فقلت لها: إنك تتسرعين يا سيدتي، فتمنحين شرف الصداقة لرجل تجهلين اسمه وحياته. أتعرفين من أنا؟ فقالت: صدقت، لست أعرف من أنت ولا ماذا فعلت في الحياة التي عشتها بين البشر، ولكني لا أجهل موقفك من الله، فلا تتخذني امرأة مجنونة كما يتخذني الناس، فثمة علم فقد اليوم من أوروبا، علم ولد في الشرق ولا يزال يعيش فيه، وهذا العلم أملكه أنا بنفسي؛ فإني أقرأ في النجوم. لا مشاحة في أن جميع البشر إنما هم أبناء إحدى هذه النيران السماوية التي أشرفت على ولادتنا، والتي طبعت سطوتها السعيدة أو المحتالة في أعيننا وجباهنا وقسماتنا وخطوط أيدينا وشكل أقدامنا وحركاتنا. أفتريد أن أكشفك لعيني نفسك؟ أتريد أن أتنبأ لك عن حظك؟
فقلت لها باسما: كوني مطمئنة يا سيدتي، فأنا لا أنكر ما أجهل، ولا أؤكد أن في الطبيعة المنظورة وغير المنظورة، في الطبيعة التي يرتبط بها كل شيء، مخلوقات من طبقات سفلى كالإنسان، ليست قائمة تحت تأثير مخلوقات سامية كالكواكب أو الملائكة؛ على أني لست بحاجة إليها لأعرف نفسي القائمة على الفساد والضعف والبؤس، أما ما يتعلق بأسرار مستقبلي، فأرى أن استفهام الإنسان عنها إنما هو حط من كرامة الله الذي يخفيها، ولست لأتكل في شأن المستقبل إلا على الله والحرية والفضيلة.
فقالت: لا فرق، فاعتقد بمن تريد واتكل على من شئت، أما أنا فأرى أنك ولدت تحت تأثير ثلاث نجوم سعيدة وقوية معا، وأرى أن الله هو الذي قادك إلى هنا لينير نفسك، فهو بحاجة إلى من كان مثلك ينطوي على طموح وسلامة نية؛ ليستخدمه في الأعمال العجيبة التي سيعالج بها البشر قريبا. أتعتقد أن ملكوت المسيح قد أتى؟
فقلت لها: ولدت مسيحيا. فقالت: مسيحي! وأنا مسيحية أيضا، ولكن الذي تسميه المسيح ألم يقل: إني أخاطبكم بالآيات، ولكن الذي سيجيء بعدي يخاطبكم بالروح والحقيقة؟ إذن هو هذا الذي ننتظره! هذا هو المسيح الذي لم يأت بعد، والذي سنراه بأعيننا.»
وقال دوميك: «لم تكن لادي إستانهوب ساحرة أو رمالة، ولم يكن لامرتين مكبث، على أن روح الشاعرية المعجونة بالتصوف والمشتهيات التي كان يضمرها، جعلته يؤمن بنبوءة هذه المرأة.»
أما الإيمان هذا فقد قواه لامرتين بوقوفه على ضريح المسيح في أورشليم. قال ديكونيه: «ماذا ترى لامرتين يجد على ضريح المسيح؟ الإيمان الحي. فهو قد ذهب إلى قبر المسيح ليقوي الإيمان المسيحي الذي تلاشى في نفسه، وهو قد اتجه إلى أرض الأنبياء ليستوحي وحيا جديدا ... وقد خيل إليه في تلك الأرض المقدسة أنه دعي ليصير نبي الفلسفة ومسيحها.»
قال لامرتين يصف زيارته لقبر المسيح: «إن كنيسة القبر المقدس هي أثر جميل من آثار العهد البيزنطي، وهي سرادق نبيل طرحته التقوى البشرية على ضريح ابن البشر. وإذا ما قابلنا هذه الكنيسة بكنائس العهد الذي بنيت فيه، نجدها أفضلها جميعا، فكنيسة القديسة صوفيا هي في شكلها أكثر بربرية وإن تكن أكثر فخامة، فإذا رؤيت من الخارج خيل إلى رائيها أنها جبل ترتفع فيه أكمات من الحجارة.
أما كنيسة القبر المقدس، فهي قبة أثيرية منقوشة يضاف إلى جمال أبوابها ونوافذها المزخرفة دقة في العمل وحذق في الفن؛ فالحجر في هذا الهيكل قد استحال إلى دانتيللا ليصبح جديرا بالدخول في هذا الأثر المشيد لأعظم فكرة بشرية. ولا مشاحة في أن كنيسة القبر المقدس لم تبق اليوم كما كانت في عهد القديسة هيلانة، والدة قسطنطين ومشيدة هذا الهيكل؛ فملوك أورشليم رمموها وجملوها بزخارف الفن المغربي والفن الغربي اللذين اهتدوا إلى قواعدهما في الشرق. إن هذا الأثر غير جدير بالقبر، ولكنه جدير بهؤلاء البشر الذين شاءوا أن يكرموه.
لقد استولى الترك على هذا الهيكل المقدس، استيلاء مكنتهم الحرب منه، إلا أنهم لم يهدموه ولم يشوهوا جهة من جهاته، بل يحرسونه بخشوع واحترام وتقوى تقتضيها العبادة المسيحية. ولقد رأيت حراس هذا الهيكل فلم أقع في وجوههم وحركاتهم وأحاديثهم على شيء من ذلك الاحتقار الذي يتهمهم به البعض. ولولا هؤلاء الترك لكان القبر المقدس الذي يتنازعه الأرثوذكس والكاثوليك من جهة، وسائر الطوائف المسيحية من جهة ثانية، قد استحال مائة مرة إلى موضوع خصام وجدال بين تلك الطوائف المتنازعة. إذن، أي ذنب اقترفه الترك؟ فحيثما يرى المسلم فكرة الله في روح إخوته يحترمها وينحني أمامها.
ألا فليتساءل المسيحيون بصدق ماذا كانوا فعلوا لو سلمتهم مقدرات الحرب مكة والكعبة؟ أكان باستطاعة الترك أن يقبلوا من جميع جهات أوروبا وآسيا ليكرموا بسلام الآثار المحفوظة للإسلام؟
Page inconnue