ألقي القبض على جمصة البلطي وانتزع السيف من يده .. لم يحاول الهرب .. ولم يقاوم، آمن بأن مهمته قد انتهت .. لذلك حل به هدوء وصفاء ذهن، وعلت في وجدانه موجة الشجاعة الخارقة، فشعر بأنه يخطو فوق جلاديه، وبأنه لا يبالي الموت بأي قدر جاء .. وقال لنفسه: إن الإنسان أعظم مما تصور، وإن الدنايا التي اقترفها لم تكن جديرة به على الإطلاق، وإن الإذعان لسطوتها كان هوانا دفعه إليه السقوط والتنكر لطبيعته الإنسانية .. وقال أيضا: إنه يمارس الآن عبادة صافية يغسل بطهرها قذر أعوام النفاق الطويلة.
وانتشر الخبر مع هواء الخريف فصار حديث العامة والخاصة، وفجر الذهول تساؤلات لا حصر لها ولا عد .. وتضاربت النبوءات واحتدم هذيان المجاذيب فانطلق الاضطراب يجتاح الحي والمدينة ويصعد بهرجه إلى القصر السلطاني .. وما لبث أن انتقل الوزير دندان إلى دار الإمارة بالحي على رأس كوكبة من الفرسان.
16
استدعي جمصة البلطي مكبلا بالحديد للمثول أمام العرش في بهو الأحكام .. وتبدى شهريار في عباءته الحمراء التي يرتديها إذا جلس للقضاء، على رأسه عمامة عالية تتراسل في جنباتها فصوص الجواهر النادرة .. إلى يمينه وقف دندان، وإلى يساره رجال السلطنة، على حين اصطف الحرس على الجانبين، أما وراء العرش فقد مثل شبيب رامة السياف.
تجلت في عيني السلطان نظرة ثقيلة محملة بالفكر، ومضى يتفرس في وجه كبير الشرطة مليا، ثم سأله: ألا تقر بفضلي عليك يا جمصة؟
فأجاب الرجل بصوت قوي مثير للأعصاب: بلى، أيها السلطان.
فآنس السلطان منه تحديا لموقفه المكبل بالحديد، فقطب وسأل: أتعترف بأنك قتلت خليل الهمذاني نائبي في حيكم؟ - أجل أيها السلطان. - ماذا دفعك إلى ارتكاب جريمتك الشنعاء؟
فقال بوضوح ودون مبالاة بالعواقب: أن أحقق إرادة الله العادلة! - ومن أدراك بما يريد الله سبحانه؟ - هذا ما ألهمته خلال حكاية عجيبة غيرت مجرى حياتي!
انجذب وجدان السلطان نحو لفظة «حكاية» فتساءل: وما الحكاية؟
روى جمصة البلطي حكايته .. مولده من أبوين من عامة الشعب، تلمذته في الزاوية على يد الشيخ عبد الله البلخي، انفصاله عن الشيخ بعد تعلم مبادئ الدين والقراءة والكتابة، قوة بدنه التي أهلته للخدمة في الشرطة، اختياره كبيرا للشرطة لكفاءته النادرة، انحرافه خطوة فخطوة حتى انقلب مع الزمن حاميا للمنحرفين وجلادا لأصحاب الرأي والاجتهاد، ظهور سنجام في حياته، أزماته المتتابعة، وأخيرا توبته الدامية.
Page inconnue