46

وكان نبأ انتصار حماس على الأمير بهرام وقتله إياه بالساعد لا بالحسام قد نقل إلى الهيكل في حينه، فسر الملك ومن معه به سرورا لا مزيد عليه، وأنه لم يعدل عشر معشار ما استحوذ على الأميرة من الفرح والحبور.

فصدرت الإشارة حينئذ بعودة البطل حماس إلى الهيكل، فعاد بين خلق لا يحصى ممن شهدوا الموقعة، وهو يكاد ينوء بأكاليل الغار، ويختفي فيما ينثر عليه أينما سار، من ورق الغصون والأزهار، فلما تراءى شخصه آيبا قوبل في الداخل بمثل ما لقي في الخارج من ثناء الناس وإعجابهم، وإشارتهم إليه أينما توجه بالبنان.

حتى إذا اقترب من الملك تقدم بوليقراط فصافحه ثم قبله وهناه على ما نال من عظيم الفوز وباهر الانتصار، وحذا عظماء المملكة بعد ذلك حذو سيدهم فتقدموا واحدا بعد واحد فصافحوا بطل اليوم والأمس وهنئوه بما أوتي من صفات الشجاعة الجلائل.

وبعد ذلك أشار الملك إلى الكهنة أن يعملوا عملهم، فاعترضه حماس قائلا: «إنني أعد مصاهرة الملك من أشرف النعم وأجل السعادات، ولكني أتمنى على جلالته أن يجعلني على وعد منها الآن، حتى أستوفي الشرط الأول من شروط القران، أما العقد فلا يكون إلا في آخر هيكل من الهياكل الأربعين اليونانية، التي سأبنيها لعروسي الفخيمة في بلادي ووطن آبائي وأجدادي.»

فلم يبق في نفس أحد من الحضور تلقاء هذا الشمم العالي شك أن بين جنبي الفتى نفس ملك عظيم، وأن رجلا يكون بهذه الصفات النادرة، وعلى هذا الجانب من شرف الأخلاق، يسير عليه إذا عقد العزم أن يقول ويفعل، إلا أنه لم يسع الملك - على إثر ذلك - إلا قبول إشارة حماس على ما فيها من التطوح في الآمال، والتطرف في الثقة من الحال والمآل، فأجاب صهره بأنه راض بما قضى به، وأن لادياس منذ اليوم وديعة لدى أبيها يطلبها متى شاء.

ثم انفض المجلس وخرج الملك ويده في يد صهره وهما يتحادثان، ثم صعدا في المركبة السلطانية فسارت بهم تشق عباب الجماهير من أهالي ساموس وهم بين المهابة في حماس وإكبار، حتى بلغت القصر، وهنالك هيئت له المقاصير اللائقة بمكانه من نسب الملك، وحمل إليها جميع ما تشتهي النفس من دواعي الراحة وفرط النعيم، ثم عرضت من بعد ذلك عليه أن يقيم بها ما شاء، ويرحل عنها متى شاء، فرغب الفتى في أن تكون مدة إقامته في ضيافة الملك شهرا من الزمان.

كلمة على حماس

كان المصريون قد فقدوا كرامتهم من زمن في أعين الأمة الساموسية وسائر الأمم الأجنبية؛ وذلك بسبب ما اشتهر عن فرعون أبرياس (ملك مصر يومئذ) من نقضه عهده مع الملك سيدياس ملك يهودا من بلاد فلسطين، وكان قد عاهده أن يمده بجيوشه لحماية مملكته من غارة الملك بختنصر، حتى إذا أغار الأشوريون على بلاد سيدياس لم تكن جنود مصر وصلت لتنجد الضعيف على القوي، فوقع بيت المقدس في قبضة بختنصر، فنشأ عن ذلك فقدان كرامة المصريين في أعين الأمم المعاصرة، بعد أن كانوا إلى ذلك الحين المثال المحتذى بين الشعوب في كرم العهد ورعاية الذمام.

على أن خيانة الملك هذه كانت أشد تأثيرا في رؤساء الجنود المصرية أنفسهم منها في الأجانب؛ لأنها إنما تمس كرامة الجيش مباشرة وتوصل الأذى إلى شرفه الرفيع.

وكان حماس من ضباط الطراز الأول في الجيش، وله سطور في سجل الانتصارات المصرية، وكان قد اتصل أخيرا بخدمة الملك الخصوصية، فأتيح له أن يطلع على نوايا أبرياس، نحو الملك سدياس، وما يضمر من خذلانه والتخلي عنه ساعة الشدة، فعارض في ذلك أشد المعارضة، وكان وحده في معية الملك لسان الجيش والمدافع عن شرفه وكرامته، حتى إذا أخفق مسعاه لم يجد بدا من الاستقالة فاستقال.

Page inconnue