Dars
دروس للشيخ عبد العزيز بن باز
Genres
أطوار تشريع الجهاد
كان الصحابة ﵃ وأرضاهم يتعلمون من نبيهم ﵊، ويسمعون منه ما يدعو إليه، ويذهبون ليرشدوا الناس إلى ما سمعوا من الخير سرًا وجهرًا، وإذا جهروا فقد يؤذى الكثير منهم لقلتهم وقلة أنصارهم.
ثم إن الله جل وعلا شرع الهجرة لإظهار الإسلام، ولإقامة دولة الإسلام، ولنصر المسلمين وتأييدهم وإعلاء كلمة الله في أرضه، ولإخراج الناس من الظلمات إلى النور، فتم ذلك والحمد لله، فهاجر النبي ﵊ وهاجر المسلمون إلى المدينة المنورة بعدما هاجر الكثير منهم إلى الحبشة بسبب الاضطهاد العظيم الذي نالهم في مكة، فلما استقر النبي ﷺ في المدينة المنورة واجتمع إليه من شاء الله من أصحابه ﵃ وأرضاهم أُذن لهم بالجهاد، ونزل في هذا قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [الحج:٣٩-٤٠] فأُذن لهم بالقتال مجرد إذن، ثم لما زادوا وكثروا وصارت عندهم قوة ومنعة أمروا بالقتال وأن يقاتلوا من قاتلهم، وأن يكفوا عمن كف عنهم، وهذا طور ثانٍ من أطوار الجهاد.
الطور الأول: مجرد الإذن، والطور الثاني: طور الدفاع والقتال لمن قاتل والكف عمن كف؛ لأن المسلمين في أول الهجرة لم تكن عندهم قدرة كاملة على غزو الناس وابتدائهم بالقتال، فأُذن لهم أن يقاتلوا من قاتلهم وأن يكفوا عمن كف عنهم، كما قال الله ﷿: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا * سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ [النساء:٩٠-٩١] فأباح ﷾ للأمة القتال لمن قاتل، وأمرهم بالكف عمن كف.
وظن بعض الناس أن هذا هو أمر الجهاد، وأن الجهاد استقر على هذا، وأن الجهاد إنما شرع للدفاع فقط، فالإسلام على زعم هؤلاء يقاتل من قاتل ويدافع فقط، ولا ينهضوا لقتال المجرمين وإخراجهم من الظلمات إلى النور والصبر على ذلك، وهذا غلط على إطلاقه، وإنما الصواب أن أعلى دور من أدوار الجهاد وطور من أطوار القتال في وسط الأمر يقاتل المسلمون من قاتلهم ويجاهدون من جاهدهم ويكفون عمن كف عنهم، وهذا الحكم باقي إلى اليوم عند ضعف المسلمين وعند عدم قدرتهم على البدء بالقتال، ليس عليهم إلا أن يقاتلوا من قاتلهم، وأن يكفوا عمن كف عنهم، ثم إن الله جل وعلا فرض القتال فرضًا فقال ﷾: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:٢١٦] .
فجعل الجهاد فرضًا علينا ولازمًا لنا، كما قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:١٨٣] (كتب) أي: فرض، فالجهاد فرض على الأمة الإسلامية فرضًا مع القدرة؛ لأن الله يقول: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:١٦] ففرض على المسلمين وجاءت الأوامر بالقتال والجهاد في كتاب الله وفي سنة الرسول ﵊، فصار بعد الإذن في القتال وبعد قتال من قاتل والكف عمن كف، صار بعد ذلك في طور ثالث وهو: فرض القتال والجهاد مطلقًا، لمن قاتلنا ولمن لم يقاتلنا؛ لإخراجهم من الظلمات إلى النور، ولتمكين الإسلام في الأرض، ولإنقاذ النساء والأطفال مما هم عليه من الباطل والكفر، ولفسح الطريق وتمهيد الطريق لانتشار الدعوة الإسلامية بين الناس في مشارق الأرض ومغاربها.
واشترى الله سبحانه من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فقال ﷿: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة:١١١] فاشترى ﷾ منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فدل ذلك على أن نفس المؤمن مبيعة وماله مبيع اشتراه المولى جل وعلا، وفرض على المسلم الجهاد في سبيل الله ﷿، وجعل نفسه مبيعة لله وماله لله، هذا ولم يبق عذرٌ في التأخر عن القتال والجهاد، فالأنفس لله والمال لله، والجهاد في سبيل الله، والثمن الجنة والنجاة من النار.
5 / 3