رَبِّكم. فَمَنْ وَفَى نفسَهُ حظَّها مِن المُباحِ بنيَّةِ التَّقوِّي به على تَقْوِيتها على أعْمالِ الطاعات، كانَ مأجورًا في ذلك، كما قال معاذُ بن جبل: إنِّي أحتسِبُ نَوْمَتِي كما أحتسِبُ قَوْمَتِي. ومَنْ قصَّرَ في حَقِّها حتَّى ضَعُفَتْ وتَضررتْ، كانَ ظالمًا لها. وإلى هذا أشار النبيُّ ﷺ بقوله لعبد الله بن عمرو بن العاص: "إنَّكَ إذا فعلْتَ ذلك نَفِهَتْ له النَّفْسُ، وهَجَمَتْ له العَيْنُ" (^١). ومعنى نَفِهَتْ: كَلَّتْ وأَعْيَتْ. ومعنى هجَمَتِ العَينُ: غَارَتْ.
وقال لأعرابيٍّ جاءَه فأسلمَ، ثمَّ أتاه من عامٍ قابلٍ وقد تغيَّرَ فلم يعرفْهُ، فلمَّا عَرَفَهُ سألَه عن حالِه، قال: ما أَكلْتُ بعدَكَ طعامًا بنهارٍ. فقال له النبيُّ ﷺ: ومَنْ أَمَرَكَ أن تُعذِّبَ نفسَكَ (^٢)؟.
فَمَنْ عذَّبَ نَفْسَهُ بأنْ حمَّلَها ما لا تُطِيقُهُ مِن الصِّيام ونحوِه فربَّما أَثَّرَ ذلك في ضَعْفِ بَدَنِهِ وعَقْلِهِ، فيفوتُهُ من الطَّاعاتِ الفاضِلةِ أكثرُ ممَّا يحصُلُ له (^٣) بتعذِيبه نفسه بالصِّيامِ.
وكان النَّبي ﷺ يتوسَّطُ في إعطاء نفسِه حقَّها ويَعدلُ فيها غايَةَ العَدْلِ؛ فيصومُ ويُفطِرُ، ويَقومُ ويَنامُ، وينكِحُ النِّساءَ، ويأكل ممَّا يجِدُ (^٤) منَ الطيباتِ، كالحلواءِ (^٥) والعسَلِ ولحمِ الدَّجاجِ. وتارةً يَجوعُ حتَّى يَربِطَ على بطنِهِ الحَجَرَ.
وقال: "عَرَضَ عليَّ ربِّي أنْ يَجعَلَ لي بطحاءَ مكَّةَ ذَهَبًا، فقلْتُ: لا يا ربِّ، ولكن أجوعُ يومًا وأشبَعُ يومًا؛ فإذا جُعْتُ تَضَرعْتُ إليكَ وذكَرْتُكَ، وإذا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ وشَكَرْتُكَ" (^٦).
(^١) قطعة من حديث تقدم تخريجه، وله روايات عديدة، أخرجه البخاري رقم (١٩٧٩) في الصوم: باب صوم داود ﵇، ومسلم رقم (١١٥٩) في الصوم، والنسائي ٤/ ٢٠٩ في الصيام.
(^٢) من حديث مجيبة الباهلية في سنن أبي داود رقم (٢٤٢٨) وقد مضى تخريجه.
(^٣) في ب، ط: "أكثر مما حصَّله".
(^٤) في ب ط: "ما يجد".
(^٥) في آ، ع: "كالحلوى" مقصور؛ وهو كالحلواء بالمد.
(^٦) أخرجه الترمذي رقم (٢٣٤٨) في الزهد، باب ما جاء في الكفاف والصبر عليه، من حديث أبي أمامة الباهلي ﵁، وإسناده حسن، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، قال: وفي الباب عن فضالة بن عبيد.