واندفع في طريقه إلى البار الذي يجلس فيه صديقه، وحين دلف عباس من الساتر المقام أمام باب البار أشرق وجهه بالسرور؛ فقد رأى شعبان جالسا هناك بين رفقة يؤلف هو بينهم على مزاجه، جماعة ليس فيها اثنان يمثلان رأيا واحدا ولا فكرة واحدة؛ لا انسجام بينهم في الرأي، ولا صلة لأحدهم بالآخر في العمل، لكل منهم عمل يختلف كل الاختلاف عن الآخر. شيئان يؤلفان بينهم هما شعبان والخمر، وما كان شعبان ليستطيع أن يجمع هذا الشتيت من الناس إن لم يجعل لهم الخمر إغراء؛ فهو يقدم لهم كأسا هدية ويترك كئوسهم الأخرى تتولاها جيوبهم، ويشترط إزاء ذلك أن يشرب ليلتين في الأسبوع على حسابهم مجتمعين. وكان يخسر في سبيل ذلك جنيهين أو ثلاثة في الشهر، ولكنه كان يجعل من جلستهم عوضا له عن كل الملاهي الأخرى؛ فقد كانت أسباب الخلاف بينهم لا تنتهي، ومن هذا الاختلاف كانت متعته ضحكا عاليا يرطب به صراع النقاش وصراع الدنيا معا. ولكن خلافهم على اتساعه حين وصل إلى الخمر أصبح اتفاقا؛ فهم يشربونها في تلذذ، ولو أتاحت مواردهم لهم مزيدا ما تركوها ليلهم أو نهارهم. ولكم كانوا يقومون والأسف يملأ نفسوهم أنهم لم يصلوا إلى مرتبة السكر الكامل؛ فيلعنون الفقر الذي يقف بهم دون أمانيهم. كانوا ثلاثة نفر رابعهم شعبان؛ فأما شعبان فقد فرغ من كلية الحقوق منذ قريب، فهو الآن محام وإن كان تحت التمرين. وأما الأصدقاء فهم محمد حسن موظف بوزارة الشئون الاجتماعية، ولكن الصفة التي يريدها أن تغلب عليه أنه شاعر. وإلهام الزيني ويعمل مديرا لنادي الأخوة. وسليم فوزي ويعمل كاتبا لدى سمسار في بورصة الأوراق المالية، ويقول إنه سمسار. يجلس بينهم شعبان يغري كلا منهم بالآخر، فإذا أبوا ليلة أن يختلفوا تركهم وقام إلى بيته آسفا. وكان عباس يعرف بهذه الخلافات التي يثيرها شعبان بين أصدقاء الليل. وكان يعجب كيف يتاح لشعبان الذي لا يراه أحد في الصباح إلا مطرقا خجلا يتمتم الألفاظ ولا ينطقها، ويهينم بالحديث لا يقوله، كيف يتاح له أن يصبح عند الليل هذا العربيد المشاكس الضاحك الصاخب ؟ بل كيف يشرب الخمر وهو لا يترك فرضا من الصلاة إلا أداه؟
سأله يوما: أتصلي وتشرب الخمر؟
فقال باسما في سخرية: كل بثوابه. - ما ثواب الخمر؟
فيقول شعبان: الحرية، أحس كأن لا صلة لي بخجلي هذا الذي تراه، ولا صلة لي بالمكتب ولا بالقضايا، إنما هي نشوة تستخفني وضحك سادر متحرر.
ويلح عباس: ألا تجد فيما يسمح به الدين ما تنشده من الحرية؟
فيحمر وجه شعبان ويقول: والله ما شربت الكأس الأولى إلا قلت: اللهم إنه منكر لا يرضيك. ولكني يا عباس أريد أن أضحك ولا أجد في هذه الدنيا ما يضحك. أنا أشترى الضحك بالمعصية. وإني أحاسب نفسي عليها حسابا عسيرا. لعلي إذا تزوجت ووجدت زوجتي وأطفالي من حولي، لعلي أسعد بهم ولا أحتاج إلى الضحك.
وكان عباس يقول: إنك ضعيف، تستعين بالخمر لتنال حريتك وهي في يدك، ما الذي يربطك بالمجتمع والتقاليد؟ ما الذي يربطك بهذا الأسف الذي تحسه حين تشرب الخمر وأنت تسعد بشربها؟ انطلق، حطم الأغلال، مزق القيود، وانطلق. اشرب لأنك تريد أن تشرب، واسعد لأنك حر ولا تؤذي أحدا بحريتك.
وينظر إليه شعبان مليا، ثم يقول: الكلام سهل. - والعمل أسهل لو أنك حازم.
ويقول شعبان في وعي: سأجرب فيك الحرية، إذا نفعت ألحق بك.
كثيرا ما كان مثل هذا النقاش يدور بين الاثنين إذا اجتمعا في الصباح وشعبان مفيق، أما في الليل فقلما كان يأتي عباس إليه، فإذا جاء فإنه لا يناقشه هذا النقاش الطويل، وإنما يكتفي بسؤال عابر أو لمحة من رأيه خاطفة، ثم ينصرف إلى الخلاف الذي يكون مستعرا بين الأطراف الثلاثة.
Page inconnue