُرَّاء على تَحْقِيق الهمزتين، وَأما أَبُو عَمْرو، فانه يُحَقّق الْهمزَة الثَّانِيَة فِي رِوَايَة سِيبَوَيْهٍ، ويخفف الاولى، فيجعلها بَين الْوَاو والهمزة، فَيَقُول: السُّفَهَاء أَلا، ويقرا من فِي السَّمَاء أَن، فيحقق الثَّانِيَة، واما سِيبَوَيْهٍ والخليل فَيَقُولَانِ: السُّفَهَاء وَلَا، يجعلان الْهمزَة الثَّانِيَة واوا خَالِصَة.
وَفِي قَوْله تَعَالَى: أأمنة من فِي السماءين، يَاء خَالِصَة، وَالله اعْلَم.
قَالَ وَمِمَّا جَاءَ عَن الْعَرَب فِي تَحْقِيق الْهَمْز وتليينه وتحويله وحذفه، وَقَالَ أَبُو زيد الانصاري: الْهَمْز على ثَلَاثَة اوجه: التَّحْقِيق وَالتَّخْفِيف والتحويل.
فالتحقيق مِنْهُ أَن تُعْطى الْهمزَة حَقّهَا من الاشباع، فَإِذا اردت أَن تعرف إشباع الْهمزَة، فَاجْعَلْ الْعين فِي موضعهَا، كَقَوْلِك من الخبء: قد خبات لَك بِوَزْن خبعت لَك، وقرات بِوَزْن قرعت، فانا أخبع وأقرع، وانا خابع وخابئ وقارئ نَحْو قارع، بعد تَحْقِيق الْهمزَة بِالْعينِ، كَمَا وصفت لَك، قَالَ: وَالتَّخْفِيف من الْهَمْز انما سموهُ تَخْفِيفًا لانه لم يُعْط حَقه من الاعراب والاشباع، وَهُوَ مشرب همزا، تصرف فِي وُجُوه الْعَرَبيَّة بِمَنْزِلَة سَائِر الْحُرُوف الَّتِي تحرّك، كَقَوْلِك: خبات وقرات، فَجعل الْهمزَة ألفا سَاكِنة على سكونها فِي التَّحْقِيق، إِذا كَانَ مَا قبلهَا مَفْتُوحًا، وَهِي كَسَائِر الْحُرُوف الَّتِي يدخلهَا التحريك، كَقَوْلِك: لم يخبا الرجل، وَلم يقرا الْقرَان، فَكسر الالف من يخبا ويقرا لسكون مَا بعْدهَا، فكانك قلت لم يخبير جلّ وَلم يقر يلقران، وَهُوَ يخبو ويقرو، فيجعلها واوا مَضْمُومَة فِي الادراج، فان وقفتها جَعلتهَا ألفا غير أَنَّك تهيئها للضمة من غير أَن تظهر ضمتها فَتَقول: مَا أخباه وَأَقَرَّاهُ، فَتحَرك الالف بِفَتْح لبَقيَّة مَا فِيهَا من الْهمزَة كَمَا وصفت لَك، وَأما التَّحْوِيل من الْهَمْز، فان تحول الْهَمْز الى الْيَاء وَالْوَاو، كَقَوْلِك: قد خبيت الْمَتَاع فَهُوَ مخبي، فَهُوَ يخباه، فَاعْلَم، فَيجْعَل الْيَاء الْفَا حَيْثُ كَانَ قبلهَا فَتْحة نَحْو الف يسْعَى ويخشى لَان مَا قبلهَا مَفْتُوح.
قَالَ: وَتقول رفوت الثَّوْب رفوا، فحولت الْهمزَة واوا كَمَا ترى، وَتقول لم يخب عني شَيْئا فَتسقط مَوضِع اللَّام من تظيرها من الْفِعْل للاعراب، وَتَدَع مَا بَقِي على حَاله متحركا، وَتقول مَا أخباه، فتسكن الالف المحولة كَمَا أسكنت الالف من قَوْلك مَا أخشاه وأسعاه.
قَالَ: وَمن مُحَقّق الْهَمْز قَوْلك للرجل: يلؤم، كانك قلت يلعم، إِذا كَانَ بَخِيلًا، وَأسد يزئر كَقَوْلِك يزعر، فَإِذا أردْت التَّخْفِيف قلت للرجل: يلم، وللاسد يزر على إِن القيت الْهمزَة من قَوْلك يلؤم ويزئر، وحركت مَا قبلهَا بحركتها على الضَّم وَالْكَسْر، إِذا كَانَ مَا قبلهَا سَاكِنا، فَإِذا اردت
1 / 19
تَحْويل الْهمزَة مِنْهَا قلت للرجل يلوم فجعلتها واوا سَاكِنة لانها تبِعت ضمة، والاسد يزير فجعلتها يَاء للكسرة قبلهَا نَحْو يَبِيع ويخيط، وَكَذَلِكَ كل همزَة تبِعت حرفا سَاكِنا عدلتها إِلَى التَّخْفِيف، فانك تلقيها وتحرك بحركتها الْحَرْف السَّاكِن قبلهَا، كَقَوْلِك للرجل: سل، فتحذف الْهمزَة تحرّك مَوضِع الْفَاء من نظيرها من الْفِعْل بحركتها، واسقطت الف الْوَصْل، إِذْ تحرّك مَا بعْدهَا، وانما يجتلبونها للاسكان، فَإِذا تحرّك مَا بعْدهَا لم يحتاجوا إِلَيْهَا.
وَقَالَ رؤبة: وانت يَا بامسلم وفيتا ترك الْهمزَة، وَكَانَ وَجه الْكَلَام: يَا أَبَا مُسلم، فَحذف الْهمزَة، وَهِي أَصْلِيَّة، كَمَا قَالُوا لَا أَب لَك، وَلَا ابا لَك، وَلَا با لَك، ولاب لغيرك، وَلَا با لشانئك.
وَمِنْهَا نوع آخر من الْمُحَقق، وَهُوَ قَوْلك من رايت، وانت تامر: إرا، كَقَوْلِك إرع زيدا، فَإِذا اردت التَّخْفِيف قلت: رزيدا فَتسقط الف الْوَصْل لتحرك مَا بعْدهَا.
قَالَ أَبُو زيد: وَسمعت من الْعَرَب من يَقُول: يَا فلَان نويك على التَّخْفِيف، وتحقيقه نؤيك، كَقَوْلِك إبغ بغيك، إِذا امْرَهْ ان يَجْعَل نَحْو خبائه نؤيا كالطوق يصرف عَنهُ مَاء الْمَطَر.
قَالَ: وَمن هَذَا النَّوْع رايت الرجل، فَإِذا اردت التَّخْفِيف قلت: رايت، فحركت الالف بِغَيْر اشباع همز، وَلم تسْقط الْهمزَة لَان مَا قبلهَا متحرك، وَتقول للرجل تراى ذَلِك على التَّحْقِيق.
وَعَامة كَلَام الْعَرَب فِي يري وتري وارى ونرى، على التَّخْفِيف، لم تزد على ان القت الْهمزَة من الْكَلِمَة، وَجعلت حركتها بِالضَّمِّ (١) على الْحَرْف السَّاكِن قبلهَا.
قَالَ أَبُو زيد: وَاعْلَم ان وَاو فعول ومفعول وياء فعيل وياء التصغير لَا يعتقين الْهَمْز فِي شئ من الْكَلَام، لَان الاسماء طولت بهَا، كَقَوْلِك فِي التَّحْقِيق: هَذِه خَطِيئَة، كَقَوْلِك خطيعة، فَإِذا ابدلتها إِلَى التَّخْفِيف قلت: هَذِه خطية، جعلت حركتها يَاء للكسرة، وَتقول: هَذَا رجل خبوء، كَقَوْلِك خبوع، فَإِذا خففت قلت: رجل خبو، فتجعل الْهمزَة واواللضمة الَّتِي قبلهَا، وجعلتها حرفا ثقيلا فِي وزن حرفين مَعَ الْوَاو الَّتِي قبلهَا، وَتقول: هَذَا مَتَاع مخبوء بِوَزْن مخبوع، فَإِذا خففت قلت: مَتَاع مخبو، فحولت الْهمزَة واوا للضمة قبلهَا.
قَالَ أَبُو مَنْصُور: وَمن الْعَرَب من يدغم الْوَاو فِي الْوَاو ويشددها، فَيَقُول: مخبو.
قَالَ أَبُو زيد: تَقول رجل برَاء من الشّرك، كَقَوْلِك براع، فَإِذا عدلتها الى التَّخْفِيف قلت: براو، فَتَصِير الْهمزَة واوا لانها مَضْمُومَة، وَتقول: مَرَرْت بِرَجُل براي فَتَصِير يَاء على الكسرة ورايت رجلا برايا، فَتَصِير ألفا لانها مَفْتُوحَة.
وَمن تَحْقِيق الْهمزَة قَوْلهم: هَذَا غطاء وَكسَاء وخباء، فتهمز مَوضِع اللَّام من نظيرها من الْفِعْل لانها غَايَة، وَقبلهَا ألف سَاكِنة، كَقَوْلِهِم: هَذَا غطاع وكساع وخباع، فالعين وخباع، فالعين مَوضِع الْهمزَة، فَإِذا جمعت الِاثْنَيْنِ على سنة الْوَاحِد فِي التَّحْقِيق، قلت: هَذَانِ غطاآن وكساآن وخباآن، كَقَوْلِك غطاعان
_________
(١) قَوْله " بِالضَّمِّ " كَذَا بالنسخ الَّتِي بايد ينا وَلَعَلَّه بِالْفَتْح.
(*)
1 / 20
وكساعان وخباعان، فتهمز الِاثْنَيْنِ على سنة الْوَاحِد، وَإِذا أردْت التَّخْفِيف قلت: هَذَا غطاو وكساو وخباو، فتجعل الْهمزَة واوا لانها مَضْمُومَة، وان جمعت الِاثْنَيْنِ بِالتَّخْفِيفِ على سنة الْوَاحِد قلت: هَذَانِ عطاأن وكساأن وخباأن، فَتحَرك الالف، الَّتِي فِي مَوضِع اللَّام من نظيرها من الْفِعْل، بِغَيْر إشباع، لَان فِيهَا بَقِيَّة من الْهمزَة، وَقبلهَا ألف سَاكِنة، فَإِذا أردْت تَحْويل الْهمزَة قلت: هَذَا غطاو وكساو لَان قبلهَا حرفا سَاكِنا، وَهِي مَضْمُومَة، وَكَذَلِكَ الفضاء: هَذَا فضاو، على التَّحْوِيل، لَان ظُهُور الْوَاو هَهُنَا أخف من ظُهُور الْيَاء، وَتقول فِي الِاثْنَيْنِ، إِذا جمعتهما على سنة تَحْويل الْوَاو: هما غطاوان وكساوان وخباوان وفضاوان.
قَالَ أَبُو زيد وَسمعت بعض بني فَزَارَة يَقُول: هما كسايان وخبايان وفضايان، فيحول الْوَاو الى الْيَاء.
قَالَ: وَالْوَاو فِي هَذِه الْحُرُوف أَكثر فِي الْكَلَام.
قَالَ: وَمن تَحْقِيق الْهمزَة قَوْلك: يَا زيد من أَنْت، كَقَوْلِك من عنت، فَإِذا عدلت الْهمزَة إِلَى التَّخْفِيف قلت: يَا زيد من نت، كانك قلت مننت، لانك أسقطت الْهمزَة من أَنْت وحركت مَا قبلهَا بحركتها، وَلم يدْخلهُ إدغام، لَان النُّون الاخيرة سَاكِنة والاولى متحركة، وَتقول من أَنا، كَقَوْلِك من عَنَّا على التَّحْقِيق، فَإِذا أردْت التَّخْفِيف قلت: يَا زيد من نَا، كانك قلت: يَا زيد منا، ادخلت النُّون الاولى فِي الاخرة، وجعلتهما حرفا وَاحِدًا ثقيلا فِي وزن حرفين، لانهما متحركان فِي حَال التَّخْفِيف، وَمثله قَوْله تَعَالَى: لَكنا هُوَ الله رَبِّي، خففوا الْهمزَة من لَكِن أَنا، فَصَارَت لَكِن نَا، كَقَوْلِك لكننا، ثمَّ أسكنوا بعد التَّخْفِيف، فَقَالُوا لَكنا.
قَالَ: وَسمعت اعرابيا من قيس يَقُول: يَا أَب أقبل وياب أقبل يَا أَبَة أقبل ويابة أقبل، فالقي الْهمزَة من (١) ...
وَمن تَحْقِيق الْهمزَة قَوْلك إفعو علت من وايت: إيا وايت، كَقَوْلِك إفعو عيت، فَإِذا عدلته الى التَّخْفِيف قلت: ايويت وَحدهَا، وويت، والاولى مِنْهُمَا فِي مَوضِع الْفَاء من الْفِعْل، وَهِي سَاكِنة، وَالثَّانيَِة هِيَ الزَّائِدَة، فحركتها بحركة الهمزتين قبلهَا (٢).
وَثقل ظُهُور الواوين مفتوحتين، فهمزوا الاولى مِنْهُمَا، وَلَو كَانَت الْوَاو الاولى وَاو عطف لم يثقل ظهورهما فِي الْكَلَام، كَقَوْلِك: ذهب زيد ووافد، وَقدم عَمْرو وواهب.
قَالَ: وَإِذا أردْت تَحْقِيق مفعوعل من وأيت قلت: موأوئي، كَقَوْلِك موعوعي، فَإِذا عدلت الى التَّخْفِيف قلت: مواوي، فتفتح الْوَاو الَّتِي فِي مَوضِع الْفَاء بفتحة الْهمزَة الَّتِي فِي مَوضِع الْعين من الْفِعْل، وتكسر الْوَاو الثَّانِيَة، وَهِي الثَّابِتَة، بِكَسْر الْهمزَة الَّتِي بعْدهَا.
قَالَ أَبُو زيد وَسمعت بعض بني عجلَان من قيس يَقُول: رَأَيْت غلاميبيك، ورايت غلاميسد، تحول الْهمزَة الَّتِي فِي أَسد وَفِي أَبِيك على الْيَاء، ويدخلونها فِي الْيَاء الَّتِي فِي الغلامين، الَّتِي هِيَ نفس الاعراب، فَيظْهر يَاء ثَقيلَة فِي وزن حرفين، كانك قلت رايت غلاميبيك ورايت غلاميسد.
_________
(١) كَذَا بَيَاض النّسخ الَّتِي بايدينا وَلَعَلَّ السَّاقِط بعد من " ياب ويابة " كَمَا بِهَامِش نُسْخَة.
(٢) قَوْله " الهمزتين قبلهَا " كَذَا بالنسخ أَيْضا وَلَعَلَّ الصَّوَاب الْهمزَة بعْدهَا كَمَا هُوَ المألوف فِي التصريف، وَقَوله فهمزوا الاولى أَي فَصَارَ وويت أويت كرميت، وَقَوله وَهِي الثَّابِتَة لَعَلَّه وَهِي الزَّائِدَة.
(*)
1 / 21