Nuits de l'âme errante
ليالي الروح الحائر
Genres
قال: من عجائب الحياة الأرضية ومن غرائب خلائق البشر أن نصف العالم يعيش متنكرا والنصف الآخر يعيش مخدوعا، فلا النصف الأول يخلع قناع التنكر، ولا النصف الآخر يستشف ما اختفى وراءه من الحقائق المخالفة للظواهر، وليس هذا راجعا إلى حذق البعض وغباوة البعض الآخر، إنما الواقع هو أن الكل قد بلغوا النهاية من البلاهة والغاية القصوى من الغفلة. ولا ريب في أنه يصعب التسليم بصدق هذه القضية لأول وهلة كما أنه يصعب علي أن أدونها؛ لأنني لست إلا بعض البشر، ولكنني ما دونتها إلا بعد أن تحققتها، وما تحققتها إلا بعد التأمل في حالي وحال غيري ممن رأيتهم وخبرتهم، فكنت إذا أردت أن أحكم على نفسي في شيء من الأشياء اندفعت أفعل ما أريد بلا حساب، ثم جردت من نفسي شخصا يحكم على ما اكتسبت وكنت أبدا إذا سمعت حكم نفسي على نفسي أو حكم نفسي وهي في صحوها عليها وهي في سكرها عدت عليها باللائمة، وما أعد لها من الحسنات إلا النزر اليسير، وقد أكون فيما عددت منها مخدوعا مغرورا، وكثيرا ما كنت إذا سمعت حكم نفسي على نفسي أضحك منها هازئا بها وبغيرها من النفوس، و«شر البلية ما يضحك.»
وقد بقيت هذه القضية كامنة تجول في صدري ولا أستطيع أن أخرجها؛ لعجزي عن التعبير عنها حتى اختمرت، ثم حدث المرة بعد المرة ما هاجها وهي ناضجة، ففلتت مني قبل أن أعوقها، فتركتها تخرج للناس.
أما وقد مهدت هذا التمهيد؛ ليسهل عليك فهم ما أريد، فها أنا أشرع في التفصيل:
كنت مرة في الحياة الأرضية في محفل حافل بكثيرين ممن يسمون أنفسهم أصحاب السعادة والعزة ويصفونها بالعلم والفضل والذكاء، فإذا دعاهم داع بغيرها أو أغفلها غضوا عنه الطرف وعدوا فعله إهانة لحقتهم ومذلة أصابتهم، كنت بين هؤلاء غريبا عنهم، لا لأنني لا أعرفهم، إنما لأنني لست من طغمتهم؛ ولذا كنت خارجا عن دائرتهم، لا يخدعني ما يخدعهم، ولا يسرني ما يسرهم، ولا يطيب لي ما يطيب لهم، فاستطعت أن أحكم عليهم حكما إن لم يكن العدل بعينه فهو أقرب الأحكام إليه.
هؤلاء القوم دعاهم أحدهم ليخطب فيهم فلبوا دعوته، وفي كل قلب من قلوبهم ما يشغله، فبعضهم جاء ليلقى صاحبا له وفاء بوعد سابق، وبعضهم جاء ليري الناس ثوبا جديدا، وبعضهم جاء ليقتل الوقت فرارا من الضجر، والبعض جاء ليقال عنه إنه يدعى إلى المحافل ويفهم ما يقوله العلماء، أما الرغبة في سماع ما يقال فقد لا تتعدى بعض أفراد قلائل.
دخلت مع الداخلين، وجلست مع الجالسين، وأصغيت إصغاء الحاضرين؛ فإذا الخطيب يقول ما لا يعي، وإذا نحن ندعي فهم ما لا نفهم.
كان الخطيب عالما من العلماء، مشهورا بالفضل، وقد جاء الكل طمعا في شهرته واعتمادا على صيته، فوقف يخطب وهو ممتلئ غرورا بنفسه وإعجابا بفصاحته وطلاقة لسانه وإعجاز بيانه، ولكن السامعين لم يجدوا منه ما كانوا ينتظرون، ولكنه وجد منهم الإصغاء والسكون، فاندفع يصدعنا بركاكاته، ويجلد مسامعنا بترهاته، وكلنا شاعر بقلة عقله بعد أن ظهرت حقيقة علمه وفضله، ولكننا - وا أسفي - عاجزون عن نصحه.
كنت أشعر بالتململ ذات اليمين، وأسمع ألفاظ التأفف والتضجر ذات الشمال، وتقرع أذني كلمات الندم على ذهاب الوقت هباء، فأردت أن أجس نبض الحاضرين؛ لأتثبت من تلك القضية ، فسألت جاري: أفاهم أنت ما يقول؟ فقال: كلا، ولكنني متضجر. فملت إلى غيره وقلت له: أيلذ لك سماع تلك الخطبة؟ فقال لي: إن ضرب السياط أحب إلي منها. فنظرت إلى ثالث وكنت أعرف فيه ما نسميه بالحياء، وسألته عن فصاحة الخطيب ومقدار علمه؛ فابتسم بسمة مبهمة.
فدهشت لخلو هذا الجمع كله من رجل كريم النفس قوي القلب والإرادة ينوب عن الحاضرين في التعبير عما يجول في خواطرهم، بل كان الكل جالسين صامتين كأنهم يخشون العقاب. فمن الملوم في مثل هذا المحفل العجيب؟ أيلام الخطيب وقد امتلأ غرورا بنفسه من ثناء الناس عليه ثناء كاذبا؟ أم نلوم الناس وكلهم خادع مخدوع يوقع البعض بالبعض سعيا وراء منفعة أو جبنا وخوفا من أن يوصموا بضعف العقل والعجز عن تقدير الفضل وذويه؟
إن ذلك الحادث الصغير أساس كل أمر كبير؛ لأن ما يحدث في تلك الحفلة الصغيرة بين هؤلاء «الفضلاء الأذكياء، والعلماء النجباء» يحدث في كل مكان، وما يصدق على هذه الأمة يصدق على غيرها من الأمم الراقية، وقد تكون الشعوب المنحطة أكثر حبا للحرية وأبعد عن قيود التقاليد الاجتماعية من غيرها، فهي من هذه الوجهة أفضل من بلاد العلم والمدنية.
Page inconnue