وأطرق عباس بين إحساس هين من الدهشة، وإحساس عميق بالخجل. وعادت إيفون تقول: انزل!
وقال عباس متلعثما: ومتى أجيء؟ - لا أدري، إنما يجب أن تنزل الآن. - أجيء غدا؟ - لا أدري ... أرجوك ... أرجوك ... انزل. - أمرك.
وتوجه عباس إلى باب الحجرة، وقبل أن يخرج هم أن يقول شيئا، ولكنه عاد إلى طريقه من الباب وخرج.
وما إن أغلق عباس الباب من خلفه حتى ارتمت إيفون على سريرها وراحت تحدق إلى سقف الحجرة مفكرة في ذهول خجل حيران.
الفصل السادس
كان ليوم الجمعة مراسم جامدة في بيت الشيخ سلطان لم تتغير منذ وعى عباس أمره، ويخيل إليه أنها لن تتغير أبد الدهر؛ فإن الشيخ يستيقظ في الفجر ويصلي الفجر جماعة يؤم أهل بيته جميعا، ثم يتناولون فطورهم، ويخرج الشيخ سلطان إلى بيت رضوان أفندي فيصحبه إلى قهوة السيدة، فيظلان يلعبان النرد، ويشترك معهما مرقص أفندي. وكان مرقص أفندي إذا لعب يحس رائيه أنه ينظر إلى متعبد راكع في معبده المقدس، لا شيء يتحرك فيه إلا يداه تلقيان الزهر، وعيناه تتابعان أصابع غريمه. بينما كان رضوان أفندي والشيخ سلطان يزيطان كلما أصابا أملا في النجاح. وما أسرع ما تجري على لسانيهما «العب سيجه»، «ما لك أنت وهذه المسائل المهمة يا عم مرقص؟»! وفي أغلب المرات يتغلب مرقص أفندي على هذا الزائط، ولم يكن مرقص أفندي حينئذ يهيج هياجهما ولا هو يسخر، وإنما يكتفي بنظرة لا بد أنه كان يعرف مدى ما تحمله من إيلام. وكان المغلوب منهما يحس وقع النظرة المخترقة الهازئة فيتمتم: «زهر أعمى ابن كلب.» ولا يكتفي مرقص أفندي بالإخجال الذي ألقى إليه صاحبه، وإنما هو يمد إصبعه السبابة ويحركها يمنة ويسرة يريد من المغلوب أن يقوم ليحل الآخر محله.
وكانت هذه الحركة الصامتة أشد إيلاما من النظرة. وكان الشيخ سلطان ورضوان أفندي كلاهما يتقبل هذا الذي يحصل لهما في مقابل الزياط الذي يهذران به طوال اللعب. وقد كانت المباراة بين ثلاثتهم يومية لا تنقطع، وقد يكون لهم متفرجون احترفوا التفرج كما احترف الثلاثة اللعب. وقد كان المغلوب يدفع الطلبات، وكان الشيخ سلطان يناقش نفسه في هذا الدفع: أليس هذا قمارا؟! وتجيبه نفسه الغاضبة لأنه دفع: إنه قمار. ولكن ما يلبث أن يتذكر الحديث الذي كان يقبل به أن يدفع له: إنما الأعمال بالنيات. وهو حين لعب لم يقصد القمار. كما أنهم الثلاثة أصدقاء، وأي واحد منهم يجوز أن يدفع عن الآخر بلا لعب، وإنما اللعب تسلية.
وتقتنع نفس الشيخ سلطان أنه ليس قمارا؛ فيهدأ ضميره الديني، وإن كان ضميره المادي الذي يحاسبه على صرف النقود فيما لا يفيد يظل ثائرا غير هادئ.
هكذا كان الحال مع الشيخ سلطان، أما الشأن مع عباس فهو مرتبط بأبيه غاية الارتباط؛ فقد كان أبوه ينتظره في القهوة حتى موعد خطبة الجمعة. وكان عباس يذهب مصطحبا صديقه الأثير شعبان نوار، وابن خالته لطفي الذي أخذ يصلي منذ أراد من الصلاة أن تشعره أنه كبير مثل الكبار، يضع المنديل على رأسه المبلل، وينتظم في الصف، له فيه مكان مثل مكان الرجل الكبير، ثم هو بعد ذلك يؤدي من الحركات ما يؤدون. وكان الثلاثة يقصدون إلى القهوة فيكون مجيئهم إيذانا للشيخ سلطان ورضوان أفندي أن يؤجلا العشرة مع مرقص أفندي إلى وقت آخر.
وقد كانت وظيفة الشيخ سلطان في الوعظ والإرشاد، وقدمه في هذه الوظيفة، تجعل الأئمة في المساجد يتنحون عن منابرهم ليلقي هو الخطبة. وقد كان فرحا غاية الفرح بما يتاح له من هذا التنحي، لم يقلل من هذا الفرح تكرار السنوات بعد السنوات، ولم تنل الفرحة ما تنال العادة وقدمها من كل فرحة فرحان. ولم ينس الشيخ سلطان في مرة من المرات أن يسأل ابنه وهو يلبس الحذاء خارجا من الجامع: هيه يا عباس، ما رأيك؟
Page inconnue