Nuits de l'âme errante
ليالي الروح الحائر
Genres
ثم انتهت تلك الحياة المملوءة بالحركة الدائمة، وانقطع دي نافا للنظم والتأليف، تارة في وطنه وأخرى في سويسرا، وإذا تكلم عن وطنه كنت أرى في عينيه بريقا غريبا وفي جبينه نورا جديدا، ثم يأخذ يقول عن مدينته وما والاها أكثر مما يقول العربي عن الجياد والخيام «بسقط اللوا وحومل.»
كان يرسم لي بألفاظه وعينيه وإيماء يديه مدنا وقرى مملوءة بالناس، وأرضا خضراء ذات خصب وزرع كريم، وسماء صافية لا تعكر نقاوتها الغيوم، وبحرا زبرجديا كأنه لسكونه وهدوئه نيلا يحمل تابوت موسى الكليم، وجبالا شامخات تلمس بقممها الكواكب، وتناجي سكان الأرض من رءوسها سكان النجوم.
تلك البقعة من بقع أوروبا يصفها ابنها الشاعر الذي لم يعرف المدح ولا الهجاء، ولم ينزل بملكة النظم من العلا الذي خلقت لأجله، بل وقفها على ترديد صوت عواطفه ووصف جمال وطنه.
ولكن ... استدراك أبدي في محور الدائرة؛ لماذا كانت جدران المنزل مزدانة بصور الموت؟ لماذا كنت إذا دخلت غرفة الجلوس رأيت في صدرها لوحا نقشت عليه صورة تمثل هيكلا إنسانيا مجسما وفي يده محصدة يحصد بها النفوس، وتحت أقدامه جماجم وعظام لا تحصى ولا تعد؟
لماذا كنت إذا دخلت غرفة الطعام رأيت بدلا من صور الفواكه والأسماك وقناني النبيذ التي تزدان بها غرف الموائد؛ صورا تمثل الفناء نازلا على أهل مدينة ومرفرفا عليهم بجناحيه المشئومين؟ وفي إحدى النواحي غربان سحم تنعق وبوم رابض لا يرى منه إلا عيناه الفظيعتان اللتان تملآن قلب الناظر إليها هلعا؟!
لماذا كانت غرفة نومه مزدانة بصورة أوفليا وهي جثة خامدة طافية على وجه الماء في نهر بديع على ضفتيه أشجار الصفصاف الخالدة، وعلى رأسها إكليل من الأزهار وضعته بيدها؛ ليكون حليتها الأخيرة وكأنه رثاء الطبيعة لها؟
لماذا كانت حوائط السلم مملوءة بصور بركان فيزوف أثناء هياجه الأخير؟
كذلك كان ما رأيته من مؤلفات صاحبي نظما ونثرا، قلبت صفحات كتابه «الخرافات الإنسانية» فإذا هو قصص ليس فيها إلا أحاديث الموت والفناء، وتصاويره ذاتها مرعبة مزعجة. إنه يضرب لنا الأمثال على لسان الإنسان كما ضربها إيثوب ولافونتين وعثمان جلال وإبراهيم العرب على لسان الحيوان، ولكن في كل قصة من تلك نرى أثر الدماء المسفوكة والأشلاء المبددة والأجسام المشوهة، الموت يرفرف على صفحات الكتاب من أوله إلى آخره، حتى قصصه التي تبتدئ بالعشق والجمال والسعادة تنتهي بالخراب والموت والفناء. كأنك يا دي نافا جمعت آلام البشر وحشرت فظائع الحياة الإنسانية في كتاب تناولت شعره فلم تكن دهشتي منه أقل من دهشتي لنثره: «رثاء سفينة لم ينج منها أحد»، «صوت الموت»، «أسرار قصر شيلون »، «جحيم دانتي».
فلما رأيت هذا وذاك قلت: إن صاحبي مفكر حزين، وقد يكون في المستقبل من واضعي الروايات الفاجعة، ولم يدر بخلدي أن منزل الرجل وكتبه وشعره كانت كلها حلقة تربط الحال بالاستقبال.
لم يجل بخاطري أن حالة صاحبي النفسية وظواهره المادية والمعنوية لم تكن إلا علاقة العقل البشري بحوادث القضاء.
Page inconnue