قال بعد أن حياني وسكن إلى وداناني: إن ولي الله يأذن لك أن تنطلق إلى هذه الحاضرة، وأنا ولده، فكن مني بمنزلة العبد الصالح من ابن عمران؛ فقد أذن لي أن أبرح الليلة الغار، ومد لي في أجل الرجوع حتى يلوح النهار، فقلت له وقد تحفظت ما استطعت من أن تبتدرني سقطة في الكلام، فيعدها علي؛ فقد رأيت نفسي أمام عربي في صدر الإسلام قد قوم التنزيل من لسانه، وامتزجت الفصاحة بمنطقه وبيانه: ألا أرى الليلة ولي الله وقد كانت بيني وبينه آية للقاء؟
قال: إنه يتهيأ للقاء الخالق، وقد انقطع عن كلام المخلوق. ألا تذكر ما قاله لك يوم ظفرت بلقائه: لقد كشف لك عن مكاني، وقد آن أواني؟ قلت: ألا أتزود منه بنظرة؟ قال: في غد إن شئت أعد الكرة، فإنه موعود برؤيتك في يوم خروجه من الدنيا. ثم أومأ إلي بالمسير، فسرت كالمأخوذ ونفسي على غير ما أعهد، كأنما مرت بها لمحة من تلك اللمحات التي تتصل فيها بعالم الملائك، وكنت كلما نظرت إلى ذلك الوجه المقسم وهو يتألق بجانبي، هممت بتصديق المقنع فيما يدعيه في بدره، وما يخيله للناس من ضروب سحره. فما زلت أسايره وما أكلمه هيبة وإجلالا، وقد كنت آليت ألا أبدأه بالكلام حتى عبرنا الجسر، وقطعنا ما بين يديه من الطريق، وقد هممنا أن نعطف يسرة، قال صاحبي: أراك منذ صحبتك صامت اللسان، وإن كنت ناطق الجنان، فما لك لا تحدث ضيفك؟
قلت: إني رأيت - فيما لا يغيب عنك - من أدب المحاضرات ألا يكون كلام الصغير إلا جوابا على سؤال الكبير، وقد ساورتني منك هيبة، فكرهت أن أبدأك بالكلام فتنزل أمري على الجرأة عليك، وقد قال الأستاذ الإمام - رحمه الله: «العلم من علمك من أنت ممن معك.» وإني لخليق ألا أخرج عن أفق القدر الذي حدده لنفسي علمي بها، فليس لي عنه متقدم فأغرر بها، ولا متأخر فأغض منها.
قال: إني لأرى أناة تحمد، وفضلا لا يجحد. ولقد أكرمك ولي الله بحسن الثقة، وأكرمني بصحبتك، أيها الأديب، فانطلق بي إلى تلك البقعة التي وقف الشيطان في ساحتها، يستقبل الزائر بابتسامة تستتر تحتها الويلات استتار النار في العود، ويشيع المنقلب عنها بنظرة لو كانت سهما لنفذت من صميم الجلمود، قلت: لعلك تعني الأزبكية؟
قال: أي وأبيك، فانطلق بي إليها، قلت: بأي الأندية تريد أن نبدأ؟ قال: بأنفقها سوقا، وأكثرها فسوقا، قلت: هذه المراقص المصرية، والمخازي العصرية.
ثم هممنا بالعطف على إحداها، فإذا بصاحبي يحد النظر إلى إنسان يتعثر في مشيته، يريد بناؤه أن ينقض عند كل خطوة من خطواته لفرط هزاله، وسوء حاله، عليه لباس قد أخذت منه الأجواء، وتعاقب عليه الصيف والشتاء، وقد نم منه الظاهر على الباطن، فقرأت على وجهه سطور السأم، وآيات الألم، فقلت: إني أرى سيدي ينعم النظر في هذا الإنسان، ولعله قد داخلته رقة عليه، قال: أي وأبيك، إن في هذا الهيكل لنفسا سجينة، وإن في ذلك الصدر لأسرارا دفينة، فلو رأيت أن ندانيه فنستبطن أمره، ونستطلع سره؟ قلت وقد جعلت أنعم فيه النظر: كأني أعرف هذا الإنسان وإن تنكرت معارف وجهه، وكادت تندرس معالم جسمه.
فما زلت أنفيه وأثبته وهو مشغول عنه بقراءة صحيفة في يده، وقد غمره ما هو فيه من الحزن والأسى، حتى تحققته فناديته باسمه، فرفع طرفه، ودلف إلي مسلما، وقال لي مغمغما: لا تقذ عينك بالنظر إلى هذه الأسمال، فلولا مطاردة القوم لرأيتني على غير تلك الحال، قلت وقد جال الدمع في عيني جولة لم تخف عليه: لعلك لم تحفظ قول التهامي في الدهر وهو يتقلب منه بين اليسر والعسر:
لا تحمد الدهر في بأساء يكشفها
فلو طلبت دوام البؤس لم يدم
والدهر كالطيف نعماه وأبؤسه
Page inconnue