معالم أصول التربية الإسلامية من خلال وصايا لقمان لابنه
معالم أصول التربية الإسلامية من خلال وصايا لقمان لابنه
Maison d'édition
مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
Numéro d'édition
السنة الثامنة والعشرون-١٤١٧هـ
Année de publication
١٤١٨هـ
Genres
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
مُقَدّمَة الدراسة:
الْحَمد لله رب الْعَالمين وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على أشرف الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ.
أما بعد:
تظهر على الساحة التربوية بَين آونة وَأُخْرَى العديد من الأفكار والنظريات التربوية الَّتِي تَدعِي اهتمامها بتربية الْإِنْسَان وتهذيبه مثل النظريات المثالية والوجودية والواقعية والبرجماتية وَغَيرهَا، وبالرغم من ملاءمة تِلْكَ النظريات لظروف وَاقعهَا إِلَى حد مَا إِلَّا أَنه يُمكن القَوْل أَن تِلْكَ النظريات تقف عاجزة أَمَام تحديات تربية الْإِنْسَان فِي كل عصر هَذَا من جِهَة وَمن جِهَة أُخْرَى أَنَّهَا لَيست عَامَّة وشاملة لكل زمَان وَمَكَان.
من هُنَا كَانَت حَاجَة الْإِنْسَان إِلَى تربية تهذب العناصر الْمَطْلُوبَة لشخصيته وَهِي عناصر طيبَة تلتقي جَمِيعهَا فِي نقطة وَاحِدَة هِيَ الْفَضِيلَة وَالَّتِي يُمكن توضيحها بِأَنَّهَا كل فعل فعلته فأرضيت فِيهِ رَبك وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ قَلْبك واستراح لَهُ ضميرك ونلت بِهِ حب النَّاس١. بِهَذِهِ المواصفات يُمكن إعداد الشخصية الإنسانية الْخيرَة الصَّالِحَة.
يَتَقَرَّر مِمَّا سبق أَن الْحَاجة إِلَى التربية الإسلامية شَدِيدَة، لِأَن الْعُقُول البشرية لَا تَسْتَطِيع وَحدهَا إِدْرَاك مصالحها الْحَقِيقَة الَّتِي تكفل لَهَا سَعَادَة الدَّاريْنِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، كَمَا أَنَّهَا لَا تهدي وَحدهَا إِلَى التَّمْيِيز بَين الْخَيْر وَالشَّر، والفضيلة والرذيلة فالإنسان لَيْسَ كَامِل الْحَواس وَالْعقل وَمن ثمَّ فَإِن مداركه ومعارفه مهما وصلت إِلَى دَرَجَة عالية فَإِنَّهَا تبقى قَاصِرَة ومحدودة.
_________
١ - مُحَمَّد عبد الله السمان: التربية فِي الْقُرْآن ص ١٤.
1 / 423
لذا يَنْبَغِي أَن يكون الْإِسْلَام هُوَ الْمصدر الأساسي الَّذِي يستمد مِنْهُ الْمُجْتَمع فكره التربوي، وأهدافه التربوية، وَأسسَ مناهجه وأساليب تدريسه وَسَائِر عناصر العلمية التعليمية.
قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ١.
يَتَّضِح من الْآيَة الْكَرِيمَة أَنه لَا سَبِيل إِلَى تلافي هَذَا النَّقْص وَذَلِكَ الْقُصُور إِلَّا بتفهم أصُول التربية الإسلامية من مصادرها الْأَصْلِيَّة وَالرُّجُوع إِلَى سير السّلف الصَّالح رضوَان الله تَعَالَى عَنْهُم للإقتداء بهم.
وَلما كَانَت التربية الإسلامية تقوم على الْإِيمَان بِاللَّه ومراقبته والخضوع لَهُ وَحده، وَالْعَمَل الصَّالح والتواصي بِالْحَقِّ، وتحري الْعلم والمعرفة الصَّحِيحَة ونشرها بَين النَّاس والتواصي بِالصبرِ٢.
أَصبَحت التربية الإسلامية فَرِيضَة على جَمِيع الْآبَاء والأمهات والمربين والمعلمين، وَهَذِه المسؤولية أَمَانَة دينية يتوارثها الأجيال، جيل بعد جيل ليربوا الناشئة على أُصُولهَا وَتَحْت ظلالها فَلَا سَعَادَة وَلَا رَاحَة وَلَا طمأنينة لَهُم إِلَّا بتربية هَذِه النُّفُوس وَتلك الأجيال وفْق مَا شَرعه الله لَهُم.
إِن الْقُرْآن الْكَرِيم هُوَ كتاب الله الخالد الَّذِي نزل بِهِ الرّوح الْأمين بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين على أشرف خلق الله وَخَاتم أنبياءه مُحَمَّد بن عبد الله عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَأتم التَّسْلِيم ليخرج بِهِ النَّاس من الظُّلُمَات إِلَى النُّور بِإِذن رَبهم ويهديهم إِلَى الصِّرَاط الْمُسْتَقيم، بعد مَا اشْتبهَ عَلَيْهِم الضلال وَالْجهل بالعرفان وَذَلِكَ رَحْمَة من الله بعباده ورأفة مِنْهُ ﷿ بخلقه.
_________
١ - سُورَة الْأَنْعَام: آيَة ١٥٣.
٢ - أنور الجندي: التربية وَبِنَاء الأجيال فِي ضوء الْإِسْلَام ص ٢١٢ - ٢١٣.
1 / 424
وَقد اسْتَطَاعَ الْقُرْآن الْكَرِيم بِفضل الله وَرَحمته ثمَّ بسر فَصَاحَته وبلاغته أَن يكوَّن من عرب الجزيرة أمة تحمل رِسَالَة الْإِسْلَام وتنشيء حضارة وتصنع تَارِيخا١ فتغيرت حياتهم فَأَصْبَحت من بعد ضعف قُوَّة، وَمن جهل إِلَى علم، وَمن بعد فرقة وتناحر إِلَى ألفة وتآزر، وَمن الذل والهوان إِلَى الْعِزَّة والكرامة، وَمن الضَّلَالَة إِلَى الرشاد، قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ٢
ويتفرد الْقُرْآن الْكَرِيم بأسلوبه الرائع فِي بِنَاء العقيدة الإسلامية فِي النَّفس الإِنسانية، لَا يستخدم الْعقل وَحده وَلَا العاطفة وَحدهَا، بل يُربي الْعقل والعاطفة مَعًا. يعمد إِلَى التدرج فِي مُخَاطبَة الْعقل البشري من المحسوس إِلَى الْمُجَرّد، وَمن الْحَاضِر إِلَى الْغَائِب، تمّ ينْتَقل بعد ذَلِك إِلَى بَيَان حَقِيقَة الموجد للمخلوقات وَأَنه هُوَ الْمُسْتَحق لِلْعِبَادَةِ وَحده دون سواهُ يَقُول الْحق ﵎: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ ٣
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن الْقُرْآن الْكَرِيم شَامِل لجَمِيع متطلبات النَّفس الإِنسانية فِيمَا تحتاجه من الْأَوَامِر والنواهي، وَمَا يصلحها وَمَا يصلح لَهَا، وَمَا يسعدها وَمَا يشقيها، وَمَا يهديها وَمَا يُظِلّهَا. وَعَلِيهِ يَتَقَرَّر أَن الْقُرْآن الْكَرِيم هُوَ الْمنْهَج الْكَفِيل بتربية الْفَرد تربية شَامِلَة كَامِلَة، كَمَا أَنه يُربي الأسرة الفاضلة والمجتمع الْفَاضِل.
_________
١ - مُحَمَّد شَدِيد: مَنْهَج الْقُرْآن فِي التربية ص ٦.
٢ - سُورَة الْجُمُعَة: آيَة ٢، وَانْظُر ابْن كثير: تَفْسِير الْقُرْآن الْعَظِيم ٤/٣٦٣.
٣ - سُورَة النَّمْل: آيَة ٦٠.
1 / 425
لذَلِك كُله كَانَ – ومازال - الْقُرْآن وسيظل حَتَّى يَرث الله الأَرْض وَمن عَلَيْهَا الْمصدر الأول للتشريع الإسلامي يستمد مِنْهُ الْمُسلمُونَ عقيدتهم الَّتِي يُؤمنُونَ بهَا، ويجدون فِيهِ معالجة لجَمِيع جَوَانِب حياتهم دنيا وَآخره.
وَمِمَّا تجدر الْإِشَارَة إِلَيْهِ – هُنَا - أَن منهاج التربية فِي الْقُرْآن جَاءَ بِنَاء على فهم حَكِيم لمتطلبات الطبيعية البشرية، ونظرة كُلية فِي إطار الْمُجْتَمع الَّذِي يعِيش فِيهِ، وَفِي إطار مُقَدّر الْإِنْسَان على اتِّبَاع الْخَيْر١. قَالَ تَعَالَى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ ٢.
وَفِي هَذِه الدراسة يستخلص الباحث بعون الله تَعَالَى وتوفيقه أصُول التربية الإسلامية للْإنْسَان الْمُسلم من خلال وَصَايَا لُقْمَان كَمَا وَردت فِي سُورَة لُقْمَان.
مَوْضُوع الدراسة:
تعد وَصَايَا لُقْمَان الْحَكِيم الْوَارِدَة فِي سُورَة لُقْمَان أنموذجا تربويا لأصول التربية المستقيمة، فقائلها رجل عرف بالحكمة، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ...﴾ ٣.
لذا فَإِن وَصَايَاهُ من الأهمية بمَكَان فِي التربية والتنشئة الْحَسَنَة، فَهِيَ نابعة من الْقلب، ومبناها والقناعة الصدْق، والتجربة والمعرفة.
من هُنَا كَانَت الْحَاجة ماسة للْقِيَام بِمثل هَذِه الدراسة ليتبين للقارئ من خلالها أصُول التربية الإسلامية للْإنْسَان كَمَا جَاءَت فِي وَصَايَا لُقْمَان والمذكورة فِي سُورَة لُقْمَان وَيُمكن تَحْدِيد المشكلة فِي السُّؤَال الرئيسي التَّالِي:
_________
١ - أمينة أَحْمد حسن: نظرية التربية فِي الْقُرْآن ص ١٦٥.
٢ - سُورَة الْبَقَرَة آيَة (٢٨٦) .
٣ - سُورَة لُقْمَان: آيَة ١٢.
1 / 426
مَا معالم أصُول التربية الإسلامية للْإنْسَان الْمُسلم فِي الْقُرْآن الْكَرِيم كَمَا تظهر من خلال وَصَايَا لُقْمَان؟
وَيتَفَرَّع من السُّؤَال السَّابِق الأسئلة الفرعية التالية:
س ١: من هُوَ لُقْمَان الْحَكِيم؟
س ٢: مَا الْوَصَايَا الَّتِي أوصى بهَا لُقْمَان ابْنه؟
س ٣: مَا جَوَانِب التربية الإسلامية للْإنْسَان الَّتِي يُمكن الْخُرُوج بهَا من خلال تِلْكَ الْوَصَايَا؟
هدف الدراسة:
تهدف هَذِه الدراسة الْوُقُوف على المعالم الصَّحِيحَة لأصول التربية القويمة وَالَّتِي تساعد الْآبَاء والأمهات والمعلمين وكل من لَهُ عناية بشؤون التربية والتعليم على تربية الأجيال الناشئة تربية إسلامية صَحِيحَة.
أهمية الدراسة:
تكمن أهمية الدراسة فِي استخلاص جَوَانِب التربية الإِسلامية للْإنْسَان من خلال وَصَايَا لُقْمَان الْحَكِيم، وَأَن الْقيام بِمثل هَذَا الْعَمَل يعد بِمَثَابَة أنموذجا مرجعيًا لكل أَب ومربّ مُسلم يُرِيد أَن ينشئ أبناءه وتلاميذه التنشئة الَّتِي يريدها منهاج الْإِسْلَام التربوي.
مَنْهَج الدراسة:
يستخدم الباحث فِي دراسته الْمنْهَج التحليلي الاستنباطي لاستخراج جَوَانِب التربية الإسلامية من وَصَايَا لُقْمَان وَذَلِكَ بإتباع مَا يَلِي:
1 / 427
١ - قِرَاءَة الْآيَات الْكَرِيمَة من كتاب الله عزوجل والمتضمن لتِلْك الْوَصَايَا الْوَارِدَة فِي سُورَة لُقْمَان من آيَة ١٣ - ١٩.
٢ - اسْتِخْدَام كتب التَّفْسِير بهدف التعرف على تَفْسِير الْآيَات الْمشَار إِلَيْهَا سَابِقًا.
٣ - استنباط الجوانب التربية المتضمنة لتِلْك الْوَصَايَا.
٤ - التَّوَصُّل إِلَى تَحْدِيد معالم أصُول التربية الإسلامية للْإنْسَان الْمُسلم كَمَا تظهر من خلال الْوَصَايَا.
1 / 428
الْفَصْل الأول: التَّعْرِيف بلقمان الْحَكِيم
اسْمه وَنسبه
...
اسْمه وَنسبه:
لُقْمَان اسْم أعجمي لَا عَرَبِيّ١
وَقد اخْتلف فِي نسبه:
فَقيل هُوَ لُقْمَان بن باعوراء بن ناحور بن تارح وَهُوَ آزر أَبُو إِبْرَاهِيم الْخَلِيل ﵇ هَكَذَا ذكره ابْن إِسْحَاق، وَقيل هُوَ لُقْمَان بن عنقاء بن سرون وَكَانَ نوبيا من أهل من أهل إيلة ذكره السُّهيْلي قَالَ وهب: "كَانَ ابْن أُخْت أَيُّوب ﵊"، وَقَالَ مقَاتل ابْن خَالَته، وَقيل كَانَ من أَوْلَاد آزر وعاش ألف سنة وَأدْركَ دَاوُد ﵇ وَأخذ مِنْهُ الْعلم، وَكَانَ يُفْتِي قبل مبعثه، فَلَمَّا بعث قطع الْفَتْوَى ٢ وَقيل أَنه كَانَ قَاضِيا فِي زمن دَاوُد ﵇ ٣
أَوْصَافه: قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ عبدا حَبَشِيًّا٤ وَقَالَ قَتَادَة: عَن عبد الله بن الزبير قلت لجَابِر بن عبد الله: مَا انْتهى إِلَيْكُم فِي شَأْن لُقْمَان؟ قَالَ: كَانَ قَصِيرا أفطس من النّوبَة٥٦ وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَ لُقْمَان عبدا أسود عَظِيم الشفتين، مُشفق الْقَدَمَيْنِ،وفى رِوَايَة مصفح الْقَدَمَيْنِ٧. _________ ١ - أَحْمد الْخَطِيب: إرشاد الساري فِي شرح أَحَادِيث البُخَارِيّ ٧/٢٨٨. ٢ - الزَّمَخْشَرِيّ: الْكَشَّاف ٣/٢١١، وَكَذَلِكَ الْقُرْطُبِيّ: الْجَامِع لأحكام الْقُرْآن ١٤/٥٩. ٣ - ابْن كثير: الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة ٢/١٢٣. ٤ - المر جع السَّابِق: ٢/١٢٣. ٥ - النّوبَة: تطلق على الْجُزْء الجنوبي من بِلَاد مصر، وهى جبل من السودَان وَاحِدهَا نوبي وبلاد النّوبَة من ذَلِك الْجَبَل المعجم الْوَسِيط ص ٩٦١. ٦ - ابْن كثير: الْمرجع السَّابِق ٢/١٢٤. ٧ - الْمرجع السَّابِق ٢/١٢٤.
أَوْصَافه: قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ عبدا حَبَشِيًّا٤ وَقَالَ قَتَادَة: عَن عبد الله بن الزبير قلت لجَابِر بن عبد الله: مَا انْتهى إِلَيْكُم فِي شَأْن لُقْمَان؟ قَالَ: كَانَ قَصِيرا أفطس من النّوبَة٥٦ وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَ لُقْمَان عبدا أسود عَظِيم الشفتين، مُشفق الْقَدَمَيْنِ،وفى رِوَايَة مصفح الْقَدَمَيْنِ٧. _________ ١ - أَحْمد الْخَطِيب: إرشاد الساري فِي شرح أَحَادِيث البُخَارِيّ ٧/٢٨٨. ٢ - الزَّمَخْشَرِيّ: الْكَشَّاف ٣/٢١١، وَكَذَلِكَ الْقُرْطُبِيّ: الْجَامِع لأحكام الْقُرْآن ١٤/٥٩. ٣ - ابْن كثير: الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة ٢/١٢٣. ٤ - المر جع السَّابِق: ٢/١٢٣. ٥ - النّوبَة: تطلق على الْجُزْء الجنوبي من بِلَاد مصر، وهى جبل من السودَان وَاحِدهَا نوبي وبلاد النّوبَة من ذَلِك الْجَبَل المعجم الْوَسِيط ص ٩٦١. ٦ - ابْن كثير: الْمرجع السَّابِق ٢/١٢٤. ٧ - الْمرجع السَّابِق ٢/١٢٤.
1 / 430
صِفَاته:
كَانَ لُقْمَان من أخير النَّاس حكيما وفطينا، رَقِيق الْقلب، صَادِق الحَدِيث، صَاحب أَمَانَة وعفة، وعقل وإصابة فِي القَوْل، وَكَانَ رجلا سكيتا، طَوِيل التفكر، عميق النّظر لم ينم نَهَارا قطّ، وَلم يره أحد يبزق وَلَا يَتَنَحْنَح، وَلَا يَبُول وَلَا يتغوط، وَلَا يغْتَسل، وَلَا يعبث وَلَا يضْحك، وَكَانَ لَا يُعِيد منطقا نطقه إِلَّا أَن يَقُول حِكْمَة يستعيدها أَي وَاحِد١.
وَكَانَ قد تزوج وَولد لَهُ أَوْلَاد فماتوا فَلم يبك عَلَيْهِم، وَكَانَ يغشى السُّلْطَان، وَيَأْتِي الْحُكَّام لينْظر ويتفكر وَيعْتَبر فبذلك أُوتِيَ مَا أُوتِيَ٢.
مهنته: قيلَ: أَنه كَانَ خياطًا، قَالَه سعيد بن الْمسيب. قَالَ الْأَوْزَاعِيّ: حَدثنِي عبد الرَّحْمَن بن حَرْمَلَة قَالَ: جَاءَ رجل أسود إِلَى سعيد بن الْمسيب يسْأَله فَقَالَ لَهُ سعيد: لَا تحزن من أجل أَنَّك أسود فَإِنَّهُ كَانَ من أخير النَّاس ثَلَاثَة من السودَان: بِلَال، وَمهجع مولى عمر، ولقمان الْحَكِيم كَانَ أسود نوبيًا ذَا مشافر٣. وَقيل: كَانَ يحتطب كل يَوْم لمَوْلَاهُ حزمة حطب، وَقَالَ لرجل ينظر إِلَيْهِ: إِن كنت تراني غليظ الشفتين فَإِنَّهُ يخرج من بَينهمَا كَلَام رَقِيق وَإِن كنت تراني أسود فقلبي أَبيض، وَقيل: كَانَ رَاعيا قَالَه عبد الرَّحْمَن بن زيد ابْن جَابر. وَقَالَ خَالِد الربعِي: كَانَ لُقْمَان عبدا حَبَشِيًّا نجارًا فَقَالَ لَهُ سَيّده: أذبح لي شَاة، وأتني بأطيب مضغتين فِيهَا فَأَتَاهُ بِاللِّسَانِ وَالْقلب، فَقَالَ لَهُ: مَا كَانَ فِيهَا _________ ١ - ابْن كثير: الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة ٢/ ١٢٤. ٢ - الْمرجع السَّابِق: ٢/١٢٤. ٣ - الزَّمَخْشَرِيّ: الْكَشَّاف ٣/٢١١، وَكَذَلِكَ الْقُرْطُبِيّ: الْجَامِع لأحكام الْقُرْآن ١٤/٦٠، وَابْن كثير: الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة ٢/١٢٤.
مهنته: قيلَ: أَنه كَانَ خياطًا، قَالَه سعيد بن الْمسيب. قَالَ الْأَوْزَاعِيّ: حَدثنِي عبد الرَّحْمَن بن حَرْمَلَة قَالَ: جَاءَ رجل أسود إِلَى سعيد بن الْمسيب يسْأَله فَقَالَ لَهُ سعيد: لَا تحزن من أجل أَنَّك أسود فَإِنَّهُ كَانَ من أخير النَّاس ثَلَاثَة من السودَان: بِلَال، وَمهجع مولى عمر، ولقمان الْحَكِيم كَانَ أسود نوبيًا ذَا مشافر٣. وَقيل: كَانَ يحتطب كل يَوْم لمَوْلَاهُ حزمة حطب، وَقَالَ لرجل ينظر إِلَيْهِ: إِن كنت تراني غليظ الشفتين فَإِنَّهُ يخرج من بَينهمَا كَلَام رَقِيق وَإِن كنت تراني أسود فقلبي أَبيض، وَقيل: كَانَ رَاعيا قَالَه عبد الرَّحْمَن بن زيد ابْن جَابر. وَقَالَ خَالِد الربعِي: كَانَ لُقْمَان عبدا حَبَشِيًّا نجارًا فَقَالَ لَهُ سَيّده: أذبح لي شَاة، وأتني بأطيب مضغتين فِيهَا فَأَتَاهُ بِاللِّسَانِ وَالْقلب، فَقَالَ لَهُ: مَا كَانَ فِيهَا _________ ١ - ابْن كثير: الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة ٢/ ١٢٤. ٢ - الْمرجع السَّابِق: ٢/١٢٤. ٣ - الزَّمَخْشَرِيّ: الْكَشَّاف ٣/٢١١، وَكَذَلِكَ الْقُرْطُبِيّ: الْجَامِع لأحكام الْقُرْآن ١٤/٦٠، وَابْن كثير: الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة ٢/١٢٤.
1 / 431
شَيْء أطيب من هذَيْن فَسكت، ثمَّ أمره بِذبح شَاة أُخْرَى ثمَّ قَالَ لَهُ: ألق بأخبث مضغتين فِيهَا فَألْقى اللِّسَان وَالْقلب، فَقَالَ لَهُ أَمرتك بِأَن تَأتِينِي بأطيب مضغتين فأتيتني بِاللِّسَانِ وَالْقلب، وأمرتك أَن تلقي أخبثها فألقيت اللِّسَان وَالْقلب؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّه لَيْسَ شَيْء أطيب مِنْهُمَا إِذا طابا وَلَا أَخبث مِنْهُمَا إِذا أخبثا١.
هَل كَانَ لُقْمَان نَبيا أم حكيما؟ اخْتلف السّلف فِي لُقْمَان: هَل كَانَ نَبيا أَو عبدا صَالحا من غير نبوة؟ على قَوْلَيْنِ: فَقَالَ جُمْهُور أقل التَّأْوِيل: أَنه كَانَ وليا وَلم يكن نَبيا. وَقَالَ عِكْرِمَة وَالشعْبِيّ بنبوته. وَالصَّوَاب أَنه كَانَ رجلا حكيما بحكمة الله تَعَالَى - وَهِي الصَّوَاب فِي المعتقدات، وَالْفِقْه فِي الدّين وَالْعقل - قَاضِيا فِي بني إِسْرَائِيل قَالَه ابْن عَبَّاس وَغَيره٢. عَن ابْن عمر ﵄ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول: "لم يكن لُقْمَان نَبيا وَلَكِن كَانَ عبدا كثير التفكر حسن الْيَقِين، أحب الله تَعَالَى فَأَحبهُ فَمن الله عَلَيْهِ بالحكمة، وخيره فِي أَن يَجعله خَليفَة يحكم بِالْحَقِّ، فَقَالَ: رب إِن خيرتني قبلت الْعَافِيَة وَتركت الْبِلَاد، وَإِن عزمت عَليّ فسمعًا وَطَاعَة فَإنَّك ستعصمني" ذكره ابْن عَطِيَّة وزاداه الثَّعْلَبِيّ: فَقَالَت لَهُ الْمَلَائِكَة بِصَوْت لَا يراهم: لم يَا لُقْمَان؟ قَالَ: لِأَن الْحَاكِم بأشد الْمنَازل وأكدرها، يَغْشَاهُ الْمَظْلُوم من كل مَكَان، إِن يعن فبالحري أَن ينجو، وَإِن أَخطَأ أَخطَأ طَرِيق الْجنَّة، وَمن يكون فِي الدُّنْيَا ذليلا فَذَلِك خير من أَن يكون فِيهَا شريفا، وَمن _________ ١ - الْقُرْطُبِيّ: الْجَامِع أَحْكَام الْقُرْآن ١٤/١٦ - ٦٠، وَكَذَلِكَ أَحْمد بن حَنْبَل: كتاب الزّهْد ص ٤٩. ٢ - الْقُرْطُبِيّ: الْجَامِع لأحكام الْقُرْآن ١٤/٥٩.
هَل كَانَ لُقْمَان نَبيا أم حكيما؟ اخْتلف السّلف فِي لُقْمَان: هَل كَانَ نَبيا أَو عبدا صَالحا من غير نبوة؟ على قَوْلَيْنِ: فَقَالَ جُمْهُور أقل التَّأْوِيل: أَنه كَانَ وليا وَلم يكن نَبيا. وَقَالَ عِكْرِمَة وَالشعْبِيّ بنبوته. وَالصَّوَاب أَنه كَانَ رجلا حكيما بحكمة الله تَعَالَى - وَهِي الصَّوَاب فِي المعتقدات، وَالْفِقْه فِي الدّين وَالْعقل - قَاضِيا فِي بني إِسْرَائِيل قَالَه ابْن عَبَّاس وَغَيره٢. عَن ابْن عمر ﵄ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول: "لم يكن لُقْمَان نَبيا وَلَكِن كَانَ عبدا كثير التفكر حسن الْيَقِين، أحب الله تَعَالَى فَأَحبهُ فَمن الله عَلَيْهِ بالحكمة، وخيره فِي أَن يَجعله خَليفَة يحكم بِالْحَقِّ، فَقَالَ: رب إِن خيرتني قبلت الْعَافِيَة وَتركت الْبِلَاد، وَإِن عزمت عَليّ فسمعًا وَطَاعَة فَإنَّك ستعصمني" ذكره ابْن عَطِيَّة وزاداه الثَّعْلَبِيّ: فَقَالَت لَهُ الْمَلَائِكَة بِصَوْت لَا يراهم: لم يَا لُقْمَان؟ قَالَ: لِأَن الْحَاكِم بأشد الْمنَازل وأكدرها، يَغْشَاهُ الْمَظْلُوم من كل مَكَان، إِن يعن فبالحري أَن ينجو، وَإِن أَخطَأ أَخطَأ طَرِيق الْجنَّة، وَمن يكون فِي الدُّنْيَا ذليلا فَذَلِك خير من أَن يكون فِيهَا شريفا، وَمن _________ ١ - الْقُرْطُبِيّ: الْجَامِع أَحْكَام الْقُرْآن ١٤/١٦ - ٦٠، وَكَذَلِكَ أَحْمد بن حَنْبَل: كتاب الزّهْد ص ٤٩. ٢ - الْقُرْطُبِيّ: الْجَامِع لأحكام الْقُرْآن ١٤/٥٩.
1 / 432
يخْتَر الدُّنْيَا على الْآخِرَة نفته الدُّنْيَا وَلَا يُصِيب الْآخِرَة، فعجبت الْمَلَائِكَة من حسن مَنْطِقه ﴿فَنَامَ نومَة فَأعْطِي الْحِكْمَة، فانتبه يتَكَلَّم بهَا، ثمَّ نُودي دَاوُد بعده فقبلها - يَعْنِي الْخلَافَة - وَلم يشْتَرط مَا اشْتَرَطَهُ لُقْمَان، فهوى فِي الْخَطِيئَة غير مرّة، كل ذَلِك يعْفُو الله عَنهُ. وَكَانَ لُقْمَان يؤازره بِحِكْمَتِهِ؛ فَقَالَ لَهُ دَاوُد: طُوبَى لَك يَا لُقْمَان﴾ أَعْطَيْت الْحِكْمَة وَصرف عَنْك الْبلَاء، وَأعْطى دَاوُد الْخلَافَة وابتلي بالبلاء والفتنة١
وَنقل عَن ابْن عَبَّاس ﵄ قَوْله: لُقْمَان لم يكن نَبيا وَلَا ملكا وَلَكِن كَانَ رَاعيا أسود، فرزقه الله الْعتْق وَرَضي قَوْله ووصيته فَقص أمره فِي الْقُرْآن لتمسكوا بوصيته٢.
وَأخرج ابْن جرير عَن قَتَادَة ﵁ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة﴾ أَي الْفِقْه فِي الْإِسْلَام، قَالَ قَتَادَة: وَلم يكن نَبيا وَلم يُوح إِلَيْهِ٣ وَعَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: كَانَ لُقْمَان رجلا صَالحا وَلم يكن نَبيا٤
وروى ابْن كثير عَن قَتَادَة أَنه قَالَ: "خيّر الله تَعَالَى لُقْمَان بَين النُّبُوَّة وَالْحكمَة، فَاخْتَارَ الْحِكْمَة على النُّبُوَّة فَأَتَاهُ جِبْرِيل ﵇ وَهُوَ نَائِم فذرَّ عَلَيْهِ الْحِكْمَة فَأصْبح وَهُوَ ينْطق بهَا". قَالَ سعيد: سَمِعت قَتَادَة يَقُول: "قيل للقمان كَيفَ اخْتَرْت الْحِكْمَة على النُّبُوَّة وَقد خيّرك رَبك؟ فَقَالَ: أَنه لَو أرسل إليّ بِالنُّبُوَّةِ عَزمَة لرجوت فِيهِ الْفَوْز مِنْهُ ولكنت أَرْجُو أَن أقوم بهَا وَلَكِن خيّرنيى
_________
١ - الْقُرْطُبِيّ: الْمرجع السَّابِق ١٤/٦٠.
٢ - الزَّمَخْشَرِيّ: الْكَشَّاف ٣/٢١١.
٣ - الطَّبَرِيّ: جَامع الْبَيَان عَن تَأْوِيل آي الْقرَان ٦٧/١١.
٤ - الْمرجع السَّابِق.
1 / 433
فَخفت أَن أَضْعَف عَن النُّبُوَّة فَكَانَت الْحِكْمَة أحب إِلَيّ وَهَذَا فِيهِ نظر لِأَن سعيد بن بشير يروي عَن قَتَادَة وَقد تكلمُوا فِيهِ"١.
وكما ذكرت سَابِقًا أَن الْمَشْهُور عَن الْجُمْهُور أَنه كَانَ رجلا حكيما وَلم يكن نَبيا وَهُوَ قَول الْأَكْثَرين٢.
وَهَذَا هُوَ الْحق إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَالله أعلم.
_________
١ - ابْن كثير: الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة ٢/١٢٩.
٢ - ابْن كثير تَفْسِير الْقُرْآن الْعَظِيم ٣/٤٤٣، وَكَذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيّ: الْكَشَّاف ٣/٢١١.
1 / 434
الْفَصْل الثَّانِي
المبحث الأول: لُقْمَان لإبنه
...
المبحث الأول
وَصَايَا لُقْمَان لِابْنِهِ
يتَنَاوَل هَذَا المبحث بَيَان الْوَصَايَا الْقيمَة الَّتِي أوصى بهَا لُقْمَان ابْنه كي يَتَّضِح لنا أهميتها فِي تربية الْأَبْنَاء على أسسها القويمة كَمَا حددها – لُقْمَان - لِابْنِهِ، ذَلِك الْأَب الرَّحِيم الَّذِي أَتَاهُ الله الْحِكْمَة فَهُوَ ينظر إِلَى ابْنه نظرة شَفَقَة وَعطف، حَتَّى لَا يَقع فِي مهاوي الزيغ والضلال، وَلِهَذَا كَانَت وَصَايَاهُ من الأهمية بمَكَان، وَقد بَينهَا لنا الْقُرْآن الْكَرِيم بأسلوبه ومعانيه المعجزة الخالدة، فَكَانَت وَصَايَاهُ أنموذجا يتوافر فِيهِ الْإِخْلَاص وَالصَّوَاب، وعَلى الأباء أَن يسلكوا مسلكه فِي تنشئة أبنائهم تنشئة إسلامية صَحِيحَة وفْق مَا تعرضه الْآيَات الْكَرِيمَة من كتاب الله عزوجل وَالَّتِي ذكرت بهَا وَصَايَا لُقْمَان. قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ. وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَان بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ. يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ. يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ. وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ
1 / 436
اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ ١.
من خلال الْعرض السَّابِق للآيات الْكَرِيمَة يُمكن توضيح الْوَصَايَا فِي النقاط التالية:
الْوَصِيَّة الأولى:
تَوْحِيد الله وإفراده بِالْعبَادَة لله وَحده لَا شريك لَهُ فِي ذَلِك فَهُوَ الْمُسْتَحق لِلْعِبَادَةِ وَحده ﷾ ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ .
الْوَصِيَّة الثَّانِيَة:
برَّ الْأَبْنَاء لِآبَائِهِمْ ﴿وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْه ...﴾ الْآيَة.
الْوَصِيَّة الثَّالِثَة:
أَن يراقب العَبْد الله ﷾ فِي حركاته وسكناته وَجَمِيع أَعماله، فَالله عزوجل لَا تخفى عَلَيْهِ خافية لَا فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ...﴾ الْآيَة.
الْوَصِيَّة الرَّابِعَة:
الْأَمر بِإِقَامَة الصَّلَاة وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، وَالصَّبْر على تحمل المشاق فِي سَبِيل ذَلِك ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ...﴾ الْآيَة.
_________
١ - سُورَة لُقْمَان: الْآيَات ١٢ - ١٩.
1 / 437
الْوَصِيَّة الْخَامِسَة:
التَّوَاضُع لعباد الله والإقبال عَلَيْهِم بِوَجْه طليق والابتعاد عَن مظَاهر الْكبر والغرور، وخفض الصَّوْت أثْنَاء الحَدِيث مَعَهم وَعدم رَفعه ﴿وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ....﴾ الْآيَة ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِك......﴾ الْآيَة
تِلْكَ هِيَ وَصَايَا لُقْمَان الْحَكِيم لِابْنِهِ ذكرهَا لنا الْقُرْآن الْكَرِيم للتفكر وَالِاعْتِبَار فَهَل من مدَّكر، قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ ١
_________
١ - سُورَة ق الْآيَة ٣٧.
1 / 438
المبحث الثَّانِي
الجوانب التربوية لوصايا لُقْمَان
فِي هَذَا الْبَحْث نتناول جَوَانِب التربية الإسلامية المتضمنة لوصايا لُقْمَان لِابْنِهِ وَفِيمَا يَلِي بَيَان ذَلِك:
أَولا: الدعْوَة إِلَى غرس عقيدة التَّوْحِيد:
إِن المتدبر لكتاب الله ﷾ والمتأمل فِي آيَاته الْبَينَات يَتَّضِح لَهُ تميز الْمِنْهَاج الرباني بمفاهيم تربوية لَا يجد لَهَا مثيلا فِي المناهج وَالنّظم والنظريات التربوية البشرية تستهدف تِلْكَ المفاهيم الربانية خير الْإِنْسَان فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة جَمِيعًا، وينطلق الْمِنْهَاج الرباني نَحْو بِنَاء الْقيم الإسلامية الَّتِي تتظافر للوصول بالإنسان إِلَى الصّلاح والإصلاح وشجب كل صور الْفساد فِي النَّفس والمجتمع لتحَقّق لَهُ بذلك كَمَاله الإنساني.
إِن الْمِنْهَاج الرباني وَاضح فِي أهدافه وغاياته ليتَمَكَّن الْمُسلم من اتِّبَاع هَدْيه، وَهُوَ مُؤمن بمقاصده الْعَظِيمَة، وموقن بِالْخَيرِ الَّذِي يعود عَلَيْهِ نتيجة التَّمَسُّك بِهِ وَالْعَمَل بأوامره وَاجْتنَاب نواهيه، وَمن هُنَا فَإِن منهاج التربية الإسلامية يركز على غرس الْحق وَالْعدْل وَالْإِحْسَان والإخاء والمساواة وَالْعَفو وَالرَّحْمَة وَالْمَعْرُوف والاستقامة وَالصَّبْر ... وَغير ذَلِك من أَفعَال الْخَيْر وَصَالح الْأَعْمَال.
والأسرة الْمسلمَة هِيَ الْمدرسَة الأولى الَّتِي تقوم بتوجيه وتربية الْأَبْنَاء تربية صَالِحَة.
فالأبناء أَمَانَة فِي أَعْنَاقهم يسْأَلُون عَنْهُم أَمَام الله تَعَالَى، قَالَ الله ﷿:
1 / 439
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ ١
وَبِنَاء على مَا سبق وَجب على الْآبَاء أَن يوضحوا لأبنائهم معالم التربية الصَّحِيحَة، ويبينوا لَهُم الصَّالح من الضار، وَالْحق من الْبَاطِل، فَإِن غفلوا أَو قصروا فِي أَدَاء ذَلِك نَشأ أبناؤهم نشأة لَا تحمد عقباها وَلَا يُرْجَى خَيرهَا وَكَانَ الْإِثْم على الْآبَاء أَولا.
فالأبوان هما المسؤولان فِي الدرجَة الأولى عَن انحراف أبنائهم خلقيًا واجتماعيًا وعقديًا، وَقد قَالَ الرَّسُول ﷺ: "مَا من مَوْلُود إِلَّا يُولد على الْفطْرَة فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَو ينصرَانِهِ أَو يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تنْتج الْبَهِيمَة بَهِيمَة جَمْعَاء هَل تُحِسُّونَ فِيهَا من جَدْعَاء"٢ وَفِي هَذَا دلَالَة وَاضِحَة على أَن الْمَوْلُود يُولد على فطْرَة الإِسلام، لَكِن تَأْثِير الْأَبَوَيْنِ وأسلوب تربيتهما هما اللَّذَان يوجهان عقيدة هَذَا الطِّفْل نَحْو الْيَهُودِيَّة أَو النَّصْرَانِيَّة أَو غَيرهمَا. وَمن هُنَا كَانَت مهمة الْأَبَوَيْنِ فِي التربية من الأهمية بمَكَان فالطفل يحاكي أَبَوَيْهِ فِي جَمِيع سلوكهما ومعتقداتهما وأخلاقهما.
فَأول وَاجِب يجب على الْأَبَوَيْنِ الْقيام بِهِ والاهتمام بأَمْره دون كلل، هُوَ غرس عقيدة التَّوْحِيد فِي نفس الطِّفْل وتوجيه عواطفه نَحْو حب الله وَرَسُوله وإخباره بِأَن الله يجب أَن يكون أحب إِلَيْهِ من أمه وَأَبِيهِ وَنَفسه، والإِيمان بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه غَيره وبملائكته وَرُسُله، وتوحيد الله فِي الألوهية والربوبية والقوامة وَالسُّلْطَان والحاكمية لِأَن الْإِيمَان بِاللَّه هُوَ الموجه لسلوك الْإِنْسَان والدافع لَهُ إِلَى اتجاه الْخَيْر، والنصير لَهُ من حَيْثُ الْعِنَايَة وَالرِّعَايَة والتوفيق، كَمَا أَنه الَّذِي
_________
١ - سُورَة التَّحْرِيم: آيَة ٦.
٢ - البُخَارِيّ: صَحِيح البُخَارِيّ مَعَ فتح الْبَارِي ٣/٢١٩ كتاب الْجَنَائِز ٢٣ بَاب إِذا أسلم الصَّبِي رقم الحَدِيث ١٣٥٨ - ١٣٥٩، وَمُسلم: صَحِيح مُسلم ٤/٢٠٤٧ كتاب الْقدر ٤٦ بَاب كل ٦ رقم الحَدِيث ٢٦٥٨ وَاللَّفْظ للْبُخَارِيّ.
1 / 440
يصرفهُ عَن طَرِيق الشَّرّ ويجعله متحليًا بالفضائل وَحسن الْخلق١ وَالْمَقْصُود بِالْإِيمَان أَي الإِيمان بِمَا أوجب الله تَعَالَى فِي قَوْله: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه﴾ ٢. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ ٣.
وَأما السّنة فقد ذكرت أَرْكَان الْإِيمَان مجتمعة فِي حَدِيث جِبْرِيل ﵇، عَن عمر بن الْخطاب ﵁ أَنه قَالَ: "بَيْنَمَا نَحن عِنْد رَسُول الله ﷺ ذَات يَوْم إِذْ طلع علينا رجل شَدِيد بَيَاض الثِّيَاب، شَدِيد سَواد الشّعْر، لَا يرى عَلَيْهِ أثر السّفر، وَلَا يعرفهُ منا أحد، حَتَّى جلس إِلَى النَّبِي ﷺ فأسند رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوضع كفيه على فَخذيهِ وَقَالَ: يَا مُحَمَّد! أَخْبرنِي عَن الإِسلام. فَقَالَ رَسُول الله ﷺ: "الإِسلام أَن تشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّد رَسُول الله، وتقيم الصَّلَاة، وتؤتي الزَّكَاة، وتصوم رَمَضَان، وتحج الْبَيْت إِن اسْتَطَعْت إِلَيْهِ سَبِيلا. قَالَ: صدقت، قَالَ: فعجبنا لَهُ يسْأَله ويصدقه، قَالَ: فَأَخْبرنِي عَن الْإِيمَان. قَالَ: أَن تؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر، وتؤمن بِالْقدرِ خَيره وشره" الحَدِيث٤.
إِن الْإِيمَان بِاللَّه هُوَ الموجه للسلوك وَالضَّابِط لَهُ والمتصل اتِّصَالًا وثيقًا بِالْأَعْمَالِ الصادرة من الإِنسان فَإِن التربية الإِسلامية ترْبط دَائِما بَين الْعَمَل
_________
١ - عَبَّاس مَحْجُوب: أصُول الْفِكر التربوي فِي الْإِسْلَام ص ٨٩ - ٩٢.
٢ - سُورَة الْبَقَرَة: آيَة (٢٨٥) .
٣ - سُورَة الْبَقَرَة: آيَة (١٧٧) .
٤ - مُسلم: صَحِيح مُسلم بشرح النَّوَوِيّ ١/٢٥٩ كتاب الْإِيمَان، بَاب بَيَان الْإِيمَان والإِسلام وَالْإِحْسَان (١) رقم الحَدِيث (١) .
1 / 441
والسلوك ثمَّ بَين الْعَمَل الصَّادِر من هَذَا الْإِيمَان وَبَين الْجَزَاء، قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾ ١.
وَيَقُول تَعَالَى: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ ٢.
وَهُنَاكَ آيَات كَثِيرَة تقرن الْإِيمَان بِالْعَمَلِ، فالإيمان الْحق هُوَ الْإِيمَان الَّذِي يصدر عَنهُ السلوك وينبع مِنْهُ الْعَمَل الصَّالح وَيخرج مِنْهُ الْخلق الْكَرِيم، فَحسن الْخلق والإخاء والمودة وَاجْتنَاب الْكَبَائِر والتمسك بالفضائل يجب أَن تصدر عَن هَذِه العقيدة٣
وَالرَّسُول ﷺ يَقُول: "لَا إِيمَان لمن لَا أَمَانَة لَهُ وَلَا دين لمن لَا عهد لَهُ " ٤.
وَيَقُول ﷺ فِي سلوك الْمُؤمن نَحْو جَاره وَنَحْو نَفسه: "من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا يُؤْذِي جَاره " ٥.
كَمَا يتحدث عَن أثر الْإِيمَان فِي تجنب الرذائل وارتباط الْإِيمَان بالسلوك سَاعَة فعل الْعَمَل كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث الشريف: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن، وَلَا يشرب الْخمر حِين يشرب وَهُوَ مُؤمن، وَلَا يسرق حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن" الحَدِيث٦.
_________
١ - سُورَة الْكَهْف: آيَة (١٠٧) .
٢ - سُورَة الْعَصْر: آيَة (١ - ٣) .
٣ - انْظُر عَبَّاس مَحْجُوب: أصُول الْفِكر التربوي فِي الْإِسْلَام ص ٨٩ـ ٩٩.
٤ - أَحْمد بن حَنْبَل: مُسْند أَحْمد ٣/١٣٥.
٥ - البُخَارِيّ: صَحِيح البُخَارِيّ على فتح الْبَارِي ٩/٢٥٢ كتاب النِّكَاح (٦٧) بَاب الوصاة بِالنسَاء (٨٠) رقم الحَدِيث ٥١٨٥.
٦ - البُخَارِيّ: صَحِيح البُخَارِيّ على فتح الْبَارِي ١٢/٥٨ كتاب الْحُدُود (٨٦) بَاب الزِّنَا وَشرب الْخمر، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: ينْزع مِنْهُ نور الْإِيمَان (١) رقم الحَدِيث ٦٧٧٢.
1 / 442
وكما ورد فِي الحَدِيث الآخر "لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى يحب لِأَخِيهِ أَو قَالَ لجاره مَا يحب لنَفسِهِ" ١.
فالعقيدة لابد أَن تنعكس على الْإِنْسَان وسلوكه فَإِذا آمن إِيمَانًا يقينيًا بِاللَّه سُبْحَانَهُ وبعلمه ومراقبته الدائمة لعَبْدِهِ كَانَ هَذَا الْإِيمَان محددًا لسلوك الْمُسلم كفرد وسلوك الْجَمَاعَة كأمة مسلمة. فالعقيدة لابد أَن تترجم فِي حَيَاة الْفَرد الَّذِي يعلم بِأَن الله يطلع على سره ونجواه وَأَن أَفعاله مَكْتُوبَة وَهُوَ محاسب عَلَيْهَا، ولابد أَن تترجم فِي حَيَاة الْجَمَاعَة فتبني نظام حَيَاتهَا وفْق هَذِه العقيدة الَّتِي آمَنت بهَا٢من كل مَا سبق يَتَقَرَّر أَنه لَا سَعَادَة لهَذِهِ النَّفس الإِنسانية وَلَا استقامة لَهَا إِلَّا إِذا ارتبطت كَافَّة جوانبها بعقيدة التَّوْحِيد، وَمن هُنَا يجب على المربي الْمُسلم أَن يرْبط كل جَوَانِب التربية بِهَذَا الأَصْل الاعتقادي لما لَهُ من أهمية كبرى فِي حَيَاة الْإِنْسَان النفسية، وتوحد نوازعه وتفكيره وأهدافه وَتجْعَل كل عواطفه، وسلوكه وعاداته قوى متضافرة متعاونة ترمي كلهَا إِلَى تَحْقِيق هدف وَاحِد هُوَ الخضوع لله وَحده والشعور بألوهيته وحاكميته وَرَحمته وَعلمه لما فِي النُّفُوس وَقدرته وَسَائِر صِفَاته٣.
ثَانِيًا: بر الْوَالِدين:
إِن عطف الْآبَاء على الْأَبْنَاء من أبرز صور الرَّحْمَة، وَهُوَ يفْرض على الْأَبْنَاء أَن يقابلوا رَحْمَة والديهم لَهُم بِأَن يرعوهم - كبارًا فيخفضوا لَهُم جنَاح الذل من الرَّحْمَة، وَالدُّعَاء لَهُم بالمغفرة وَالرَّحْمَة بهم.
_________
١ - مُسلم: صَحِيح مُسلم بشرح النَّوَوِيّ ٢/٣٧٥ - ٣٧٦ كتاب الْإِيمَان (١) بَاب الدَّلِيل على أَن من خِصَال الْإِيمَان أَن يجب لِأَخِيهِ الْمُسلم (١٧) رقم الحَدِيث ٧١
٢ - عَبَّاس مَحْجُوب: أصُول الْفِكر التربوي فِي الْإِسْلَام ص ٩١ - ٩٢.
٣ - النحلاوي: أصُول التربة الإسلامية وأساليبها ص ٨٠.
1 / 443
إِن عطف الْوَالِدين على أَوْلَادهم عَطاء لَا يقدر بِثمن وَلَا ينْتَظر مِنْهُ الْعِوَض، إِنَّه فطْرَة فطر الله الْوَالِدين عَلَيْهَا، وَلذَلِك كَانَ برهما من أعظم الْوَاجِبَات وَفِي مُقَدّمَة الصلات الاجتماعية، كَمَا كَانَ عقوقهما من الْكَبَائِر المقاربة للشرك بِاللَّه، وَلِهَذَا ورد الْأَمر بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا فِي مَوَاضِع كَثِيرَة من كتاب الله ﷿ عقب الْأَمر بِعبَادة الله وَحده، وَالنَّهْي عَن الْإِشْرَاك بِهِ.
فَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا..﴾ الْآيَة ١
فَفِي الْآيَة الْكَرِيمَة يَأْمر الله تَعَالَى بِعِبَادَتِهِ وَينْهى عَن الشّرك بِهِ ثمَّ يتبعهُ الْأَمر بِالْإِحْسَانِ للْوَالِدين وبرهما لما لَهما من الْفضل على الابْن مُنْذُ أَن كَانَ نُطْفَة فِي رحم أمه حَتَّى صَار كَبِيرا يعْتَمد على نَفسه.
ويعرض لُقْمَان الْحَكِيم فِي وَصيته لِابْنِهِ العلاقة بَين الْوَالِدين وَالْأَوْلَاد فِي أسلوب رَقِيق، وَفِي صُورَة موحية بالْعَطْف والرقة، وَمَعَ هَذَا فَإِن رابطة العقيدة مُقَدّمَة على تِلْكَ العلاقة الْوَثِيقَة٢.
وَلِهَذَا كَانَ شكر الْوَالِدين بعد شكر الله ﷿ لِأَنَّهُ الْمُنعم الأول٣.
وَوَصِيَّة الْإِنْسَان بِوَالِديهِ تتمثل فِي طاعتهما مِمَّا لَا يكون شركا ومعصية لله تَعَالَى٤. وَبِمَعْنى آخر أَن طَاعَة الْوَالِدين لَا تكون فِي ركُوب كَبِيرَة، وَلَا فِي ترك فَرِيضَة على الْأَعْيَان، وَتلْزم طاعتهما فِي الْمُبَاحَات٥.
مِمَّا سبق يُمكن القَوْل أَن علاقَة الْأَبْنَاء بالوالدين يجب أَن تكون علاقَة قَوِيَّة
_________
١ - سُورَة النِّسَاء: آيَة ٣٦.
٢ - سيد قطب: فِي ظلال الْقُرْآن ٥/٢٧٨٨.
٣ - الْمرجع السَّابِق.
٤ - الْقُرْطُبِيّ: الْجَامِع لأحكام الْقُرْآن ١٤/٦٣.
٥ - الْمرجع السَّابِق ١٤/٦٤.
1 / 444