Landmarks of Religion from Sayings of the Truthful and Trustworthy
معالم الدين من أحاديث الصادق الأمين
Maison d'édition
دار مشارق الأنوار للبحث العلمي
Numéro d'édition
الأولى
Année de publication
١٤٣٤ هـ - ٢٠١٣ م
Genres
جَزى اللهُ أصحابَ الحديثِ مَثُوبةً ... وبَوَّأهم في الخُلدِ أعلى المنازلِ
فلولا اعتِناهُم بالحديثِ وحِفظِه ... ونَفْيُهم عنه ضُروبَ الأباطلِ
وإنفاقُهم أعمارَهم في طِلابِه ... وبحثُهم عنه بجِدٍّ مُواصِلِ
لَمَا كان يَدرِي مَنْ غَدا مُتَفَقِّهًا ... صَحيحَ حديثٍ مِنْ سَقيمٍ وباطلِ
ولم يَسْتَبِنْ ما كان في الذِّكْرِ مُجْمَلًا ... ولم نَدْرِ فَرْضًا مِن عُمومِ النَّوافِلِ
لقد بَذلوا فيه نفوسًا نفيسةً ... وباعُوا بِحَظٍّ آجِلٍ كلَّ عاجِلِ
فحُبُّهم فَرضٌ على كلَّ مُسْلِمٍ ... وليس يُعادِيهِم سِوى كلِّ جاهِل
معالم الدين
من أحاديث الصادق الأمين
1 / 2
حقوق الطبع محفوظة
دار مشارق الأنوار
جوال/ ٠١١٤٩٧٧٨٤١٦
الطبعة الأولى سنة ١٤٣٤ هـ / ٢٠١٣ م
1 / 3
«نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حديثًا فحَفِظَه حتى يُبَلِّغَه غيرَه» حديث شريف
معالم الدين
من أحاديث الصادق الأمين
بقلم
محمد محب الدين أبو زيد
دار مشارق الأنوار
1 / 4
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأُمِّي الأمين، وعلى آله وصحبه الطيِّبين الطاهرين. وبعد:
فامتثالًا لقول النبي ﷺ: «نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حديثًا فحَفِظَه حتى يُبَلِّغَه غيرَه»، رأيتُ أن أجمع طائفة من الأحاديث النبوية الجامعة لأصول الدين وأحكامه، انتقيتُ معظمها من كتب الأربعينيات، التي قصد مؤلفوها جَمْعَ أربعين حديثًا من الأحاديث النبوية، معتمدين في ذلك على حديث: «مَنْ حَفِظَ على أُمَّتي أربعين حديثًا مِن أمرِ دينِها بعثه اللهُ يومَ القيامةِ في زُمرةِ الفقهاءِ والعلماءِ»، وهو حديث قد اتفق الحُفَّاظ على ضعفه.
فبعض هؤلاء العلماء جمع أربعين حديثًا في أصول الدين، وبعضهم في الأحكام، وبعضهم في الزهد والرِّقاق، وبعضهم في الآداب والأخلاق، وبعضهم في الجهاد، وبعضهم في الذِّكر، إلى غير ذلك من المقاصد الحسنة.
فرأيتُ أن أجمع -مقتديًا بهؤلاء العلماء ومسترشدًا بصنيعهم- أحاديث صحيحة مشتملة على جميع تلك المقاصد، في أصول الدين، وأحكام الشريعة، والزهد، والذِّكر، والآداب، والأخلاق، وغيرها.
فصار هذا الكتاب جامعًا لأصول الأحاديث التي تُبيِّن معالمَ الدين وأحكامَه العامة، لعل الله ﷿ أنْ يمحو به ما انتشر بين المسلمين اليوم من الجهل بأمور دينهم، حتى إنك ترى الرجلَ يحمل أعلى الشهادات، ويتقلَّد أرفع
1 / 5
المناصب، وهو لا يعلم عن دينه شيئًا، فالأُمِّي الذي لا يقرأ ولا يكتب ويعلم ما افترض الله عليه من أمور دينه أفضل في ميزان الشرع من هذا المثقَّف العالم بأمور دنياه الجاهل بأمور دينه، قال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم: ٦ - ٧].
قال الإمام ابن كثير في «تفسيره» (٦/ ٣١١): ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أي: بحِكَم الله في كونه وأفعاله المُحْكمة الجارية على وفق العدل.
وقوله: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ أي: أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها، فهم حُذَّاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها، وهم غافلون عما ينفعهم في الدار الآخرة، كأنَّ أحدهم مُغَفَّل لا ذهن له ولا فكرة.
قال الحسن البصري: والله لَبَلَغَ من أحدهم بدنياه أنه يقلِّب الدرهم على ظفره فيُخبرك بوزنه، وما يُحسن أن يصلي.
وقال ابن عباس في قوله: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ يعني: الكفار، يعرفون عمران الدنيا، وهم في أمر الدين جُهَّال. اهـ.
* وأهم كتب الأربعينيات التي انتقيت منها هذا الكتاب هي:
١ - «الأربعون» للإمام محمد بن أسلم الطُّوسي (ت: ٢٤٢ هـ).
٢ - «الأربعون» للإمام الحسن بن سفيان النَّسَوي (ت: ٣٠٣ هـ).
٣ - «الأربعون حديثًا» للإمام أبي بكر محمد بن الحسين الآجُرِّي (ت: ٣٦٠ هـ).
٤ - «الأربعون» للإمام أبي بكر ابن المُقْرئ (ت: ٣٨١ هـ).
1 / 6
٥ - «كتاب الأربعين في فضائل ذِكر رب العالمين» للإمام مسافر بن محمد بن حاجي الدمشقي (ت: ٤٢٠ هـ).
٦ - «الأربعون الصغرى» للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت: ٤٥٨ هـ).
٧ - «الأربعون في دلائل التوحيد» للإمام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهَرَوي (ت: ٤٨١ هـ).
٨ - «الأربعون» للإمام القاسم بن الفضل الثقفي الأصبهاني (ت: ٤٨٩ هـ).
٩ - «الأربعون» للإمام أبي سعد محمد بن يحيى النَّيسابوري (ت: ٥٤٨ هـ).
١٠ - «كتاب الأربعين في إرشاد السائرين إلى منازل المتقين» للإمام أبي الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي (ت: ٥٥٥ هـ).
١١ - «الأربعون الكيلانية» للإمام عبد الرزاق بن عبد القادر الكيلاني (ت: ٥٩٥ هـ).
١٢ - «كتاب الأربعين في فضل الدعاء والداعين» للإمام شرف الدين علي بن المُفَضَّل المقدسي (ت: ٦١١ هـ).
١٣ - «الأربعون حديثًا» للإمام صدر الدين الحسن بن محمد البَكْري (ت: ٦٥٦ هـ).
١٤ - «الأربعون في الأحكام» للإمام زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المُنْذري (ت: ٦٥٦ هـ).
١٥ - «الأربعون» للإمام أبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (ت: ٦٧٦ هـ).
1 / 7
١٦ - «كتاب الأربعين في صفات رب العالمين» للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت: ٧٤٨ هـ).
١٧ - «الأربعون حديثًا في قواعد من الأحكام الشرعية وفضائل الأعمال والزهد» للإمام جلال الدين السيوطي (ت: ٩١١ هـ).
وقد زدتُ أحاديث من عندي لم يذكرها هؤلاء العلماء، رأيتُها مهمةً في بابها.
* وقد شرحتُ الألفاظ الغريبة، وعلَّقتُ على الأحاديث تعليقات مختصرة، وأهم الكتب التي اعتمدتُ عليها في ذلك:
١ - «معالم السنن» للخطابي.
٢ - «التمهيد» لابن عبد البر.
٣ - «شرح صحيح البخاري» لابن بطال.
٤ - «كشف مشكل الصحيحين» لابن الجوزي.
٥ - «النهاية في غريب الحديث» لابن الأثير.
٦ - «شرح صحيح مسلم» للنووي.
٧ - «شرح الأربعين النووية» لابن دقيق العيد.
٨ - «جامع العلوم والحِكَم» لابن رجب.
٩ - «فتح الباري» لابن حجر.
١٠ - «عمدة القاري» للعيني.
١١ - «فيض القدير» للمُناوي.
١٢ - «مرقاة المفاتيح» للمُلَّا علي القاري.
١٣ - «المصباح المنير» للفيومي.
1 / 8
١٤ - «تاج العروس» للزَّبيدي.
١٥ - «شرح الأربعين» لابن عثيمين.
١٦ - «فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين» لعبد المحسن بن حمد العباد البدر.
* وقد رأيتُ أن أُقدِّم أمام هذه الأحاديث المختارة بمقدِّمة مختصرة تحتوي على منهج أهل السنة والجماعة في الاعتقاد وأحكام الشريعة العامة، اقتبستُها ممَّا وصل إلينا من عقائد أئمة أهل السنة والجماعة.
كما أورتُ في نهاية الكتاب القصيدة الحائية في أصول السنة للإمام أبي بكر بن الإمام أبي داود السجستاني رحمة الله عليهما.
وأخيرًا، أسأل الله العظيم أن ينفع بهذا الكتاب، وأن يكتب له القبول عنده وفي الأرض، وأن ينفعني به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العلمين.
وكتب
محمد محب الدين أبو زيد
الإثنين الموافق ١١ من صفر ١٤٣٤ هـ
٢٤ من ديسمبر ٢٠١٢ م
1 / 9
منهج أهل السنة والجماعة
في الاعتقاد والأحكام العامة للشريعة
* أهل السنة والجماعة يؤمنون بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
* فيُقِرُّون بتوحيد الله في ربوبيته بأنه تعالى هو الخالق الرازق المُحيي المُميت، المالك لجميع المخلوقات، المُدَبِّر لجميع الأمور، المتصرِّف في كل مخلوقاته، لا شريك له في ملكه.
* كما يُقِرُّون بتوحيد الألوهية، وهو إفراد الله تعالى بالعبادة وحده لا شريك له، والإخلاص له، وخوفه ومحبته ورجاؤه والتوكُّل عليه، فلا يُعْبَد ولا يُدْعى ولا يُرْجى إلا الله وحده لا شريك له، ولا يُتوكَّل إلا عليه، ولا يُستغاث بغيره، ولا يُذبَح لغيره، ولا يُنذَر لغيره، لا لمَلَك مقرَّب ولا لنبي مرسَل.
* كما يؤمنون بكل ما ورد في الكتاب والسنة من أسماء الله وصفاته، ويثبتون ذلك على حقيقته من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل.
* فيؤمنون بأن الله فوق سماواته، مستوٍ على عرشه، عالٍ على خلقه، بائن منهم وهم بائنون منه، وأنَّ علمه في كل مكان.
* وأنَّ له سبحانه سمعًا وبصرًا ووجهًا وعينين ويدين وعلمًا وقوة وقدرة وعزة وعظمة وإرادة ومشيئة، وأنه يجيء يوم القيامة، ويَنزل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر.
* وأنه سبحانه يتكلَّم ويَرضى ويسخط ويغضب ويُحب ويبغض ويَعجب ويضحك، وتعالى الله أن تكون صفاته كصفات المخلوقين.
1 / 10
* وأنَّ القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.
* ويؤمنون بالملائكة، وأنهم خُلِقوا من نور، وأنهم عباد مُكْرَمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويؤمنون بجبريل وميكائيل وإسرافيل ومَلَك الموت وحملة العرش والكِرام الكاتبين.
* ويؤمنون بكل كتاب أنزله الله، وبكل رسول أرسله الله، لا يُفَرِّقون بين أحد من رسله، دينهم واحد هو الإسلام، وشرائعهم متعددة نسختها الشريعة المحمدية الخاتمة.
* ويشهدون أنَّ محمدًا عبدُ الله ورسوله، وصفيُّه من خلقه وخليلُه، أرسله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أرسله إلى الإنس والجن شاهدًا ومبشِّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فلا عقيدة إلا عقيدته، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا طريقة إلا طريقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا يَصِلُ أحد من الخلق إلى الله وإلى رضوانه وجنته وكرامته وولايته، إلا بمتابعته باطنًا وظاهرًا، في الاعتقادات والأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، ولا يسمع به يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن به إلا كان كافرًا خالدًا مخلَّدًا في نار جهنم.
* ويعلمون أنه أعلمُ الخلق وأصدقهم وأنصحهم للناس، فيُعظِّمونه ويوقِّرونه ويُحبُّونه، ويُقَدِّمون محبته على أنفسهم وأهليهم والناس أجمعين، ويتخذونه أسوة حسنة، ويُقَدِّمون قوله وهديه على قول كل أحد وهديه، ويُعظِّمون أحاديثه ويُصدِّقونها ويتَّبعونها، ويعلمون أنه لم يُبق خيرًا إلا ودلَّ أمته عليه، ولا شرًا إلا وحذَّرهم منه.
1 / 11
* ويعتقدون أن الله جمع له من الفضائل والخصائص والكمالات ما لم يجمعه لأحد، فهو أعلى الخلق مقامًا، وأعظمهم جاهًا، وأكملهم في كل فضيلة، فصلى الله عليه وسلم في الأولى والآخرة.
* ويؤمنون بما صح من أشراط الساعة: من خروج الدجال، وأنه مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب، ونزول المسيح عيسى ابن مريم ﵇ من السماء فيقتل الدجال بباب لُدٍّ، وخروج يأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة الأرض من موضعها.
* وينزل عيسى ابن مريم ﵇ في آخر الزمان، فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، فلا يقبل إلا الإسلام.
* ويؤمنون بعذاب القبر ونعيمه، وسؤال الملَكين منكَر ونكير، يسألان العبد: مَن ربُّك؟ وما دينك؟ ومَن الرجل الذي بُعث فيكم؟
* ويؤمنون بالبعث بعد الموت يوم القيامة، وبكل ما أخبر الله تعالى ورسوله ﷺ من أهوال ذلك اليوم الحق: من أخذ الكتب باليمين والشمال ومن وراء الظهر، ومن وزن الأعمال بميزان له كفتان ولسان، ومن المرور على صراط بين ظَهْرَانَيْ جهنم، أدق من الشعر وأَحَدِّ من السيف، وفي حافَّتَيْ الصراط كلاليب معلَّقة مأمورة بأَخْذ مَن أُمِرَت به، فناجٍ مُسَلَّم، ومخدوش مُرْسَل، ومكدوس في النار.
* ويؤمنون بشفاعة النبي ﷺ لأهل الكبائر من أمته، وباختصاصه بالحوض والكوثر.
* ويؤمنون بإدخال فريق من المؤمنين الجنة بغير حساب، ومحاسبة فريق
1 / 12
منهم حسابًا يسيرًا، وإدخالهم الجنة بغير سوء يمسهم وعذاب يلحقهم، وإدخال فريق من مذنبيهم النار ثم إخراجهم منها وإلحاقهم بإخوانهم الذين سبقوهم إلى الجنة، ولا يترك الله أحدًا من عصاة أهل الإيمان في النار، بل يُخرِج الله مَن كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فأما الكفار فإنهم يُخَلَّدون فيها ولا يخرجون منها أبدًا.
* ويشهدون أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم، لا يَشُكُّون في رؤيته.
* ويشهدون أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، باقيتان لا تبيدان ولا تفنيان، وأنه لا يدخل الجنة أحد من أهل الشرك، ولا يبقى في النار أحد من أهل الإسلام، وأن الكفار في النار لا يخرجون منها أبدًا، وأهل الجنة لا يخرجون منها أبدًا، وأن الموت يُؤتى به على صورة كبش فيُذبح بين الجنة والنار، وينادي منادٍ يومئذ: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت.
* ويعتقدون أنَّ الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
* وأن المؤمن لا يَكفر بما اقترفه من صغائر وكبائر ولو كثرت، وإن مات ولم يتب منها -وكان على التوحيد- فإن أمره إلى الله، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة بلا عذاب، وإن شاء عذَّبه مدة في النار ولم يُخلِّده فيها، بل يُخْرجه منها إلى الجنة.
* ويؤمنون بالقدر خيره وشره حُلوه ومُرِّه من الله، عَلِمَ الله ما العباد عاملوه قبل أن يعملوه، وكتب كل شيء في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وأفعال العباد وأكسابهم مخلوقة لله تعالى.
1 / 13
* للرب مشيئة وللعباد مشيئة، ولا تنفذ مشيئة العباد إلا بمشيئة الله، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله. لا يتحرك متحرِّك، ولا يسكن ساكن، ولا يحدث شيء في السماوات والأرض إلا بتقدير الله وإذنه ومشيئته.
* ويشهدون أنَّ الله يهدي مَن يشاء ويضل مَن يشاء، لا حُجة لمَن أضله الله عليه، ولا عذر له لديه، وجعل سبحانه الخلق فريقين؛ فريقًا في الجنة فضلًا، وفريقًا في النار عدلًا، لا يُسئل عما يفعل وهم يُسئلون.
* ويعتقدون أن أحدًا لا تجب له الجنة وإنْ كان عمله حسنًا إلا أنْ يتفضَّل الله عليه فيوجبها له بمنِّه وفضله؛ إذ عَمَلُ الخير الذي عَمِله لم يتيسَّر له إلا بتيسير الله، فلو لم ييسِّره له، ولو لم يهده لم يهتد له أبدًا، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ [الأعراف: ٤٣].
* والله ﷿ مريد إرادة كونية قدرية لجميع أعمال العباد خيرها وشرها، وإيمان المؤمنين وكفر الكافرين بإرادة الله ومشيئته، ويرضى الإيمانَ والطاعة، ويسخط الكفر والمعصية.
* ويؤمن أهل السنة أن الخير والشر والنفع والضر بقضاء الله وقدره، لا يُصيب الإنسان إلا ما كتبه له ربُّه، ولو اجتمع الخلق أن ينفعوه بشيء لم يكتبه الله له لم يستطيعوا، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يكتبه الله عليه لم يستطيعوا.
* ومع إيمان أهل السنة بقضاء الله وقدره، فإنهم يصبرون على مُرِّ القضاء، ويشكرون عند النعماء، ويُفَوِّضون أمورهم كلَّها لربهم ﷾.
* ويعتقدون أن الله أجَّل لكل مخلوق أجلًا، وأنَّ نفسًا لن تموت إلا بإذن الله
1 / 14
كتابًا مؤجَّلًا، وأنه إذا انقضى أجل المرء فليس إلا الموت، وليس منه فوت.
* ويعتقدون أن عواقب العباد مُبهَمة، لا يدري أحد بما يُخْتَم له، ولا يحكمون لواحد بعينه أنه من أهل الجنة أو أنه من أهل النار.
* فأما الذين شهد لهم رسول الله ﷺ من أصحابه بأعيانهم أنهم من أهل الجنة، فإن أهل السنة يشهدون لهم بذلك؛ تصديقًا منهم للرسول ﷺ، وقد بشَّر ﷺ عشرة من أصحابه بالجنة وهم: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عُبيد الله، والزُّبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاص، وسعيد بن زيد، وأبو عُبيدة بن الجراح.
* وكذلك شهد لغير هؤلاء بالجنة مثل: ثابت بن قيس بن شمَّاس، وبلال بن رباح، وعُكَّاشة بن مِحْصَن، وغيرهم.
* ويشهدون أن أفضل الصحابة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأنهم الخلفاء الراشدون المهدِيُّون، ثم بعد هؤلاء في الفضل بقية العشرة المبشَّرين بالجنة.
* ثم أفضل الناس بعد هؤلاء بقية أصحاب النبي ﷺ، وأدنى الصحابة منزلة أفضل من أعلى التابعين منزلة، ولو أتى التابعي بكل أعمال الخير كان الصحابي أفضل منه؛ لأن منزلة الصحبة لا تعدلها منزلة.
* ويتولَّون صحابة رسول الله ﷺ ويحبونهم ويعرفون حقَّهم وفضلهم، ويتبرؤون ممن يبغضهم أو يكفِّرهم، من الشيعة الرافضة والخوارج المارقة، لعنهم الله وأصمهم وأعمى أبصارهم.
1 / 15
* ويرون الكفَّ عمَّا شجر بين الصحابة، وعدمَ ذِكْرِ مساويهم، وَنشْرَ فضائلهم ومحاسنهم، والترحُّمَ عليهم جميعًا، وأنهم أحق أن يُلْتَمس لهم أحسنُ المخارج، وأن يُظَنَّ بهم أحسنُ المذاهب.
* ومعاوية بن أبي سفيان خال المؤمنين، وكاتب وحي رب العالمين، وأحد خلفاء المسلمين.
قال الإمام أحمد بن حنبل: إذا رأيتَ رجلًا يذكر أحدًا من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام.
وسُئل ﵀ عن رجل تنقَّص معاوية وعمرو بن العاص: أيقال له رافضي؟ فقال: إنه لم يجترِئ عليهما إلا وله خبيئة سوء، ما انتقص أحدٌ أحدًا من أصحاب رسول الله ﷺ إلا وله داخلة سوء.
* ويَرَوْن تعظيم أزواج النبي ﷺ، والدعاء لهن، ومعرفة فضلهن، والإقرار بأنهن أمهات المؤمنين.
* ويعرفون فضل آل بيت رسول الله ﷺ، ويحبونهم ويوقِّرونهم، ويحفظون وصية رسول الله ﷺ فيهم، ويتبرءون من طريقة النواصب الذين يبغضونهم. ولا يَغْلُون فيهم، ولا يرفعونهم فوق منزلتهم، ولا يَدْعونهم من دون الله، كما يفعله الشيعة الرافضة وغلاة المتصوِّفة.
* ولا يَرَوْن القتال في الفتنة التي تحدث بين المسلمين في التنازع على الدنيا، ويلزمون الجماعة، ويعتزلون الفتن، ويرون السمع والطاعة لولاة الأمر ما لم يأمروا بمعصية، فإن أمروا بمعصية فلا سمع ولا طاعة، ولا يرون الخروج عليهم، ويصبرون على ما كان منهم من ظلم وجور.
1 / 16
* ويعتقدون أن الله خلق الشياطين، يوسوسون للآدميين، ويقصدون استزلالهم، وأنه تعالى يسلِّطهم على مَن يشاء، ويعصم مِن كيدهم ومكرهم مَن يشاء.
* ويشهدون أن في الدنيا سِحرًا وسَحَرة، إلا أنهم لا يضرون أحدًا إلا بإذن الله، وأنَّ مَن سحر واستعمل السحر واعتقد أنه يضر وينفع بغير إذن الله فقد كفر.
* ولا يُصَدِّقون كاهنًا ولا عرَّافًا، ولا مَن يدَّعي شيئًا يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
* ويبتعدون عن آراء الفلاسفة وأهل الكلام، والخوضُ في الفلسفة والمنطق والكلام عندهم بدعة منكرة، حدثت لأن بعض الناس لم يقنعوا بالكتاب والسنة في إثبات الاعتقادات وأحكام الشريعة، فنظروا في مذاهب الفلاسفة الملاحدة، فحملهم ذلك على مذاهب باطلة أفسدوا بها عقائد المسلمين، وليس بالعقيدة وأحكام الشريعة افتقار إلى الفلسفة والمنطق أصلًا. والحمد لله.
* ويوقنون أن العقل الصريح يوافق النقل الصحيح ويؤيده، وكلُّ ما خالف الكتاب والسنة وطريق سلف الأمة فهو مخالف لصريح المعقول.
* ويتحابُّون في الدين ويتباغضون فيه، فيُحبون أهل الإسلام ويوالونهم، ويبغضون أهل الكفر ويعادونهم ويتبرؤون منهم، ومع بغضهم للكفار فإنهم يُحسنون إلى أهل الذمة منهم كما أمر الرسول ﷺ.
* ويتقون الجدال والخصومات في الدين، ويجانبون أهل البدع والضلالات، ويُعادون أصحاب الأهواء والجهالات، ومع هذا، فإنهم يحرصون على جمع كلمة المسلمين، ويسعون في تقريب قلوبهم وتأليفها، ويحذِّرون من التفرُّق
1 / 17
والتعادي والتباغض والتحاسد.
* ويقتدون بالنبي ﷺ وبأصحابه والسلف الصالحين وأئمة الدين وعلماء المسلمين، ويتمسَّكون بما كانوا به متمسِّكين، من الدين المتين والحق المبين.
* ويعتقدون أنه لا سبيل إلى إصلاح هذه الأمة وعزتها ونُصرتها إلا باتباع الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، فإنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
* ويَرَوْن المسارعة إلى أداء الصلوات في أوقاتها مع الاطمئنان والخشوع فيها، ويتواصون بقيام الليل، وبصلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى الجيران، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين، والتعفُّف في المأكل والمشرب والمنكح والملبس، والعدل والإنصاف في جميع المعاملات ومع جميع الناس، والسعي في الخيرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإحسان إلى الخلق أجمعين، وينهون عن أذية الخلق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ويتواصون بالحق والصبر، ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها، وينهون عن مساوئ الأخلاق وأراذلها.
* هذا جملة ما عليه السلف الصالح، أصحاب الحديث والأثر، أهل السنة والجماعة، وهم الطائفة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، جعلنا الله منهم وحشرنا معهم يوم القيامة، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
1 / 18
التوحيد
١ - عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ ﵁ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ (١)، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى (٢)، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ (٣)، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ (٤)» (٥). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
٢ - عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ﵁ قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ (٦) النَّبِيِّ ﷺ عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ، فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي ما حَقُّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ؟ وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟». قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا
_________
(١) النية: هي قصد القلب، وليس من السنة التلفظ بها. والمراد: أن صلاح الأعمال وفسادها بحسب صلاح النية وفسادها.
(٢) أي: أن حظ العامل من عمله نيته، فإن كانت صالحة، فعمله صالح، فله أجره، وإن كانت فاسدة، فعمله فاسد، فعليه وزره.
(٣) أي: من قصد بهجرته وجه الله فهجرته مقبولة عند الله ورسوله، وقد وقع أجره على الله.
(٤) أي: من قصد بهجرته دنيا أو امرأة فهي حظه، ولا نصيب له في الآخرة.
(٥) قال الإمام الآجري في «الأربعين» (ص: ٧٩): «اعلم أن هذا الحديث أصل من أصول الدين، لا يجوز لأحد من المسلمين أن يؤدي ما افترض الله ﷿ عليه من فريضة، ولا يتقرب إليه بنافلة إلا بنية خالصة صادقة، لا رياء فيها ولا سُمعة، ولا يريد بها إلا الله ﷿، ولا يُشرك فيها مع الله ﷿ غيره؛ لأن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أُخلِص له وأُريد به وجهه، لا يختلف في هذا العلماء» اهـ.
أقول: ولكي يكون العمل مقبولًا فلابد أن يتوفر فيه شرطان:
أولهما: إخلاص العمل لله، وهو الذي يدل عليه هذا الحديث.
وثانيهما: متابعة النبي ﷺ، ويدل عليه الحديث الآتي: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد».
فلابد لكي يُقبل العمل أن يكون خالصًا لله، على هدي رسول الله ﷺ.
(٦) أي: خلف.
1 / 19
يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» (١). فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: «لَا تُبَشِّرْهُمْ، فَيَتَّكِلُوا (٢)». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
٣ - عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ﵁، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ (٣)، وَالجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ (٤)». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
٤ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ (٥)؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا
_________
(١) فحقه تعالى على عباده: أن يعبدوه، مخلصين له العبادة، ممتثلين ما أمرهم به وأوجبه عليهم، وأعظمه التوحيد، ومجتنبين ما نهاهم عنه وحرمه عليهم، وأعظمه الشرك، فإذا فعلوا ذلك، فحقهم عليه أن يغفر لهم ولا يعذبهم، وأن يدخلهم الجنة، وقد وعدهم ذلك، ووعده حق لا يُخلَف.
(٢) أي: يعتمدوا على هذا ويتركوا الاجتهاد في العمل.
(٣) «وكلمته ألقاها إلى مريم»: أي: قوله: «كن»، وسُمِّي عيسى ﵇ كلمة؛ لأنه كان بكلمة «كن» فحسب من غير أب، بخلاف غيره من بني آدم. «وروح منه»: أي: مخلوقة من عنده، وعلى هذا يكون إضافتها إليه إضافة تشريف، كناقة الله وبيت الله.
(٤) هذا محمول على إدخاله الجنة في الجملة، فإن كانت له معاص من الكبائر فهو في مشيئة الله، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، فإن عذبه لم يخلده في النار وختم له بالجنة.
(٥) فيه إثبات شفاعة النبي ﷺ لأمته، وهو من أصول أهل السنة. وله ﷺ في القيامة ثلاث شفاعات: أما الشفاعة الأولى: فيشفع في أهل الموقف حتى يُقضى بينهم بعد أن تتراجع الأنبياء: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم عن الشفاعة حتى تنتهي إليه.
وأما الشفاعة الثانية: فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة. وهاتان الشفاعتان خاصتان له.
وأما الشفاعة الثالثة: فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصدِّيقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها، وهذه هي الشفاعة المرادة في الحديث المذكور.
1 / 20
الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ (١)، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ، أَوْ نَفْسِهِ» (٢). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
٥ - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ﵁ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ ﵎: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ (٣)، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الَارْضِ (٤) خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» (٥). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
_________
(١) فيه الترغيب على أخذ الحديث وحفظه والحرص عليه، والثناء على أبي هريرة بذلك.
(٢) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «الفرق بين عبادات أهل الإسلام وعبادات أهل الشرك» (ص: ١٢٨): «فأهل التوحيد المخلصون لله هم أحق الناس بشفاعته ﷺ، فمن كان لا يدعو إلا الله، ولا يرجو إلا الله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يدعو مخلوقًا، لا مَلَكًا، ولا بشرًا، لا نبيًّا، ولا صالحًا، ولا غيرهما، كان أحق بشفاعته ممن يدعوه، أو يدعو غيره من المخلوقين، فإن هؤلاء مشركون، والشفاعة إنما هي لأهل التوحيد. وإذا كان كذلك، فالذين يدعون المخلوقين، ويطلبون من الموتى والغائبين الدعاء والشفاعة، هم أبعد عن الشفاعة فيهم، والذين لا يدعون إلا الله هم أحق بالشفاعة لهم» اهـ.
(٣) العنان: السحاب.
(٤) أي: بما يقارب ملأها.
(٥) قال الإمام ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» (٢/ ٤٠٦ - وما بعدها): «تضمن هذا الحديث الأسباب الثلاثة التي يحصل بها المغفرة:
أحدها: الدعاء مع الرجاء، فإن الدعاء مأمور به، وموعود عليه بالإجابة، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: ٦٠]، لكن الدعاء سبب مقتض للإجابة مع استكمال شرائطه، وانتفاء موانعه، وقد تتخلف إجابته، لانتفاء بعض شروطه، أو وجود بعض موانعه، ومن أعظم شرائطه: حضور القلب، ورجاء الإجابة من الله تعالى. وقوله: «إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك ما كان فيك ولا أبالي» يعني: على كثرة ذنوبك وخطاياك، لا يتعاظمني ذلك، ولا أستكثره، فذنوب العبد وإن عظمت فإن عفو الله ومغفرته أعظم منها، فهي صغيرة في جنب عفو الله ومغفرته.
السبب الثاني للمغفرة: الاستغفار، ولو عظمت الذنوب، وبلغت الكثرة عنان السماء. والاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة: هي وقاية شر الذنوب مع سترها. والاستغفار التام الموجب للمغفرة هو ما قارن عدم الإصرار، كما مدح الله أهله، ووعدهم بالمغفرة.
السبب الثالث من أسباب المغفرة: التوحيد، وهو السبب الأعظم، فمن فقده فقد المغفرة، ومن جاء به فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: ٤٨] فمن جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا، لقيه الله بقرابها مغفرة، لكن هذا مع مشيئة الله ﷿، فإن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار، بل يخرج منها، ثم يدخل الجنة. فإنْ كمل توحيد العبد وإخلاصه لله فيه، وقام بشروطه كلها بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت، أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكلية. فمن تحقق قلبُهُ بكلمة التوحيد، أخرجت منه كل ما سوى الله محبة وتعظيمًا وإجلالًا ومهابة وخشية ورجاء وتوكلًا، وحينئذ تحرق ذنوبَهُ وخطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر، وربما قلبتها حسنات» اهـ باختصار.
1 / 21