كانت جوليا بوشو في الثانية والثلاثين من العمر عندما أشار عليها الأطباء بأن تصرف أشهر الصيف في قرية إكس لوبان؛ إذ إن داء الصدر في تلك السنة 1812 كان قد بلغ منها أشده.
صادف لامرتين هذه المرأة في هذه القرية نفسها؛ إذ إن الأطباء كانوا قد أشاروا عليه هو أيضا بأن يصرف أشهر الصيف فيها. ففي العاشر من شهر تشرين الأول، كان لامرتين يتنزه على بحيرة بورجه في إكس لوبان، فالتقى زورقه زورقا صغيرا كان يقل جوليا بوشو، وإذا بزوبعة شديدة قلبت الزورق الصغير، وجعلت المرأة في خطر.
أتراها سقطت في الماء فأنقذها لامرتين؟ أم أن لامرتين أدركها قبل أن تسقط وأعانها على ما بها؟ لا نعلم، ولكن الحقيقة هي أن لامرتين كتب إلى صديقه لويس ده فينييت في اليوم التالي يقول له إنه «أنقذ مدام شارل من الغرق.» وزاد على ذلك بقوله: «إن هذه المخلوقة العذبة أصبحت تملأ أيامه، وإنها توشك أن تشفى من مرضها.» ودعا صديقه للحضور إلى القرية ليتحقق ذلك بنفسه.
في الخامس عشر من تشرين الأول، عندما وصل لويس ده فينييت إلى إكس لوبان، كان لامرتين وجوليا بوشو قد نظما حياتهما في القرية، وكانا قد صرفا مساء اليوم العاشر أو الحادي عشر من تشرين الأول في التنزه بعد العشاء على ضوء القمر، وتبادلا الحديث عن ماضيهما، وعن الملل الذي قاسياه والآمال التي ينتظران تحقيقها. وفي ذلك المساء نفسه صحت عزيمة الاثنين على أن يكون كل منهما للآخر، فتحافظ هي على حبه، ويحافظ هو على حبها.
وكانت جوليا بوشو تزيد لامرتين ست سنوات؛ إذ كانت هي في الثانية والثلاثين، وكان هو في السادسة والعشرين، فأكدت له أنها ستحرص عليه كما تحرص الأم على ولدها، وأنها ستساعده على إيجاد مركز له، لما كان لزوجها الشيخ البالغ الحادية والخمسين من النفوذ في فرنسا.
وفي السادس والعشرين من تشرين الأول طوت جوليا بوشو (إلفير) جناحيها الملائكيين لتعود إلى باريس، فشيعها لامرتين إلى ماكون، ورجع إلى ميللي ينتظر الرسالة الأولى التي وعدته بها. وما هي إلا أيام قلائل حتى قدم الشاعر إلى باريس، وظهر في منزل جوليا، حيث بقي أياما عديدة.
كان كل مساء يذهب بها إلى النزهة، فتتكئ على ذراعه نحيلة صفراء، وتستسلم إلى أفكارها السوداء ... أما العابرون فكانوا يخالونهما أخا وأختا، ويظنون أن لامرتين شقيق محب ساهر على نقاهة أخته، إلا أن الفناء كان يقضم ذلك الهيكل الهزيل، فلا تطلع الشمس إلا على جسد أخذت الليلة الفائتة حصتها منه. ولما اضطر لامرتين إلى أن يعود إلى أشغاله تواعدا بلقاء في إكس، وأعطته دفترا صغيرا من «الماروكان» الأحمر ليملأه بما يوحيه إليه فراق «إلفير».
كان لامرتين أمينا على الوعد؛ ففي الحادي والعشرين من شهر آب صعد إلى إكس لينتظر جوليا، إلا أن آماله ذهبت أدراج الرياح؛ فقد تناهى إليه أن الحمى تفتك بها فتكا ذريعا، ولا سبيل إلى وصولها إليه، فهام على نفسه يفكر في «الغائبة»، وفي نفسه ما فيها من الشجون واليأس.
وكان في القرية، أو في المنزل الذي يقيم به، فتاة تدعى ألينور كانوننج، تعرف إليها صدفة، فلم يكتم عنها عذابه ويأسه، ولم يرفض رغبتها إليه في التنزه ساعة على ضفاف البحيرة في إكس.
كان الصيف يذيب عواطفه العذبة على بحيرة بورجه، فاستسلم لامرتين إلى الذكريات، وما هي هنيهة حتى شعر برعشة سرت في جميع مفاصله، فاستأذن الآنسة وانصرف عنها إلى خلوة على الضفة الشمالية من البحيرة، حيث كان يجلس في الصيف الماضي مع تلك التي ملكت عليه مشاعره وقلبه.
Page inconnue