كانت تنير ضآلة شواطئك القفراء ...
وهنا توقف فترة، وكأنه أمسك بأهداب فكرة أخرى، هي أن يدرج في القصيدة «أغنية جوليا»، فكتب: «تابع، تابع مجراك أيها الزورق الشارد.»
ويظهر أن رفاقه في تلك القرية «الصيفية» فاجئوه في تلك الآونة، فأخفى الدفتر في جيبه وعاد معهم إلى المنزل.
وفي اليوم التالي عاد إلى البحيرة من غير أن يشعر به أحد، وأكمل تلك القصيدة الساحرة «البحيرة»، إلا أن لامرتين كان تشبع من روسو وشاتوبريان، فاستعرض في مخيلته «هلويز الجديدة» و«أتالا»، ولكن هذا الاستعراض لم يحل بينه وبين صدقه في عاطفته، وهو ينظم قصيدته على شاطئ البحيرة.
قال لامرتين في قصيدته «البحيرة»: «ذات مساء، أتذكرين؟» وقال روسو قبل سنوات عديدة: «كنا صامتين صمتا عميقا، وكان دوي المجاذيف ذات الإيقاع المتوازن يهيج في قلبي الرغبة في الأحلام!» وقال شاتوبريان في «أتالا»: «كانت أتالا تنشد فلا يقاطع شكاياتها إلا دوي زورقنا فوق المياه ...»
وبعد يومين ترك لامرتين إكس؛ ليلحق بصديقه فيريو فيذرف بين ذراعيه بقايا دموع غادرتها الأيام في قلبه، أما الداء فكان يسير مسيرته في جسد جوليا التي انقطعت إلا عن الماء، عملا بإشارة الطبيب، وكان لامرتين يعرف حق المعرفة أن الموت يتأهب لاختطاف تلك التي أوحت إليه قصائده الخالدة، فكتب إلى الآنسة كانوننج في الرابع والعشرين من تشرين الأول يقول: «إن التي أحبها فوق كل إنسان في هذا العالم تتلوى منذ أسابيع في نزع أليم، وأراني غير قادر أن أكون بالقرب منها.»
وفي الثامن من شهر كانون الأول فاضت روح جوليا بمهل وسكون، وشفتاها لاصقتان بخشب صليب صغير، وكان طيف لامرتين لا يزايل عينيها في تلك الليالي الأخيرة التي صرفتها، على ما بها من الضعف، في قراءة رسائله وترتيبها بحسب تواريخها، ووضعها في غلافين كبيرين كتب عليهما هذه الكلمات: «أوراق تخص السيد فيريو.» وفيريو هذا صديق لامرتين الأكبر - كما علمنا - ومواسيه في ليالي الدموع واليأس.
لامرتين في ذروة المجد
1820-1830
كان على لامرتين أن يخطو بضع خطوات إلى الأمام؛ لينسى آلامه وبؤسه، فالمجد الذي كثيرا ما طمح إليه في حياته المضطربة وعزلته الموحشة كان على وشك أن يخيم عليه بجناحيه الكبيرين؛ ففي الحادي عشر من شهر آذار من العام 1820، نشر لامرتين ديوانه الأول «التأملات» محتويا أربعا وعشرين قصيدة، ذاعت ذيوعا عظيما، حتى بين الذين لا يأبهون للشعر، فالملك نفسه أثنى عليها ثناء طيبا، وراح أقطاب السياسة يقرءونها ويحفظونها عن ظهر قلب.
Page inconnue