إذا صح ذلك فلا دواء للحزن في المصائب الجسام إلا الجنون. ولكن؛ لأن الناس أفسدوا طبائعهم بالكبث والتجلد والتكلف فعادت لا تسعفهم بهذا الجنون دفعا للألم أو تخفيفا له، جعلوا حين تلم بهم المصائب يفتشون عن الجنون تفتيشا، من ذلك أنهم يلجأون إلى الشراب، حتى على القبور. وقد جاء في الأدب القديم أن رجلين من بني أسد خرجا إلى أصبهان، فآخيا دهقانا بها في موضع يقال له «راوند» فمات أحدهما، وغبر الآخر والدهقان ينادمان قبره، يشربان كأسين، ويصبان على قبره كأسا، فمات الدهقان، فكان الأسدي ينادم قبريهما، ويترنم بشعر، منه هذا البيت:
أصب على قبريكما من مدامة
فإلا تنالاها ترو جثاكما
بل إن بعض المسيحيين لا يزالون إلى يومنا هذا، في هذه الصلاة التي يقيمونها على القبور، يضعون آنية الخمر عند رأس الميت، وبعد الصلاة يشرب الكاهن، ويسقي، ثم ينضح ثرى الميت بما بقي في آنيته.
مهما يكن الأمر فليس شرب الخمر على القبور ومنادمتها إلا من أمارات الجنون الذي تمس به الطبيعة المحزون. (18) أين العزاء
مهما كانت الحياة فقد ألفناها، ورضينا بها، بل إن كثيرين من الناس يقطعون الأيام تلو الأيام، بل السنين تلو السنين، وهم لا يفكرون في الحياة: أجميلة هي أم غير جميلة، أعالية هي أم غير عالية، أيسيرة هي أم غير يسيرة. لا يفكرون في تجميلها إذا كانت غير جميلة. ولا في إعلائها إذا كانت غير عالية، ولا في تيسيرها إذا كانت غير يسيرة، وما ذلك إلا لأنهم ألفوها، وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن، كما قال الشاعر.
وإذا كان هناك من لا تعجبه الحياة فإنه يتعلق بالأمل، ويحاول أن يقنع نفسه أن دوام الحال من المحال، وأن السعادة تنتظره، وأن المسألة مسألة وقت ... وإذا أبى دهره إسعافه في نفسه رضي منه أن يسعفه في من يحب ويكرم ... وإذا جهد دهره في عناده وعدائه لجأ إلى خياله يستعين به على تغيير طبائع الأشياء، وتلوين الحياة بغير ألوانها. خلاصة القول أننا ألفنا الحياة، ورضينا بها على علاتها، وأما الموت فلم نألفه، ولم نرض به، فإذا وقع فكيف العزاء؟
لقد فتشت عن العزاء في كل مظنة تفتيشا، فلم أجده. •••
لا يعزيني، وأستغفر الله، أن يكون هناك عالم آخر لا هم فيه ولا غم ولا وجع ولا تنهد يقوم إليه الناس، فتستقر بهم النوى، ويتمتعون مع أعزائهم بالخلود الجميل.
أم سري.
Page inconnue