وإذ وجهت اهتمامي أخيرا إلى أعضاء اللجنة، شعرت أن تغييرا ما لم أتبين كنهه قد طرأ عليهم منذ آخر مرة رأيتهم فيها. وتضاعفت حيرتي وأنا أنقل البصر بينهم، ملتمسا التفسير لما شعرت به؛ فلم تكن الجهامة التي تعلو وجوههم بالأمر الجديد علي. وقد عرفت فيهم - رغم العوينات السوداء على وجوه أغلبهم - نفس الأشخاص الذين التقيت بهم مرتين قبل الآن.
ومع أني فشلت - للمرة الثالثة - في إحصاء عددهم، من جراء عجزي عن التركيز، إلا أني كنت موقنا بأنه لم يزد أو ينقص، اللهم إلا فيما يتعلق بالقصير، الذي كان مقعده الخالي - إلى جوار العجوز - مجللا بالسواد، بمثل ما كانت صورته المعلقة فوق الجدار؛ إشارة إلى ما انتهى إليه أمره.
ولم أكتشف السر إلا بعد أن تطلعت إلى العانس عدة مرات؛ فقد تبينت أخيرا ما غاب عني في البداية؛ إذ كانت ترتدي الملابس العسكرية ذات الشارات الحمراء الموشاة بالذهب.
ولعل تأخري في هذا الاكتشاف يرجع إلى أني ألفت أن أرى بين أعضاء اللجنة ثلاثة من العسكريين، وقد سجل لا شعوري هذا العدد من اللحظة الأولى، فاكتفيت بذلك، ولم أول اهتماما لأشخاصهم؛ شعورا مني بأنهم جميعا - بسبب ملابسهم - متماثلون.
أما الآن فقد دققت النظر إلى العسكريين الآخرين حتى تأكدت من جنسيتيهما، ومن شخصيتيهما، وبحثت عن الثالث حتى وجدته بعد مشقة بسبب التغير الذي أضفته الملابس المدنية على هيأته.
أثارت هذه الظاهرة فضولي، فانطلق عقلي الذي دربته أحداث العام الأخير على استكناه الألغاز والغوامض، يحاول إيجاد تفسير لها.
كان اعتقادي في السابق أن اللجنة مختلطة؛ أي «مدنعسكرية»، لكن استبدال الملابس بالصورة التي رأيتها اليوم هز هذا الاعتقاد من أساسه؛ فلم يكن يعني سوى أحد أمرين: إما أن اللجنة تتألف كلها من عسكريين يرتدي بعضهم الملابس المدنية أحيانا، أو من مدنيين يرتدي بعضهم الملابس العسكرية أحيانا.
وفي كلتا الحالتين لم يكن ثمة مغزى للاستبدال. حقا إن التخلي عن الملابس يمكن أن يعتبر مؤشرا على انكماش الروح العسكرية في اللجنة، أو تقلصها، وهو الأمل الذي داعبني لحظة خاطفة بالنظر إلى ما اشتهر عن العسكريين من قسوة وإيغال في الدماء، وقوى منه ارتداء العانس لها، طالما أنها - بحكم أنوثتها (رغم إحباطها) - أكثر إنسانية. لكني لم ألبث أن رأيت في الاستبدال - لهذا السبب بالذات - تأكيدا للطابع العسكري بدلا من أن يكون تخفيفا منه.
انتزعني رئيس اللجنة من تأملاتي إذ نطق بصوت رصين شابته رنة أسى، فقال بلغة اللجنة: «نستهل عملنا اليوم بالوقوف لخمس دقائق حدادا على الفقيد.»
أزاح الأعضاء مقاعدهم إلى الخلف ونهضوا واقفين، أما أنا فلم أتحرك من مكاني ؛ لأنني كنت واقفا؛ فاللجنة لا تسمح لأحد بالجلوس في حضرتها.
Page inconnue