Nuits de l'âme errante
ليالي الروح الحائر
Genres
الجلسة الثالثة في الغابة على شاطئ بحيرة صغيرة ماؤها آسن، كنت على مقعد خشبي صغير أدون بعض المذكرات، وأتمتع بجمال الطبيعة ولذة الحياة، وأسمع تغريد طيور الضحى على الأغصان الخفية، وأستنشق ملء صدري هواء طاهرا نقيا، رأيت عن بعد رينيه مقبلة وهي في ثوب أبيض وقبعة خضراء وعلى رأسها قناع من القز لونه كلون البنفسج، وفي يدها باقة من ورد الألب، فلما أن دنت مني أغلقت كتابي لأقرأ كتابا أبلغ وأبدع، صفحاته عواطفها، وسطوره كلماتها. قالت لي لساعتها: أتبني قصورا فوق سطح الماء؟ قلت لها: قد يكون ذلك، ولكن هيهات أن تبقى أكثر من قصور الرياح. قالت: إن أساطيرنا تروي لنا قصة إرم ذات العماد، وكنت في طفولتي أحلم بأنني دخلتها وملأت أكمامي من كنوزها، ولم أكن أعرف حينذاك أنها من قصور الرياح.
قلت لها: ولكن هلا غيرت رأيك في العالم والإنسانية منذ أول أمس؟ قالت: كنت أمس في الكنيسة أسمع خطبة القسيس، فلما أن بدأ جملته اللاتينية وقال: «إخواني الأعزة.» تلجلج واعترته فهاهة ثم أرتج عليه. قلت لها: ولماذا؟ قالت: لأننا تبادلنا النظرات. قلت: وهل يدعو ذلك إلى تلجلج القسيس الخطيب؟ قالت: نعم؛ لأنه أمس وجدني في الغابة نحو الغروب فدنا مني وحياني فحييته وتحادثنا مليا على غير العادة، ولم يمض على حديثنا ربع ساعة حتى فاتحني في غرامه. قلت لها: أيتها الآنسة، إنك تدهشينني. قالت: يجوز؛ لأنك لا تزال صبيا لا تعرف الحياة. قلت لها: عفوا يا سيدتي. قالت: عفوا يا سيدي.
قلت لها: ألا تفضلين أن نسير قليلا في ظل الأشجار؟ قالت: حبا وكرامة. فسرنا واستسلمنا للطريق، فبلغنا مكانا مشرفا على السهل والجبل فيه الشمس المشرقة والخضرة والمياه المنحدرة، وتحادثنا طويلا في أمور شتى، وإنا لكذلك وإذا السماء قد اكفهرت والغيوم تراكمت، فاسود الجو، وأخذ الرعد يقصف والبرق يخطف، وانهمر المطر كاندفاع الغدران والأنهار.
كنا بعيدين عن الناس مسير ساعتين على الأقل في حضن الطبيعة أمنا الحنون وبين أيدي عناصرها القوية، فنظرت إلى المرأة التي بجانبي والتي قالت إن الأرض إذا انشقت والسماء إذا انطبقت لا يعتريها اهتزاز، فرأيت في عينيها أثر الرعب الشديد، ثم ما لبثت أن أضافت إلى مطر السماء مطر عينيها، فقلت لها بصوت عال حاولت أن أتغلب به على صوت الرعد: أي الاثنين تخشين أيتها السيدة، الطبيعة أم أنا؟ قالت: كلا، لا هي ولا أنت، ولكنني أشعر بخشوع أمام ما أرى وأسمع. قلت لها: إذن ضعي يدك في يدي وهيا بنا نقصد ذلك الكوخ القريب. قالت: إنني لا أستطيع أن أسير في هذا المطر، إن البرد شديد يا أخي. فخلعت لساعتي ردائي وتوسلت إليها أن تتلفع به ففعلت، ثم ركعت وطلبت إليها أن أحملها فامتنعت ثم رضيت، وسرت بها أستند إلى عكاز صغير، فتزل قدمي تارة وتهتدي أخرى إلى أن بلغنا الكوخ الذي رأيناه في أقصى الغابة، فلجأنا إليه إلى أن يهدأ روع الطبيعة الغضوب، وكان الكوخ خاليا.
كانت رينيه مغمضة عينيها طول الطريق، فلما أن وصلنا الكوخ نظرت حولها ونظرت إلي وزال رعبها، وما زلنا صامتين إلى أن اتفق آلهة الجو فيما بينهم على أن يطلقوا الشمس من سجنها وأن يقيدوا البرق والرعد والمطر إلى حين، فخرجنا وسرنا بسكون نحو الفندق. •••
الجلسة الخامسة في غرفة الجلوس ذاتها قبيل الليل كنت أقرأ كعادتي وأستعين على خمود الذهن ووهن القريحة بقهوة البن، فدخلت علي رينيه مشرقة الوجه وقالت: طاب ليلك يا صاحبي! قلت: أهلا بك وسهلا أيتها السيدة، كيف أنت؟ قالت: إنني أنكر نفسي. قلت: وكيف؟ قالت: إن قلبي بدأ يشعر بالصبا وعاود نفسي ظمأ الغرام. قلت لها: وهل عفوت عن الكون والمخلوقات؟ قالت: عفوا شاملا. قلت: وكيف تم ذلك؟ قالت: غسلت دموع أمس كل الحزازات الماضية، وقلبت الرياح صحيفة جديدة من حياتي. قلت: لا حقد على الرجل منذ اليوم ؟ قالت: كلا، لماذا أحقد عليه؟ إن أبي آدم لم يحقد على أمي حواء ورضي بها بديلا من الجنة على أنها هي التي دنسته وأطعمته الفاكهة المحرمة.
فقلت للروح الحائر: وهل أحببت هذه؟
فلم يجب، وتوارى.
الليلة الثالثة عشرة
شعر الأرواح
Page inconnue